إفاضة العوائد - ج ١

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

نعم يمكن استناد الأمر إليها بالعرض ، نظير استناد الأمر المتعلق بالمقيد إلى ذات المطلق ، أعني الطبيعة المهملة ، وهذا هو المراد من كلام شيخنا المرتضى (قدس‌سره) في التقريرات : أن الجزء إذا لوحظ لا بشرط ، فهو عين الكل ، وإذا لوحظ بشرط لا ، فهو غيره ومقدمة لوجوده. والمراد من قوله (قدس‌سره) لا بشرط عدم اشتراط أن يكون في ذهن الآمر معه شيء أم لا ، وهو الصالح لأن يتحد مع الكل. ومن قوله بشرط لا ، عدم ملاحظة الآمر معه شيئا ، أعني ملاحظته مستقلا (١٣١). ولا إشكال في أن الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح أن يتحد مع الكل ، ويحمل عليه ، إذ

______________________________________________________

المعاني الحرفية ، فانها تتصور كذلك ، ولكن لا يمكن جعلها موضوعا لحكم من الأحكام. وقد حقق في محله. ومعلوم أن الجزء لا يتصور بتصور الكل إلا مندكا في الكل ، ولا يقاس الكل والجزء بالكلي والفرد ، لأن كل فرد من الافراد يلاحظ تحت الكلي مستقلا ، ولكن إجمالا بوجه الكلي ، بخلاف الاجزاء ، فان كلا منها باستقلالها مباين مع الكل ، فلا يمكن أن يكون الكل مرآة لها. وبذلك ظهر الإشكال على ما في الكفاية من اتصاف الاجزاء بالوجود البسيط ، لأن ما لا يتصور لا يعقل اتصافه بالوجوب ، نعم يصح اسناد الواجب إليه مجازا ، ولكن ذلك لا يلائم تعليل عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري بلزوم اجتماع المثلين ، كما لا يخفى.

لا يقال : إن موضوع الوجوب عنده هي الاجزاء بأسرها لا كل واحد منها ، ومعلوم انها لا تتصور إلّا بتصور الكل.

لأنه يقال : أما (أولا) فالكل عنده الاجزاء بشرط الاجتماع ، والاجزاء بدون هذا الشرط لا تلاحظ عند تصورها مع الشرط. واما (ثانيا) : فليس موضوع الوجوب البسيط عنده إلا ما هو موضوع للوجوب الغيري ، وهو كل واحد من الاجزاء ، وإلّا فلا وجه لعدم اتصاف كل منها بالوجوب الغيري فتأمل.

(١٣١) هذا المعنى ـ من بشرط لا ولا بشرط ـ وإن كان خلاف ظاهر المصطلح ، لكنه أوفق بمراد الشيخ (ره) مما هو ظاهره. وقد مرّ من الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ

٢٠١

لا يصدق على الحمد ولا على غيره من اجزاء الصلاة انه صلاة (١٣٢).

ولنا على الثانية أن الآمر ـ إذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي ، أي غير ملحوظ معه شيء آخر ـ يرى أنه مما يحتاج إليه تلك الهيئة الملتئمة

______________________________________________________

عين هذا التوجيه من العبارتين في لسان أهل المعقول في الفرق بين المشتق ومبدأه ، فراجع.

وحاصل التوجيه في المقام : ان الجزء حيث لا استقلال لوجوده في الخارج ، بل وجوده مندك في الكل إن لوحظ وجوده كما في الخارج ، من دون تمحل شيء زائد عليه ، ولا اشتراط شيء معه ، ولا مع لحاظه ، ولا اشتراط عدم شيء معه ، ولا مع لحاظه ، فهو عين وجود الكل ، ولحاظه عين لحاظه. ولا يمكن لحاظه كذلك إلّا بلحاظ الكل مستقلا ، ولا يمكن أن يرى اللاحظ في هذا اللحاظ الا الكل مستقلا. وإن لوحظ مستقلا لا مندكا ، بان يعريه عما هو عليه في الخارج ، ويرى ذات الجزء بشرط ان لا يرى شيئا آخر معه ، فهو جزء ، لكن لا بشرط الانفكاك عن سائر الاجزاء ، فانه مع ذلك الشرط ليس بجزء ، بل ان لوحظ الجزء منفكا ، وان لم يشترط فيه الانفكاك أيضا لا تنتزع منه الجزئية ، بل الجزئية تنتزع من ذات الجزء إذا لوحظ بنفسه في ضمن الكل ، كالحمد في الصلاة مثلا ، أو القطرة في البحر.

ولا يخفى أن ما ذكرنا من اللحاظين لا فرق فيه بين المركب الحقيقي والاعتباري ، لأن اجزاء المركب الاعتباري وان كان لكل منها وجود مستقل في الخارج ، كالحمد والسورة والركوع والسجود ، ولكن لا استقلال لشيء منها في هذا الاعتبار الوحدانيّ ، ويكون في هذا النّظر كالمركب الخارجي.

(١٣٢) لا يخفى ان ذلك لا يصدق مع اللحاظ الأول أيضا ، ويصح سلب الصلاة عنه.

(لا يقال) : على اللحاظ الأول لا استقلال للحمد في اللحاظ ، حتى يمكن الاخبار عنه بأنه صلاة أو ليس بصلاة.

(لأنا نقول) : نعم ولكنه يمكن ان يلاحظ الجزء مستقلا ، ويجعل مرآتا لما يلاحظ

٢٠٢

من اجتماع الاجزاء ، فحاله حال سائر المقدمات الخارجية (١٣٣) ، من دون تفاوت أصلا. هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

______________________________________________________

مندكا ، ويخبر عنه كما في المعنى الحرفي ، حيث يقال : المعنى الحرفي لا يخبر عنه ، فان الموضوع ليس إلّا المعنى الاسمي ، ولكنه يجعل مرآتا للمعنى الحرفي ، كما مرّ. ومن هذا يعلم أن شيئا من الاجزاء ليس بصلاة ، نعم الاجزاء بأسرها على هذا المعنى عين الصلاة من دون احتياج إلى قيد شرط الاجتماع. ولكن الكلام في الفرق بين كل جزء إذا لوحظ مستقلا أو مندكا ، لا الاجزاء بالأسر مع الكل.

والّذي يسهّل الخطب أن عدم الصدق والحمل غير مضر بالعينية المذكورة ، لأن التركيب الّذي يتحد كل جزء منه مع الكل ، بل مع الجزء الآخر أيضا ، هو التركيب الحقيقي الّذي تكون أجزاؤه موجودة بوجود واحد حقيقة ، كالجنس والفصل ، فان وجودهما حقيقة واحد ، بخلاف مثل القطرة والبحر ، والنقطة والخطّ ، فان وجود القطرة وان لم ينفك عن وجود البحر ، وكذلك النقطة عن الخطّ ، بمعنى عدم كون وجودهما محدودا بحد على حدة ، لكن حقيقة وجود كل من القطرات والنقاط غير الأخرى. ولذا تتصف بأوصاف وجودية متضادة ، كالحرارة والبرودة ، وبألوان مختلفة ، بخلاف الجنس والفصل.

والحاصل أن العينية في المقام غير ملازمة للصدق ، وعدم الصدق غير ملازم لعدم العينية بهذا المعنى ، فتدبر جيدا.

(١٣٣) قد يقال : بالفرق بين الجزء وسائر المقدمات ، إما بأن اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري يستلزم اجتماع المثلين ، كما في الكفاية. وإما بعدم إمكان لحاظ هذه المقدمة في عرض لحاظ ذيها ، حتى تجب بوجوبه ، لاستحالة اجتماع لحاظي الاجزاء مندكا ومستقلا.

ويرد الأول بمبناه ، لعدم اتصاف الاجزاء بالوجوب النفسيّ ، كما مرّ والثاني بعدم لزوم لحاظ جميع المقدمات تفصيلا في الوجوب الغيري ، حتى يستشكل بعدم الإمكان في خصوص تلك المقدمة ، بل يكفي لحاظها إجمالا بعنوان ما يتوقف عليه

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الواجب ، فتتعلق الإرادة بها تبعا لذي المقدمة ، وإن لم يكن كل منها ملحوظا تفصيلا. بل لا يلزم ان تكون المقدمة مطلوبة فعلا ، ويكفي في المدعى أن يكون الآمر إذا التفت إلى المقدمة يراها مطلوبة كنفس ذيها كما يأتي في المتن.

نعم قد يستشكل في أصل المقدمية ، بتقريب أن المقدمة انما تلاحظ بالنسبة إلى عنوان الكل والمجموع ، وعنوان الكلية كالجزئية من المعقولات الثانوية التي لا واقعية لها في اللحاظ الأول الّذي فيه يكون الموضوع مركبا للإرادة ، فما يتعلق به الوجوب ـ وهو حقيقة الاجزاء بالأسر ـ لا مقدمة لها وما له المقدمة وهو عنوان الكل والمجموع لم يتعلق به الوجوب نعم فيه كيفية خاصة يمكن أن تنتزع منها العنوان المذكور ، ولذا نرى بالوجدان أن من يريد إيجاد خط ، لا يريد إيجاد نقاط متعددة ، بل اجزاء غير متناهية ، وكذلك من يريد إيجاد عشرة أشياء ، لا تتعلق إرادته بإيجاد الآحاد مستقلة ، بحيث يتولد من إرادة المجموع إرادات عديدة نحو إيجاد الاجزاء ، كما في المقدمات الخارجية.

لكن فيه أن حقيقة الاجزاء بالأسر وما ينتزع منه عنوان المجموع والكل ، لا تتحقق إلّا بتحقق كل من الاجزاء ، وإن لم يمكن انتزاع المقدمية إلا في اللحاظ الثاني ، ففي اللحاظ الأول وإن لم تكن المقدمية وذو المقدمية متحققين بعنوانهما ، ولكن حقيقتهما وملاكهما متحققان في الواقع ونفس الأمر ، وملاك الوجوب ـ على القول بالوجوب ـ ليس إلّا ذلك ، فيرجع الإشكال أيضا إلى عدم إمكان اجتماعهما في اللحاظ وقد مرّ الجواب عنه.

وأما عدم تعدد الإرادة في مثال الخطّ أو إيجاد عشرة أجزاء مثلا ، فان أريد عدم الإرادة بالنسبة إلى كل نقطة بحدها ، أو كل جزء من العشرة كذلك فعلا فمسلم ولا يلتزم به القائل بالمقدمية. وان أريد انقداح الإرادة إلى ذات كل نقطة عند التفات الآمر إليها ، من دون نظر إلى إحداها ، فلا محيص عنه ، فهل يلتزم أحد بأن من يقرأ الحمد مثلا في الصلاة ـ مع الالتفات إليها ـ لا يريد قراءتها ولو بالإرادة الغيرية؟ بل توجد بنفس إرادة الصلاة ، والوجدان في ذلك أقوى شاهد.

٢٠٤

استدلال القائلين بوجوب المقدمة

(الأمر الثامن) في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة. أقول ما تمسك به في هذا المقام وجوه ، أسدها وأمتنها ما احتج به شيخنا المرتضى (قدس‌سره) من شهادة الوجدان ، فان من راجع وجدانه وأنصف من نفسه ، يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلق بالفعل والمتعلق بمقدماته (١٣٤).

لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها ، كيف؟ والبداهة قاضية بعدمه ، لجواز غفلة الطالب عن المقدمة ، إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع ، حتى لا يتصور في حقه ذلك ، بل المقصود أن الطالب للشيء إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه ، يجد من نفسه

______________________________________________________

أدلة القائلين بوجوب المقدمة :

(١٣٤) لا إشكال في ثبوت الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته ، لأن من تعلقت إرادته بالكون على السطح ، ويعلم بأنه لا يتمكن منه الا بنصب السلّم فلا محالة توجد إرادة تبعية منه تتعلق بالنصب ، ويتحرك نحوه ، وإلّا ينجر الأمر إلى نقض غرضه.

وأما في الإرادة التشريعية فيمكن نفيها ، لأن الآمر إذا أراد الكون على السطح من عبده ، فليس في نفسه إلّا إيجاد المحرك التام والداعي للعبد على إتيان مطلوبه ، وبعد ما يرى أن تشريع الحكم نحو مطلوبه كاف في محركية العبد وواف في احداث خوف المخالفة في نفسه ، بحيث تحركه تلك الإرادة النفسيّة إلى مطلوبه ، مع ما يتوقف عليه من المقدمات ، فما الملزم بل وما الباعث له في تشريع الحكم نحو المقدمات أو انقداح الإرادة نحوها؟ وهل هذا الا لغو ، لأن المقدمة بالفرض ليست مطلوبة نفسا ، ولا يحتاج البعث إلى ذيها إلى البعث نحوها ، فلا ملازمة في البين.

٢٠٥

حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها ، كما قد يتفق هذا النحو من الطلب النفسيّ أيضا ، فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك ، أو لم يلتفت إلى كونه ابنه ، فان الطلب الفعلي في مثله غير متحقق ، لابتنائه على الالتفات ، لكن المعلوم من حاله أنه لو التفت إلى ذلك لأراد من عبده الإنقاذ ، وهذه الحالة ـ وان لم تكن طلبا فعليا إلّا انها ـ تشترك معه في الآثار. ولهذا نرى بالوجدان ـ في المثال المذكور ـ أنه لو لم ينقذ العبد ابن المولى ، عد عاصيا ويستحق العقاب.

و (منها) ـ اتفاق أرباب العقول كافة عليه ، على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل ، نظير الإجماع الّذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع ، أو على حدوث العالم ، فان اتفاق أرباب العقول كاشف قطعي إجمالا عن حكم العقل ، فلا يرد على المستدل أن المسألة ـ لكونها عقلية ـ لا يجوز التمسك لها بالإجماع ، لعدم كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، لأن الإيراد متوجه لو أراد من الإجماع المستدل به عليه الإجماع الاصطلاحي. أما على الوجه الّذي قررناه ، فلا مجال للإيراد. هذا ولكن الشأن في إثبات مثل هذا الاتفاق.

و (منها) أن المقدمة لو لم تكن واجبة ، لجاز تركها ، فحينئذ إن بقي الواجب على وجوبه ، يلزم التكليف بالمحال ، وإلّا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبطلان اللازمين مما لا كلام فيه ، فكذا الملزوم.

والجواب أن ما أضيف إليه الظرف ـ في قوله فحينئذ ـ إن كان الجواز ، نختار الشق الأول ، أعني بقاء الواجب على وجوبه ، ولا يلزم المحذور قطعا ، لعدم معقولية تأثير الوجوب في القدرة ، وإن كان الترك مع كونه جائزا ، فان فرض إمكان إيجاد المقدمة عند ذلك ، بأن كان الوقت

٢٠٦

موسعا ، فنختار أيضا الشق الأول ، ولا يلزم التكليف بالمحال. وهو واضح. وإلا بان انقضى زمان الإتيان بها ، فنختار الشق الثاني.

وقوله (قدس‌سره) يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، إن أراد خروجه من أول الأمر عن كونه كذلك ـ كما هو ظاهر عبارته ـ فنمنع الملازمة ، وإن أراد خروجه بعد ترك المقدمة وانقضاء زمانها ، فليس اللازم باطلا ، لأن الوجوب قد يسقط بالإطاعة ، وقد يسقط بالعصيان.

و (منها) ـ ما حكى عن المحقق السبزواري (ره) وهو أنها لو لم تكن واجبة ، يلزم عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب.

(بيان الملازمة) أنه إذا كلف الشارع بالحج ، ولم يصرح بإيجاب المقدمات ، فتارك الحج ـ بترك قطع المسافة الجالس في بلده ـ إما أن يكون مستحقا للعقاب في زمان ترك المشي ، أو في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم ، لا سبيل إلى الأول ، لأنه لم يصدر منه في ذلك الزمان إلا ترك الحركة. والمفروض أنها غير واجبة عليه ، ولا إلى الثاني ، لأن الإتيان بافعال الحج في ذي الحجة ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه؟ ألا ترى أن الإنسان إذا أمر عبده بفعل معين في زمان معين في بلد بعيد ، والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فان ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنه لم يصدر منه إلى الآن فعل قبيح يستحق به التعذيب ، لكن القبيح أنه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرّأي وركاكة العقل ، بل لا تصح العقوبة إلا على الاستحقاق السابق قطعا.

ثم نقول : إذا فرضنا أن العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل ، فإما أن يكون مستحقا للعقاب ، أولا ، لا وجه للثاني ، لأنه ترك

٢٠٧

المأمور به مع كونه مقدورا ، فثبت الأول ، فاما أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم ، أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأول ، لأن استحقاق العقاب إنما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتصف بالحسن والقبح بالاتفاق. ولا وجه للثاني ، لأن السابق على النوم لم يكن الا ترك المقدمة. والمفروض عدم وجوبها. هذا حاصل ما أفاده (قدس‌سره) وقد نقلناه ملخصا.

والجواب أنه لا محذور في اختيار كل واحد من الشقين ، فلنا أن نختار الشق الأول ، وهو استحقاق العقاب في زمان ترك المشي ، لا على ترك المشي ، بل على ترك الحج المستند إلى ترك المقدمة اختيارا ، فان طريقة الإطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء ، وهم يحكمون بحسن عقاب العبد التارك للمقدمة في زمن تركها ، ولا يلزمون المولى بانتظار زمن الفعل ، وليس هذا التزاما بترتب العقاب على ترك المقدمة ، بل المقصود إثبات العقاب المترتب على ترك ذيها في زمن ترك المقدمة ، وامتناع ذيها اختيارا.

ولنا ان نختار الشق الثاني ، فنقول : إن تارك المقدمة مستحق للعقاب في زمان الحج ، وقوله (قدس‌سره) ـ ان فعل الحج هناك غير مقدور ، فلا يمكن اتصافه بالقبح ـ غير وجيه ، لأنا نقول : يكفى في اتصافه بالمقدورية كون المكلف قادرا على إتيان مقدمته في زمانها ، فاتصاف مثل هذا الفعل المقدور بواسطة مقدورية مقدماته بالقبح لا مانع له. وأي قبح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه؟

(واما) ما ذكره أخيرا من فرض كون تارك المقدمة نائما في زمن الفعل (فالجواب عنه) أن ما لا يمكن ان يتصف بالحسن والقبح من فعل النائم إنما يكون فيما استند إلى النوم ، مثل ما إذا ترك الصلاة مستندا إلى

٢٠٨

النوم ، وليس هذا الترك مما نحن فيه مستندا إلى النوم ، حتى لا يمكن اتصافه بالقبح ، بل هو مستند إلى ترك المقدمة في زمانها اختيارا. وهذا النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان. وهذا واضح.

و (منها) ـ ما حكى عن المحقق المذكور أيضا ، وهو أنها لو لم تكن واجبة لزم ان لا يستحق تارك الفعل العقاب أصلا. وبيانه : أن المريد للشيء إذا تصور أحوالا مختلفة يمكن وقوع كل واحد منها ، فاما أن يريد الإتيان بذلك على أي تقدير من تلك التقادير ، أو يريد الإتيان به على بعض تلك التقادير. وهذا مما لا إشكال فيه.

وحينئذ نقول إذا امر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدمات ويمكن عدمها ، فاما ان يريد الإتيان به على أي تقدير من تقديري الوجود والعدم ، فيكون في قوة قولنا : ان وجدت المقدمة فافعل ، وان عدمت فافعل. وإما أن يريد الإتيان به على تقدير الوجود. والأول محال ، لأنه يستلزم التكليف بما لا يطاق ، فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيدا بحضور المقدمة ، فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب ، لفقدان شرط الوجوب. والمفروض عدم وجوب المقدمة ، فينتفى استحقاق العقاب رأسا.

والجواب (أما أولا) فبأنه لو تم ما ذكره هنا ، لزم أن لا يقع الكذب في الاخبار المستقبلة (١٣٥).

(بيان الملازمة) أنه لو أخبر المخبر بأني غدا اشترى اللحم ، فعلى تقدير

______________________________________________________

(١٣٥) الظاهر عدم لزوم ذلك على القائل بالملازمة ، لأن القائل بها يلتزم بان الاخبار بذي المقدمة اخبار بالمقدمة ، وانما هو إشكال آخر على القائل بعدم الملازمة.

٢٠٩

عدم الشراء لا وجه لتكذيبه ، إذ له أن يقول : إن الاخبار بشراء اللحم إما أن يكون على تقدير إيجاد جميع المقدمات أو الأعم من ذلك وعدمها ، لا سبيل إلى الثاني ، لأوله إلى الاخبار عن الممتنع ، فثبت الأول ، فيئول إلى الاخبار بشراء اللحم على تقدير وجود جميع المقدمات. والمفروض عدم وجود واحدة منها ، إذ لا أقل من ذلك ، فلا يكون كذبا ، إذ عدم تحقق اللازم في صورة عدم تحقق الملزوم ليس كذبا في القضية الشرطية الخبرية.

و (أما ثانيا) فبان اللازم ـ على ما ذكره ـ عدم استحقاق العقاب على ترك واجب أصلا ، لرجوع الواجبات بأجمعها إلى الواجب المشروط.

(بيان ذلك) أن كل واجب لا بد له من مقدمة ، ولا أقل من إرادة الفاعل ، فحينئذ نقول : إما أن يريد ذلك الفعل في حالتي وجود المقدمة وعدمها ، أو في حالة وجودها فقط. والأول مستلزم للتكليف بما لا يطاق ، والثاني مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من الواجبات ، إذ ترك الواجب المشروط بترك شرطه ليس موجبا للعقاب وليت شعري هل ينفعه وجوب المقدمة في دفع هذا الإشكال (١٣٦).

______________________________________________________

(١٣٦) بيان ذلك : ان وجوب المقدمة لا يؤثر في رفع توقف ذي المقدمة عليها ، لأنه مستلزم للتكليف بما لا يطاق بالفرض ، وحينئذ نقول : ان ترك المأمور المقدمة فلا يستحق العقاب بشيء ، أما على ذي المقدمة ، فلعدم حصول ما يتوقف عليه ، وأما على المقدمة ، فلأن ترك الواجب الغيري لا يؤثر في العقاب ، بل على الفرض لم تكن المقدمة واجبة أصلا ، لأن وجوبها تابع لوجوب ذي المقدمة ، وهو منتف بالفرض ، لانتفاء شرطه. وأيضا يستلزم ذلك الاشتراط ـ مع القول بوجوب تلك المقدمة المتوقف عليها ذوها : ـ إمّا التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاشتراط والإطلاق ، وإمّا كون وجوب الشيء متوقفا على وجوده. وبطلانهما واضح.

٢١٠

و (أما ثالثا) فبان الحالات التي تؤخذ في موضوع الطلب إطلاقا أو تقييدا هي ما يمكن تعلق الطلب بالموضوع معه ، ويجوز كونه في تلك الحالة باعثا للمكلف نحو الفعل. وأما ما لم يكن كذلك بان لا يمكن معه أن يكون الطلب باعثا للمكلف نحو الفعل ، فلا يعقل تقييد الطلب به ولا إطلاقه. أما الأول ، فللزوم لغوية الطلب. وأما الثاني ، فلأنه تابع لإمكان التقييد. وحالتا وجود المقدمة وعدمها من قبيل الثاني ، لأنه على الأول يصير الفعل واجبا ، فلا يمكن تعلق الطلب به على تقدير وجوبه. وعلى الثاني يصير ممتنعا ، فلا يمكن أيضا تعلق الطلب به على هذا التقدير. وبعد عدم إمكان تقييد الطلب بأحدهما ، لا يمكن ملاحظة الإطلاق أيضا بالنسبة إليهما ، بل الطلب متعلق بذات الفعل مع قطع النّظر عنهما إطلاقا وتقييدا ، وهو يقتضى إيجاد الفعل ، ولو لم يوجد يستحق العقاب. وهذا واضح. وقد ذكروا وجوها أخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها ، اقتصارا على ما هو الأهم في الباب. وهو الهادي إلى الصواب.

مقدمات الحرام

(الأمر التاسع) في بعض الكلام في مقدمات الحرام ، وليعلم (أولا) أن الالتزام بحرمة مقدمة الحرام ـ بقصد التوصل إليه ـ ليس قولا بحرمة مقدمة الحرام ، لأن هذا من جزئيات مسألة التجري ، فعد بعض الأساطين حرمة مقدمات الحرام بقصد التوصل إلى ذيها من باب مقدمة الحرام ـ واقتضاء النهي المتعلق بذيها لها ـ مما لم يعرف له وجه ، لأن الجهة المقبحة الموجودة في إتيان المقدمة بقصد التوصل إلى الحرام ، ليست منوطة بوجود محرم واقعي تكون هذه المأتي بها بقصد التوصل مقدمة له ، بل

٢١١

هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد حرمة شيء ، وأتى بمقدماته بقصد التوصل إليه ، ولم يكن ذلك الشيء محرما في الواقع ، أو اعتقد مقدمية شيء لمحرم ، وأتى به بقصد التوصل إلى ما اعتقد ترتبه عليه. وأعجب من ذلك قياسه بباب مقدمة الواجب ، فان ما تحقق هناك أن إتيان ذات المقدمة من دون قصد التوصل إلى ذيها لا يعد طاعة ، لا ان موضوع الطلب التبعي هو الفعل المقرون بهذا القصد.

وكيف كان ، فالمهم في هذا الباب بيان ان المقدمات الخارجية للحرام هل تتصف بالحرمة ، نظير ما قلنا في المقدمات الخارجية للواجب ، أم لا تتصف أصلا ، أم يجب التفصيل بينها؟

فنقول : إن العناوين المحرمة على ضربين : (أحدهما) أن يكون العنوان بما هو مبغوضا ، من دون تقييده بالاختيار وعدمه من حيث المبغوضية ، وان كان له دخل في استحقاق العقاب ، إذ لا عقاب الا على الفعل الصادر عن اختيار الفاعل. (ثانيهما) ان يكون الفعل الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا ، بحيث لو صدر عن غير اختيار ، لم يكن منافيا لغرض المولى ، فعلى الأول علة الحرام هي المقدمات الخارجية ، من دون مدخلية الإرادة ، بل هي علة لوجود علة الحرام. وعلى الثاني تكون الإرادة من اجزاء العلة التامة.

إذا عرفت هذا فنقول : نحن إذا راجعنا وجداننا ، نجد الملازمة بين كراهة الشيء وكراهة العلة التامة له ، من دون سائر المقدمات ، كما إذا راجعنا الوجدان في طرف إرادة الشيء نجد الملازمة بينها وبين إرادة كل واحدة من مقدماته ، وليس في هذا الباب دليل امتن وأسد منه. وما سوى ذلك مما أقاموه غير نقي من المناقشة. وعلى هذا ففي القسم الأول إن كانت العلة التامة مركبة من أمور يتصف المجموع منها بالحرمة ، وتكون إحدى المقدمات

٢١٢

لا بشخصها محرمة ، إلا إذا وجد باقي الاجزاء ، وانحصر اختيار المكلف في واحدة منها ، فتحرم عليه شخصا ، من باب تعين أحد افراد الواجب التخييري بالعرض ، فيما إذا تعذر الباقي ، فان ترك أحد الاجزاء واجب على سبيل التخيير ، فإذا وجد الباقي وانحصر اختيار المكلف في واحد معين ، يجب تركه معينا. واما القسم الثاني ـ أعنى فيما إذا كان الفعل المقيد بالإرادة محرما ـ فلا تتصف الاجزاء الخارجية بالحرمة ، لأن العلة التامة للحرام هي المجموع المركب منها ومن الإرادة ، ولا يصح اسناد الترك الا إلى عدم الإرادة. لأنه أسبق رتبة من سائر المقدمات الخارجية (١٣٧).

______________________________________________________

مقدمات الحرام

(١٣٧) لا يخفى أنه لا وجه لا سبقية رتبة عدم الإرادة من عدم سائر المقدمات في المقام ، لأن علة وجود الحرام مركبة بالفرض من الإرادة وسائر المقدمات ، وليست إرادة الحرام علة منحصرة لسائر المقدمات ، حتى يكون عدمها علة لترك جميع المقدمات ، لأنه خلاف الفرض من تحقق المقدمة مع عدم إرادة ذيها ، بل قد تتولد إرادة المقدمات منها ، وقد توجد بداع آخر ، ولو لم يكن ذو المقدمة بنظره أصلا ، بل ليست الإرادة أحد الفردين من العلة التامة لها أيضا ، بل هي من أجزاء العلة الغير المنحصرة للمقدمات ، فإذا كان هذا حال الوجود ، فمن طرف العدم أيضا قد ينعدم الفعل بانعدام مقدماته الأخرى ، وقد ينعدم بانعدام الإرادة. ولا سبق لعدم شيء منها على الأخرى ، لكون كل من المقدمات ـ على الفرض مع الإرادة في عرض واحد ـ علة للوجود ، فبعدم كل منها ينعدم الوجود رأسا.

نعم ، سبق الرتبة يصح ـ على ما زعم صاحب الفصول ـ في خصوص مقدمية فعل الضد لترك الضد الآخر ، حيث أن الترك إذا استند إلى الصارف ، لا يستند إلى فعل الضد ، لتقدم عدم المقتضى على وجود المانع ، وليس في المقام مقتض ولا مانع ، حتى

٢١٣

فقد فهم مما ذكرنا أن القول بعدم اتصاف المقدمات الخارجية للحرام بالحرمة ـ مطلقا لسبق رتبة الصارف ، وعدم استناد الترك إلا إليه مطلقا ـ مما لا وجه له ، بل ينبغي التفصيل ، لأنه في القسم الأول لو فرض وجود باقي المقدمات مع عدم الإرادة ، تحقق المبغوض قطعا ، فعدم إحداها علة لعدم المبغوض فعلا. وأما في القسم الثاني ، فلو فرضنا وجود باقي المقدمات مع الصارف ، لم يتحقق المبغوض ، لكونه مقيدا بصدوره عن

______________________________________________________

تكون رتبة عدم المقتضى متقدمة على المانع ، بل كل واحدة من المقدمات في عرض واحد علة للترك ، كما عرفت ، فإذا كان الفعل مبغوضا وقلنا في مقدمات المبغوض انها مبغوضة على البدل ، كانت الإرادة مع كل واحد من المقدمات منهيا عنها بالنهي التخييري ، من غير فرق في ذلك بين ما يكون الاختيار فيه دخيلا وغيره ، ولا بين التوليديات وغيرها ، مما يكون الاختيار لنفس الفعل بعد المقدمات موجودا أيضا ، حيث توهم فيه أيضا عدم اتصاف غير الإرادة بالحرمة ، لبقاء الاختيار بعد المقدمات أيضا ، فان أريد عدم حرمة المقدمات الخارجية تعيينا ، فمعلوم. وان أريد عدم حرمتها تخييرا ، فلا وجه له ، إلّا على القول بأن المقدمات لا تتصف بالحرمة إلا ما لا تبقى معه القدرة على الحرام. وقد توهم فيه أيضا تقدم رتبة عدم الإرادة على سائر المقدمات ، لشأنية الإرادة ، لأن تكون علة لها في بعض الأوقات ، وقد مر بطلانه.

ونقول : في توضيح ذلك زيادة على ما مر : أن الإرادة لو فرض كونها علة تامة في بعض الأوقات لسائر المقدمات ، لكن ليست رتبة عدم المعلول متأخّرة عن رتبة كل واحدة من العلل الغير المنحصرة ، لأن العلة في مثل المقام في الحقيقة ليس إلّا الجامع بين العلل ، فتكون رتبة عدم المعلول متأخرة عن رتبة الجامع. ومعلوم أنه لا ينعدم إلّا بانعدام جميع افراده لا خصوص فرد منه ، بخلاف طرف الوجود فانه يوجد بوجود فرد ، فإذا ثبت عدم تأخر رتبة عدم المقدمات عن عدم الإرادة ، فلا محيص عن القول بالحرمة التخييرية في المقدمات الخارجية ، إلا فيما مثّل به صاحب الفصول على زعمه ، وإن كان هو في نفسه مخدوشا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

٢١٤

الإرادة ، فالمقدمات الخارجية ـ من دون انضمامها إلى الإرادة ـ لا توجد المبغوض ، ففي طرف العدم يكفى عدم إحدى المقدمات. ولما كان الصارف أسبق رتبة منها ، يستند ترك المبغوض إليه دون الباقي ، فيتصف بالمحبوبية ، دون ترك إحدى المقدمات الخارجية ، فلا يكون فعلها متصفا بالحرمة.

المقصد الثالث في الضد

هل الأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده الخاصّ أم لا؟ أقول لما كانت المسألة مبتنية على مقدمية ترك الضد لفعل ضده (١٣٨) ، فاللازم

______________________________________________________

مبحث الضد :

(١٣٨) يعني عند عمدة القائلين بالاقتضاء ، حيث أسندوا حرمة الضد الخاصّ إلى مقدمية تركه لضده الواجب ، وإلّا فقد ادعى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده ، أو مركب منه ومن طلب الفعل في مقام الثبوت ، ودلالة الأمر على النهي عن الضد ـ بالمطابقة ، أو بالتضمن أو بالالتزام ـ في مقام الإثبات ، مع اختلاف أقوالهم في بعض ما ذكر بالنسبة إلى الضد الخاصّ أو العام ، بل يمكن أن يقال في مقام الثبوت بالملازمة العقلية ، ولو لم نقل بالمقدمية ، بتقريب أن يقال : لا ريب في أن إرادة الفاعل للفعل ملازمة لإرادة ترك ضده ، وانه يترك ضد مطلوبه عن إرادة إذا التفت إليه ، فكذلك الإرادة التشريعية لفعل الشيء تلازم الإرادة التشريعية لترك ضده ، ولو لم تكن مقدمة له ، فتكون الإرادتان من قبيل المتلازمين في الوجوب.

نعم من أنكر الملازمة والمشابهة بين التشريع والتكوين ـ كما ذكرنا في نفي وجوب المقدمة ـ ينكرها في المقام أيضا.

وأيضا يمكن القول بالمقدمية مع عدم حرمة الضد ، لاستناد الترك إلى الصارف ، كما عليه صاحب الفصول ، فالابتناء عند الأكثر لا عند الكل.

٢١٥

التكلم فيها ، فنقول : هل ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، أو فعله مقدمة لترك ضده ، أو كل منهما مقدمة للآخر ، أو لا توقف في البين؟

والمعروف من تلك الاحتمالات ، هو الأول والأخير ، فلا نتعرض لغيرهما. وستطلع على بطلانه في أثناء البحث. والقائل ـ بتوقف فعل الضد على ترك ضده الآخر ـ إما أن يقول مطلقا ، كما عليه جل أرباب هذا القول ، أو يفصل بين الرفع والدفع ، بمعنى أنه لو كان الضد موجودا ، وأراد إيجاد الآخر ، يتوقف إيجاده على رفع ضده ، وإن لم يكن موجودا ، وأراد إيجاد ضده ، لم يكن موقوفا على ترك الضد.

ثم إن وجه التوقف يمكن أن يكون أحد أمور ثلاثة : (الأول) ـ أن يقال بان ترك الضد ابتداء مقدمة لفعل الضد (الثاني) ـ أن تكون مقدمية الترك من باب مانعية الفعل (الثالث) ـ أن يكون من جهة عدم قابلية المحل ، فان المحل ـ لما لم يكن قابلا لأن يقع فيه كلاهما ـ صار وجود كل منهما متوقفا على خلو المحل عن الآخر.

وكيف كان فلنشرع فيما هو المقصود. وقبل ذكر أدلة الطرفين ، لا بد وأن يعلم حكم حال الشك ، لنرجع إليه إذا عجزنا عن القطع بأحد الطرفين.

فنقول : لو شك في كون ترك الضد مقدمة ، بعد العلم بوجوب مقدمة الواجب ، والعلم بوجوب فعل الضد الآخر ، فهل الأصل يقتضى الحكم بصحة العمل إن كان من العبادات ، أو الفساد؟

قد يقال بالأول ، لأن فعلية الخطاب مرتفعة بواسطة الشك ، خصوصا في الشبهة الموضوعية التي قد أطبقت ـ على إجراء البراءة فيها ـ كلمة العلماء رضوان الله عليهم من الأصوليين والأخباريين ، وإذا لم يكن الوجوب فعليا لا مانع من صحة العمل ، لأن المانع ـ كما قد تحقق في محله ـ

٢١٦

هو الوجوب الفعلي. ولذا أفتى العلماء بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة في صورة نسيان الغصبية ، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم تجب عليه الإعادة والقضاء. وما نحن فيه من هذا القبيل ، وأوضح من ذلك صورة القطع بعدم المقدمية (١٣٩) وانكشاف خطأ قطعه بعد ذلك ، فان الحكم بفساد صلاته موجب لفعلية الخطاب حين القطع بعدمه.

والحق أن الشك في المقام ليس موردا لأصالة البراءة لا عقلا ولا شرعا.

أما الأول فلان مقتضاها هو الأمن من العقاب على مخالفة

______________________________________________________

(١٣٩) لا يخفى أن القطع في المقام لا ينفع كالشك ، لأن الأمر بذي المقدمة معلوم مع كونه مقدورا له ، فلو تركه وأتى بالضد استحق العقاب عليه ، وان كان قاطعا بعدم المقدمية ، يعنى ما يأتي منه ـ دام ظله ـ في الشك.

وحاصله : أن العقل يحكم باستحقاق العقاب عند العصيان عن عمد ، وان لم يعلم المكلّف بأنه مستند إلى أيّ شيء ، أو علم استناده إلى ما ليس بمستند واقعا ، بعد ما لم يخرج الفعل بذلك عن العمد والاختيار. فمن صلّى وترك الإزالة في سعة الوقت ، يستحق العقاب على الترك ، وإن كان قاطعا بعدم المقدمية ، ولذا لو علم بعد ذلك تجب عليه الإعادة أو القضاء ، لأن تلك الصلاة مبعدة له واقعا ، لكونها سببا لترك الواجب المعلوم وإن لم يعلم حين الإتيان ، وما يكون مبعدا لا يؤثر في القرب نعم لو قيل بأن العبادة لا تحتاج إلى القرب ، بل يكفيها قصد القربة ، فلا إعادة ولا قضاء ، لكنه خلاف التحقيق. وكذا تجب الإعادة أو القضاء على القاطع بجواز اجتماع الأمر والنهي إذا صلى في الدار المغصوبة ، ثم انكشف خلافه ، وذلك لأنه ارتكب الغصب عالما بحرمته ، وان لم يعلم باتحاد الصلاة معه ، فتكون تلك الحركة الشخصية مبعدة له عن ساحة المولى ، ولا تصلح للمقربية ، ولا يضر بمبغوضيتها الجهل باتحاد الصلاة وموطن الأمر معها ، كما مر ، نعم من مات ولم ينكشف خطأه ، فهو معذور عند الله في كلتا المسألتين.

٢١٧

التكليف الواقعي على تقدير ثبوته ، ولا يمكن جريانها هنا ، لأن العقاب لا يترتب على مخالفة التكليف المقدمي ، ولا يمكن الحكم بسقوط العقاب عن التكليف النفسيّ ، إذا استند تركه إلى هذه المقدمة المشكوك مقدميتها ، لأن التكليف النفسيّ معلوم ، ويعلم أن الإتيان به ملازم لهذا الترك الّذي يحتمل كونه مقدمة. انما الشك في أن هذا الترك ـ الّذي قد علم كونه ملازما لفعل الواجب المعلوم ـ هل هو مقدمة أولا؟ وهذا لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسيّ المعلوم كما هو واضح.

وأما الثاني ، فلأنه على تقدير كون الترك مقدمة ، فالوجوب المتعلق به بحكم العقل على حد الوجوب المتعلق بفعل ضده ، فكما أنه في هذا الحال يكون فعليا منجزا ، كذلك مقدمته. وعلى هذا الفرض لا يعقل الترخيص. والمفروض احتمال تحقق الفرض في نظر الشاك ، وإلّا لم يكن شاكا. ومع هذا الاحتمال يشك في إمكان الترخيص وعدمه عقلا ، فلا يمكن القطع بالترخيص ولو في الظاهر.

(لا يقال) بعد احتمال كون الترخيص ممكنا ، لا مانع من التمسك بعموم الأدلة الدالة على إباحة جميع المشكوكات ، واستكشاف الإمكان بالعموم الدال على الفعلية.

(لأنا نقول) على هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه ، إذ لو بنينا على انكشاف الإمكان بعموم الأدلة ، فاللازم الالتزام بدلالة العموم على عدم كون ترك الضد مقدمة ، إذ مع بقاء هذا الشك لا يمكن انكشاف الإمكان ، فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضد مقدمة فلا مجرى له (١٤٠) ، لأن موضوعه الشك. وبالجملة ، فلا أرى وجها

______________________________________________________

(١٤٠) وذلك واضح ، لأن موضوع الحكم بالبراءة هو الشك في الوجوب ،

٢١٨

لجريان أصالة الإباحة في المقام. هذه خلاصة الكلام في حكم الشك ، فلنعد إلى أصل البحث.

فنقول : الحق ـ كما ذهب إليه الأساطين من مشايخنا ـ هو عدم التوقف والمقدمية ، لا من جانب الترك ولا من جانب الفعل. أما عدم كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، فلان مقتضى مقدميته لزوم ترتب عدم ذي المقدمة على عدمه ، لأنه معنى المقدمية والتوقف ، فعلى هذا يتوقف عدم وجود الضد على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدمة ، وهو فعل الضد الآخر. والمفروض أن فعل الضد أيضا يتوقف على ترك ضده الآخر ، ففعل الضد يتوقف على ترك ضده ، كما هو المفروض ، وترك الضد يتوقف على فعل ضده ، لأنه مقتضى مقدمية تركه.

هذا مضافا إلى عدم إمكان تأثير العدم في الوجود (١٤١) ، وهو من الواضحات ، وإلّا لأمكن انتهاء سلسلة الموجودات إلى العدم. وأما

______________________________________________________

وانكشاف عدم المقدمية ملازم للعلم بعدم الوجوب ، ومعه ينتفي موضوعه ، واستكشاف ـ ما ينتفي معه موضوع الحكم من عموم الحكم ـ محال.

ولا يتوهم إمكان جعل الحكم للشك مع قطع النّظر عن الحكم ، لاستلزامه بقاء الحكم الظاهري ، مع العلم بالحكم الواقعي. وهو كما ترى ، مع أن ذلك مختص بما إذا احتمل ان يكون الآمر بصدد تشخيص المصاديق ، كما لو قال : (أكرم العلماء) مع احتمال العبد أن يكون أحدهم عدوا له ، فيستكشف العبد من العموم عدم العدو ، مع احتمال التشخيص له ، لا في مثل الحكم المجعول للشك المفروض إيكال تشخيص الموضوع إلى العبد فافهم.

(١٤١) ان قلت : فكيف اشتهر أنّ عدم المانع من المقدمات؟

قلت : ذلك الإطلاق ليس إلّا مسامحة عرفية ، وأما بحسب الدقة ، فليس الأثر الا للمقتضى ، لأن دخل العدم في التأثير إن كان بمعنى أن له شيئا من التأثير ففساده

٢١٩

عدم كون فعل الضد علة ومؤثرا في ترك ضده ، فلأنه لو كان كذلك ، لزم ـ مع عدمه وعدم موجود يصلح لأن يكون علة لشيء ـ إما ارتفاع النقيضين ، أو تحقق المعلول بلا علة ، أو استناد الوجود إلى العدم (١٤٢).

بيان ذلك أنه لو فرضنا عدم الفعل الّذي فرضناه علة لعدم الضد ، وعدم كل شيء من السكنات يصلح لأن يكون علة لشيء ، فلا يخلو الواقع من أمور ، لأنك إما أن تقول بوجود ذلك الفعل الّذي كان عدمه معلولا أولا؟ فعلى الأول يلزم استناد الوجود إلى العدم ، إذ المفروض عدم وجود شيء في العالم يصلح لأن يكون علة ، وعلى الثاني إما أن تقول بعدم تحقق العدم المفروض معلولا أولا؟ فعلى الثاني يلزم ارتفاع النقيضين ، وعلى الأول يلزم تحقق المعلول بلا علة ، مضافا إلى أن مقتضى كون الفعل علة لترك ضده كون تركه مقدمة لفعل ضده الآخر ، لأن عدم المانع شرط فيلزم الدور.

______________________________________________________

واضح ، وإن كان بمعنى أنه موجد لقابلية المحل ، فيقال : القابلية أيضا أمر وجودي ، فان صح تأثير العدم فيها صحّ تأثيره في كل أمر وجودي ، إذ لا خصوصية لها ، فيصح أن تكون جميع الموجودات معلولات للأعدام.

(١٤٢) لا يخفى أن ذلك إنما يلزم على القول بأن فعل الضد علة منحصرة لترك الضد. وأما على القول بأن ترك الضد قد يستند إلى الصارف وعدم الإرادة ، وقد يستند إلى الضد فلا تلزم تلك المحاذير ، إذ لو فرض عدم شيء في العالم يصلح لعلية الترك ، لكفى عدم المقتضي لوجوده. نعم مع وجود المقتضى للضد ، لو فرض عدم شيء يصلح لعلية الترك ، فلا محالة يوجد لتحقق مقتضية مع عدم المانع ، ومعلوم أن أحدا لا يقول بأن فعل الضد علة منحصرة لترك الضد ، حتى يلزم ذلك ، ولذا ألجئ في تسجيل الدور إلى الالتزام بأن شأنية تقدم الشيء رتبة يكفي في عدم جواز تأخره عنه. فتدبر جيدا.

٢٢٠