الوصائل الى الرسائل - ج ٨

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-08-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

نعم ، قد عرفت سابقا أنّ ظاهر جماعة من الاماميّة جعل أصالة البراءة من الأدلة الظنّية ، كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزبدة ، لكنّ ما ذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظنّ ، لجواز دعوى أنّ المظنون بالاستصحاب او غيره موافقة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للبراءة ، وما ذكره من تبعيّة خطاب الله تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك.

______________________________________________________

(نعم ، قد عرفت سابقا : أن ظاهر جماعة من الإمامية جعل أصالة البراءة من الأدلة الظنّيّة) الكاشفة عن الواقع (كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزبدة) حيث جعلا البراءة أمارة ظنيّة معناها : الظنّ بنفي التكليف واقعا ، واستدلالها باستصحاب البراءة الاصلية.

(لكن ما ذكره) المحدّث الاسترابادي في الاعتراض عليهم : (من اكمال الدين) لا يتوجه اليهم أيضا ، لانه (لا ينفي) استصحاب البراءة الاصلية في مورد الشك ، لأن اكمال الدين لا يثبت أن الخطاب الصادر في مورد الشك : واجب أو حرام حتى لا يبقى مجال لاستصحاب البراءة الاصلية.

كما أنه لا ينفي (حصول الظنّ) بالواقع من طريق استصحاب البراءة الاصلية (لجواز دعوى : انّ المظنون بالاستصحاب أو غيره) كقاعدة «عدم الدليل دليل العدم» ، وقاعدة «غلبة المباحات» المستفادتين من العقل والنقل (موافقة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للبراءة) الاصلية (و) حينئذ : فانّ (ما ذكره) هذا المحدّث (: من) وجود الحسن والقبح العقليين ، و(تبعية خطاب الله تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك) الظن الذي هو العمل بالبراءة ، لأنها مورثة للظنّ بالواقع ، فانّ المصلحة كما تكون في التكليف الالزامي وجوبا أو تحريما في بعض الأفعال ،

٢١

لكنّ الانصاف : أنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ خصوصا في المقام ، كما سيجيء في محلّه ولا أمارة غيره يفيد الظنّ ، فالاعتراض على مثل هؤلاء إنّما هو منع حصول الظنّ ومنع اعتباره على تقدير الحصول ،

______________________________________________________

كذلك تكون في البراءة في بعض الأفعال الأخر ، وعليه : فالحكم الواقعي محفوظ ، فانّ كان الحكم الواقعي هو البراءة فهو ، وانّ كان الحكم الواقعي غير البراءة ، فمصلحة التسهيل ونحوه جعل التكليف الفعليّ : «البراءة» ، فالحكمان هنا الواقعي والبراءة بمنزلة الأحكام الأولية والأحكام الثانوية في سائر الموارد.

(لكن الانصاف أنّ) كلام المعالم والزبدة غير تام عندنا اذ ، (الاستصحاب لا يفيد الظنّ) ببقاء الحالة السابقة ، بل قد يظن الانسان بالبقاء ، وقد يظن بخلاف البقاء ، وقد يشك في البقاء وعدم البقاء ، فالظن ليس معيارا (خصوصا) الظنّ الحاصل من الاستصحاب الذي نريد اجرائه (في المقام) وهو : استصحاب حال ما قبل الشرع لاثبات البراءة فيما بعد الشرع (كما سيجيء) عدم افادة الاستصحاب للظنّ (في محلّه) في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وعليه : فكلام المعالم والزبدة غير تام ، اذ لا ظن حاصل من الاستصحاب (ولا أمارة غيره) أي : غير الاستصحاب (يفيد الظنّ) بالبراءة.

وكيف كان : فانّا لا نحتاج الى الظنّ حتى نتكلم حول انّه هل يحصل لنا الظنّ بالبراءة أو لا يحصل؟ بل انا نجري البراءة استنادا الى الأدلة الأربعة كما تقدّم الكلام فيها.

إذن : (فالاعتراض) من المحدّث الاسترابادي (على مثل هؤلاء) المتمسّكين باستصحاب البراءة ، مقدمة للظنّ بعدم التكليف ، وذلك في مورد عدم وجود الدليل على التحريم أو الوجوب (انّما هو منع حصول الظنّ) من الاستصحاب (ومنع اعتباره) أي : اعتبار مثل هذا الظن (على تقدير الحصول) لأنّ الظنّ لا دليل

٢٢

ولا دخل لاكمال الدين وعدمه ، ولا للحسن والقبح العقليين في هذا المنع.

وكيف كان : فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : «الاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى لزومه وفصّل آخرون» ، انتهى.

______________________________________________________

على حجيّته ، وانّما يكون البناء على الحالة السابقة ممّا يسمّى بالاستصحاب مستندا الى بناء العقلاء وبعض الرّوايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

هذا (و) من الواضح : انّه (لا دخل لاكمال الدين وعدمه ولا للحسن والقبح العقليّين) ولا للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، ولا لتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد (في هذا المنع) أي : في منع قول صاحبي المعالم والزبدة ، فنحن والمحدّث الاسترابادي وان كنّا نشترك في الاشكال على المعالم والزبدة الّا أنّ اشكالنا من جهة واشكاله من جهة اخرى ، وقد عرفت : عدم استقامة اشكاله.

(وكيف كان : فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : الاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى لزومه ، وفصّل آخرون (١) ، انتهى) وهو ظاهر في انّ في المسألة ثلاثة أقوال : الأوّل : القول بلزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية وجوبية كانت أو تحريمية ، الثاني : القول بعدم لزوم الاحتياط فيهما ، الثالث : القول بالتفصيل بين الشبهة التحريمية فيجب فيها الاحتياط ، والشبهة الوجوبية فلا يجب فيها الاحتياط.

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ٢١٦.

٢٣

وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة ، فالظاهر أنّ المسألة خلافيّة ، لكن لم يعرف القائل به بعينه ، وإن كان يظهر من الشيخ والسيّدين ، التمسّك به أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل ، والأقوى فيه جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافا إلى الاجماع المركّب.

______________________________________________________

(وحكي عن المعالم نسبته) أي : نسبة الاحتياط في محتمل الوجوب (الى جماعة) من العلماء أيضا.

وعليه : (فالظاهر : انّ المسألة خلافية ، لكن لم يعرف القائل به بعينه وانّ كان يظهر من الشيخ والسّيدين التمسك به) أي : بالاحتياط في بعض الموارد (أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل) التي تمسكوا فيها بالبراءة على انهم يقولون بالبراءة.

هذا (والأقوى فيه) أي : في المشتبه بالشبهة الوجوبية : (جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافا الى الاجماع المركب) فانّ كلّ من قال بجريان الاصل اجراه في الشبهتين : التحريمية والوجوبية ، وكلّ من لم يقل بجريان الأصل لا يجريه في الشبهتين ، فالتفصيل بين الشبهتين بجريان الأصل في الشبهة الوجوبية دون الشبهة التحريمية خرق للاجماع المركب.

لا يقال : قد نسب التفصيل في كلامي المعارج والمعالم الى جماعة ، فكيف يكون التفصيل خرقا للاجماع المركب؟.

لأنه يقال : قد تقدّم منّا : انّه لم يعرف أحد بعينه قال بذلك ، والشاذ الذي قال به لم يعلم هل أنّه من العامة أو الخاصة؟ ومثله لا يضر الاجماع المركب.

٢٤

وينبغي التنبيه على أمور

الأوّل :

انّ محلّ الكلام في هذه المسألة هو احتمال الوجوب النفسيّ المستقلّ ، وأمّا إذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر ، فهو داخل في الشك في المكلّف به ، وإن كان المختار

______________________________________________________

هذا (وينبغي التنبيه على امور) تالية :

(الأوّل : انّ محلّ الكلام في هذه المسألة) أي : في مسألة الشبهة الوجوبية الناشئة عن فقد النص (هو احتمال الوجوب النّفسي المستقل) كوجوب الصلاة على محمّد وآله عند ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وما أشبه ذلك من الواجبات النفسية المستقلة التي لم يعلم هل أمر الشارع بها حتى تكون واجبة ، أو ندب اليها حتى تكون مستحبة؟.

(وأمّا اذا احتمل كون شيء واجبا) غيريا (لكونه جزءا) لواجب آخر كالسورة في الصلاة ، وجلسة الاستراحة ، وما أشبه ذلك (أو شرطا لواجب آخر) كشرطية الوضوء للصلاة والطواف ـ حيث يشك الانسان اذا كان قد اغتسل غسلا واجبا غير غسل الجنابة في شرطية الوضوء لهذه الصلاة والطواف الذي اغتسل المكلّف قبلهما (فهو داخل في الشك في المكلّف به) اصطلاحا ، لأنّ المكلّف به مردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيجب عليه الاحتياط باتيانه.

هذا (وان كان المختار) عندنا : انّ هذا أيضا يرجع الى الشك في التكليف لوضوح : انّ الأقل متيقن ، والزائد مشكوك في أصل التكليف فيه ، بينما الشك في المكلّف به خاص في المتباينين كالظهر والجمعة ، وما أشبه ذلك ، فالمختار

٢٥

جريان أصل البراءة فيه أيضا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتفاقيّة.

الثاني :

انّه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتّى فيما احتمل كراهته. والظاهر ترتّب الثواب عليه إذا اتى به لداعي احتمال المحبوبيّة ، لأنّه انقياد وإطاعة حكميّة.

والحكم بالثواب هنا

______________________________________________________

في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين (جريان أصل البراءة فيه) أي : في الزائد (أيضا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى ؛ لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتفاقية) لأنّ الاتفاق حاصل على جريان البراءة في الشبهة الوجوبية المستقلة ، بينما اختلفوا في الشبهة الوجوبية اذا كان المشكوك جزءا أو شرطا.

الأمر : (الثاني : انّه لا اشكال) عقلا ونقلا (في رجحان الاحتياط بالفعل) في مشكوك الوجوب ، وذلك لأنه احراز للواقع والشارع مهتم بأحكامه (حتى فيما احتمل كراهته) وذلك لأنّ جلب المنفعة الملزمة أولى من دفع المفسدة غير الملزمة.

نعم ، يظهر من بعض الرّوايات : عدم رجحان الاحتياط في بعض الموارد المستلزم للحرج ، أو اختلال النظام ، أو الوسواس ، أو ما أشبه ذلك ، كما تقدّم الكلام فيه.

(والظاهر :) في غير الموارد المرجوحة استقلال العقل على (ترتّب الثواب عليه اذا أتى به لداعي احتمال المحبوبية ، لأنّه انقياد واطاعة حكميّة) أي : انّ الاحتياط عند العقل والعقلاء في حكم الطاعة كما أنّ الاتيان بالمطلوب المعلوم طاعة حقيقية (والحكم بالثواب هنا) في الانقياد باتيان محتمل المحبوبية احتياطا

٢٦

أولى من الحكم بالعقل على تارك الاحتياط اللازم ، بناء على انّه في حكم المعصية وإن لم يفعل محرّما واقعيّا.

وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان ، أقواهما العدم ،

______________________________________________________

(أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم) كترك محتمل التحريم قبل الفحص فيما لم يكن في الواقع حراما.

وانّما يكون أولى (بناء على أنّه في حكم المعصية) لأنّه تجرّ وليس بمعصية ، كما قال : (وان لم يفعل محرّما واقعيّا) لفرض انّه لم يكن محرّما في الواقع ، وانّما كان مأمورا بالفحص فلم يفحص وأقدم ، فيكون في حكم المعصية ، والاولوية من جهة انّ الله سبحانه وتعالى سبقت رحمته غضبه ، وانّ الثواب فضل بينما العقاب عدل.

هذا (وفي جريان ذلك) أي : رجحان الاحتياط والثواب عليه (في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب) كالكراهة والاباحة (وجهان) أما دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب فهو محبوب على كلّ حال لأنّه أما محبوب مع المنع من النّقيض ممّا يعبّر عنه بالوجوب أو محبوب بدون المنع من النقيض ممّا يعبّر عنه بالاستحباب.

لكن الاحتياط في العبادات عند دورانها بين الوجوب وغير الاستحباب هل هو راجح أم لا فيه احتمالان : (أقواهما العدم) لأنّ الاحتياط معناه : احراز الواقع على تقدير ثبوته ؛ وهذا المعنى لا يتحقق الّا في التوصليّات فاذا احتمل ـ مثلا ـ وجوب الاستهلال ، فبمجرد الاستهلال يحرز الواقع على تقدير ثبوته ، فيكون الشخص مطيعا للمولى بهذا الاحتياط ويثاب عليه لأنّه اطاعة حكمية ـ كما تقدّم ـ.

٢٧

لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرّب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا او إجمالا كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ، وما ذكرنا من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به ،

______________________________________________________

لكن مثل هذا لا يتحقق في التعبديات (لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نية التقرب) ونية القربة هي (المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا) وذلك بأن يعلم أن الظهر واجبة عليه (أو اجمالا) بأن يعلم أن الواجب عليه : الظهر أو الجمعة (كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة) فانّ الانسان الذي يشتبه في القبلة يحتاط بأربع صلوات الى اربع جهات ، لعلمه بأمر الشارع بالصلاة اجمالا.

أما في المقام فلا يعلم بأمر الشارع بهذا الشيء لا تفصيلا ولا اجمالا ، لفرض دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، فكيف يأتي به بقصد القربة وهو لا يعلم بأن الشارع أمر به حتى يقصد فيه القربة؟ أم كيف يأتي به بدون قصد القربة مع انّه لو أمر به الشارع لم يقع بدون القربة ما أمر به الشارع من العبادة لأن هيكل العبادة بدون قصد القربة ليست بعبادة؟.

(و) حيث اشكل على القائلين بتحقق الاحتياط في العبادات ـ بهذا الاشكال ـ أجابوا عنه بوجوه ستة أشار اليها المصنّف كما يلي :

الأوّل : نكتشف وجود الأمر بالدليل الإنّي ، لأنه لو أتى بمحتمل العبادة بقصد الاحتياط كان فيه الثواب ، وكلّ ما كان فيه الثواب فهو مقرّب قد تعلّق به الأمر ، لكن هذا الجواب غير تام لما ذكره المصنّف بقوله : انّ (ما ذكرنا : من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به) فانّ الثواب انّما يكشف عن الأمر ويدل عليه اذا كان ثوابا ناشئا عن الأمر ، لا ما إذا كان ثوابا ناشئا عن الانقياد للشرع.

٢٨

بل هو لأجل كونه انقيادا للشرع ، والعبد معه في حكم المطيع ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا.

ودعوى : «أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الاتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا» ، مدفوعة ، لما تقدّم في المطلب الأوّل ، من أنّ الأمر الشرعيّ بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقيّ والاطاعة

______________________________________________________

ومن الواضح : انّ هذا الثواب ليس ناشئا عن الأمر (بل هو لأجل كونه) أي كون الاحتياط (انقيادا للشرع ، والعبد معه) أي مع هذا الانقياد (في حكم المطيع) لا انّه مطيع حقيقة اذ الاطاعة الحقيقية انّما هي فيما إذا علم بالأمر (بل لا يسمى ذلك ثوابا) وانّما هو تفضّل وتكرّم إذ الثواب هو : ما يستحقه العبد في مقابل امتثال التكاليف المعلومة ، وهذا ليس من التكاليف المعلومة حسب الفرض.

(و) الثاني : انكم ذكرتم انّ الاحتياط بحكم العقل حسن مطلقا وهذا الاحتياط في محتمل العبادة ايضا حسن عقلا وقد ثبت انّه كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فهذا الاحتياط حسن شرعا ، واذا ثبت حسنه الشرعي كان فيه الأمر ، اذ الشارع يأمر بكل حسن كما انّه ينهى عن كلّ قبيح.

لكن هذا الجواب أيضا غير مستقيم ، لأنّ (دعوى : انّ العقل اذا استقلّ بحسن هذا الاتيان) بمحتمل العبادة (ثبت بحكم الملازمة) بين الشرع والعقل (الأمر به شرعا).

هذه الدعوى (مدفوعة) بأنّ الحسن الشرعي من باب الأمر الارشادي لا من باب الأمر المولوي ، والأمر الارشادي لا يوجب اطاعته قربا ، ولا معصيته بعدا (لما تقدّم في المطلب الأوّل) أي : البحث حول الشبهة التحريمية (من أن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد) الاحتياطي (كأمره بالانقياد الحقيقي والاطاعة

٢٩

الواقعيّة في معلوم التكليف إرشاديّ محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الارشاديّة ،

______________________________________________________

الواقعية في معلوم التكليف) مثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) (وارشاديّ محض لا يترتب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الارشادية) كأوامر الطبيب.

ومن الواضح : انّ الانسان لو أطاع أمر الطبيب وشرب الدواء ، لم يحصل الّا على الصحة التي هي من توابع شرب الدواء ، لا من توابع اطاعة أمر الطبيب ، كما أنه اذا عصى أمر الطبيب لا يترتب عليه الّا مضرة عدم شرب الدواء ، لا مضرة عدم اطاعة أمر الطبيب ، وكذا المصلي فانّه ينال منافع الصلاة اذا أتى بها ، كما أن تارك الصلاة يقع في مضرة تركها اذا تركها سواء كان هناك أمر بالطاعة أم لا؟ يعني سواء قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أم لم يقل؟ فانّ العبد اذا أتى بالصلاة نال منافعها لا منافع أمر (أَطِيعُوا اللهَ) كما أنّه اذا ترك الصلاة نال مضرة تركها لا مضرة ترك (أَطِيعُوا اللهَ).

وكذا بالنسبة الى أوامر الاحتياط : فانّ من يستهل في أول الشهر ينال منافع الاستهلال ، ومن يترك الاستهلال يقع في مضرة ترك الاستهلال على تقدير وجوبه واقعا ، من غير فرق بين أن يكون أمر شرعي أو عقليّ بالاحتياط ، أم لم يكن أمر عقلي ، أو شرعي به ، كما هو شأن كلّ أمر ارشادي ، سواء كان ارشادا

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

٣٠

فلا إطاعة لهذا الأمر الارشاديّ ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة.

كما أنّ إطاعة الأوامر المتحققة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

______________________________________________________

من العقل أو إرشادا من الشرع.

وعليه : (فلا إطاعة) ولا مخالفة (لهذا الأمر الارشادي) بحسن الاحتياط (ولا ينفع) هذا الأمر الارشادي (في جعل الشيء عبادة) فانّ عبادية الدعاء عند رؤية الهلال لا تحصل بالأمر بالاحتياط وانّما إن كان له أمر واقعي كان عبادة ، والّا لم يكن عبادة ، فكيف يتمكن أن يأتي المكلّف بالدعاء عند الهلال قربة الى الله مع انّه لا يعلم بالأمر الواقعي من الله سبحانه وتعالى فيه ، فيكون نسبته اليه سبحانه تشريعا محرّما.

(كما أن اطاعة الأوامر المتحقّقة) شرعا ممّا نعلم بوجوبها ، كالأمر بالصلاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، وما أشبه (لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها) أي : بالاطاعة (في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) (١) فانّ الأمر بالاطاعة لا بجعل الشيء عبادة ، بل عبادية الصلاة والصيام ونحوهما انّما هي بسبب الأمر بالصلاة كما في قوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) (٢) والأمر بالصيام كما في قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٣) ونحوهما.

الثالث : انّا لا نحتاج في العبادة الى الأمر ، بل يكفي الحسن ، ولا شكّ في أن الاحتياط حسن كما اعترفتم به ، فالاستهلال لما كان حسنا ـ لاحتمال وجوبه فرضا ـ كان عبادة ، والى هذا أشار المصنّف بقوله :

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ٧٨.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٣.

٣١

ويحتمل الجريان بناء على أنّ هذا المقدار من الحسن العقليّ يكفي في العبادة ومنع توقفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الاتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا.

ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة.

______________________________________________________

(ويحتمل الجريان) أي : جريان الاحتياط في العبادة المحتملة (بناء على أن هذا المقدار من الحسن العقلي) حيث أن العقل يرى حسن الاحتياط في كلّ ما يحتمل فيه الأمر ، عبادة كان أو غير عبادة ، وهذا (يكفي في العبادة ، ومنع) أي : نمنع (توقفها) أي : توقف العبادة (على ورود أمر بها) أي : بالعبادة.

لكن أشكل على هذا : بأن الحسن العقلي لا يجعل الشيء عبادة ، فانّ الحسن أعمّ من التوصلي والتعبّدي ولا يكون الأعم دليلا على الأخص.

الرابع : انّا لا نشترط في العبادة قصد الأمر (بل يكفي الاتيان به) أي : بالشيء المحتمل العبادية ، وذلك (لاحتمال كونه مطلوبا) لدى المولى طلبا عباديا (أو كون تركه مبغوضا) لديه ، فليس المعتبر في العبادة خصوص قصد الأمر ، بل يكفي قصد احتماله عند الشك كما أنه في التوصليات يكفي احتمال الأمر بها في تحقق الاحتياط ، فانّ العقل يرى حسن ذلك ، وهذا الوجه هو الذي يعتمد عليه المشهور في حسن الاحتياط في العبادة المحتملة (ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على اعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النّصوص غير المعتبرة والفتاوى النّادرة).

الخامس : وجود أوامر الاحتياط والاتقاء ، وانّ هذه الأوامر تشمل التوصليات

٣٢

واستدلّ في الذكرى ، في خاتمة قضاء الفوائت ، على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ، وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ).

والتحقيق :

______________________________________________________

والتعبديات (و) لذا (استدل) الشهيد الأوّل (في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعيّة قضاء الصلوات) احتياطا (لمجرد احتمال خلل فيها موهوم) ذلك الخلل ، فاستدل له (بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٢) وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ)(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٣) الى غير ذلك من الآيات الدالّة على الاحتياط والاتقاء ، بتقريب انّها تدل على أن اتيان العمل خوفا منه تعالى خير مطلوب.

ومن المعلوم : انّ الذي يقضي الصلاة المحتملة الخلل انّما يقضيها من باب الاتقاء والخوف من انّ تكون صلواته السابقة غير مقبولة ، عند الله تعالى.

(والتحقيق) انّ هذا الجواب بنفسه لا يكفي الّا اذا ضممنا اليه بعض الأجوبة السابقة ، وحينئذ نكون في غنى من هذا الجواب ، لأنّ بعض الأجوبة السابقة كاف في الاستدلال.

وانّما نقول : انّ كلام الشهيد وحده لا يكفي ، لأنّه مستلزم للدّور ، فانّ موضوع الاتقاء يلزم أن يثبت من الخارج ، اذ الحكم لا يثبت موضوعه ، فاذا أريد تحقيق

__________________

(١) ـ سورة التغابن : الآية ١٦.

(٢) ـ سورة آل عمران : الآية ١٠٢.

(٣) ـ سورة المؤمنون : الآيات ٦٠ ـ ٦١.

٣٣

أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة ـ في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية ـ ولو إجمالا فهو ، وإلّا فما أورده قدس‌سره ، في الذكرى ، كأوامر الاحتياط ، لا يجدي في صحّتها.

______________________________________________________

الموضوع بسبب نفس أمر الاتقاء كان دورا.

وبعبارة اخرى : انّ الأمر موقوف على كونه احتياطا وكونه احتياطا ، موقوف على قصد القربة ، فاذا توقف صحة قصد القربة فيه على الأمر كان دورا ، لتوقف الأمر على الأمر ، فهو مثل أنّ يقال : أكرم العالم ، فانّ العالم يجب أن يعرف من الخارج لا انّ يكون أكرم محققا للعالم ، فانّه حينئذ دور حيث انّ الاكرام يتوقف على كونه عالما ، فاذا توقف كونه عالما على أكرم لزم الدور.

وعليه : ف (انّه انّ قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة ـ في صحة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة ـ ولو اجمالا) لأنّه إذا علم الانسان المطلوبيّة الاجمالية كالصلاة الى أربع جوانب فلا كلام في صحتها ، وانّما الكلام فيما اذا لم يعلم المطلوبية وانّما يحتملها كما في صلاة ليلة الرغائب ـ مثلا ـ حيث لا يعلم مطلوبيتها لأن راويها عامي لا يعتمد عليه ، فاذا قلنا بصحة محتمل المطلوبية في مثل هذه الصلاة (فهو) اذ يصح حينئذ الاتيان بها بقصد العبادة.

لكن هذا لا يكون جوابا جديدا ، بل هو الجواب السابق الذي ذكرناه بقولنا في «الرابع» من الأجوبة : بل يكفي الاتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا.

(والّا) بأن لم نقل بكفاية احتمال المطلوبية في صحة العبادة (فما أورده) الشهيد (قدس‌سره في الذكرى ، كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها) أي : في صحة هذه العبادة المحتمل مطلوبيتها.

٣٤

لأنّ موضوع التقوى والاحتياط الذي يتوقف عليه هذه الأوامر لا يتحقّق إلّا بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ، وإلّا لم يكن احتياطا ، فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة المنويّة فيها ، اللهم إلّا أن يقال ـ بعد النقض بورود هذا الايراد

______________________________________________________

وانّما لا يجدي لكونه مستلزما للدور الذي نبهنا عليه (لأنّ موضوع التّقوى والاحتياط ، الذي يتوقف عليه) أي : على هذا الموضوع (هذه الأوامر ، لا يتحقّق الّا بعد اتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه) أي : في محتمل العبادة (جميع ما يعتبر في العبادة) من الأجزاء والشرائط ، وفقد الموانع والقواطع (حتى نيّة التقرب) أيضا.

(وإلّا لم يكن احتياطا) فانّه اذا لم يتحقق الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه مع فقده لجميع الموانع والقواطع لا يكون احتياطا ، فالاحتياط في التطهير ـ مثلا ـ يجب أن يكون بالماء المطلق ، فاذا لم يكن ماء ، أو لم يكن اطلاق ، لم يكن احتياط في التطهير.

وعليه : (فلا يجوز أن تكون تلك الاوامر منشأ للقربة المنوية فيها) أي : في هذه الأمور المحتمل عباديتها ، لما عرفت من أنّه مستلزم للدّور ، فانّ الأمر يتوقف على تحقق موضوعه ، ولو توقف تحقق موضوعه على هذا الأمر لزم الدور.

لكن اشكال الدور غير وارد نقضا وحلا.

أما نقضا : فكما قال : (اللهم الّا أن يقال ـ بعد النقض بورود هذا الايراد

٣٥

في الأوامر الواقعيّة بالعبادات ، مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، حيث أنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها ـ

______________________________________________________

في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (١) حيث أنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا والمفروض ثبوت مشروعيّتها) أي : مشروعية هذه العبادة (بهذا الأمر الوارد فيها ـ) اذ لو لا الأمر بصلاة الظهر ـ مثلا ـ لم يصح الاتيان بها بقصد القربة ، ولو لا قصد القربة الذي هو جزء أو شرط من شروط صلاة الظهر لم يصح تعلق الأمر بها ، فما كان الجواب عن الدور في العبادة الواقعية يكون هو الجواب عنه في العبادة المحتملة الاحتياطية؟.

وان شئت قلت : أنّ قوله : صلّ الظهر ـ مثلا ـ موضوعه : الأركان المخصوصة مع نية القربة بسائر الأجزاء والشرائط وفقد الموانع ، وصدور هذا الأمر من الشارع موقوف على تحقق الموضوع المذكور ، وتحققه موقوف على صدور الأمر المذكور ، اذ لو لم يصدر الأمر المذكور لا يشرّع نية القربة ، فيكون هذا دورا ، فما كان الجواب عن هذا الدور في العبادة الواقعية يكون هو الجواب عن الدور في العبادة الاحتمالية؟.

وأما حلا : فلأنا نقول : الأمر بصلاة الظهر ، أو الأمر بصلاة الاحتياط ـ مثلا ـ قد تعلّق بهيكل العبادة : من الأجزاء والشرائط وفقد الموانع والقواطع ، من دون قصد القربة ، فلمّا تعلّق الأمر بهذا الهيكل لزم أن نأتي به مع قصد القربة ، لأنا علمنا

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٦

إنّ المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل.

وحينئذ : فيقصد المكلّف فيه التقرّب باطاعة هذا الأمر.

ومن هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل ،

______________________________________________________

من الخارج أن هذا الهيكل لا يؤتى به الّا بقصد القربة ، فيتوقف الأمر على الموضوع لكن لا يتوقف الموضوع على الأمر حتى يستلزم الدور ، كما قال :

(ان المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر :) ليس معناهما الحقيقي الشامل لكلّ الأجزاء والشرائط حتى نية القربة ، بل (هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة) فاذا كانت للصلاة ـ مثلا ـ عشرة أجزاء وشرائط وكان من جملتها نيّة القربة ، فالأمر يتعلق بتسعة منها ولم يتعلّق بنيّة القربة.

وعليه : (فمعنى الاحتياط بالصلاة : الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل) الهيكلي بدون قصد القربة (وحينئذ) بعد تعلق الأمر به (فيقصد المكلّف فيه) أي : في هذا الفعل (التقرب بإطاعة هذا الأمر) لأنّ المكلّف يعلم : انّه بدون قصد القربة لا يمكن أن يأتي بصلاة الظهر الحقيقية أو بصلاة الظهر الاحتياطية على ما عرفت.

(ومن هنا :) أي : من انا ذكرنا : انّ أمر الاحتياط متعلق بتسعة أجزاء وهو الهيكل فقط بدون الجزء العاشر الذي هو قصد القربة (يتجه) من الفقيه (الفتوى) لمقلده (باستحباب هذا الفعل) من الصلاة الاحتياطية حتى

٣٧

وإن لم يعلم المقلّد كون ذلك الفعل ممّا شكّ في كونها عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة.

______________________________________________________

(وان لم يعلم المقلّد كون ذلك الفعل ممّا شك في كونها عبادة) بل انّه أتى ، بها بقصد العبادة جازما من دون أن يقصد احتمال كونها عبادة (و) كذا ان (لم يأت) المقلد (به) أي : بهذا الفعل الاحتياطي (بداعي احتمال المطلوبية) وانّما اتى به جازما بمطلوبيته لا باحتمال مطلوبيته.

وعليه : فانّه إذا كان نية القربة ـ مثلا ـ جزءا من الموضوع ، كان على الفقيه أن يقول لمقلّده : يستحب الدّعاء عند رؤية الهلال بقصد احتمال كونه عبادة ، لا أنه يطلق استحباب دعاء الهلال بلا ذكر قصد احتمال كونه عبادة ، فانّ اطلاقه للاستحباب يدل على أن نية القربة ليس جزءا من الموضوع ، بل أمر الاحتياط متعلق بالهيكل فقط.

وانّما نقول ذلك لأنه قد يكون الاتيان بالمركب من الاجزاء التسعة احتياطا فيقول الفقيه لمقلّده : ائت بهذا المركب ، وقد يكون الاتيان بالأجزاء العشرة احتياطا فيقول له الفقيه : ائت بهذه الأجزاء التسعة منضمّة مع احتمال المطلوبية لأن هذه العشرة حينئذ احتياط ، فتسعة أجزاء من المركب متيقن المطلوبية والجزء العاشر محتمل المطلوبية ، فيلزم للمقلّد أن ينوي هنا هكذا ، لا أن ينوي المطلوبية في كلّ الأجزاء العشرة فهو مثل : أن يكون هناك عشر صلوات ، تسعة منها في ذمة الانسان يقينا والعاشرة محتملة ، فانّه لا يصح أن يقال له : ائت بكل الصلوات العشر المتيقنة الفوت ، بل يقول : ائت بتسعة متيقنة وبعاشرة محتملة.

والحاصل : انّ الاحتياط انّما هو باتيان الهيكل لا انّ الاحتياط باتيان الهيكل

٣٨

ولو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقيّ ، وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلّا مع التقييد باتيانه بداعي الاحتمال حتّى يصدق عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه ، فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي.

______________________________________________________

مع قصد القربة كما قال : (ولو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر) الاحتياطية (: معناه الحقيقي) أي : معنى الاحتياط حقيقة (وهو : اتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية ، لم يجز للمجتهد أن يفتي) لمقلّده (باستحبابه) أي : باستحباب هذا المركب من الأجزاء العشرة (إلّا مع التقييد باتيانه بداعي الاحتمال) أي : يقول لمقلده : ائت بالصلاة الاحتياطية بداعي احتمال المطلوبية.

وعليه : فلا يصح للفقيه أن يقول في مثال الدّعاء عند الهلال يستحب الدّعاء عند رؤية الهلال ، بل اللازم أن يقول : يستحب الدّعاء عند الهلال بداعي احتمال الأمر الواقعي الموجب لمطلوبية الدّعاء.

وانّما يلزم على الفقيه أن يقول له بالنحو الثاني (حتى يصدق عليه) أي : على الاتيان بداعي الاحتمال (عنوان الاحتياط).

هذا (مع استقرار سيرة أهل الفتوى) من الفقهاء (على خلافه) إذا لم يأت الفقهاء بلفظ الاحتمال في فتاواهم ، بل يفتون مطلقا وبلا قيد قائلين : أنّ الدّعاء عند رؤية الهلال مستحب (فعلم : أنّ المقصود) بالاحتياط : (اتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه) من الأجزاء التسعة (عدا نيّة الدّاعي) وهو احتمال المحبوبية فانّ قصد الداعي ينضم إليه من الخارج ، لأنّا نعلم أنّ هذا الهيكل المشتمل على تسعة أجزاء لا يؤتى به احتياطا إلّا إذا انضم إليه قصد الداعي ، وإلّا فانّه إذا لم يقصد

٣٩

ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب ، إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون الارشاد العقليّ ، لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب.

كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

الداعي لم يأت بشيء اطلاقا ، اذ بدون قصد الداعي لا يكون الهيكل عبادة احتياطية.

السادس : كفاية روايات التسامح في أدلة السنن لجعل محتمل العبادة عبادة استحبابية إذا كان هناك فتوى من فقيه ، أو خبر ضعيف يدل عليه من غير حاجة لتصحيحه بالاحتياط ، فقد وردت روايات متعددة تدلّ على التسامح ، واليه اشار المصنّف بقوله : (ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا) أي : انّ الشبهة الوجوبية إذا كانت مستندة الى خبر ضعيف ، أو فتوى فقيه ، أو شهرة ، أو ما أشبه ذلك (فلا حاجة) في تصحيح محتمل العبادة بالإتيان به احتياطا (الى أخبار الاحتياط وإثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشّرعي دون الارشاد العقليّ) فانّا أثبتنا سابقا حسن الاحتياط في العبادة المحتملة بحمل أوامر الاحتياط فيها على أنها للاستحباب لا للارشاد ، إذ لو كان الأمر للارشاد لم يثبت الاستحباب.

هذا ، لكنا نقول هنا : انّه لا حاجة الى إثبات الأمر الاستحبابي في الاحتياط في الشبهة الوجوبية في العبادة ، وانّما تصحح الاحتياط هنا (لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّما يحتمل فيه الثواب) سواء كان في الرواية الواردة أو في فتوى الفقيه تصريح بثواب كذا في طاعة كذا ، أم لم يكن تصريح بذلك وانّما كانت الرواية أو الفتوى تقول باستحباب عمل كذا.

(كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام

٤٠