دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

فإنّه يترتّب على وجود الموضوع في الخارج ، فبعد عدم دلالة الأمر بالموقّت على الوجوب في خارج الوقت وعدم جريان الاستصحاب لا بدّ من التمسّك بأصالة البراءة ، إلّا أن يتحقّق دليل خاصّ كما ورد في باب الصلاة والصوم. هذا تمام الكلام في باب الأوامر.

٢٦١
٢٦٢

المقصد الثاني

في النواهي

٢٦٣
٢٦٤

في دلالة صيغة النهي

الظاهر أنّ النهي بمادّته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته ، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما الوجود وفي الآخر العدم ، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره في الأمر بلا تفاوت أصلا.

نعم ، يختصّ النهي بخلاف ما هو في الأمر ، وهو : أنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكفّ أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟ والظاهر هو الثاني. هذا ما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره (١).

ومعلوم أنّ هذا الاختلاف ـ كما يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ـ مبتن على ما هو مسلّم عندهم من أنّ هيئة «لا تفعل» تدلّ على الطلب مثل دلالة هيئة «افعل» عليه ، إلّا أنّ المطلوب في الأوامر عبارة عن طلب إيجاد الطبيعة ، وفي النواهي عبارة عن طلب ترك الطبيعة أو طلب كفّ النفس عن إيجادها.

والتحقيق : أنّ اختلافهما اختلاف ماهوي وحقيقي ، ولا يرجع إلى الاختلاف في المطلوب ، ولا دلالة لهما على الطلب أصلا ، فإنّ هيئة «افعل» وضعت للبعث الاعتباري إلى إيجاد الطبيعة المأمور بها ، وهيئة «لا تفعل» وضعت للزجر الاعتباري عن إيجاد الطبيعة.

توضيح ذلك : أنّ المولى القادر بعد إرادة عمل من عبده قد يبعثه تكوينا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٣٢.

٢٦٥

إليه ، مثل : أخذه من يده وبعثه إلى إتيان المطلوب ، وقد يبعثه اعتبارا إليه بعد إيجاد أرضيّة البعث في ذهن المكلّف ؛ بأنّ إطاعة المولى تجب عقلا أو شرعا وأنّ مخالفته توجب استحقاق العقوبة.

ثمّ إنّ البعث الاعتباري يوجب الانبعاث كثيرا ، وربما يخالفه ويستحقّ العقاب ، وهيئة «افعل» وضعت لهذا البعث الاعتباري.

وهكذا في النهي ، فقد يمنع وينهى العبد تكوينا ، مثل : إيجاد المانع التكويني بين الطفل وحوض الماء ، وقد ينهى ويزجر اعتبارا بعد إيجاد أرضيّة النهي الاعتباري ، ولذا نقول : لا تشرب الخمر ـ مثلا ـ ثمّ يتحقّق الانزجار من المكلّف اختيارا وعن إرادة كتحقّق الانبعاث الاعتباري بعد الأمر منه اختيارا.

فالاختلاف بين الأمر والنهي يرجع إلى الهيئة لا إلى المادّة كما مرّ تفصيله في باب الأوامر ، فهيئة «افعل» تبعث العبد اعتبارا إلى إيجاد الفعل ، وهيئة «لا تفعل» تزجره اعتبارا عن إيجاد هذا الفعل ، ولا معنى لأن يتحقّق في مادّة واحدة الوجود إذا جعلت تحت هيئة «افعل» ، والعدم إذا جعلت تحت هيئة «لا تفعل» ، وهذا المعنى الذي ذكرناه متداول بين العقلاء ، فلا مجال للنزاع في أنّ متعلّق النواهي هو الأعدام والتروك أو كفّ النفس.

ولو فرض صحّة المبنى الذي يكون متّفق عليه بين صاحب الكفاية قدس‌سره وسائر العلماء من دلالة الأوامر والنواهي على الطلب ، إلّا أنّ متعلّق الطلب عبارة عن الأمر الوجودي ، ومتعلّق النهي يحتمل أن يكون كفّ النفس عن الطبيعة ـ كما قال به عدّة من العلماء ـ ويحتمل أن يكون ترك الطبيعة وعدمها كما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره ، ولا يصحّ الالتزام بما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره.

٢٦٦

وأشكل عليه : بأنّ الترك ومجرّد أن لا يفعل خارج عن الاختيار ، والحال أنّه لا بدّ من كون المأمور به مقدورا للمكلّف ، فلا يصحّ أن يتعلّق به البعث والطلب.

وأجاب عنه بقوله : إنّ الترك أيضا يكون مقدورا ، وإلّا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار ، وكون العدم الأزلي لا بالاختيار لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلّا للتكليف.

والدليل على عدم صحّة قوله قدس‌سره : أنّه قد مرّ في بحث الضدّ أنّ عدم أحد الضدّين وتركه لا يمكن أن يكون مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ؛ إذ العدم ليس بشيء حتّى يتّصف بشيء آخر ، وإثبات المقدّميّة بعنوان الوصف والحالة له فرع ثبوته ، فإنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، ولا يمكن اتّصاف العدم بالتقدّم والتأخّر والتقارن ؛ إذ لا حظّ له من الوجود ، من دون فرق بين عدم المطلق وعدم المضاف وعدم الملكة ، ولذا لا يمكن أن يكون متعلّق الطلب في النواهي عبارة عن ترك الطبيعة وعدمها.

سلّمنا أنّ البعث والزجر من الامور الاعتباريّة ، ولكن لا وسعة لدائرتها بحيث يجوز الاعتبار بأيّ نحو كان ؛ إذ الملكيّة أمر اعتباري ولكن لا يمكن جعل المالك أمرا عدميّا ، فلا بدّ على هذا القول أن يكون متعلّق الطلب في النواهي عبارة عن كفّ النفس.

ثمّ إنّه لا دلالة لصيغة النهي على الدوام والتكرار كما لا دلالة لصيغة الأمر ، إلّا أنّ سقوط الأمر وحصول الغرض في باب الأوامر يتحقّق بوجود فرد واحد من الطبيعة في الخارج ، وفي باب النواهي لا يتحقّق عدم الطبيعة إلّا

٢٦٧

بترك جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها ، فدلالة النهي على الاستمرار والدوام إنّما هي بحكم العقلاء لا العقل ولا الوضع كما سيأتي تفصيله.

بقي الكلام في منشأ هذا الفرق والسؤال عنه على جميع المباني ، سواء كان الأمر بمعنى البعث إلى إيجاد الطبيعة والنهي بمعنى الزجر عنه ، أو الأمر بمعنى طلب وجود الطبيعة والنهي بمعنى طلب تركها وعدمها ، أو الأمر بمعنى طلب الوجود والنهي بمعنى كفّ النفس عن إيجادها.

ويتحقّق في منشأ الفرق احتمالان :

الأوّل : أن ينسب إلى الوضع ، فيقال بأنّ هيئة «افعل» وضعت في مقام الوضع للطلب أو البعث إلى إيجاد الطبيعة ولو بوجود واحد ، وهيئة «لا تفعل» وضعت للترك أو الزجر عن إيجاد جميع أفراد الطبيعة ، ولكنّه ليس بصحيح ؛ إذ يتحقّق في الهيئات جهة مشتركة ، وهي عبارة عن الاشتراك في المادّة ، والمادّة التي تكون في هيئة «ضرب» ـ مثلا ـ بمعنى خاصّ تكون في هيئة «يضرب» و «اضرب» و «لا تضرب» أيضا بهذا المعنى.

وأمّا في الهيئة فقد مرّ عن المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّ هيئة «افعل» وهيئة «لا تفعل» يشتركان في معنى واحد ، وهو دلالتهما على الطلب ، إلّا أنّ المطلوب في هيئة «افعل» عبارة عن الوجود المضاف إلى الطبيعة ، وفي هيئة «لا تفعل» عبارة عن العدم المضاف إلى الطبيعة ، وعلى فرض صحّة هذا المبنى يكون «افعل» بمعنى أطلب منك وجود الطبيعة ، و «لا تفعل» بمعنى أطلب منك ترك الطبيعة ، ولا يكون في باب الوضع أزيد من هذا المعنى ، فلا ترتبط مطلوبيّة وجود واحد في الأوامر ومطلوبيّة ترك جميع الوجودات في النواهي بالوضع.

وعلى المبنى المختار يكون الموضوع له في هيئة «افعل» عبارة عن البعث

٢٦٨

الاعتباري إلى إيجاد الطبيعة ، والموضوع له في هيئة «لا تفعل» عبارة عن الزجر الاعتباري عن إيجاد الطبيعة ، ولا دليل لكفاية وجود واحد من الطبيعة في مرحلة البعث الاعتباري ولزوم ترك جميع الوجودات منها في مرحلة الزجر الاعتباري ، فلا يصحّ ارتباط هذا الفرق بالوضع.

الثاني : أن يرجع هذا الفرق إلى العقل كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) حيث ذكر بأنّ وجود الطبيعة يكون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع ، فدلالة النهي على الاستمرار إنّما هي بحكم العقل ، فالطبيعة توجد بوجود فرد ما ، ولا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، كما هو المعروف.

ويتبادر إلى الذهن صحّة هذا المعنى في بادئ النظر ، ولكنّ المسائل العقليّة لا تكون قابلة للإغماض ، فهل يصحّ هذا المعنى عقلا أم لا؟

والتحقيق : أنّه على فرض صحّته يصحّ على مبناه فقط ، لا على القول بأنّ الأمر عبارة عن السوق والتحريك والبعث الاعتباري إلى إيجاد الطبيعة ، والنهي عبارة عن المنع والزجر الاعتباري عن إيجاد الطبيعة ، مع أنّه لا يصحّ على مبناه أصلا.

توضيح ذلك : أنّ المحقّقين ـ ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره ـ يقولون : إنّ وجودا واحدا من وجودات الطبيعة يكون تمام الماهيّة وتمام الطبيعة ، مثلا : حمل «الإنسان» على «زيد» في قضيّة «زيد إنسان» حمل الشائع الصناعي ، فزيد هل هو تمام الإنسان أو حصّة من الإنسان؟ ومعلوم أنّه إنسان كامل من حيث الماهيّة الإنسانيّة ، وزيد وبكر ـ مثلا ـ إنسانان كاملان ، فإذا صار زيد موجودا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٣٢.

٢٦٩

بعد ما لم يكن موجودا صار الإنسان موجودا ، كما أنّه إذا صار بكر موجودا صار إنسان آخر موجودا ، فوجد إنسانان ، وإذا كان الأمر في ناحية الوجود كذلك يكون في ناحية العدم أيضا كذلك ، يعني إذا انعدم زيد انعدم الإنسان.

وبعبارة أخرى : إذا كان وجود فرد واحد وجود تمام الماهيّة فيرجع تعدّد الوجودات إلى تعدّد الطبيعة ، وقد مرّ في المنطق أنّ نسبة الكلّي الطبيعي إلى الأفراد عبارة عن نسبة الآباء إلى الأولاد ، لا نسبة أب واحد إلى الأولاد ، فكلّ واحد من الوجودات وجود مستقلّ من الطبيعة.

ومن المعلوم أنّ الوجود والعدم أمران متناقضان ، ولا يمكن اختلافهما في الوحدة والتكثّر ، فكيف يصحّ القول في ناحية الوجود أنّ للطبيعة وجودات متعدّدة حسب تعدّد المصاديق ويكفي لوجود الإنسان وجود فرد واحد منه ، وفي ناحية العدم أنّ عدم الإنسان متوقّف على انعدام جميع مصاديق الإنسان؟ فكما أنّه يترتّب على وجود زيد وجود الإنسان كذلك يترتّب على عدم زيد عدم الإنسان ولا يمكن التفكيك بينهما.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه يستلزم اتّصاف طبيعة الإنسان بالمتناقضين بلحاظ الاتّصاف بوجود زيد ـ مثلا ـ والاتّصاف بعدم بكر في آن واحد.

وجوابه : أنّ المتناقضين في واحد حقيقي غير قابلين للاجتماع ، وأمّا اجتماعهما في الواحد الجنسي ـ كالناهق والناطق في الحيوان ـ وفي الواحد النوعي ـ كالعالم والجاهل في الإنسان ـ وفي الواحد الصنفي ، فلا بحث ولا إشكال فيه ، ولا يعقل أن يتّصف جسم واحد خارجي في آن واحد بالسواد والبياض ، بخلاف طبيعة الجسم فإنّها تتّصف بالسواد والبياض معا بلحاظ المصاديق ، وهكذا طبيعة الإنسان تتّصف بالوجود والعدم في آن واحد بلحاظ الأفراد الموجودة في الخارج والمعدومة فيه ، ولذا لا يصحّ بيان صاحب الكفاية قدس‌سره في ابتناء الفرق

٢٧٠

المذكور بين الأوامر والنواهي على المسألة العقليّة.

والتحقيق : أنّ الفرق المذكور بينهما مسألة مسلّمة عقلائيّة ، ولا شكّ في اعتبار فهم العرف والعقلاء إن لم يكن في الشريعة دليل على خلافه ، سيّما في باب التفهيم والتفهّم.

والمهمّ في بحث الفرق بين الأوامر والنواهي أنّ الأمر يسقط بالعصيان والمخالفة كما يسقط بالإطاعة والموافقة ، بخلاف النهي فإنّه لا يسقط بالموافقة ولا بالعصيان ؛ إذ لا شكّ في بقاء لا تشرب الخمر بقوّته بعد ترك شرب الخمر في مورد واحد أو موارد متعدّدة ، وهكذا بعد شربه كذلك ، فيتحقّق في باب الأوامر موافقة واحدة ومخالفة واحدة ، وفي باب النواهي موافقات متعدّدة حسب تعدّد الأفراد المنهي عنها ومخالفات كذلك ، ويتحقّق البحث والاختلاف في منشأ هذا الفرق.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : «ثمّ إنّه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة ، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات».

توضيح ذلك : أنّه لو عصى النهي ـ كقوله : «لا تشرب الخمر» بإيجاد فرد واحد من شربه خارجا أو وافق النهي كذلك ـ فلا دلالة لصيغة النهي على حرمة سائر الأفراد ، ولا على عدم حرمتها ، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دليل مستقلّ وإن كان الدليل عبارة عن إطلاق المتعلّق من هذه الجهة ؛ إذ يمكن تحقّق الإطلاق لمتعلّق النهي في مثل قوله : «لا تشرب الخمر» من جهات مختلفة ، كالإطلاق من حيث الزمان والمكان والظرف والإناء ، ولكنّه لا يفيد

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٣٢.

٢٧١

فيما نحن فيه ، والإطلاق المفيد عبارة عن كون المولى في مقام البيان من هذه الناحية ، أي كون المنهي عنه مطلوب الترك وإن خالف النهي أو وافق في مورد واحد أو موارد متعدّدة.

ويرد عليه : أنّه لا يجري في مورد لم يكن المولى في مقام البيان من هذه الجهة ، فلا يصحّ القول باستمرار النهي بعنوان الكلّي.

والمحقّق النائيني قدس‌سره أجاب من جهة اخرى : بأنّه كما أنّه إذا تعلّق الأمر بالعامّ الاستغراقي ينحلّ بأوامر متعدّدة ، وتتحقّق له موافقات متعدّدة ومخالفات متعدّدة حسب تعدّد أفراد المأمور به مثل : «أكرم كلّ عالم». وهكذا النهي في مثل : «لا تشرب الخمر» ، يكون معناه أطلب منك ترك كلّ فرد من أفراد شرب الخمر ، وعلى هذا ينحلّ النهي أيضا إلى نواهي متعدّدة ، ولا فرق بينه وبين قوله : «اترك كلّ فرد من أفراد شرب الخمر» ، فتتحقّق له أيضا موافقات ومخالفات متعدّدة حسب تعدّد أفراد المنهي عنه (١).

والظاهر أنّه أيضا قابل للمناقشة ، فإنّ العموم الاستغراقي في مثل : «أكرم كلّ عالم» يستفاد من إضافة كلمة «كلّ» إلى طبيعة العالم ، وهي تدلّ بالوضع عليه ، وأمّا في باب النهي ، مثل : «لا تشرب الخمر» فلا دلالة له على العموم الاستغراقي أصلا ، فإنّ هيئة النهي لا تدلّ على أزيد من الزجر أو طلب الترك ، والطبيعة لا تدلّ على الخصوصيّات الفرديّة ، بل لا يعقل حكايتها عنها ، فلا دليل على استفادة العموم من «لا تشرب الخمر» ، كما لا يخفى.

والمحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٢) أجاب من جهة اخرى : وهي أنّ الأمر متعلّق

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢٩١.

٢٧٢

بطلب الوجود ، والنهي متعلّق بطلب الترك ، ولكنّ الطلب المنشأ بهيئة «افعل» طلب جزئي ، ولا محالة يكون متعلّق الطلب الشخصي وجود واحد ، والطلب المنشأ بهيئة «لا تفعل» عبارة عن كلّي الطلب. والمادّة أيضا عبارة عن الماهيّة والطبيعة ، فإذا تعلّق كلّي طلب الترك بطبيعة شرب الخمر يحكم العقل بأنّ لازمه تعلّق كلّ فرد من أفراد كلّي الطلب بكلّ فرد من أفراد هذه الطبيعة ، وأنّ لكلّ فرد من أفراد طبيعة شرب الخمر سهما من أفراد طبيعة طلب الترك.

وجوابه أوّلا : أنّ على فرض صحّة هذا الكلام يصحّ على مبناه لا على المبنى المختار.

وثانيا : أنّ جزئيّة الطلب المنشأ في باب الأوامر وكلّية الطلب المنشأ في باب النواهي عين المدّعى ، ولا دليل عليه.

وثالثا : أنّه قد مرّ في باب الوضع قول المشهور بأنّ الوضع في باب الحروف عامّ والموضوع له خاصّ ، وقول صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ الوضع والموضوع له فيها مثل الأسماء عامّ واختلافهما بحسب موارد الاستعمال ، وذكرنا أنّ الحقّ مع المشهور ، وكذلك يكون الوضع والموضوع له في باب الهيئات كما قال به المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، ومعلوم أنّه لا تفاوت بين الهيئات من هذه الناحية ، وإن كان الموضوع له في هيئة «افعل» خاصّا يكون في هيئة «لا تفعل» أيضا كذلك ، وإن كان الوضع والموضوع له فيها عامّا يكون في هيئة «لا تفعل» أيضا كذلك ، ولا يصحّ القول بالفرق بين الهيئات.

والحقّ في الجواب عبارة عمّا قال به استاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدس‌سره (١) وكلامه مبتن على أمرين مسلّمين عنده : الأوّل : أنّ الأمر

__________________

(١) نهاية التقرير ١ : ١٧٥ ـ ١٧٧.

٢٧٣

وضع للبعث الاعتباري ، والنهي وضع للزجر الاعتباري ، ولا دلالة لهما على طلب الوجود وطلب الترك أصلا ، ومتعلّق البعث والزجر عبارة عن الطبيعة. الثاني : أنّ العقلاء بما هم عقلاء بدون الاستناد إلى الوضع والعقل يحكمون بأنّ المبعوث إليه وجود واحد من الطبيعة في باب الأوامر ، والمزجور عنه في باب النواهي عبارة عن جميع وجودات الطبيعة.

وتعلّق الزجر والنهي بها قد يكون بصورة انحلاله إلى النواهي المتعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبيعة ، وهذا يرجع إلى بيان النائيني قدس‌سره.

وقد يكون الزجر والتكليف واحدا بدون انحلال ، والمزجور عنه عبارة عن جميع أفراد الطبيعة ، والحاكم بهذا هو العقلاء ؛ نظير أمر الأب ولده بترك شرب التتن بقوله : «لا تدخّن» ، ولا مانع من أن يكون للحكم مع وحدته موافقات ومخالفات متعدّدة ، وإسقاط الأمر بإطاعة واحدة وعصيان واحد أمر عقليّ ، ومعلوم أنّ الامور العقليّة تابعة للملاك العقلي ، ودليله بنظر العقل أنّ المبعوث إليه وجود ما من وجودات الطبيعة ، وبعد تحقّقه يتحقّق المبعوث إليه ويحصل الغرض وتصدق الإطاعة ويسقط الأمر ، ولذا يحكم العقل بأنّه لا وجه لبقاء الأمر واستمراره بعد ذلك.

وأمّا من جهة المخالفة فلا يكون العصيان بما هو عصيان مسقطا للتكليف عقلا وإن اشتهر ذلك بينهم ، وما يوجب سقوطه في الواجبات المؤقّتة عبارة عن امتناع تحقّقها وعدم قدرة المكلّف على إتيانها بعد مضيّ أوقاتها ؛ إذ الصلاة المقيّدة بالوقت الكذائي لا يمكن إيجادها بعد مضيّ هذا الوقت.

وأمّا عدم سقوط النهي بعصيان واحد وإطاعة واحدة عقلا فلا يكون إلّا لعدم تحقّق تمام الملاك وتمام الغرض ؛ إذ المنهيّ عنه عبارة عن جميع وجودات

٢٧٤

الطبيعة ، وتحصل مع ترك شرب الخمر في مجلس واحد حصّة من الغرض لإتمامه ، ومع تركه في مجلس آخر تحصل حصّة اخرى منه ، وهكذا ، ولذا لا يسقط النهي إلّا مع ترك جميع أفراد المنهي عنه ، وحصول الغرض في الجملة لا يكون مسقطا للتكليف بالمرّة ، فإنّ العصيان ينقض الغرض ، لكن بارتكاب فرد من شرب الخمر ينقض حصّة منه ، ويبقى النهي بالنسبة إلى بقيّة الأفراد مع اختيار المكلّف وقدرته على تركه ، هذا تمام كلامه مع الإيضاح.

٢٧٥
٢٧٦

فصل

في اجتماع الأمر والنهي

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه على أقوال : أوّلها : الجواز مطلقا ، ثانيها : الامتناع مطلقا ، ثالثها : جوازه عقلا وامتناعه عرفا ، وقبل الخوض في المقصود يقدّم امور :

الأوّل : المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجا تحت عنوانين ، بأحدهما كان موردا للأمر ، وبالآخر للنهي وإن كان كلّيا مقولا على كثيرين كالصلاة في المغصوب ، وإنّما ذكر هذا لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنهي ولم يجتمعا وجودا ولو جمعهما واحد مفهوما كالسجود لله تعالى والسجود للصنم ـ مثلا ـ لا لإخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة والسكون الكلّيّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة».

ومقصوده : أنّ المراد من كلمة الواحد في عنوان البحث لا يكون خصوص الواحد الشخصي وإن كان هو القدر المتيقّن في محلّ النزاع ، بل يشمل الواحد الجنسي والنوعي أيضا ، وإن كان تمثيله لهما في الابتداء محلّ إشكال ، ولذا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٣٣.

٢٧٧

صحّحه في الذيل.

ثمّ تعرّض للفرق بين المثالين المذكورين وأنّه لا يتحقّق الجامع الجنسي والنوعي بين السجود لله والسجود للصنم ، ويشتركان في اللفظ والعنوان فقط.

وفيه : أوّلا : أنّ نفس هذا العنوان يهدينا إلى أنّ هذا النزاع يجري فيما لو لم يكن الاجتماع لم تكن مشكلة في البين ، وإنّما يحصل الإشكال من جهة الاجتماع ، ولذا تكون مسألة الأمر بالضدّين وهكذا النهي عنهما خارجة عن محلّ النزاع ؛ لامتناعه قبل الاجتماع ، وقد عرفت أنّ متعلّق الأوامر والنواهي عبارة عن الطبائع والماهيّات لا الأفراد والمصاديق ، فإنّ قبل تحقّق الفرد لا يتحقّق الموضوع ، وبعد تحقّقه يحصل الغرض ، ومعلوم أنّ العوارض الفرديّة لا تكون قابلة للتفكيك عن وجود الطبيعة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الواحد الشخصي لا يعقل أن يكون داخلا في محلّ النزاع ، فإنّ تعلّق الأمر بوحدته فيه مستحيل فضلا عن اجتماع الأمر والنهي فيه ، فلا محالة يكون المراد من الواحد في عنوان البحث الواحد الجنسي والنوعي.

وثانيا : أنّا نرى استعمال كلمة «السجود» في السجود لله ، وفي السجود لغير الله ، كقوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ)(١) ، ويتحقّق هنا في بادئ النظر ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أن تكون كلمة «السجود» موضوعة للجامع بينهما بصورة المشترك المعنوي ، وهذا الجامع إمّا يكون جنسا للنوعين وإمّا نوعا لهما ، فتتحقّق بينهما وحدة جنسيّة أو نوعيّة ، ولا يتصوّر المشترك المعنوي بدونهما.

__________________

(١) فصّلت : ٣٧.

٢٧٨

الثاني : أن تكون موضوعة لهما بصورة المشترك اللفظي ، وعلى هذا يكون اشتراكهما في اللفظ دون المعنى ، بل يمكن في المشترك اللفظي وضع اللفظ للمعنيين المتضادّين ، كوضع لفظ القرء للحيض والطهر ، فلا تتحقّق بينهما وحدة جنسيّة ولا نوعيّة.

ولكن لا يمكن الالتزام بذلك ، فإنّ للسجود معنى كلّيّا عرفيّا ، وهو قد يتحقّق في مقابل الله تعالى ويسمّى سجودا لله ، وقد يتحقّق في مقابل غيره ويسمّى سجودا لغير الله ، كما هو المعلوم.

الثالث : أن يكون استعماله فيهما بصورة الحقيقة والمجاز ، ومن البديهي أنّه لا يمكن الالتزام بمجازيّة استعمال كلمة (لا تَسْجُدُوا) باعتبار مادّتها نظير «رأيت أسدا يرمي».

ولا يكون احتمال رابع في البين ، وبعد عدم إمكان الالتزام بالاحتمالين الأخيرين فلا محالة يتعيّن المشترك المعنوي ، ولا فرق بين المثالين.

ويمكن أن يقال في مقام الفرق بينهما : إنّه لا يتحقّق في مثال السجود مورد الاجتماع للعنوانين حتّى يصدق عليه السجود لله والسجود للصنم ، بخلاف مثال الحركة والسكون الكلّيّين.

وجوابه أوّلا : إنّا نبحث في الواحد الجنسي لا في مورد الاجتماع ، ولا يصحّ إخراج مثال السجود عن دائرة الواحد الجنسي ؛ لعدم تحقّق مورد الاجتماع فيه ؛ إذ لا يتحقّق مورد التصادق بين الإنسان والبقر ، مع أنّه لا شكّ في اشتراكهما في الحيوانيّة ، وتحقّق الواحد الجنسي فيهما.

وثانيا : أنّ مورد التصادق في مثال الصلاة والغصب هل يكون ملحوظا للمولى في مقام تعلّق الأمر بالصلاة والنهي بالغصب أم لا؟ ومعلوم أنّه لا يمكن

٢٧٩

لحاظ الواحد الشخصي في هذا المقام ؛ إذ هو قبل الوجود ليس بشيء ، وبعده لا يعقل تعلّق الأمر والنهي به ، فلا يكون الملحوظ في المقام المذكور سوى المتعلّق ، ومن البديهي أنّه عبارة عن طبيعة الصلاة ، لا الصلاة في الدار المغصوبة ، وإذا لم يكن مورد التصادق ملحوظا للمولى فكيف يكون فارقا بين المثالين؟! فلا يكون مثال السجود قابلا للخروج عن دائرة الواحد الجنسي ، فيشمل عنوان محلّ النزاع هذا المثال أيضا إذا اجتمع الأمر والنهي في واحد ، مع أنّه خارج عن محلّ النزاع قطعا ولا شبهة فيه.

وينحصر حلّ الإشكال بتغيير عنوان محلّ النزاع بأنّه هل يجوز تعلّق الأمر والنهي بالعنوانين المتصادقين في واحد أم لا؟ وعلى هذا لا إشكال في خروج عنوان السجود لله وعنوان السجود للصنم عن محلّ النزاع ؛ لعدم كونهما متصادقين في مورد أصلا ، والمراد من الواحد في عنوان البحث هو الواحد الشخصي ، ولكنّه بعنوان مورد الاجتماع ومادّة التصادق ، لا بعنوان متعلّق الأمر والنهي ، ويكون مقام تعلّق الأمر والنهي في رتبة متقدّمة على مقام التصادق ، فيتعلّق الأمر بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب ، ولكنّ هذين العنوانين ربما يجتمعان في مورد واحد كالصلاة في الدار المغصوبة ، وليس المأمور به الصلاة مع وصف كونها متصادقة مع الغصب ، وليس المنهيّ عنه الغصب مع وصف كونه متصادقا مع الصلاة ، حتّى يستشكل بأنّ مع علم المولى بمورد التصادق كيف يصدر عنه الأمر والنهي.

الأمر الثاني : الذي تعرّضه صاحب الكفاية قدس‌سره عبارة عن الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة يقتضي الفساد أم لا : ومنشأ توهّم عدم الفرق بينهما هو كلمة العبادة في عنوان المسألة الآتية ؛ إذ العبادة تحتاج إلى الأمر

٢٨٠