دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

كما صرّح به ابن الأثير في تأريخه ، بأنّ «سرجون» الرومي كان كاتبه وصاحب أمره (١).

وفي مقتل الخوارزمي : أنّ يزيد نصب عبيد الله بن زياد أميرا على الكوفة بمشاورة «سرجون» الذي ينتهي إلى شهادة الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وقتل أهل بيته وأصحابه ، وأسر نسائه ويتاماه من بلد إلى بلد (٢) ، بل كان تشكيل السقيفة وغصب الخلافة من أمير المؤمنين عليه‌السلام بمشاورة عقول وأفكار اليهود وأمرهم ، مثل كعب الأحبار اليهودي وأمثاله ، كما قرّره السيّد الشهيد «رضا پاك نژاد» في كتابه المسمّى باسم «مظلوم گم شده در سقيفه» ، فمن علل المهمّة في تفرّق المسلمين والاختلاف والتحزّب بينهم نفوذ أيادي اليهود والنصارى وعمّالهم واعتقاداتهم في بيت الخلافة ، وانقطاع الخلافة من معدن الوحي والرسالة ، يعني الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ويؤيّده تشكيل المذهب الضال الوهّابي في زماننا هذا.

وأمّا الأشاعرة والمعتزلة فكانوا فريقين من المسلمين ، وسبب تشكيلهم أنّ الحسن البصري الذي كان من الاسراء ظاهرا ، لمّا كان من علماء زمانه ومن فضلاء المسلمين على الظاهر اجتمع حوله عدّة من الناس لاستماع نظريّاته في المسائل الاعتقاديّة ، ومن تلامذته واصل بن عطا ، وهو بعد البحث والنزاع مع استاذه في جلسة درسه خرج واعتزل مجلسه ، فهو وأتباعه بعد ذلك شكّل جلسة مستقلّة في مقابل استاذه سمّوا بالمعتزلة.

وكان أيضا من تلامذة الحسن البصري أبو الحسن الأشعري الذي كان من

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٤ : ١١.

(٢) مقتل الخوارزمي : ١٩٨.

٤٨١

أصلاب أبي موسى الأشعري المعروف ، وهو كان مجدّا في إشاعة نظريّات استاذه ، ومشوّقا للناس إلى الاشتراك في جلسته ومجلس درسه ، ولذا سمّي هو وأتباعه بالأشاعرة ، وكان لكلّ منهما نظرا مخالفا للآخر في أكثر المسائل.

وأوّل ما اختلف فيه الفريقان كان عبارة من أنّ القرآن الكريم قديم أو حادث ، ومنشأ هذا الاختلاف هو إطلاق عنوان كلام الله عليه بين المتشرّعة من صدر الإسلام إلى الآن.

على أنّه نسب إليه تعالى في بعض آيات القرآن أيضا عنوان التكلّم والتكليم ، مثل قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١) ، ويستفاد من ذلك أنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى لا ينافي مع الشرع والقرآن ، كما أنّه صحيح عند كلا الفريقين.

ثمّ إنّ أوصافه تعالى على نوعين :

أحدهما : ما يعبّر عنه بالأوصاف الذاتيّة ، وهي قائمة بذاته الواجبة ، وقديمة بقدمها ، وثبوتها للذات لا يحتاج إلى شأن خاصّ وشخص خاصّ وحالة مخصوصة ، كالعلم والقدرة والحياة ، فإنّها من الصفات الذاتيّة التي لا يحتاج ثبوتها إلى شيء من الأشياء ، ولذا نقول : (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، * إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وثانيهما : ما يعبّر عنه بالأوصاف الفعليّة ، وهي تختلف بالنسبة إلى الحالات والموارد والأشخاص والأزمنة ، مثل صفة الخالقيّة والرازقيّة وأمثالها ، فإنّه تعالى قادر على كلّ شيء ، ولكنّ كلّ مقدور لا يتحقّق ولا يصدر عنه في مقام العمل ، فلذا يقول : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي

__________________

(١) النساء : ١٦٤.

٤٨٢

الرِّزْقِ)(١) ، فهذه الأوصاف تكون حادثة ، فإنّ زيدا ـ مثلا ـ خلق اليوم مع أنّه لم يخلق في الأمس.

ثمّ اختلفت الأشاعرة والمعتزلة في أنّ صفة التكلّم هل تكون من صفاته الذاتيّة أو من صفاته الفعليّة ، وذهبت المعتزلة إلى أنّ إطلاق المتكلّم على الله تعالى يكون بنحو إطلاقه على الإنسان ، بأنّ كلام الإنسان حين التكلّم عبارة عن إيجاد المتكلّم أصواتا متدرّجة ، وكلّ صوت متكئ على مخرج من مخارج الفم ومقطع من مقاطعه ، ويستمعها المخاطب أيضا متدرّجة ، وهكذا كلامه تعالى ، إلّا أنّ الله تعالى بلحاظ تجرّده وعدم كونه جسما يوجد الأصوات في موجود آخر بنحو التدريج والتدرّج ، مثل إيجاده تعالى الأصوات في الشجرة ، وقوله بعده : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) ، ومثل إيجاده تعالى الأصوات في الحصاة وشهادته برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين هبوطه على جبل حراء ، فلا فرق بين كلامه تعالى وكلام الإنسان من حيث الماهيّة والكيفيّة ، وهذا موافق لنظر المتكلّمين من الإماميّة ، فتكون صفة التكلّم على هذا القول من صفاته الفعليّة ومن الامور الحادثة.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى من الصفات الذاتيّة ، وقائم بذاته الواجبة وقديم بقدمه تعالى ، مثل العلم والحياة والقدرة وأمثال ذلك ، ولأجل ذلك قد اضطرّوا إلى الالتزام بأنّه كانت لذاته تعالى صفة وواقعيّة باسم الكلام النفسي ، أي ما وراء الكلام اللفظي ، فالقرآن هو الكلام النفسي القائم بالذات بالقيام الحلولي. فكما أنّه يطلق العالم عليه تعالى مع كونه من صفاته الذاتيّة والقديمة كذلك يطلق على الإنسان ، مع أنّ علمه محدود وحادث، وهكذا القادر

__________________

(١) النحل : ٧١.

٤٨٣

ونحوه ، ويجري هذا المعنى بعينه في الكلام النفسي ، فإنّه إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات الباري يتحقّق فيه ويكون من الأوصاف الذاتيّة والقديمة ، وأمّا إذا لوحظ إلى الإنسان والجمل الخبريّة مثل «جاء زيد من السفر» فيتحقّق وراء الألفاظ ، وعلم المتكلّم بالمعنى المذكور أمرا نفسانيّا آخر والذي نعبّر عنه بالكلام النفسي ، وهكذا في الجمل الإنشائيّة إلّا أنّها إذا اشتملت على الأمر يكون للكلام النفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ وهو الطلب ، وإذا اشتملت على النهي وكانت ماهيّة النهي عبارة عن الزجر لا طلب الترك يكون للكلام النفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ آخر ، وهو الزجر ، وأمّا الجمل الإنشائيّة المشتملة على العقود والإيقاعات والتمنّي والترجّي لا يكون للكلام النفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ.

وحكى الإمام قدس‌سره في رسالة الطلب والإرادة عن بعض أهل التحقيق : أنّ إطلاق المتكلّم على الله تعالى يكون بنحو إطلاقه على الإنسان ، بلا فرق بينهما أصلا ، إلّا أنّ الإنسان يتكلّم بالفم واللسان ، وهو تعالى يوجد الكلام من دون آلة ومن دون واسطة ، ويؤيّده تكلّمه تعالى مع موسى بقوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى * قالَ أَلْقِها يا مُوسى)(١).

ثمّ إنّ الإمام قدس‌سره بعد نفي هذه الأقوال اختار في المسألة قولا آخر ، ومحصّله : أنّ كلام الله سبحانه عبارة عن الوحي ، فإنّ إنزال القرآن وسائر الكتب إلى الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام لا يكون بصورة إيجاد الكلام في شيء آخر قطعا ، كما أنّه لا يكون بصورة تكلّمه تعالى مع موسى عليه‌السلام أيضا ولا بما ذهب إليه

__________________

(١) طه : ١٧ ـ ١٩.

٤٨٤

الأشاعرة ؛ إذ القيام الحلولي مستلزم للقوّة والنقص والتركيب ، تعالى عنه ، كما أنّ خلوّ الذات عن صفات الكمال مستلزم لذلك.

نعم ، أنّه تعالى متكلّم بوجه آخر حتّى في مرتبة ذاته يعرفه الراسخون في الحكمة ، فكلامه تعالى عبارة عن الوحي ، وأمّا حقيقة الوحي وكيفيّته ممّا لم يصل إليها فكر البشر إلّا الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلى الرياضات ونور الإيمان ، وقد أشار إلى بعض أسراها قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(٢). وأفهام أصحاب الكلام من المعتزلة والأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام والإعراض عنه أولى. فالتحقيق أنّ الحقّ مع الإمام قدس‌سره.

اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه

ولكن لا بدّ لنا من ذكر محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة قبل بيان استدلالهما في المقام ؛ لدفع ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بعنوان محلّ النزاع والمصالحة بينهما ، ومحصّل كلامه : أنّ الحقّ هو اتّحاد الطلب والإرادة ، بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشئ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة.

وبالجملة ، هما متّحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أنّ الطلب الإنشائي

__________________

(١) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) النجم : ٤ ـ ١١.

٤٨٥

الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متّحد مع الإرادة الحقيقيّة التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، فيكون لفظا الطلب والإرادة من الألفاظ المترادفة كالإنسان والبشر ، ولازم الترادف اتّحاد المعنى في جميع المراحل والمراتب من الوجود الحقيقي والإنشائي والذهني ، فلا فرق بينهما إلّا في مقام الانصراف ، ولكنّه لا ينافي الترادف كما لا يخفى.

والأشاعرة لا محالة تقول على هذا البيان : إنّ الطلب والإرادة لفظان متغايران ، وكان لهما معنيان.

فحاصل النزاع : أنّ المعتزلة تقول : الطلب موضوع لما وضع له لفظ الإرادة ، والأشاعرة تقول : الطلب موضوع لغير ما وضع له لفظ الإرادة.

ومن المعلوم أنّ النزاع بهذه الكيفيّة يكون نزاعا لغويّا ، مثل نزاع الفقهاء في أنّ المراد من لفظ الصعيد هل هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض؟ ولا شكّ في أنّ هذا بعيد عن محلّ النزاع والاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ، فإنّ النزاع بينهما يدور مدار تحقّق صفة من الأوصاف الواقعيّة وراء الصفات الثبوتيّة وعدمه ، ولا يكون لترادف لفظي الطلب والإرادة وعدمه دخل في ذلك ، والقول بالترادف لا يستلزم بطلان الكلام النفسي ، كما أنّ القول بعدم الترادف لا يستلزم ثبوت الكلام النفسي.

وأبعد من ذلك ما قال به في مقام التصالح بين المتخاصمين من أنّه يقع الصلح بين الطرفين بأن يكون مراد المعتزلة من اتّحاد الطلب والإرادة اتّحادهما مفهوما ومصداقا وإنشاء ، بمعنى أنّهما متّحدان مع وحدة المرتبة بحيث يكون كلّ منهما عين الآخر في تلك المرتبة ، ومراد الأشاعرة من المغايرة تغايرهما مع اختلاف المرتبة كالطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة ، فإنّهما متغايران ولا

٤٨٦

يتّحدان أصلا ، وبهذا الوجه يقع الصلح بينهما ويصير النزاع لفظيّا.

ومن البديهي أنّ التصالح وعنوان محلّ النزاع بهذه الكيفيّة بعيد بمراحل عن محلّ النزاع بين الفريقين ، بل هو أقوى شاهد على عدم التفاته إلى كنه نزاعهما ، فإنّ الأشاعرة تدّعي تحقّق صفة الواقعيّة القائمة على الذات بالقيام الحلولي ، والمعتزلة تنكره ، فلا دخل للألفاظ والتعابير في هذا النزاع ، ولا يمكن المصالحة بينهما أصلا ، فالنزاع جار ولو قلنا باتّحاد الطلب والإرادة في مرتبة واحدة.

فلا بدّ لنا في تنقيح البحث ومحلّ النزاع من ملاحظة أدلّة الطرفين.

ومن أدلّة الأشاعرة أنّه إذا أخبر المخبر بأنّه «جاء زيد من السفر» فلا شكّ في اتّصاف هذه الجملة بالخبريّة ، سواء كان المخبر عالما بمطابقة المخبر به مع الواقع أم شاكّا ، أم عالما بمخالفة المخبر به مع الواقع ، ولا يشترط فيه علم المخبر بمطابقة المخبر به مع الواقع ، كما أنّه لا دخل لحالات المستمع من العلم والشكّ فيه ، ولا يوجب علمه بكذب المتكلّم خروج الجملة عن الاتّصاف بالخبريّة ، فإنّ ما يقال من أنّ الخبر يحتمل الصدق والكذب فهو باعتبار ذات الخبر مع قطع النظر عن علم المتكلّم وجهله ، أي من شأنه احتمال الصدق والكذب.

ثمّ استدلّ بأنّه لا بدّ في الجمل الخبريّة من الحكاية عن الواقعيّة النفسانيّة ، فإن كانت هي عبارة عن العلم والتصديق بثبوت مخبر به فهو لا يتحقّق إلّا في صورة واحدة من الصور الثلاثة ، فنكشف من ذلك تحقّق الصفة النفسانيّة التي نعبّر عنه بالكلام النفسي في جميع الصور المذكورة ، وكما أنّ ألفاظ الجملة في الاتّصاف بالخبريّة لا يكون مشروطا بشرط في الصور الثلاثة كذلك تتحقّق صفة نفسانيّة اخرى وراء العلم في الصور الثلاثة ، بلا فرق بين علم المتكلّم بمطابقة خبره مع الواقع وشكّه وعلمه بمخالفة خبره معه ، فتتحقّق للواقعيّة الخارجيّة ثلاث حالات ، وأمّا الواقعيّة النفسانيّة فتتحقّق حتّى للكاذب ، فلا بدّ

٤٨٧

لنا من الالتزام بالكلام النفسي ، وإلّا لم يكن اتّصاف الجملة بالخبريّة في جميع الصور قابلا للتوجيه.

وجوابه : يظهر بمراجعة الوجدان وبالفحص والتحليل مداليل الجمل الخبريّة بعد كونها من المسائل المبتلى بها في الاستعمالات الشائعة بين الناس ، وإذا قال المخبر : «زيد قائم» فلا نجد في هذه الجملة سوى عدّة من الواقعيّات :الاولى : واقعيّة الألفاظ ، مثل : واقعيّة لفظ «زيد» و «قائم» وحركاتهما ، وتقدّم بعض الحروف على الآخر وأمثال ذلك ، ومثل واقعيّة هيئة الجملة نحو مرفوعيّة لفظ الأوّل بعنوان المبتدأ والثاني بعنوان الخبر ، وتقدّم أحدهما على الآخر.

الثانية : واقعيّة المعاني ، مثل : واقعيّة معنى «زيد» وواقعيّة معنى «القائم» بمادّته وهيئته ، ومثل واقعيّة معنى الجملة.

الثالثة : واقعيّة الإرادة فإنّ التكلّم وصدور اللفظ من المتكلّم فعل من أفعاله الاختياريّة ، فلا بدّ من كونه مسبوقا بالإرادة التي لها مقدّمات ومبادئ ، وفي رأس المبادئ التصوّر.

الرابعة : الواقعيّة النفسانيّة للمخبر ، وهي اتّصافه بإحدى الحالات الثلاث ، فإنّه قد يكون عالما بالمطابقة ، وقد يكون عالما بالمخالفة ، وقد يكون شاكّا بالمطابقة والمخالفة.

الخامسة : واقعيّة مطابقة المخبر به مع الواقع وعدم مطابقته معه.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ ولا شبهة في عدم كون أحد هذه الواقعيّات بالكلام النفسي ، وأمّا واقعيّات الألفاظ والمعاني فلا دخل لها بالنفس ، كما أنّ واقعيّة مطابقة المخبر به للواقع وعدمه لا دخل لها بنفس المخبر ، بل كانت هي من أوصاف الجمل الخبريّة.

٤٨٨

وأمّا الواقعيّة النفسانيّة المتحقّقة في الجمل الخبريّة ـ يعني اتّصاف المتكلّم بكونه عالما بالمطابقة أو عالما بالمخالفة أو شاكّا ـ فتحقّقها وإن كان مقطوعا ولم تكن قابلة للإنكار إلّا أنّها أيضا ليست بالكلام النفسي عند الأشاعرة ، فإنّهم صرّحوا بأنّ الكلام النفسي مغاير للعلم وزائد عليه ، على أنّهم صرّحوا بأنّ المتحقّق في جميع الجمل الخبريّة واقعيّة واحدة وصفة متّحدة المآل ، سواء كان المتكلّم صادقا أم كاذبا أم شاكّا ، فإن كان الكلام النفسي عبارة عن هذه الحالات الثلاث للمتكلّم واقعيّات ولا أقلّ من واقعيّتين ـ أي العلم والشكّ ـ كما هو المعلوم.

وأمّا الواقعيّة النفسانيّة الاخرى ـ يعنى واقعيّة الإرادة ـ فهي أيضا لا تكون كلاما نفسيّا.

وتدلّ عليه أدلّة متعدّدة : منها : تصريح الأشاعرة بأنّ كلام النفس مغاير للإرادة.

ومنها : أنّ منشأ الإدارة في الجمل الخبريّة عبارة عن أنّ التكلّم فعل من أفعاله الاختياريّة ، وكلّ فعل اختياري مسبوق بالإدارة ، فالتكلّم مسبوق بالارادة. ومن المعلوم أنّ هذا المنشأ يتحقّق في الخياطة والتجارة والكتابة أيضا ، فيكون الكلام النفسي في التاجر والخيّاط والكاتب أيضا متحقّقا حين الشروع ، مع أنّهم قائلون بانحصار الكلام النفسي في الجمل الخبريّة والإنشائيّة.

على أنّ الإرادة مسبوقة بالمبادئ ، وأوّل المبادئ التصوّر ، وهو قسم من العلم ؛ إذ العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصوّر وإلّا فتصديق ، وقد مرّ آنفا أنّهم صرّحوا بأنّ الكلام النفسي مغاير للعلم وزائد عليه ، فلا تكون الواقعيّات

٤٨٩

المتحقّقة المذكورة كلاما نفسيّا ، ولا ضرورة تقتضي الالتزام بتحقّق الكلام النفسي في الجمل الخبريّة ، ولا نقص فيها حتّى ينجبر بالتزام تحقّق الواقعيّة المجهولة باسم الكلام النفسي.

وأمّا في الجمل الإنشائيّة الطلبيّة فكان للكلام النفسي عندهم اصطلاح خاصّ ، وهو الطلب ، فاستدلّ هاهنا بصورة السؤال عن المعتزلة بأنّ المولى إذا قال لعبده : «جئني بالماء» فما هي الصفة النفسانيّة المتحقّقة في الجمل الإنشائيّة الطلبيّة؟ فلا محالة تقول المعتزلة : هي عبارة عن الإرادة المتعلّقة بتحقّق المأمور به في الخارج عن المكلّف.

وجوابه : أنّ الجمل الإنشائيّة الطلبيّة قد تتحقّق بدون أن تكون إرادة المولى متعلّقة بتحقّق المأمور به في الخارج كما في الأوامر الاختياريّة ؛ إذ لا شكّ في تحقّق الأمر فيها ، ويكون إطلاق الأمر عليها على نحو الحقيقة لا على سبيل التجوّز والمسامحة ، ومع ذلك لا تتحقّق فيها الإرادة النفسانيّة المذكورة.

وهكذا في الأوامر الاعتذاريّة ؛ إذ لا يريد فيها تحقّق المأمور به ، بل المراد رفع لوم الناس في ضرب المأمور ومؤاخذته باعتذار أنّه قد عصاه ، فالطلب في صورتي الاختبار والاعتذار موجود بدون الإرادة ، مع أنّها أمر حقيقي ويجري عليها ما يجري على الأوامر الأخر من استحقاق العقوبة وأمثاله.

فيستفاد من ذلك أنّ غير الإرادة المتحقّقة في بعض الأوامر تتحقّق صفة نفسانيّة اخرى في جميع الأوامر التي نسمّيها بالكلام النفسي ونعبّر عنه هاهنا بالطلب ، فالطلب مغاير للإرادة ، كما يدلّ عليها قول الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فإنّ مقتضاه أنّ ظرف تحقّق الكلام الحقيقي عبارة عن النفس ، وأمّا الألفاظ

٤٩٠

والأصوات فتكون بمنزلة الدليل والكاشف عنه.

وجوابه : في الجمل الإنشائيّة عين الجواب عن الاستدلال في الجمل الخبريّة ، فإنّهما مشتركان في كثير من الواقعيّات المتحقّقة المذكورة في الجمل الخبريّة ، فالوجدان أقوى شاهد لعدم تحقّق صفة نفسانيّة في نفس الآمر ، سوى إرادة تحقّق المأمور به عن المأمور حين الأمر ، وأمّا الأوامر الاختياريّة والاعتذاريّة وإن لم تتحقّق فيها هذه الإرادة ، إلّا أنّ الداعي الاختبار والاعتذار متحقّق فيها مثل داعي تحقّق المأمور به في سائر الأوامر ، فأيّ دليل يقتضي ثبوت الصفة النفسانيّة الاخرى سوى هذه الدواعي الموجودة فيها ، فلا يستلزم عدم تحقّق الإرادة في بعض الأوامر ثبوت الكلام النفسي.

وأمّا الجواب عن الاستدلال بقول الشاعر فأوّلا : أنّه من الممكن أن يكون الشاعر من الأشاعرة ، مع أنّه لا دليل على حجّيّة الشعر ، إلّا أن يكون من الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام.

وثانيا : أنّ مفاد الشعر المذكور لا ينطبق على الكلام النفسي أصلا ، فإنّ مفاده عبارة عن أنّ مراد الإنسان من التكلّم هو اطلاع الغير على ما في قلبه ، بحيث إن أمكن الاطّلاع عليه بدون التكلّم لا يحتاج إلى الألفاظ والأصوات واللسان ، وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ، فهو أيضا لا يدلّ على تحقّق الكلام النفسي.

وقد مرّ أنّ الأساس لإثبات الكلام النفسي هو إطلاق المتكلّم على الباري تعالى ، فإنّ الأشاعرة لاحظت أنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى في الإطلاقات والاستعمالات شائع بين المتشرّعة ، ولاحظت أيضا أنّ في صدق المشتقّ لا بدّ من تحقّق الارتباط بين المبدأ والذات ، فقد مرّ في بحث المشتقّ أنّ العلماء

٤٩١

اختلفوا في كيفيّة هذا الارتباط ، وقالت الأشاعرة : إنّه لا بدّ من كون المبدأ قائما بالذات بالقيام الحلولي ، ولاحظت هذا المعنى في قولنا : الجسم أبيض أو أسود ، فإنّ البياض أو السواد قائمان بالجسم بالقيام الحلولي ، وهما حالان في الجسم ، والجسم محلّ لهما ، ثمّ فرضت هذا المعنى بعنوان الضابطة الكلّيّة في جميع المشتقّات.

ثمّ قالت : تجري هذه القاعدة في إطلاق المتكلّم المشتقّ على الله تعالى ، ولا بدّ أن يكون بين الكلام وذات الباري ارتباط بنحو القيام الحلولي ، فحينئذ لا يعقل أن يكون الكلام اللفظي مع كونه من الامور المتصرّمة والمتدرّجة والحادثة حالّا في ذات الباري ، فلا بدّ من الالتزام بالكلام النفسي الذي هو حالّ في ذات الباري وقديم بقدمه. هذا محصّل ما قالت به الأشاعرة في تحقّق الكلام النفسي لذات الباري.

وفيه : أنّ مبنى الأشاعرة لا دليل عليه ، مع أنّه مناف لأكثر المشتقّات ، ولا تجري هذه الضابطة المسلّمة عندهم في أكثرها ، ولا ينحصر المشتقّ بما يجري فيه هذا المعنى كالأبيض والأسود وأمثال ذلك ؛ إذ لا شكّ في أنّ الضارب والقاتل يكونان من المشتقّات ، مع أنّ مبدأيهما ـ أي الضرب والقتل ـ قائمان بالذات بالقيام الصدوري لا الحلولي ، وهكذا أمثالهما.

وأوضح من ذلك أنّه لا شكّ في أنّ إطلاق المالك على «زيد» يكون بنحو الحقيقة ، مع أنّ الملكيّة أمر اعتباري اعتبرها الشارع والعقلاء ، ولا يكون بإزائها شيء في الخارج ، فلا قيام في البين ، فضلا من أن يكون بنحو الحلول ، وهكذا العناوين ، مثل : الزوج والزوجة وأمثالهما ، فلا كلّيّة للقاعدة المذكورة في كلام الأشاعرة.

٤٩٢

وعلى أنّ لازم هذا القول في الأوصاف الذاتيّة ـ كالعلم والقدرة ـ زيادتها عليها وتحقّق القديمين المستقلّين ، مع أنّ عينيّة صفات الذات مع الذات لا شكّ فيها وقد ثبت في محلّه ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «وكمال الإخلاص نفي الصفات عنه» (١) يعني نفي شيء زائد على الذات ، ومقتضى هذه العينيّة ألّا تكون في صدق عنوان المشتقّ بين المبدأ والذات مغايرة عينيّة ووجوديّة ، فلا تعتبر في صدق عنوان المشتقّ مغايرة حقيقيّة وواقعيّة بينهما ، فضلا من القيام الحلولي ، فالعينيّة نوع من التلبّس ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ـ بل هي مصداقه الأتمّ والأكمل ، ولكن يتبادر إلى الذهن من سماع لفظ التلبّس ما يتغاير المبدأ والذات فيه بلحاظ ابتلائنا كثيرا ما بما يكون كذلك.

ومن هنا يستفاد أنّ دائرة صدق عنوان المشتقّ أوسع ممّا قال به الأشاعرة.

وأوضح ممّا ذكرنا أنّا نرى في الاستعمالات العرفيّة بدون المسامحة والتجوّز إطلاق عنوان البقّال على بائع البقل ، وإطلاق عنوان العطّار على بائع العطر ، مع أنّ مبدأهما لا يناسب الذات أصلا ؛ إذ لا يكون للبقل والعطر معنى فعلي حديث ، وهكذا إطلاق اللابن والتامر على بائع اللبن والتمر ، ويعبّر عن هذه المشتقّات بالمشتقّات الجعليّة ، أي لا يكون لها مصدر وفعل ماضي ومضارع ، مع أنّه ينطبق عنوان المشتقّ في هذه الموارد أيضا.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى أصل المسألة ـ يعني إطلاق المتكلّم على الله تعالى ـ ونبحث مع الأشاعرة من جهتين :

الاولى : في أنّ الصفات على نوعين : الأوّل : صفات الفعل ، الثاني : صفات

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٤٧ ، الحديث ٥.

٤٩٣

الذات ، وملاك التمايز بينهما أنّ كلّ صفة لا يصدق ضدّها على الله تعالى في أيّ حال من الحالات وأيّ زمان من الأزمنة ، وبالنسبة إلى أيّ شيء من الأشياء ، مثل صفة العلم والقدرة وأمثالهما فهي من صفات الذات ، وأمّا الصفة التي يصدق ضدّها عليه تعالى في بعض الحالات وفي بعض الأزمنة وبالنسبة إلى بعض الأشياء فهي من صفات الفعل ، مثل صفة الخالقيّة والرازقيّة ، فإنّه لم يخلق ـ مثلا ـ الإنسان الذي كان طول قامته سبعين ذراعا في عين كونه مقدورا له تعالى ، فيصدق في هذا المورد ضدّ الخالقيّة عليه تعالى ، وهكذا في الرازقيّة كما قال في الآية الشريفة : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)(١) ، فيصدق على المرتبة النازلة منه عدم الرازقيّة بالنسبة إلى المرتبة العالية منه.

على أنّ صفة الذات قديمة بقدم الذات ، بخلاف صفة الفعل فإنّها حادثة ولا تتّصف بالقدم ، ومن هنا نستكشف أنّ المتكلّميّة ليست من صفات الذات ، بل تكون من صفات الفعل ، ويدلّ قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(٢) على أنّ التكلّم تحقّق في زمان خاصّ لا بعده ولا قبله ، أي عدم التكلّم في غير ذلك الزمان ، فالتكلّم من صفات الفعل بمقتضى الآية ، فنفس الآية منافية للالتزام بالكلام النفسي القديم.

ويدلّ عليه ما رواه الكليني قدس‌سره في اصول الكافي عن عليّ بن إبراهيم ـ الموثّق ـ عن محمّد بن خالد الطّيالسي ـ الممدوح ـ عن صفوان بن يحيى ـ الموثّق ـ عن ابن مسكان ـ الموثّق ـ عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) النحل : ٧١.

(٢) النساء : ١٦٤.

٤٩٤

يقول : «لم يزل الله عزوجل ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ـ أي كان الله تعالى عالما مع أنّه لم يتحقّق المعلوم في الخارج ـ والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ـ كما أنّ الإنسان قادر على القيام في حال قعوده مع أنّه لم يكن متحقّقا ـ فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور» ، قال : قلت : فلم يزل الله متحرّكا؟ قال : فقال : «تعالى الله عن ذلك أنّ الحركة صفة محدثة بالفعل» ، قال : قلت : فلم يزل الله متكلّما؟ قال : فقال : «إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ، كان الله عزوجل ولا متكلّم» (١).

ويستفاد من ذلك أنّ صفة التكلّم تكون من الأوصاف الفعليّة والمحدثة على الظاهر ، وإن أمكن أن تكون للحديث توجيهات فلسفيّة.

الجهة الثانية : في أنّ عنوان المتكلّم هل يكون من المشتقّات الحقيقيّة أو من المشتقّات الجعليّة؟ التكلّم يكون من باب تفعّل ، لا شكّ في تحقّق الماضي والمضارع وسائر المشتقّات له في هذا الباب ، ولكن لم نجد له مصدر ثلاثي مجرّد ، فإن قيل : هي عبارة عن «الكلم» قلنا : إنّه لو سلّمناه لا نرى له في اللغة العربية فعل ماض ولا مضارع ولا سائر المشتقّات ، مع أنّه ليس بمعنى الكلام بل هو بمعنى الجرح والجراحة لغة.

وعلى هذا ما معنى التكلّم؟ من المعلوم أنّ معناه إيجاد الكلام ، ولفظ الإيجاد يوجب تحقّق المعنى الاشتقاقي فيه ، كما أنّ لفظ البيع يوجب تحقّق المعنى الاشتقاقي في كلمة «اللابن» ، فحينئذ يصدق المتكلّم على الله تعالى ، كما يصدق على الإنسان بلا فرق بينهما أصلا ، إلّا أنّا نتكلّم باللسان ، ولكنّه تعالى يوجد

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠٧ ، الحديث ١.

٤٩٥

الكلام في موجود آخر بلحاظ عدم جسميّته.

ولا يتوهّم أنّ معنى المتكلّم هو الكلام ؛ إذ ليس للكلام معنى مصدري بل اسم مصدر ، ونعبّر عنه باللّغة الفارسيّة ب «سخن» فلا يتصوّر له معنى سوى إيجاد الكلام.

وهذا الجواب موافق لنظر المعتزلة والمتكلّمين من الإماميّة ، وقد ذكرنا في صدر المسألة حكاية نظر بعض أهل التحقيق من أنّ تكلّمه تعالى يتحقّق من دون وساطة شيء من الأشياء ، كتكلّمه تعالى مع موسى عليه‌السلام بدون واسطة ، وقد مرّ أيضا ما قال به الإمام الأعظم قدس‌سره بعد نفي هذه الأقوال : «إنّه تعالى متكلّم والقرآن كتابه ونزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوحي ، وأمّا كيفيّة الوحي وتكلّمه ممّا لم يصل إليها فكر البشر إلّا الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلى الرياضات ونور الإيمان».

ثمّ قال : يمكن أن نلتزم بالكلام النفسي ، ولكنّ أفهام أصحاب الكلام من المعتزلة والأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام ، فالإعراض عنه أولى.

ولكن ما ذكرناه في مقام الجواب عن الأشاعرة موافقا لظاهر الآيات والروايات يكفي في نفي الكلام النفسي ، ولا نطيل الكلام في هذه المقولة أزيد من ذلك.

ولا يخفى أنّ القول بتحقّق الكلام النفسي لا يستلزم أن يكون الطلب والإرادة متغايرين ، كما أنّ إنكاره لا يستلزم القول بالاتّحاد بينهما ، وإن استفيد ذلك من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ـ كما أشرنا إليه في صدر المسألة ـ ولكنّهما بحثان مستقلّان : أحدهما : بحث لغويّ ، والآخر : كلامي ، ولا ارتباط بينهما أصلا. ونحن فرغنا بعون الله من البحث الكلامي.

٤٩٦

وأمّا البحث اللّغوي وهو : أنّ لفظي الطلب والإرادة هل وضعا بإزاء مفهوم واحد أو يكون لكلّ منهما معنى لا يكون للآخر؟ وقد مرّ ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره من : أنّهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وهما متّحدان في المفهوم والوجود الحقيقي والإنشائي والذهني ، غاية الأمر أنّ لفظ الطلب ينصرف عند إطلاقه إلى وجوده الإنشائي ، ولفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي ، وهذا لا يوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم ؛ إذ لا مانع من أن يكون اللفظان المترادفان متغايرين من حيث الانصراف.

ولكنّ المحقّقين من الاصوليّين بعد إنكارهم الكلام النفسي في البحث السابق يقولون بتعدّد مفهوم الطلب والإرادة ، منهم استاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدس‌سره (١) حيث قال في الابتداء بعنوان ضابطة كلّيّة لما يتعلّق به الإنشاء : إنّ الموجودات على قسمين : الأوّل : ما يكون له وجود حقيقي وواقعي في الخارج ، بحيث يكون بإزائه شيء فيه كالإنسان والحيوان والبياض ونحوها ، وهو لا يقبل الإنشاء. الثاني : ما لا يكون كذلك بل يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه ، وهو قد ينتزع عن الامور الحقيقيّة والواقعيّة كالفوقيّة والتحتيّة ونحوها وهو أيضا لا يقبل الإنشاء ، وقد ينتزع عن الاعتبارات والإنشائيّات كالملكيّة والزوجيّة وأمثال ذلك وهو يقبل الإنشاء ، فالمعتبر في المنشأ ألّا يكون من الامور الواقعيّة ولا منتزعا منها ، بل كان من الامور الاعتباريّة المحضة.

ثمّ قال : إنّ الإرادة من صفات النفس ، والصفات النفسانيّة من الامور الحقيقيّة والواقعيّة فلا تقبل الوجود الإنشائي ، بخلاف الطلب فإنّ له معنى قابلا

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ٩٢ ـ ٩٣.

٤٩٧

للإنشاء ؛ إذ ليس معناه سوى البعث والتحريك نحو العمل ، وكما أنّهما يحصلان بالتحريك الفعلي ـ كأخذ الطالب من يد المطلوب منه وجرّه نحو العمل المقصود ـ فكذلك يحصلان بالتحريك القولي ؛ بأن يقول الطالب : اضرب فلانا أو أطلب منك الضرب أو آمرك بكذا ـ مثلا ـ فقوله : «افعل كذا» بمنزلة أخذه من يد المطلوب منه وجرّه نحو العمل المقصود ، فحقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الإرادة. نعم الطلب بكلا معنييه ـ أي البعث والتحريك الفعلي والقولي ـ مبرز ومظهر للإرادة ، وليس معناه اتّحاد الطلب والإرادة ، بل كان معناه أنّ هاهنا شيئين وأنّ أحدهما مبرز للآخر ، فالإرادة صفة قائمة بالنفس ، والطلب عبارة عن البعث والتحريك ، وهو قد يكون فعليّا وقد يكون قوليّا. هذا محصّل بيان سيّدنا الأعظم المرحوم البروجردي.

وفيه : أنّ تعلّق الإنشاء بالطلب ـ سواء تعلّق بالبعث والتحريك العملي أو القولي أو مفهوم الطلب ـ لا يخلو من اشكال ، ولا يناسب القاعدة المذكورة.

أمّا تعلّق الإنشاء بالبعث والتحريك العملي ـ يعني هداية الآمر المأمور نحو المأمور به عملا ـ فلا شكّ في أنّه أمر مبصر ومشاهد ، وهو واقعيّة مسلّمة ، فلا ريب في بطلان هذا الفرض.

وأمّا تعلّق الإنشاء بالبعث والتحريك القولي ـ يعني صدور الأمر من قبل المولى ـ فلا شكّ في أنّه أيضا واقعيّة من الواقعيّات الخارجيّة ، فإنّ واقعيّة القول بصدور الألفاظ والكلمات عن اللافظ والمتكلّم ، مع أنّ البعث والتحريك القولي هو البعث والتحريك الإنشائي ، والمنشأ مع وصف كونه منشأ وقيد المنشئيّة قيدا له لا يعقل أن يكون متعلّقا للإنشاء ؛ إذ المنشأ متحقّق قبل تعلّق الإنشاء به ، فهو تحصيل للحاصل وتقدّم الشيء على نفسه مع ملاحظة أنّ المنشأ مغاير للإنشاء ، بل يتحقّق بسبب الإنشاء.

٤٩٨

وأمّا تعلّق الإنشاء بالماهيّة ومفهوم البعث والتحريك مع قطع النظر عن المصداق فهو صحيح كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، ولكنّه لا فرق بين الطلب والإرادة من هذه الناحية ، فإذا كان مفهوم الطلب قابلا لتعلّق الإنشاء به فلم لا يكون مفهوم الإرادة قابلا لتعلّق الإنشاء بها؟! فما قال به سيّدنا الاستاذ قدس‌سره ليس قابلا للمساعدة.

وأحسن المقال في المقام ما ذكره بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١) ، وتوضيحه : أنّ الإرادة صفة من الأوصاف النفسانيّة القائمة بالنفس ، ولا بحث فيها ، إنّما الكلام فيما وضع له لفظ الطلب وفيما يفهم منه عرفا ، والطلب لغة : عبارة عن محاولة الشيء وأخذه والتصدّي نحو تحصيل شيء في الخارج ، وهذا من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان ، فهو مباين مع الإرادة ، ويؤيّده الاستعمالات العرفيّة ؛ إذ لا يقال : طالب المال أو طالب الدنيا أو طالب العلم لمن اشتقاق إليها وأرادها في افق النفس ما لم يظهر في الخارج بقول أو فعل ، بل يقال لمن تصدّى خارجا لتحصيلها ، فالطلب مباين للإرادة مفهوما ومصداقا.

وبالنتيجة الطلب كالإرادة ، كان من الامور الواقعيّة ، ويتحقّق بالسعي في الخارج للإيصال إلى المطلوب ، إلّا أنّه قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالقول ، كقول المولى لعبده : «جئني بالماء» فلا يتعلّق الإنشاء بالطلب أيضا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّه ما ينشأ بهيئة «افعل». هذا تمام الكلام في مسألة الكلام النفسي واتّحاد الطلب والإرادة ، ولا ضرورة إلى بيان بحث الجبر والتفويض بعنوان مسألة اصوليّة.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٦.

٤٩٩
٥٠٠