هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

موافقة لهم لا تخالفهم إلّا نادرا ، وناهيك بذلك على تحقيق الحقّ من الطريقين.

ثمّ قال : وبالجملة فعدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعيّة وعدم جواز العمل بالاستنباطات الظنّية كان معلوما من مذهب المتقدّمين من الإماميّة إلى زمان العلّامة. بل كان معلوما عند العامّة والخاصّة أنّه من اعتقادات الشيعة وقد نقلوه عن أئمّتهم لتواتر النصّ بذلك عنهم ، وهذا كما ترى يفيد دعوى إجماع الشيعة الكاشف عن قول الأئمّة عليهم‌السلام على بطلان الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة.

وقال في موضع آخر : إنّ القول بحجّية ظنّ المجتهد على نفسه وعلى من يقلّده مذهب العلّامة والشهيدين والشيخ حسن والشيخ علي والشيخ بهاء الدين لا غير ، وباقي علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين على بطلان ذلك كلّه. هذا.

وقد ذكر جملة من عبائر القدماء الموهمة لما ادّعاه لا بأس بأن نشير إلى جملة منها ثمّ نتبعها بإيضاح فساد تلك الدعوى ، فمن ذلك : ما ذكره الكليني في أوّل الكافي قال : والشرط من الله فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة إلى أن قال : ومن أراد خذلانه وأن يكون إيمانه معارا مستودعا سبّب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل بغير علم وبصيرة.

وقال الصدوق في العلل بعد ذكر حديث موسى عليه‌السلام والخضر عليه‌السلام : إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، فإذا لم يجز لأنبياء الله تعالى ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك. إلى أن قال : فإذا لم يصلح موسى عليه‌السلام للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف! تصلح الامّة لاختيار الإمام عليه‌السلام ، وكيف! يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعيّة واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة.

وقال السيّد في الذريعة : عندنا أنّ الاجتهاد باطل وأنّ الحق مدلول عليه ، وأنّ من أخطأ غير معذور ، وقد نصّ السيّد هناك أيضا بأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا القياس ولا الاجتهاد. وقال في الانتصار في أوّل كتاب

٦٨١

القضاء : إنّما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد ، وخطؤه ظاهر.

وقال في المسألة الّتي بينها : إنّ من خالفنا اعتمد على الرأي والاجتهاد دون النصّ والتوقيف ، وذلك لا يجوز. وقال في كتاب الطهارة منه في مسألة مسح الرجلين : إنّا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به. وقد ذكر أيضا في عدّة من كتبه : أنّ ما يفيد الظنّ دون العلم لا يجوز العمل به عندنا.

وقال الشيخ في العدّة : وأمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين ، بل محظور في الشريعة استعمالهما.

وقال في موضع آخر منه : ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس. وقال أيضا : وأمّا الظنّ فعندنا أنّه ليس بفاصل في الشريعة تنسب الأحكام إليه وإن كان تقف أحكام كثيرة عليه ، نحو تنفيذ الحكم عند شهادة الشاهدين ، ونحو جهات القبلة وما يجري مجراه. انتهى.

ومعلوم أنّ ما حكم بجواز العمل فيه بالظنّ من الموضوعات دون الأحكام. وقال في مواضع من التهذيب : وإنّا لا نتعدّى الأخبار.

وقال ابن إدريس رحمه‌الله في مسألة تعارض البيّنتين بعد ذكر عدّة من المرجّحات : ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا.

وقال الطبرسي في المجمع : لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلّا في شهادة العدلين ، وقيم المتلفات ، وأرش الجنايات. وظاهر أنّ ما استثناه من قبيل الموضوعات دون الأحكام.

وقال المحقّق في المعتبر : ثمّ إنّ أئمّتنا مع هذه الأخلاق الطاهرة والعدالة الظاهرة يصوّبون رأي الإماميّة في الأخذ عنهم ، ويعيبون على غيرهم ممّن أفتى باجتهاده وقال برأيه ، ويمنعون من يأخذ عنه ، ويستخفّون رأيه ، وينسبونه إلى الضلال ، ويعلم ذلك علما ضروريّا صادرا عن النقل المتواتر. فلو كان ذلك يسوغ

٦٨٢

لغيرهم لما عابوه. وقال فيه أيضا : واعلم أنّك مخبر في حال فتواك عن ربّك ، فما أسعدك إن أخذت بالجزم ، وما أخيبك إن بنيت على الوهم ، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١) انتهى.

وفي ملاحظة أحوال الرواة أيضا ما يفيد ذلك فقد روى الكشّي عن أبي حنيفة قال له : أنت لا تقول شيئا إلّا برواية؟ قال : أجل (٢). وروى الكشّي وغيره من أكثر علمائنا المتقدّمين وخواصّ الأئمّة عليهم‌السلام أيضا مثل ذلك ، بل ما هو أبلغ منه.

وقد صنّف جماعة من قدمائنا كتبا في ردّ الاجتهاد وعدم جواز الأخذ به.

منها : كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد ، وذكره النجاشي والشيخ في مصنّفات الشيخ الجليل إسماعيل بن إسحاق عن أبي سهل بن نوبخت.

ومنها : كتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي ، ذكره الشيخ في ترجمة إسماعيل المذكور نقلا عن ابن النديم أنّه من مصنّفاته.

ومنها : الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس ، من مصنّفات عبد الله بن عبد الرحمن التبريزي ، ذكره النجاشي.

ومنها : كتاب الردّ على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول ، من مؤلّفات الشيخ الجليل هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني ، ذكره النجاشي.

ومنها : كتاب النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي ، من مؤلّفات الشيخ المفيد. إلى غير ذلك من الكتب المؤلّفة في هذا الشأن.

أقول : وأنت خبير بأنّه لا دلالة في شيء ممّا ذكر على ما ادّعاه بل لا إشعار فيها على ما ذكره. أمّا عبارة الكليني والصدوق رحمهما‌الله فلظهور أنّ المقصود ممّا ذكراه عدم جواز الاعتماد في الأحكام الشرعيّة على الظنون العقليّة والاستحسانات الظنّية والتخريجات التخمينيّة كما هي الطريقة المتداولة بين العامّة. ومن البيّن إطباق أصحابنا على المنع منه ، وليس في كلامهما ما يفيد غير ذلك. وليس مقصودهما عدم جواز الاجتهاد ، بمعنى بذل الوسع في فهم الكتاب والأخبار

__________________

(١) سورة البقرة : ١٦٩.

(٢) رجال الكشي : ص ٣٨٤ ، رقم ٧١٨.

٦٨٣

النبويّة والإماميّة وتمييز الأخبار المعتبرة عن غيرها ، وفي إجراء القواعد المقرّرة في الشريعة من أصالة البراءة والإباحة والاحتياط وغيرها من الاصول الممهّدة في الشريعة.

وأمّا ما ذكره السيّد والشيخ من المنع من الرجوع إلى الاجتهاد والأخذ بالظنّ في مذهب الشيعة ، فالمراد بالاجتهاد هو المتداول بين العامّة ـ أعني تحصيل مطلق الظنّ بالحكم ـ دون الرجوع إلى الأدلة الشرعيّة المقرّرة في الشريعة الّتي قامت عليها الأدلّة ، وبذل الوسع في تحصيل الظنّ من تلك المدارك المعيّنة المفيدة للعلم من جهة اخرى.

والحاصل : أنّ هناك اجتهادا في استخراج الأحكام ولو بمجرّد الظنون العقليّة ونحوها ، واجتهادا في فهم الحكم واستخراجه من الأدلّة المذكورة ، والممنوع منه في كلامهم إنّما هو الأوّل دون الثاني ، لوضوح رجوعهم إلى الأدلّة وتحصيل الظنّ بالأحكام الشرعيّة. والحكم على سبيل الظنّ والاستظهار عن الأدلّة غير عزيز في كلام السيّد والشيخ وغيرهما. وقد كان الاجتهاد في كلام الأوائل إنّما يطلق على تحصيل الحكم بالوجه الأوّل ، كما يظهر من ملاحظة كتب الاصول.

ومن ذلك : ما اشتهر في مقام دفع بعض الوجوه التخريجيّة أنّه اجتهاد في مقابلة النصّ ويشير إليه ذكر القياس والرأي معه ، ومقابلته بالرجوع إلى النصّ والتوقيف. بل في ظاهر العدّة وغيره دلالة على إطلاق الاجتهاد عندهم على خصوص استنباط الحكم بالقياس.

وقد حملوا الاجتهاد الوارد في حديث معاذ على القياس ، وجعلوا تلك الرواية دليلا على مشروعيّته وقد ذكروه في باب القياس ، وكأنّها وما في معناها ممّا رووا هي الأصل في إطلاق تلك اللفظة على القياس والرأي. والمراد بالظنّ الممنوع منه هو مطلق الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، حيث إنّ المدارك الشرعيّة للأحكام المقرّرة في الشريعة وامور مضبوطة مقرّرة عند الشيعة في الجملة مقطوع بها عندهم ، ولا يجوّزون الرجوع إلى مطلق الظنّ كما جوّزه أهل الخلاف.

٦٨٤

ومن البيّن : أنّ الحكم المستفاد ممّا قام على حجّية الأدلّة القطعيّة يكون قطعيّا بحسب الشريعة وإن كانت مصادفته للواقع ظنّية ، فهم إنّما يريدون بالدليل القطعي ما يقطع بوجوب العمل به ، فإذا كان الدليل قطعيّا بحسب العمل كان كغيره من الأدلّة المفيدة للقطع بالواقع ، حيث إنّ المقصود من الفقه تصحيح العمل دون مجرّد الاعتقاد ، والمفروض كون ما يفيد العلم بالواقع وما يفيد العلم بوجوب العمل مشتركين في القطع بالعمل ومعرفة التكليف ، فلذا صحّ عدّ الأدلّة المذكورة علميّة مفيدة للقطع في مقابلة سائر الأمارات المفيدة للظنّ. ومنه يظهر الوجه في عدم تجويزهم للعمل بالظنّ حيث لم يقم عندهم دليل قطعي على جواز الأخذ به ، بل قام على خلافه ، كما بيّن في محلّه.

وفي كلام الشيخ في العدّة ما يشير إلى ما ذكرنا ، حيث إنّه دفع استدلال القائلين بالمنع من القياس بالآيات الدالّة على المنع من الحكم بغير العلم ، بأنّ للمخالف أن يقول : ما قلنا بالقياس إلّا بالعلم وعن العلم فلم نخالف ظاهر الكتاب وإنّما ظننتم علينا أنّا نعلّق الأحكام بالظنون وليس نفعل ذلك بل الحكم عندنا معلوم وإن كان الطريق إليه الظنّ ، هذا.

ولا يذهب عليك أنّ المستفاد من العبارات المذكورة : أنّ عدم جواز العمل بمطلق الظنّ من الاتّفاقيات بين الخاصّة ، وأنّ القول بجوازه من خواصّ العامّة. وظاهر ذلك يعطي كون الأصل عندهم عدم جواز العمل بالظنّ إلّا ما قام الدليل القاطع أو المنتهي إلى القطع على خلافه كما هو المختار ، لا ما يدّعيه جماعة من متأخّري المتأخّرين من انقلاب الأصل وكون قضيّة الأصل حينئذ حجّية الظنّ إلّا ما قام الدليل على خلافه ، فإنّه أشبه شيء بمذهب العامّة ، بل عين ما ذهبوا إليه.

وأمّا الوجه الأوّل فهو بعيد جدّا عن طريقتهم كما لا يخفى. ومنه يظهر ضعف ما ذكره المحدّث المذكور من كون طريقة المجتهدين موافقة العامّة لا مخالفتهم إلّا نادرا.

ثمّ إنّ ما ذكره الشيخ : من أنّه لا يتعدّى مضمون الأخبار ، فهو من الامور

٦٨٥

المعلومة عند الشيعة ، لعدم حجّية القياس عندهم. والاستناد إلى منصوص العلّة أو مفهوم الموافقة ونحوهما ليس تعدّيا عن الأخبار كما قرّر في محلّه.

وممّا ذكرنا : يظهر الحال في باقي العبارات المنقولة.

وقد نصّ المحقّق في المعارج : بأنّ الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة. قال : وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّة الشرع اجتهادا ، لأنّها يبتنى على اعتبارات نظريّة ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقدير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإماميّة من أهل الاجتهاد.

قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إبهام ، من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظريّة الّتي ليس أحدها القياس انتهى.

والحاصل : أنّ اختيار كثير من هؤلاء ـ كالسيّد والشيخ وابن إدريس والمحقّق وأضرابهم ـ لطريقة المجتهدين أمر ظاهر جليّ معلوم من ملاحظة كتبهم في الاستدلال. وكذا الحال في اعتمادهم على الإجماع واستنادهم إليه في كثير من المسائل ممّا لا مجال لإنكاره ، كما ينادي به ملاحظة كتبهم. وكذا الحال في اعتمادهم على كثير من المطالب المقرّرة في الاصول ، كما يظهر من الرجوع إلى كيفيّة استدلالهم في المسائل الفقهيّة. ومن ملاحظة ما قرّره السيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والمحقّق في المعارج : بأنّ للعامي تقليد العالم والأخذ بقوله ، وحكينا(١) الإجماع عليه.

وبالجملة : أنّ اختيار هؤلاء لطريقة المجتهدين أمر واضح ، يكاد يلحق بالضروريّات. فالاستناد إلى ما يوهمه العبارة المذكورة لدفعهم طريقة الاجتهاد واختيارهم مذهب الأخباريّين من العجائب. وحيث إنّهم لم يقرّروا خلافا بين

__________________

(١) في «ق» حكيا.

٦٨٦

الشيعة في الطريقة على حسب ما وقع الاختلاف فيه بين المتأخّرين ولا أشاروا إلى ذلك في شيء من كتبهم الاصوليّة ـ كالذريعة والعدّة والغنية والمعارج وكتب العلّامة وغيرها ـ دلّ ذلك على انتفاء الخلاف في ذلك وإن اختلفوا في بعض الخصوصيّات حسب ما بيّنوا كلّا منها في محلّه.

فما ذهب إليه الأخباريّة من متأخّري علمائنا : من حرمة العمل بالأدلّة الظنّية مطلقا ووجوب تحصيل العلم بالأحكام وانفتاح سبيله على المكلّفين في المسائل الشرعيّة ، والمنع من التقليد بالمرّة ، فالظاهر أنّه مذهب جديد لم يذهب إليه أحد من علمائنا المتقدّمين قد أحدثه مولانا محمّد أمين الاسترابادي ، لزعمه أنّه مذهب قدمائنا ، أخذا بما يوهمه بعض إطلاقاتهم من غير إمعان النظر فيما حاولوا من ذلك ، ولشبهات عرضت له قد عجز عن حلّها ، وزعم أنّها أدلّة على الطريقة الّتي سلكها وسنشير إليها ، ونوضح القول في فسادها إن شاء الله. كيف! ولو كان ذلك مذهبا معروفا بين علماء الشيعة لذكروه في الكتب الاصوليّة وأشاروا إلى من خالف فيه.

فإن قلت : إنّ علماء الشيعة قد كانوا من قديم الزمان على صنفين : أخباري ، واصولي ، كما أشار إليه العلّامة في النهاية وغيره.

قلت : إنّه وإن كان المتقدّمون من علمائنا أيضا على صنفين ، وكان فيهم أخباريّة يعملون بمتون الأخبار ، إلّا أنّه لم يكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء ، بل لم يكن الاختلاف بينهم وبين الاصوليّة إلّا في سعة الباع في التفريعات الفقهيّة وقوّة النظر في القواعد الكلّية والاقتدار على تفريع الفروع عليها.

فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار ، ولم يكن طريقتهم التعدّي عن مضامين الروايات وموارد النصوص ، بل كانوا يفتون غالبا على طبق ما يروون ، ويحكمون على وفق متون الأخبار في المسائل المتعلّقة بالفروع والاصول ، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمّق في المسائل العلميّة ممّن له سعة باع في الاقتدار على الاستدلال في المسائل الكلاميّة والفروع الفقهيّة وإن

٦٨٧

تصدّوا لذلك أحيانا عند مسيس الحاجة ، وهؤلاء لا يتعرّضون غالبا للفروع الغير المنصوصة وهم المعروفون بالأخباريّة.

وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل ، وأصحاب التحقيق والتدقيق في استعلام الأحكام من الدلائل ، ولهم الاقتدار على تأصيل الاصول والقواعد الكلّية عن الأدلّة القائمة عليها في الشريعة ، والتسلّط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها ، وهم الاصوليّون منهم : كالعمّاني والإسكافي وشيخنا المفيد وسيّدنا المرتضى والشيخ قدّس الله أرواحهم وغيرهم ممّن يحذو حذوهم.

وأنت إذا تأمّلت لا تجد فرقا بين الطريقتين إلّا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب ، وأصحاب النظر الدقيق في استنباط المقاصد ، وتفريع الفروع على القواعد ، ولذا اتّسعت دائرتهم في البحث والنظر ، وأكثروا من بيان الفروع والمسائل ، وتعدّوا عن متون الأخبار إلى ما يستفاد منها بالفحوى أو بطريق الالتزام أو غيرهما. واولئك المحدّثون ليسوا غالبا بتلك القوّة من الملكة وذلك التمكّن من الفنّ ، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ولم يتعدّوا غالبا عن ظاهر مضامينها ، ولم يوسّعوا الدائرة في التفريعات على القواعد ، وإنّهم لمّا كانوا في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح اصول الأحكام الّتي عمدتها الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة ، فلم يتمكّنوا من مزيد إمعان النظر في مضامينها ، وتكثير الفروع المتفرّعة عليها. ثمّ إنّ ذلك إنّما حصلت بتلاحق الأفكار في الأزمنة المتأخّرة ، ولا زالت تتزايد بتلاحق الأعصار وتزايد الأفكار.

هذا ، وقد ظهر ممّا ذكرناه : أنّ ما حكاه عن ضرير وأضرابه من اقتصارهم على موارد النصوص ممّا لا منافاة فيه لما ذكرنا ، مع ما هناك من البون البعيد بيننا وبين اولئك ، لكونهم في عصر الإمام عليه‌السلام وعدم احتياجهم في كثير من المسائل إلى الاجتهاد ، على أنّه لا يبعد أن يكون مقصوده بذلك عدم احتياجه في استنباط الأحكام الشرعيّة إلى القياس ونحوه من التخريجات العقليّة الظنّية ممّا لا يستند

٦٨٨

إلى صاحب الشريعة ، ويؤيّده أنّه قد روى الكشّي رحمه‌الله عنه (١) وهذا يشير إلى عمله بظاهر الكتاب من دون حاجة إلى ورود رواية في تفسيره ، وأخذه بما يتفرّع عليه من الفروعات وعدم اقتصاره في الأحكام على موارد الأخبار.

وظهر أيضا ممّا بيّناه : أنّ تصانيفهم المتعلّقة بردّ الاجتهاد وبيان المنع منه ممّا لا ربط له بما نحن فيه ، إذ المقصود هناك على ما عرفته هو ردّ ما عليه العامّة العميا من الرجوع إلى القياس أو غيره من سائر الوجوه التخريجيّة والاستحسانات العقليّة الغير المستندة إلى صاحب الشريعة ، واشتراك ذلك وما نحن فيه في إطلاق لفظ «الاجتهاد» عليه لا يوجب سريان المنع إلى الاجتهاد بالمعنى المقصود في المقام وهو واضح.

ومنها : نصوص الكتاب الدالّة على المنع من الأخذ بالظنّ ، والروايات المتكثّرة بل المتواترة الدالّة على لزوم الأخذ بالعلم وعدم جواز الحكم بالظنّ ، وما دلّ على عدم جواز الإفتاء بالرأي ، مثل قوله : اتّقوا الله ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون (٢). وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إيّاك أن تدين الله وتفتي الناس بما لا تعلم (٣). وقوله عليه‌السلام : إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها (٤). ووضع يده على فيه. وقوله عليه‌السلام : رجل قضى بحقّ وهو لا يعلم فهو في النار (٥). وقوله عليه‌السلام : من أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك (٦). وقوله عليه‌السلام : من دان الله بالرأي لم يزل دهره في التباس (٧). وقول

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) البحار : ج ٢ ص ١١٣ ح ١ ، وفيه عن امير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) الكافي : ج ١ ص ٤٢ ذيل ح ١ ، وفيه : عن أبي عبد الله ، وهكذا لفظه «أنهاك أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم».

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ص ٢٣ ح ٣.

(٥) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٤ من أبواب صفات القاضي ص ١١ ح ٦.

(٦) الكافي : ج ١ ص ٤٣ ذيل ح ٩.

(٧) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ص ٢٥ ح ١١ ، وفيه ارتماس.

٦٨٩

الباقر عليه‌السلام : من أفتى برأيه فقد دان الله بما لا يعلم (١). وقول الصادق عليه‌السلام فيما رواه محمّد بن مسلم وقد قال له : إنّ قوما من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علما ، ورووا أحاديث فيرد عليهم ، ويقولون برأيهم فقال : لا وهل هلك من مضى إلّا بهذا وأشباهه (٢). وقولهعليه‌السلام فيما رواه ابن مسكان عن حبيب قال : قال لنا أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس سلكوا سبلا شتّى ، فمنهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وإنّكم أخذتم بما له أصل(٣) ، يعني بالكتاب والسنّة ، وقوله عليه‌السلام : إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا في الحلال والحرام برأيهم ، فأحلّوا ما حرّم الله (٤). وقوله عليه‌السلام في أصحاب الرأي : استغنوا بحملهم (٥) وتدابيرهم من علم الله واكتفوا بذلك دون رسوله ، والقوام بأمره ، وقالوا لا شيء إلّا أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا وأمّا هم ماتوا (٦) وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يشعرون (٧). وقوله عليه‌السلام : إيّاك أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم (٨) إلى غير ذلك من الأخبار.

فالمستفاد من هذه الروايات وما يفيد مفادها عدم جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة ، والمنع من العمل بالاستنباطات الظنّية.

قال في الفوائد الطوسيّة : إنّ الأخبار في هذا المعنى قد تجاوزت حدّ التواتر ، وقد جمعنا منها في مواضع اخر أكثر من ألف حديث.

وفيه أمّا أوّلا : فبأنّ المراد بالآيات والروايات الدالّة على وجوب الرجوع إلى العلم وعدم جواز الأخذ بالظنّ ، هو عدم الاكتفاء في الحكم والإفتاء بالظنّ من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ص ٢٥ ح ١٢.

(٢) البحار : ج ٢ ص ٣٠٥ ح ٥١.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ص ٣١ ح ٣١.

(٤) البحار : ج ٢ ص ٣٠٨ ح ٦٩.

(٥) كذا ، والظاهر : بحيلهم ـ في الوسائل بجهلهم.

(٦) بياض في الأصل.

(٧) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ص ٣٢ ضمن ح ٣٢.

(٨) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٤ من أبواب صفات القاضي ص ١٠ ح ٣.

٦٩٠

حيث إنّه ظنّ. وأمّا بعد الأول إلى العلم وقيام الدليل القاطع على تعيين العمل بالوجوه المقرّرة أفادت العلم بالواقع أو لم تفد ، فلا ريب أنّ الفتوى والعمل إنّما يكون حينئذ بالعلم دون غيره ، فلا تندرج الصورة المفروضة في شيء من الآيات والروايات المذكورة لعلم المفتي (١) والعامل بكون ذلك هو المقصود منه في الشريعة والمكلّف به في حكم الشرع وإن لم يعلم بكون ذلك هو الحكم الأوّلي.

وقد أشار إلى ذلك الشيخ في العدّة كما مرّ ، والأخبار المانعة عن الفتوى بالرأي إنّما يراد بها ما تداولته العامّة أو ما بمعناه من الاستحسان ونحوه. وأمّا الرجوع إلى الكتاب والسنّة وسائر الاصول المقرّرة في الشريعة فليس من الرجوع إلى الرأي أصلا وإن لم يستفد منها العلم بالواقع ، سيّما بعد قيام الدليل القاطع على وجوب الأخذ بها كما هو المدّعى.

وأمّا ثانيا : فبأنّ تلك الروايات وإن سلّم كونها متواترة لكن دلالتها على ما ذكر ليست قطعيّة ، فلو لم نقل بأنّ الظاهر منها النهي عن الأخذ بما لا يعلم تجويز الشارع الأخذ به فلا أقلّ من احتمال ذلك ولو احتمالا مرجوحا. وكذا يحتمل ورود التقييد على تلك الإطلاقات فلا يزيد مفادها على الظنّ ، ففي الاستناد إليها على المدّعى إبطال لأصل الدعوى.

وأمّا ثالثا : فبأنّه لو سلّم دلالتها على ذلك وجواز الاستناد إليها فيما ذكر ، فلا مانع من ورود التقييد عليها بعد ثبوت المقيّد.

ومن البيّن : أنّ القائل بحجّية الظنون الخاصّة أو مطلق المظنّة حين انسداد سبيل العلم به إنّما يقول به بدليل قطعي ، لما عرفت من عدم حجّية الظنّ من حيث إنّه ظنّ من غير خلاف ظاهر فيه ، وظاهر أنّه بعد ثبوته بالدليل لا وجه للاستناد إلى الإطلاق.

ومنها : ما دلّ عليه الأخبار المتواترة بل ضرورة دين الإسلام من أنّ حلال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فإنّ ذلك ينافي

__________________

(١) بياض في الأصل.

٦٩١

جواز الأخذ بالأدلّة الظنّية ، ضرورة أنّ الظنّ ممّا يتغيّر ويتبدّل ، وحرام الله وحلاله ممّا لا تغيّر فيه ولا تبديل.

وقد قرّر بعضهم هذا الوجه بهذه الصورة ، وهي : أنّ كلّ حكم اجتهادي قابل للتغيير، وكلّ حكم قابل للتغيير مخالف للشريعة الإسلاميّة الأبديّة ، فينتج أنّ كلّ حكم اجتهادي مخالف للشريعة الإسلاميّة.

ووهنه واضح ، أمّا أوّلا : فبأنّه منقوض بما يحكم به الأخباريّون ، لجواز الرجوع عن الحكم بالنسبة إليهم أيضا ، كما إذا عملوا بالعموم ثمّ عثروا بعد ذلك على خبر يخصّصه ، أو فهموا أوّلا من الخبر حكما ثمّ عدلوا عن فهمهم. وإنكار إمكان ذلك في شأنهم مكابرة ظاهرة. وحينئذ فنقول : إنّ حكم الأخباري قابل للتغيير إلى آخر ما ذكر.

وأمّا ثانيا : فبأنّه لو تمّ فإنّما يتمّ لو قلنا بكون ما يفيد الظنّ هو حكم الله الواقعي ليكون الأخذ بالظنون هو المطلوب الأوّل. وأمّا إذا قلنا بكون الأخذ به مطلوبا من حيث كشفه عن الواقع وكونه طريقا إليه ـ ليكون حكما ظاهريّا كما هو المذهب عندنا ـ فلا ، إذ تغيير الأحكام الظاهريّة غير عزيز في الشريعة. وقد اتّفق عليه الفريقان ، كما إذا وجد شيئا في أسواق المسلمين فحكم بحلّه ثمّ علم بعد ذلك كونه حراما ، أو أخذ لحما من يد مسلم ثمّ علم كونه لحم خنزير أو ميتة ، فإنّ حكمه بالحلّ أوّلا حكم ظاهري قد انكشف بعد ذلك خلافه. ولو جعل كلّ من الحلّ والحرمة المتعلّقين بالموضوع الواحد حكما واقعيّا في المقام فمع وضوح فساده يجري الدليل المذكور بالنسبة إليه أيضا ، فلابدّ من الالتزام بفساده والقول بعدم جواز الأخذ بأحد الحكمين المذكورين ، وهو واضح الفساد.

فظهر أنّه لا دلالة لأبديّة الأحكام على عدم جواز الأخذ بالاجتهاد القابل للتغيير ، إذ لا يتوهّم أحد نسخ الحكم بعد رجوع المجتهد عنه حتّى يلزم انقطاع الحكم وخروجه عن التأبيد ، بل ليس اختلاف الحكم من جهة الاختلاف في الاجتهاد والرجوع عن الحكم الأوّل إلّا ظاهريّا ، كاختلاف الحاصل في الحكم

٦٩٢

المتعلّق بالموضوع الواحد من جهة انكشاف خلاف ما ثبت أوّلا ، كما عرفت في المثال المذكور ، فكما يحكم هناك بالحلّ في وقت وبالحرمة في وقت آخر مع كون الحكم الواقعي المتعلّق بذلك الموضوع المعيّن شيئا واحدا لا يختلف بحسب اختلاف العلم والجهل به فكذا في المقام ، وكما أنّ ذلك لا يقضي بانقطاع حكم الشريعة وخروجه عن التأبيد فكذا الحال في محلّ الكلام.

وأمّا ثالثا : فبأنّه إن أراد بقوله «كلّ حكم اجتهادي قابل للتغيير» أنّه قابل للتغيير بالنسبة الى الموضوع المفروض حينئذ مع جميع خصوصيّاته فممنوع ، ضرورة أنّه ما دام المجتهد باقيا على حاله الأوّل لا يمكن تغيير ذلك الحكم في شأنه أصلا. وإن أراد أنّه قابل للتغيير في الجملة ولو بسبب تغيّر حاله ، كأن يصير ظانّا بخلاف ما ظنّه أوّلا فمسلّم ولا مانع منه ، ضرورة أنّ أبديّة الأحكام لا تقضي بعدم اختلافها بحسب اختلاف أحوال المكلّفين. كيف! واختلاف صلاة الحاضر والمسافر ، والصحيح والمريض ، والقادر والعاجز ، من الضروريّات ، ولا منافاة فيه لأبديّة الأحكام الثابتة بالضرورة أصلا فكذا الحال في المقام.

وأمّا رابعا : فبأنّه إن أراد بكون كلّ حكم اجتهادي قابلا للتغيير أنّ ما يحكم به المجتهدون من الأحكام قابل للتغيير فهو ممنوع ، بل فاسد ، لأنّ ما يدركه من الأحكام غير قابل للتغيير عمّا هو عليه ، فإنّه إن كان ما أدركه مطابقا للواقع لم يكن قابلا للتغيير عمّا هو عليه وإن أدرك بعد ذلك خلافه. غاية الأمر أن يكون معذورا في خطئه فيه ثانيا ، وإن كان غير مطابق للواقع فكذلك أيضا ، غاية الأمر أن يكون معذورا في خطئه فيه أوّلا.

وإن أراد به أنّ نفس حكمه وإدراكه قابل للتغيير ، بأن يدرك ثانيا خلاف ما أدركه أوّلا فيزول إدراكه الأوّل ويخلفه الثاني فمسلّم ، ولا يلزم من ذلك أن يكون إدراكه مطلقا منافيا للشريعة الأبديّة ، كما هو قضيّة الكلّية المدّعاة ، إذ قبول الإدراك للتغيير إنّما يقضي بعدم الملازمة بينه وبين إصابة الواقع ، لأنّه لا يكون مصيبا للواقع مطلقا. وحينئذ فأقصى ما يلزم من الدليل المذكور أنّ ظنون

٦٩٣

المجتهدين قد تصيب الواقع وقد تخطئه. وهذا ممّا اتّفق عليه أصحابنا واتّفقوا مع ذلك على وجوب العمل بظنّه ، إذ لا منافاة بين عدم إصابة الظنّ للواقع ووجوب العمل بمؤدّاه ، كما هو الحال في سائر الطرق المقرّرة في الشريعة فلا تغفل.

ومنها : أنّ الدليل الدالّ على وجوب عصمة الإمام عليه‌السلام قاض بعدم جواز الرجوع إلى الظنّ ، فإنّهم قالوا باعتبار العصمة في الإمام عليه‌السلام من جهة حصول الاعتماد بقوله والوثوق بما يؤدّيه. فقضيّة ذلك أن لا يجب اتّباع ما لا يقطع مصادفته للواقع ويحتمل فيه انتفاء الإصابة نظرا إلى العلّة المذكورة ، فكما أنّ جعل الإمام حجّة يقضي بعصمته فيكون كلامه مفيدا للقطع وحجّة قاطعة للعذر في الكشف عن الواقع ، كذا كون سائر الوجوه والأدلّة حجّة على المكلّف يتوقّف على كونها مفيدة للقطع كاشفة عن الواقع ليكون قاطعة لعذر المكلّف.

ومن البيّن أنّ رأي المجتهد ممّا لا وثوق بكشفه عن الواقع بالنسبة إلى المجتهد نفسه فكيف لغيره.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك منقوض بما يذهب إليه الأخباريّة من جواز رجوع الجاهل إلى العالم والبصير بالأخبار ، وكذا اعتماد العالم بقول الثقة.

ومن البيّن أنّ قول الواحد لا يفيد العلم بالواقع ولو فرضنا حصول العلم بوثاقته بالمعاشرة الباطنة الموصلة إلى درجة اليقين بالعدالة مع أنّه في كمال الندرة ، لعدم بلوغه بذلك إلى درجة العصمة. كيف! ولو كان كذلك لاكتفى بذلك في الإمام أيضا فكيف مع الاكتفاء فيها بحسن الظاهر كما هو المذهب ، إذ لا يقطع معه بحصول العدالة فضلا عن القطع بمطابقة ما يحكيه للواقع. فلو تمّ ما ذكروه لقضى باعتبار العصمة في الوسائط الّتي بين المكلّف وبين الإمام في زمان الحضور وفي أزمنة الغيبة ، مضافا إلى أنّ القواعد المقرّرة في الشريعة لاستكشاف أحكام الموضوعات ـ كأصالة طهارة الماء ، وأصالة صحّة فعل المسلم ، وقبول إخبار ذي اليد ونحوها ـ لا يفيد قطعا ، مع أنّ الشارع حكم بجواز الرجوع إليها اتّفاقا من الفريقين ، بل إجماعا من المسلمين. وكذا الحال في استصحاب حكم العموم إلى

٦٩٤

أن يأتي المخصّص ، واستصحاب الحكم الثابت إلى أن يثبت نسخه. ولو قيل بحصول القطع هناك بتجويز الشرع فهو بعينه جار في المقام ، إذ القائلون بحجّية الظنّ إنّما يقولون به لقيام الدليل القاطع عليه لا بمجرّد كونه ظنّا.

وثانيا : بالفرق الظاهر بين الإمام والمجتهد ، فإنّ الإمام عليه‌السلام أمين الله على كافّة الأنام وله الرئاسة العامّة ووجوب الطاعة على الخاصّ والعامّ وهو مرجع الجميع في استفادة الأحكام ، ومع ذلك لا يستند في العلم بها إلى الأسباب الظاهرة.

ومن البيّن أنّ مجرّد العدالة غير كاف في اطمئنان النفس بمثل ذلك ، إذ لا تطمئنّ بقول العدل إذا ادّعى شيئا خارجا عن المعتاد خارقا للعادة الجارية بين الناس ، بل يتسارع الظنون إليه بالتهمة.

نعم لو دلّ الدليل على عصمته كان قوله برهانا قاطعا لا مجال لإنكاره. فالفرق بينه وبين المجتهد ظاهر من وجوه شتّى فاعتبار العصمة فيه لا يقضي باعتبارها في المجتهد الّذي هو بمنزلة الراوي عنهم عليهم‌السلام ، ولا يكون السبيل الّذي يستنبطه ذلك المجتهد قطعيّا بعد القطع بوجوب العمل بمؤدّاه.

ومنها : أنّ فتح سبيل العلم على المكلّفين وتكليفهم بالعلم بالأحكام من اللطف ، فيجب أن يكون حاصلا لوجوب اللطف على الله تعالى. أمّا الصغرى فلما فيه من تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ما ليس في الظنّ ، لوضوح أنّ اليقين أدعى إلى تحصيل الامتثال من الظنّ. وأمّا الكبرى فظاهرة.

والجواب عنه أمّا أوّلا : فبأنّ العلم والظنّ مشتركان فيما ذكر إذا كان الظنّ منتهيا إلى اليقين كما هو المفروض في المقام ، لظهور كون المكلّف في مقام العمل عالما بالتكليف قاطعا به.

نعم لو قيل بابتناء التكليف على الظنّ من حيث إنّه ظنّ لربما أمكن التمسّك في دفعه بما ذكر. فظهر بذلك فساد ما قد يقال : إنّه مع كون المسألة ظنّية لا ركون (١)

__________________

(١) في النسخ : لا كون على ترتّب.

٦٩٥

على ترتّب الثواب أو العقاب ليكون ذلك داعيا إلى الإقدام والإحجام ، نظرا إلى وضوح ترتّب الثواب أو العقاب على مخالفة الأحكام الظاهريّة لقيامها مقام الواقعيّة. بل قد يقال بإناطة الثواب والعقاب مدار التكليف الظاهري سواء طابق الواقع أو لا وإن أمكن القول باختلاف الثواب والعقاب مع المطابقة وعدمها ، وذلك لا يستلزم التصويب كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فبالمنع من كلّية الكبرى ، إذ ليس كلّ لطف واجبا عليه تعالى. كيف! وظهور الإمام عليه‌السلام من اللطف على الوجه المذكور قطعا. ودفع أهل الفساد المانعين من تمكّنه من اللطف كذلك فيكون واجبا عليه تعالى مع أنّ المعلوم خلافه ، فلا مانع من أن يكون البناء على الظنّ في أزمنة الغيبة وانقطاع اليد عن الرجوع إلى الأئمّة عليهم‌السلام من قبيل ذلك. بل يمكن أن يكون ذلك من فروعه ، حيث إنّ انسداد سبيل العلم إنّما جاء من جهة غيبة الإمام عليه‌السلام وخفاء طرق الأحكام فيكون الأمران من قبيل واحد ، مضافا إلى أنّ كون التكليف بالعلم لطفا محلّ منع ، بل قد يقال بأنّ عدم إلزام المكلّفين بتحصيل اليقين في خصوصيّات التكاليف هو اللطف ، لما في إناطة التكليف بخصوص العلم بالأحكام من الحرج التامّ ، ولذا اكتفى الشارع في زمانه عن المكلّفين بالأخذ بعدّة من الطرق الظنّية مع انفتاح سبيل العلم حينئذ كما أشرنا إليه في محلّه.

ومنها : أنّ الظنّ مداركه مختلفة غير جارية على وجوه منضبطة فلا يكون الأحكام المبتنية عليها جارية على قانون واحد بل يختلف جدّا بحسب اختلاف الآراء ، ومثل ذلك لا يصلح أن يكون مدارا للتكليف سيّما بالنسبة إلى عامّة الأنام إلى قيام القيام.

ويوهنه : أنّ ذلك لو تمّ فإنّما يتمّ لو قلنا بكون المرجع هو مطلق الظنّ من أيّ طريق. وأمّا إذا قلنا بكون المناط هو الأخذ بظنّيات خاصّة والتمسّك بقواعد مخصوصة منضبطة كما هو المختار فلا ، مضافا إلى أنّ ذلك وجه استحساني لا يصلح حجّة لتأسيس حكم شرعي، وأيّ مانع من اختلاف التكاليف في ظاهر الشريعة على حسب اختلاف الظنون وإن كان الحكم الواقعي أمرا واحدا.

٦٩٦

ومنها : أنّه يتفرّع على بناء التكاليف على الظنون وجوه من الفساد : من إثارة الفتن وإقامة الحروب وسفك الدماء ونحوها ، فلا يقع التكليف به من الحكيم. كيف! وذلك من شبهات العامّة في الاعتذار عمّا صدر من سلفهم من وجوه الفساد في الإسلام من إثارة الحروب وسفك الدماء وهتك الأعراض ونهب الأموال وغيرها.

ويدفعه : أنّ الأخذ بالطرق الظنّية الشرعيّة على الوجه المعتبر في الشريعة لا يفضي إلى شيء من ذلك ، بل نقول : إنّها في الانضباط ليست دون الوجوه العلميّة. وجعل الاجتهاد الشرعي عذرا لإقدام اولئك على الفساد لا يقضي بفساد الرجوع إلى الاجتهاد ، مع وضوح فساد دعواهم في ذلك الاستناد. كيف! وربما يعتذرون لهم بقطع كلّ منهم بشرعيّة ما يأتي به من الفساد ، مضافا إلى اتّفاق الفريقين على جواز العمل بالظنّ في الجملة بالنظر إلى الموضوعات. وإثارة الفتن وإقامة الحروب ونحوها إنّما يتفرّع في الغالب على ذلك دون نفس الأحكام الشرعيّة ، واعتذار العامّة عن سلفهم إنّما هو بالنسبة إلى ذلك غالبا ، فلو تمّ ذلك لقضى بعدم جواز الرجوع إلى الظنّ في ذلك ولا قائل به.

ومنها : أنّ الاجتهاد أمر خفي لابتنائه على الاستنباطات الخفيّة وعلى الملكة الّتي يقتدر بها على استنباط حكم المسألة وهي أيضا من الامور الخفيّة النفسيّة ، فلا يمكن أن يكون مناطا للأحكام الشرعيّة سيّما بالنسبة إلى جميع الامّة.

ووهنه واضح ، إذ لا خفاء في شيء من ذلك عند المجتهد ، والعامي ليس وظيفته الرجوع إلى الأدلّة ، فلا ربط لخفاء وجوه الاستنباط لذلك ، وعلمه بكون من يقلّده بالغا درجة الاجتهاد يحصل بالرجوع إلى أهل الخبرة أو بغيره ممّا يجيء الإشارة إليه. فنفس الملكة وإن لم تكن ظاهرة إلّا أنّ الطريق أمر ظاهر كما هو الحال في العدالة وغيرها من الملكات ، مضافا إلى جريان ذلك على طريقة الأخباريّين أيضا ، إذ لابدّ عند المحقّقين منهم في الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة من الاقتدار على فهم الأخبار والجمع بينها والتمكّن من ردّ الفروع إلى الاصول ، وذلك أيضا من الامور النفسيّة الغير الظاهرة. فلو كان ذلك مانعا لجرى في كلّ من الطريقتين.

٦٩٧

ـ المسألة الثانية (*) ـ

أنّهم اختلفوا في وجوب تجديد النظر على المجتهد عند تجدّد الواقعة الّتي اجتهد في حكمها وجواز بقائه على مقتضى اجتهاده الأوّل إلى أن ينساه أو يتغيّر رأيه عنه فيجوز له الإفتاء باجتهاده السابق في الوقائع المتأخّرة من غير حاجة إلى اجتهاد آخر على أقوال :

ثالثها : التفصيل بين نسيان دليل المسألة وعدمه فيجب عليه تجديد الاجتهاد في الأوّل دون الثاني ، ذهب إليه المحقّق والسيّد العميدي ، وحكي القول به عن الإمام والآمدي، وعزاه في النهاية إلى قوم ، وقال العلّامة في قواعده أنّه تفصيل حسن يقرب من قواعدهم الفقهيّة.

رابعها : التفصيل بين ما إذا قويت قوّته في الاستنباط لكثرة الممارسة والاطّلاع على وجوه الأدلّة وعدمها فيجب على الأوّل دون الثاني ، وقد نفى عنه البعد في الزبدة ، ومال إليه الفاضل الجواد في شرحها.

والمحكيّ عليه الشهرة بين الاصوليّين من أصحابنا والعامّة هو القول بعدم وجوب تجديد النظر مطلقا وقد احتجّوا عليه بوجوه :

أحدها : استصحاب الحكم الثابت بالاجتهاد الأوّل.

ثانيها : حصول ما وجب عليه من الاجتهاد بالمرّة الاولى نظرا إلى تعلّق الوجوب بالطبيعة وحصول الطبيعة بالمرّة. ووجوب الإتيان به مرّة اخرى يحتاج إلى قيام دليل عليه عدا ما دلّ على وجوب أصل الاجتهاد ، وحيث لم يقم دليل آخر عليه قضى ذلك بالاجتزاء بالمرّة الاولى.

وغاية ما يتخيّل لاحتمال وجوب التجديد إمكان اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه في الاجتهاد السابق وهو مع عدم قيام دليل على منعه من الحكم ، مدفوع بالأصل ، على أنّه لو كان مانعا من الحكم لجرى بالنسبة إلى الواقعة الاولى ، مع أنّه لا يجب تكرار النظر بالنظر إليها بالاتّفاق.

__________________

(*) المناسب «ثانيها» يعني ثاني الامور ، تقدّم أوّلها بلفظ «أحدها» في ص ٦٧٣.

٦٩٨

ثالثها : أنّ القول بوجوب تجديد النظر موجب للعسر العظيم والحرج الشديد المنفي في الشريعة نظرا إلى شيوع تكرّر الوقائع سيّما فيما يعمّ به البلوى ، فوجوب تكرّر الاجتهاد بحسبها باعث على ما ذكرنا.

رابعها : جريان السيرة المستمرّة على عدم وجوب التكرار ، ولذا لو سئل مجتهد عن المسألة الّتي اجتهد فيها مرّات عديدة لم يتوقّف عن الإفتاء في غير المرّة الاولى بل يفتي اخرى بما ذهب إليه ولا من غير تأمّل أصلا. وربما يستدلّ له أيضا بإطلاق ما دلّ على حجّية كلّ من الأدلّة الشرعيّة ، فإنّ قضيّة ما دلّ على ذلك هو جواز الرجوع إلى كلّ منها والأخذ بما يدلّ عليه من غير حاجة إلى البحث عمّا يعارضه خرج عن ذلك ما إذا كان الرجوع إليه قبل البحث عن الأدلّة والاجتهاد في تحصيل حكم المسألة نظرا إلى ما دلّ على وجوب استفراغ الوسع في ملاحظة الأدلّة ، فيبقى غير تلك الصورة مندرجا تحت الأدلّة المذكورة فلا يجب الاجتهاد ثانيا وإن زادت القوّة أو نسي ما لاحظه من تفصيل الأدلّة.

وأنت خبير بوهن ذلك لعدم انطباقه على المدّعى ، فإنّ أقصى ما يدلّ عليه الاكتفاء حينئذ في الاستدلال بمجرّد الرجوع إلى أحد الأدلّة المذكورة من غير حاجة إلى البحث عمّا يعارضها ، وأين ذلك عن المدّعى ، على أنّ الظاهر قيام الإجماع على وجوب البحث عن المعارض على فرض الاستدلال بتلك الأدلّة والأخذ بها ، وعلى القول بعدم وجوب تجديد النظر لا حاجة إلى الرجوع إلى أحد الأدلّة المذكورة أيضا ، مضافا إلى أنّ ذلك لا يوافق القول بحجّية الظنون الخاصّة حيث إنّه اقيم الدليل حينئذ على حجّية كلّ واحد منها.

وأمّا على القول بحجّية مطلق الظنّ فإنّما قام الدليل على الرجوع إلى الظنّ بعد بذل الوسع والاجتهاد في تحصيل الأدلّة ، فحينئذ يبقى الكلام في اعتبار الإتيان بالاجتهاد المذكور بالنسبة إلى كلّ واقعة أو يكتفي باجتهاد واحد للجميع ، وليس هناك ما يدلّ على الثاني لو لم نقل باقتضائه الوجه الأوّل. فتأمّل هذا.

ويرد على الأوّل : أنّ الاستصحاب إنّما يكون حجّة عند عدم قيام دليل شرعي

٦٩٩

ولو ظاهر عموم أو إطلاق على خلافه ، فلذا لا يقاوم الاستصحاب شيئا من الظواهر والإطلاقات.

وحينئذ فنقول : إنّ قضيّة العمومات والإطلاقات الدالّة على عدم جواز الأخذ بالظنّ هو عدم جواز الرجوع إليه والعمل به في شيء من الأحوال والأزمان ، خرج عن ذلك ظنّ المجتهد المطلق بالنسبة إلى الإفتاء الحاصل عقيب الاجتهاد.

وأمّا العمل به بعد الحكم الأوّل فممّا لا إجماع عليه ، وقضيّة تلك الإطلاقات هو المنع من الأخذ به والحكم ثانيا بمقتضاه فلا يصحّ الخروج عن مقتضاه بما ذكر من الاستصحاب.

ويمكن دفعه : بأنّ قضيّة تلك الإطلاقات عدم حجّية الظنّ من حيث هو مع عدم قيام دليل شرعي قاطع على جواز الرجوع إليه ، لوضوح أنّه مع قيام الدليل عليه يكون الاتّكال على العلم دون الظنّ ، كما مرّت الإشارة إليه. فإذا قضى الاستصحاب بجواز الرجوع إليه كفى في المقام ، إذ لا معارضة إذن بينه وبين تلك الإطلاقات حيث إنّها لم تدلّ إلّا على عدم جواز الرجوع إلى كلّ ظنّ لم يقم دليل على حجّيته ، فبعد قضاء الدليل بحجّية الاستصحاب وقضاء الاستصحاب بحجّية الظنّ المذكور لا يكون الاتّكال في المقام على الظنّ ، بل على الدليل القاطع الّذي ينتهي إليه الظنّ المذكور. فهذا غاية ما يوجّه به التمسّك بالاستصحاب في المقام ، وفيه تأمّل.

وعلى الثاني : أنّ جواز الحكم والإفتاء بمجرّد الظنّ على خلاف الأصل خرج عنه ما إذا وقع ذلك عقيب الاجتهاد لقيام الإجماع عليه ، فيبقى غيره تحت قاعدة المنع ، إذ لا دليل على جواز الحكم حينئذ عند تجدّد الواقعة من غير تجدّد النظر.

وعلى الثالث : أنّه إن سلّم فإنّما ينفي وجوب تجديد النظر مطلقا دون القول بالتفصيل. ومثله يرد على الرابع أيضا ، لعدم وضوح قيام السيرة مع نسيان دليل المسألة أو زيادة القوّة زيادة ظاهرة يحتمل بسببها عثوره على دليل آخر أو استدراك وجه آخر للاستنباط.

٧٠٠