هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

على جواز التجزّي عدّة من الوجوه الظنّية قد مرّت الإشارة إلى بعضها ، ويأتي الكلام في بعضها عند تعرّض المصنّف إن شاء الله.

ولا مانع من استناد المجتهد المطلق إليها بعد قيام الدليل القاطع على جواز حكمه بتلك الأدلّة الظنّية بخلاف حكم المتجزّئ بها ، لعدم قيام دليل قطعي على جواز استناده إليها ، مضافا إلى أنّه المعروف من مذهب الأصحاب والشهرة محكيّة عليه حدّ الاستفاضة.

وإن اريد معرفة حكم المتجزّئ نفسه في معرفة تكليفه من الأخذ بظنّه أو رجوعه إلى غيره ، فإن حصل له القطع في مسألة التجزّي بجوازه أو عدم جوازه فلا كلام في حجّيته إذن في شأنه ، فيرجع على الأوّل إلى ظنّه ، وعلى الثاني إلى تقليد غيره ، ولا إشكال ، لانتهاء الأمر في ظنّه أو تقليده إلى العلم ، فيخرج بذلك عمّا دلّ على المنع من الأخذ بالظنّ أو التقليد ، لما عرفت من أنّ المنهيّ عنه هناك إنّما هو الاتّكال على الظنّ أو التقليد بما هو ، دون ما انتهى الأمر فيه إلى اليقين وحصل الاتّكال فيه على القطع ، فإنّه في الحقيقة أخذ بالعلم حسب ما مرّ تفصيل القول فيه. وإن لم يحصل له القطع بالواقع في المسألة المفروضة ، فإن تمّ ما مرّ من الكلام في تقرير القاعدة النقليّة في المقام ـ من كون الظنّ القائم مقام العلم بحكم العقل هو الظنّ الحاصل من صاحب الملكة القويّة دون غيره ، وإنّ الواجب على غيره الرجوع إليه ، لما دلّ على أنّ الرعيّة صنفان : عالم ومتعلّم ، ومجتهد ومقلّد ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ـ تعيّن عليه الرجوع إلى المجتهد المطلق ، وكذا إن تمّ ما مرّت الإشارة إليه من اندراجه إذن في عنوان الجاهل نظرا إلى عدم انتهاء ظنّه في خصوصيّات المسائل وفي مسألة التجزّي إلى اليقين ، وقيام الدليل القاطع من صريح العقل أو النقل على عدم جواز التعويل على الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، فيندرج إذن في الكلّية القائلة بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم. فهما إذن دليلان ظاهريّان يفيدان القطع بالتكليف في مقام العمل من وجوب رجوعه إلى التقليد ، ومنعه من الأخذ بظنه.

٦٦١

وحينئذ فنقول : إن كانت مسألة التجزّي من المسائل الّتي لا يقدر على استنباط حكمها ، وكان من يرجع إليه من المجتهدين قائلا بمنع التجزّي فليس وظيفته إلّا الأخذ بتقليده في خصوصيّات المسائل ، وإن كان قائلا بجوازه تعيّن الرجوع إلى ظنّه ، فيكون اتّكال المتجزّئ حينئذ في الأخذ بظنّه على تقليد المجتهد المطلق ، ولا مانع منه بعد قضاء الدليل به، فهو في الحقيقة رجوع إلى التقليد لانتهاء أمره إليه. وإن كانت المسألة المذكورة ممّا استنبط حكمه فإن كان قائلا بجواز التجزّي وكان المجتهد الّذي يرجع إليه قائلا بجوازه أيضا وجب عليه الرجوع إلى اجتهاده ، وإن كان قائلا بالمنع منه تعيّن عليه الرجوع إلى التقليد ، ولا عبرة بظنّه المتعلّق بمسألة التجزّي ، وكذا لو كان قائلا بالمنع منه سواء كان من يرجع إليه قائلا بمنعه أو جوازه.

هذا كلّه إذا كان المتجزّئ قاطعا بجواز التقليد في المسائل المتعلّقة بالعمل من غير فرق بين الاصول والفروع كما هو الحقّ.

وأمّا لو كان قاطعا بعدمه فلا يصحّ له في الصورة المفروضة سوى تقليد المجتهد في الأحكام الفرعيّة ، سواء كان ذلك المجتهد مجوّزا للتقليد في الاصول أو لا ، قائلا بتجزّي الاجتهاد أو لا.

وأمّا لو كان متردّدا في تلك المسألة أو ظانّا بأحد الجانبين لزمه مراعاة الاحتياط مع الإمكان ، إمّا باعتبار ما يحصل معه العلم بأداء الواقع ، أو بأداء التكليف حسب ما نقرّره في الصورة الآتية.

ثمّ إنّ جميع ما ذكرناه مبنيّ على صحّة ما ذكر ، وإن لم ينهض شيء من الوجهين المذكورين القاضيين بوجوب رجوعه إلى العالم حجّة في المقام ـ حسب ما نوقش فيهما بما مرّت الإشارة إليه ـ وتمّ ما ذكر من الإيراد تعيّن القول برجوعه إلى الاحتياط ، ولم يصحّ له الرجوع إلى التقليد والأخذ بقول الغير ، لعدم قيام الدليل القاطع عليه بالنسبة إليه وإلى مجرّد ما يظنّه ، لما عرفت من عدم قيام دليل قطعي على حجّية ظنّه ، والدليل العقلي القائم على حجّية ظنّ المقلّد لا يتمّ في

٦٦٢

شأن المتجزّئ ، لتوقّفه على إثبات عدم وجوب الاحتياط في شأنه ، وليس هناك دليل قاطع على عدم وجوبه بالنسبة إليه ، كما مرّ التنبيه عليه ، وحينئذ فقضيّة الأصل رجوعه إلى الاحتياط مع الإمكان.

ويتصوّر الاحتياط في شأنه على وجوه :

أحدها : مراعاة ما يحصل منه القطع بأداء الواقع.

ثانيها : مراعاة التوافق بين ما ظنّه وما يفتيه المجتهد المطلق لحصول القطع له بتفريغ الذمّة ، لدوران أمره بين الأخذ بقوله ورجوعه إلى المجتهد المطلق ، والمفروض إثباته (١) على كلّ من الوجهين.

ثالثها : أنّه يرجع إلى فتوى المطلق في جواز التجزّي ، والرجوع إلى الوجه المذكور مبنيّ على جواز التقليد في مسائل الاصول ، كما أنّ مع عدم القول بجوازه لا يتمّ له الاحتياط بمراعاة ذلك. فحينئذ نقول : إنّه إمّا أن يكون المتجزّئ قادرا على استنباط حكم التجزّي أو لا ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون مرجّحا لجواز التجزّي أو لمنعه ، وعلى التقادير المذكورة فإمّا أن يكون من يرجع إليه قائلا بالتجزّي أو مانعا منه ، فيجري فيه الاحتمالات الستّة المتقدّمة أيضا ، فإن كان عاجزا عن ترجيح مسألة التجزّي تعيّن عليه الرجوع إلى المجتهد المطلق في جوازه ومنعه ، لوضوح وجوب التقليد عليه فيما لا يقدر على استنباطه ، فعلى الأوّل يأخذ بظنّه ، وعلى الثاني يرجع إلى تقليد المجتهد في المسائل ، وإن كان قادرا عليه وكان قائلا بجوازه كالمجتهد الّذي يرجع إليه فلا إشكال ، وإن كان من يرجع إليه قائلا بمنعه فلا مجال للاحتياط فيه على الوجه المذكور ، كما هو الحال في عكسه ، بل يتعيّن فيهما الرجوع إلى أحد الوجهين المذكورين ، ولو كانا قائلين بمنع التجزّي تعيّن عليه الأخذ بالتقليد هذا كلّه مع إمكان الاحتياط في حقّه على أحد الوجوه المذكورة ، وأمّا مع عدم إمكانه ، فإن كان مرجّحا لجواز التجزّي وحجّية ظنّ المتجزّئ تعيّن به كتعيّن أخذه بالتقليد إذا كان مرجّحا لعدمه ، وذلك

__________________

(١) إتيانه ، خ ل.

٦٦٣

لقضاء العقل بقيام الظنّ بتفريغ الذمّة مقام العلم به بعد انسداد سبيله ، والمفروض حصوله بذلك. ولو كان متوقّفا في المسألة من غير ترجيح عنده لأحد الجانبين تخيّر بين الوجهين ولا ترجيح حينئذ للأخذ باجتهاده نظرا إلى تحصيله الظنّ بالواقع ، لما عرفت فيما مضى من أنّ المناط أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة فينوب منابه الظنّ بالتفريغ بعد انسداد باب العلم به ، والمفروض عدم حصوله في المقام ، لتساوي الاحتمالين عنده في مقام الفقاهة ، فالرجوع إلى ظنّه وإن كان راجحا من جهة تحصيل الواقع إلّا أنّ رجوعه إلى ظنّ المجتهد المطلق أرجح من جهة اخرى كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ المفروض تساوي الاحتمالين في نظره بحسب التكليف فلا مناص له عن التخيير ، وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأفاضل : من أنّه مع عدم تمكّنه من الأخذ بالاحتياط يتخيّر بين العمل بظنّه وتقليد المجتهد المطلق ـ كما هو الحال في الخبرين المتعارضين ـ لكن الأولى أخذه بما أدّى إليه ظنّه لرجحان القول به ، إذ مع رجحان القول بأخذه بظنّه لا وجه لتخييره بينه وبين الوجه المرجوح ، لقطع العقل إذن بترجيح الراجح بعد القطع ببقاء التكليف وعدم إمكان الاحتياط ، وليس المانع من الأخذ بظنّه من أوّل الأمر إلّا تقدّم الأخذ بالاحتياط على الرجوع إلى الظنّ ، فمع فرض عدم إمكانه وحصول الظنّ بكونه مكلّفا شرعا بالأخذ بظنّه لا وجه لجواز أخذه بالطرف المرجوح. وكذا الحال لو ترجّح عنده الرجوع إلى التقليد كما هو الحال في الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما راجحا على الآخر في إفادة ما هو المكلّف به في ظاهر الشريعة. نعم لو تساوى الاحتمالان في نظره تعيّن البناء على التخيير حسب ما بيّناه.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في كلام بعض آخر من تعيين أخذه بظنّه بعد انسداد سبيل العلم بالواقع ، إذ مع الغضّ عن تكليفه أوّلا لمراعاة الاحتياط يرد عليه أنّ اللازم عليه حينئذ مراعاة ما هو الراجح عنده في أداء التكليف دون ما يظنّ معه بأداء الواقع ، إذ قد يظنّ عدم أدائه التكليف الشرعي بالرجوع إلى ظنّه ، أو يتساوى

٦٦٤

عنده الوجهان ، فلا وجه للترجيح مع تساويهما بالنسبة إلى أداء التكليف فتأمّل.

قوله : (بمعنى جريانه في بعض المسائل.)

لمّا كان التفسير المذكور مشعرا بكون الكلام في جواز التجزّي بحسب الفعليّة وعدمه ـ بأن يستفرغ وسعه في تحصيل بعض المسائل دون بعضها ولو كانت القوّة والملكة تامّة ـ عقّب ذلك بقوله بأن يحصل للعالم إلى آخره ، مفيدا بذلك كون التجزئة المذكورة لنقص الاقتدار على الاستنباط ، لا بمجرّد عدم التصدّي لاستفراغ الوسع في ذلك البعض ، فيكون محلّ الكلام على ظاهر كلامه في جواز تجزّي القوّة وعدمه ، وقد فرّع عليه جواز الاستفراغ في ذلك البعض بمعنى حجّية ظنّه في ذلك وعدمه.

وأنت خبير بأنّ تقرير النزاع في جواز التجزّي في نفس الاقتدار والقوّة في كمال الضعف ، لوضوح جوازه كما مرّت الإشارة إليه ، كيف! والقوّة على استنباط الكلّ مسبوق غالبا بالقوّة الجزئيّة ، فإنّ الاقتدار على الجميع لا يحصل غالبا إلّا على سبيل التدريج ، ثمّ مع البناء على جواز التجزّي في القوّة لا وجه لتفريع حجّيته على ذلك.

نعم قد يقال : بعدم حجّية الظنّ الحاصل له كما هو الظاهر من كلام المانعين. والجواب عنه ما عرفت : من أنّ المقصود من الاجتهاد في المقام هو الاستفراغ المعتبر في نظر الشرع ، إذ هو المعنى المصطلح عندهم دون مطلق الاستفراغ. وحينئذ يتّجه تقرير النزاع في جواز التجزّي بحسب القوّة والملكة ، إذ القدر المعلوم الّذي ليس قابلا للنزاع هو مجرّد الاقتدار على تحصيل الظنّ ببعض المسائل دون البعض ، دون الاقتدار عليه على الوجه المعتبر. وحينئذ يندفع عنه ما ذكر من عدم صحّة التفريع المذكور ، لوضوح تفريع حجّية ظنّه على القول بقبوله للتجزّي كما هو ظاهر العبارة ، ففي تعبير المصنّف رحمه‌الله إشارة إلى ما ذكرناه. وقد يجعل قوله : فله أن يجتهد فيها أو لا بيانا لمحلّ النزاع ، فيكون المقصود أنّه بعد تحصيل ما هو المناط في الاجتهاد بالنسبة إلى بعض المسائل دون بعضها هل

٦٦٥

يجوز الاجتهاد في ذلك البعض أو لا؟ فليس المفروض في تقرير الخلاف في جواز تجزّي القوّة وعدمه ، بل في حجّية ظنّ المتجزّئ وعدمها. وهو بعيد عن ظاهر العبارة كما لا يخفى.

قوله : (وذهب العلّامة رحمه‌الله ... الخ.)

وقد اختار ذلك جماعة ممّن تأخّر عن هؤلاء كشيخنا البهائي ووالده وصاحب الوافية وكشف اللثام ، واختاره أيضا جماعة من العامّة منهم : الرازي والتفتازاني وابن النعماني ، وقد حكي القول به عن المعظم.

قوله : (وصار قوم إلى الثاني ...) وكأنّهم من العامّة ، إذ لم نجد في أصحابنا ممّن تقدّم على المصنّف من صرّح بالمنع منه.

قوله : (إنّه إذا اطّلع على دليل مسألة بالاستقصاء ... الخ.)

توضيح الاستدلال أنّ المناط في حجّية ظنّ المجتهد المطلق في كلّ مسألة بعد استفراغ وسعه في الأدلّة القائمة عليها هو اطّلاعه على الأدلّة الموجودة في تلك المسألة ووقوفه على وجوه دلالتها ، وما هو المناط في قوّة الظنّ فيها على حسب وسعه وطاقته بحيث يحصل العلم أو الظنّ بانتفاء ما ينافيها والمفروض حصول ذلك للمتجزّئ إذ الكلام فيما إذا اطّلع على الأدلّة القائمة في المسألة الّتي اجتهد فيها على نحو المجتهد المطلق من غير فرق بينهما سوى اقتدار المطلق على استنباط الحكم في غيره وعدم اقتداره أو اطّلاعه على الأدلّة القائمة في غيرها وعدم اطّلاعه. وهذا ممّا لا مدخل له قطّ في استنباط حكم هذه المسألة المفروضة ، ضرورة أنّ استنباط حكم المسألة إنّما يتوقّف على الأدلّة القائمة عليه دون غيره ، فلا ربط له بحجّية ظنّه الحاصل في تلك المسألة ، فمع ثبوت انتفاء الفارق بينهما إلّا في ذلك وعدم العبرة بما هو الفارق قطعا يتعيّن القول بحجّية حكم المتجزّئ أيضا.

قوله : (فلا يحصل له ظنّ عدم المانع.)

هذا الكلام يوهم كون القائل بمنع التجزّي مانعا عن تحصيل الظنّ وقد عرفت وهنه جدّا ، ضرورة إمكان حصول الظنّ لغير المطلق من غير إشكال. ويمكن

٦٦٦

توجيهه : بأنّه مع قيام احتمال وجود المعارض في الأدلّة لابدّ من مراجعتها فلا يكون ظنّه بانتفاء المانع قبل المراجعة حجّة شرعا ، فإنّ ظنّ المجتهد إنّما يكون حجّة بعد المراجعة إلى الأدلّة الشرعيّة ، دون ما إذا حصل من ملاحظة بعض الأدلّة من غير استيفاء لما يعارضه وما يحتمل ترجيحه عليه أو مساواته له. وحينئذ فما ذكر في الجواب عنه : من أنّ المفروض تحصيل جميع ما هو دليل في تلك المسألة بحسب ظنّه ، لا يجدي نفعا في المقام فإنّ ذلك إنّما يقضي بحصول الظنّ له.

وأمّا جواز الاعتماد على ذلك الظنّ من غير مراجعة إلى سائر الأدلّة واقتداره على استنباط الأحكام منها فغير متّجه. والفرق بين ذلك والظنّ الحاصل للمجتهد المطلق ـ الناظر في جميع الأدلّة والعارف بوجوه استنباط الأحكام منها ـ ظاهر ، وهل ذلك إلّا نظير الظنّ الحاصل للمجتهد المطلق قبل ملاحظة جميع الأدلّة واستفراغ وسعه في تحصيلها؟.

ومن البيّن أنّ الظنّ الحاصل له حينئذ بانتفاء المعارض لا حجّة فيه ، غاية الأمر في الفرق بينهما أنّ المجتهد المطلق قادر على استيفاء الأدلّة وهذا غير قادر عليه وهو غير مجد في المقام.

نعم يمكن الإيراد عليه : بأنّه لا يجب على المجتهد ملاحظة جميع الأدلّة الشرعيّة القائمة على المسائل الفرعيّة في استنباط كلّ حكم بل لابدّ من ملاحظة مظانّ الأدلّة ، وذلك ممّا يمكن حصوله للمتجزّئ أيضا. وقد يمكن استيفاء جميع الأدلّة من حيث استنباط الحكم المذكور عنها وعدمه وإن لم يقدر على استنباط سائر الأحكام عنها. ومع الغضّ عن ذلك أيضا فقد يحصل للمجتهد القطع بكون ما حكم به هو مقتضى الأدلّة الموجودة الّتي يمكن الوصول إليها بحسب العادة ، وقد يحصل له الظنّ بذلك. وغاية ما يستفاد من الوجه المذكور عدم جواز اعتماد المتجزّئ على الظنّ الحاصل له كذلك ، وأمّا مع قطعه به كما يتّفق ذلك في كثير من الأحكام أو قطعه بانتفاء ما يعارضه في سائر المقامات فلا ، وليس ما استفاده حينئذ قطعيّا حتّى يخرج عن محلّ البحث ، إذ لا ينافي ذلك كونه ظانّا بالحكم الواقعي بل وشاكّا فيه فتأمّل.

٦٦٧

قوله : (ولكن الشأن في العلم بالعلّة.)

أنت خبير بأنّ ذلك إن تمّ فلا يتمّ فيما إذا قطع بكون الحكم مقتضى الأدلّة الموجودة حسب ما أشرنا إليه لكن (١) التعويل في الاعتماد على الإجماع وقضاء الضرورة ، فبعد تسليمه إنّما يفيد عدم قيام دليل على تعويله على ظنّ المتجزّئ ولا يفيد ذلك عدم تعويل المتجزّئ على ظنّه. وإن أراد أنّ تعويل المجتهد على ظنّه إنّما هو من الجهتين المذكورتين فغير مسلّم ، إذ الأدلّة الدالّة على حجّية الأدلّة الشرعيّة إنّما تفيد حجّيتها لكلّ من يقدر على الوصول إليها ويقتدر على استنباط الأحكام منها ، والمفروض مساواة المتجزّئ للمطلق بالنسبة إلى المسائل المفروضة ، فلا وجه لسقوطها عن الحجّية بالنسبة إليها مع إطلاق ما دلّ على حجّيتها وعدم رجحان المجتهد المطلق عليه بالنسبة إلى تلك المسائل.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ الباعث على التعويل على ظنّ المجتهد المطلق ليس منحصرا في ذلك ، بل العمدة فيه هو انسداد سبيل العلم بعد القطع ببقاء التكليف القاضي برجوعه إلى الظنّ وتقديمه على غيره بعد ثبوت عدم وجوب الاحتياط ، إمّا لعدم إمكانه في كثير من الصور ، أو لاشتماله على العسر والحرج العظيم المرجوح في هذه الشريعة السمحة المؤيّد بجريان الطريقة من الأصحاب على خلافه ، حيث إنّ القول بوجوب الاحتياط الشاذّ من الأصحاب ، بل لا قائل بوجوبه على الإطلاق. وهذا كما ترى جار في المتجزّئ أيضا ، إذ بعد إمكان رجوعه إلى الظنّ لا وجه لرجوعه إلى التقليد الموهوم بعد ظنّه بخلافه ، وقد عرفت ما فيه ممّا قرّرناه سابقا فلا نعيد القول فيه.

قوله : (وهو إجماع الامّة عليه وقضاء الضرورة به.)

قد يورد عليه تارة : بما مرّت الإشارة إليه من أنّه لا إجماع في المقام على الرجوع إلى ظنّ مخصوص ، للاختلاف الظاهر بين الطائفة في اختيار طريقة المجتهدين أو الأخباريّين أو المتوسّطين. وقيام الإجماع على الرجوع إلى

__________________

(١) الظاهر سقوط شيء من العبارة.

٦٦٨

المطلق في الجملة في مقابلة المتجزّئ لا ينفع في المقام بعد الاختلاف المذكور. وقد عرفت الجواب عنه فيما سبق.

وتارة : بأنّ حصول الإجماع في هذه المسألة غير ظاهر ، إذ ظاهر أنّ هذه المسألة ممّا لم يسئل عنه الإمام عليه‌السلام ، فالعلم بالإجماع الّذي يقطع بدخول المعصوم فيه بالنسبة إليها وإلى ما يضاهيها من المسائل الّتي لم يوجد فيها نصّ شرعي ممّا لا يكاد يمكن ، كيف! والعمل بالروايات في عصر الأئمّة عليهم‌السلام للرواة بل وغيرهم لم يكن موقوفا على إحاطتهم بمدارك الأحكام والقوّة القويّة على الاستنباط بل يظهر بكلامه بأدنى الاطّلاع (١) على حقيقة أحوال القدماء ، فلا معنى لدعوى الإجماع في المسألة.

وما ذكره من قضاء الضرورة به ، إن أراد كونه بديهيّا من غير ملاحظة أمر خارج فهو بديهيّ البطلان. وإن اريد بداهته بعد ملاحظة أمر خارج وهو احتياج المكلّف إلى العمل وانحصار الأمر بين الاجتهاد والتقليد فالبديهة تحكم بتقديم الاجتهاد فهو صحيح ، لكنّه مشترك بين المطلق والمتجزّئ.

كذا ذكره بعض الأفاضل وهو موهون جدّا ، إذ المناقشة في الإجماع المذكور عجيبة بعد وضوح اتّفاق الكلّ على حجّية ما فهمه المطلق من غير شائبة تأمّل لأحد فيه. كيف! ولو لم يكن فهم المطلق حجّة عند البعض لم يكن فهم المتجزّئ حجّة عنده بالضرورة ، وفيه هدم للدين.

ولا يتوقّف كشف الإجماع عن قول المعصوم عليه‌السلام على ورود النصّ ، بل يكفي فيه وجود الكاشف من قوله ولو بتوسّط العقل ، على أنّ الأخبار المأثورة في الرجوع إلى العلماء والمشتملة على أمرهم بالرجوع إلى جماعة من فضلاء أصحابهم كثيرة ، بل قد يكون متواترة. وجريان طريقة العوام في عصرهم في الرجوع إلى أهل العلم أمر ظاهر لا سترة فيه ، فقول الإمام عليه‌السلام وتقريره موجودان في المقام ، فكيف! يتوهّم عدم كشف الاتّفاق عن قول الإمامعليه‌السلام ، لخلوّ المسألة

__________________

(١) كذا ، والظاهر : وذلك ظاهر لكلّ من له أدنى اطّلاع.

٦٦٩

من الرواية. فما ذكره : من وضوح انتفاء السؤال عن المسألة ، إن أراد به عدم سؤالهم عن خصوص حجّية فهم المجتهد المطلق فمسلّم ، ولا يمنع ذلك من كشف الاتّفاق عن قول الإمام عليه‌السلام بعد ورود ما يدلّ على الرجوع إلى العالم الشامل لذلك. وإن أراد عدم ورود ما يدلّ على حجّية فهمه وجواز الرجوع إليه فممنوع ، كيف! ومن الظاهر خلافه ، وهو كاف في كشف الاتّفاق عن قول المعصوم على مذاقه أيضا.

والحاصل : أنّ مقصود المصنّف رحمه‌الله أنّ القدر المقطوع به المتّفق عليه بين الكلّ هو حجّية ظنّ المجتهد المطلق ، وما زاد عليه لم يتّفق عليه اتّفاق ولم يقم عليه دليل قاطع آخر ، فلا يصحّ الأخذ به مع انتفاء القطع بجوازه. فلو نوقش في المقام فإنّما يناقش في منعه من قيام القاطع على حجّية ظنّ غيره لا في حجّية ظنّه.

فما ذكره : من أنّ العمل بالروايات في عصر الأئمّة عليهم‌السلام للرواة ، غير مرتبط بمنع الإجماع على جواز الرجوع إلى صاحب القوّة القويّة المحيطة بمدارك الأحكام الشرعيّة. غاية الأمر أنّه يدّعى جريان الطريقة هناك على الرجوع إلى غيره أيضا ، وهو كلام آخر لا ربط له بالمقام ، وقد مرّت الإشارة إلى ما فيه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ مقصود المصنّف من «قضاء الضرورة بحجّية ظنّ المطلق» هو أنّ الاضطرار إلى العمل بعد خفاء مدارك الأحكام يقضي بحجّية فهم من يستنبط الأحكام منها ، وإلّا لزم الخروج عن الدين والقدر المتيقّن من ذلك هو حجّية فهم المطلق لاندفاع تلك الضرورة به دون ما يزيد عليه ، وليس مقصوده شيئا من الوجهين اللذين أشار إليهما ، كيف! والوجه الأوّل منهما ضروريّ الفساد ، والثاني فاسد أيضا وإن سلّمه المعترض ، إذ لا بداهة قاضية بترجيح الناقص فهم نفسه على فهم الكامل المتدرّب حتّى يكون عدم جواز تقليده له من الضروريّات ، كيف! وقد ذهب جماعة من الفحول إلى عدم جواز ترجيح ظنّه على ظنّ الآخر ووجوب الأخذ بقوله.

قوله : (ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد.)

٦٧٠

لا يخفى أنّه لو كان وظيفة المتجزّئ هو التقليد لم يكن من شأنه إلّا الرجوع إلى المجتهد، فإذا كان ذاهبا إلى جواز التجزّي وحجّية ظنّ المتجزّئ وقائلا بجواز التقليد في المسائل المتعلّقة بالعمل من اصول الفقه كهذه المسألة لم يكن له بدّ من الحكم بعمله بمؤدّى ظنّه ، فالاستبعاد المذكور ليس في محلّه.

ثمّ لا يذهب عليك : أنّ ما ذكره المصنّف على فرض صحّته لا يفيد كون وظيفة المتجزّئ هو الأخذ بالتقليد ، إذ غاية ما يلزم حينئذ بطلان الدليل الدالّ على وجوب رجوعه إلى ظنّه ، ولم يقم دليلا قطعيّا على جواز أخذه بالتقليد. وكما أنّ رجوعه إلى ظنّه يتوقّف على قيام دليل قاطع قطعي عليه فكذا رجوعه إلى التقليد ، ومع عدم قيام دليل قطعي عليه لا يتمّ الحكم بعدم جواز أخذه بظنّه ، بل قضيّة التقرير المذكور هو حجّية ظنّه في الجملة ، إذ غاية الأمر حينئذ تخييره بين الوجهين وهو يفيد جواز رجوعه إلى ظنّه أيضا فتأمّل. هذا ملخّص القول في مسألة التجزّي.

وقد عرفت : أنّ المتيقّن من المتجزّئ هو من كان كلّ من استنباطه للمسائل واقتداره على ذلك جزئيّا ، وأمّا لو كانت قوّته تامّة مع كون الفعليّة ناقصة على الوجه الّذي أشرنا إليه فالّذي نصّ عليه جماعة أنّه مجتهد مطلق ، كما قدّمنا الإشارة إليه. وكان الفقيه الاستادقدس‌سره ذاهبا إلى عدم حجّية ظنّه فما لم يكن مستنبطا لقدر يعتدّ به من الأحكام ـ بحيث يعدّ فقيها عرفا على نحو صدق سائر ما يشتقّ من أسامي العلوم على أربابها ـ لا حجّية في ظنّه بالنسبة إليه وإلى غيره. وهو قبل البلوغ إلى تلك الدرجة ليس بفقيه ووظيفته الرجوع إلى الفقيه ، لما دلّ على أنّ الناس صنفان : فقيه وغير فقيه وإنّ وظيفة الثاني الرجوع إلى الأوّل ، ولأنّ المذكور في مقبولة عمر بن حنظلة اعتبار معرفتهم بأحكامهم عليهم‌السلام وهو جمع مضاف يفيد العموم ولا أقلّ من العموم العرفي ، وهو غير صادق بمجرّد عموم الملكة ما لم يكن عالما بالفعل بقدر يعتدّ به بحيث يصدق عليه عرفا أنّه عارف بالأحكام. فالتفصيل بين حجّية ظنّه بالنسبة إليه دون غيره خارج عن الطريقة ، إذ

٦٧١

لو كان مجتهدا صحّ له الرجوع إلى ظنّه ولغيره الرجوع إليه ، وإلّا لم يجز في المقامين.

ويشكل بأنّه لا دليل على دوران المكلّف بين الوجهين سوى ما قد يتخيّل من الإجماع ، والقدر المسلّم منه على ثبوته هو لزوم كون المكلّف عالما بحكمه على سبيل الاجتهاد أو آخذا له بطريق التقليد وأمّا كونه مجتهدا في بعضها ومقلّدا في بعضها لم يقم اجماع على المنع منه ، كيف وكثير منهم قد جوّزوا التجزّي في الاجتهاد على أنّه قد يقال : بصدق عنوان الفقيه عليه بالنسبة إلى ما اجتهد فيه ، إلّا أنّه غير متّجه حسب ما مرّت الإشارة إليه في أوائل الكتاب. وقيام الإجماع على الملازمة بين عدم حجّية ظنّه بالنسبة إلى غيره وعدمها بالنسبة إليه غير ظاهر ، كيف! والافتراق بينهما في المجتهد الفاسق والمفضول مع وجود الأفضل بناء على المنع من الرجوع إليه ظاهر ، فأيّ مانع من البناء على التفصيل في المقام أيضا؟

لكن لا يخفى عليك : أنّه لم يقم أيضا إجماع على حجّية ظنّه بالنسبة إليه. وحينئذ فيشكل اعتماده عليه على نحو ما مرّ بيانه في المتجزّئ فيجري فيه ما قدّمناه من التفصيل في حكم المتجزّئ ، فالظاهر أنّه بمنزلته وإن كان القول بحجّية ظنّه أقوى من الحكم بحجّية ظنّ المتجزّئ. ويجري الكلام المذكور في صاحب القوّة التامّة الخالية عن الفعليّة بالمرّة ، فإن قلنا بجواز التقليد للمجتهد المطلق بالنسبة إلى المسائل الّتي لم يجتهد فيها فالأمر فيه ظاهر ، وأمّا بناء على المنع منه فيشكل الحال فيه أيضا. والأظهر حينئذ رجوعه إلى ظنّه حسب ما مرّ في المتجزّئ لما عرفت.

هذا بالنسبة إلى ما يقتضيه ظواهر الأدلّة في شأنه ، وأمّا تكليفه في نفسه وبحسب فهمه في صحّة تقليده أو وجوب اجتهاده ورجوعه إلى ظنّه فيجري فيه ما قدّمناه من التفصيل ، لعدم قيام دليل قاطع على جواز تقليده ، أو رجوعه إلى ظنّه على نحو ما ثبت بالنسبة إلى العامي والمجتهد المطلق. وظاهر الجماعة أيضا إدراجه في المطلق ، وهو ضعيف. ولو كانت فعليّة تامّة مع نقص القوّة ـ بأن كان

٦٧٢

عاجزا عن إدراك المسائل المشكلة من دون تلقين الغير وتعليمه إيّاه لوجه الترجيح فلا يقتدر بنفسه على استخراجها والابتداء إليها ـ فالظاهر إدراجه في الفقيه ، لصدق العنوان فيندرج تحت الإجماع القاضي بحجّيته.

وربما يتراءى من ظاهر بعض كلماتهم عدم اندراجه فيه ، نظرا إلى أنّ القدر المتيقّن من الحكم بجواز التقليد هو تقليد المجتهد المطلق ، وأمّا غيره فلم يقم دليل قاطع على جواز الرجوع إليه ، وقضيّة الأصل عدم جواز الرجوع إليه وعدم الاكتفاء في الحكم بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال بمجرّد تقليده. والأظهر أنّ حجّية ظنّه بالنسبة إليه قاض بحجّيته بالنظر إلى غيره أيضا في الجملة. وفي مشهورة أبي خديجة المتقدّمة دلالة عليه. فلو انحصر الأمر في الرجوع إليه لم يبعد وجوبه.

نعم لو دار الأمر بين الرجوع إليه وإلى المطلق من الأحياء لم يجز الرجوع إليه ، بناء على وجوب تقليد الأفضل ، فلا فرق بينه وبين المطلق في ذلك. هذا بالنظر إلى ما يقتضيه الأدلّة الظنّية. وأمّا المقلّد فلا يجوز له الرجوع إليه من غير قيام دليل قاطع عنده على جواز تعويله عليه ، لما عرفت. ولو رجع إلى المجتهد المطلق في جواز رجوعه إليه لم يكن به بأس ، كما إذا قلّد الميّت أو المفضول بتقليده الحيّ أو الأفضل في ذلك.

ولنتمّم الكلام في مباحث الاجتهاد برسم امور :

ـ أحدها ـ

في بيان شرعيّة الاجتهاد وإثبات الاعتماد على ظنّ المجتهد ، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الأوّل : العقل ويبتني ذلك على بيان انسداد باب العلم في كثير من الأحكام الشرعيّة بل معظمها وانحصار الطريق في العمل بالظنّ والأخذ بالظنّيات والقواعد الّتي لا يفيد علما بالواقع في الخصوصيّات ، ويدلّ عليه بعد قضاء ضرورة الوجدان بذلك ـ إذ لا يحصل للنفس بعد كمال الجدّ وبذل الوسع في معرفة الأحكام وغاية

٦٧٣

الاهتمام في النظر في الأدلّة والبحث عن مدارك الأحكام الشرعيّة وملاحظة الأمارات المؤيّدة ما يزيد على المظنّة فيكفي فيه ملاحظة الوجدان عن مؤنة البيان ـ أنّ ما يكون من الأدلّة الشرعيّة علميّة مفيدة للقطع بالواقع في الوقائع ، أو محتملة لإفادة اليقين بالواقع ، أو قيل بإفادتها لذلك. إمّا الإجماع أو العقل المستقلّ ، أو الكتاب ، أو السنّة المتواترة وما بمنزلتها ، أو سائر الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة المذكورة في الكتب المعتمدة.

أمّا الإجماع والعقل الكاشف عن الواقع فلم ينهضا إلّا في قليل من الأحكام ، ومع ذلك فلا يفيان غالبا بالتفصيل.

وأمّا الكتاب فهو وإن كان قطعي المتن إلّا أنّه في الغالب ظنّي الدلالة ، ومع ذلك لا يستفاد منه غالبا إلّا امور إجماليّة.

وأمّا السنّة المتواترة وما بمنزلتها فلا توجد إلّا في نادر من الأحكام ، مع أنّها لا تفي غالبا إلّا بالأحكام الإجمالية.

وأمّا سائر الأخبار المأثورة المذكورة في الكتب المعتمدة فهي ظنّية بحسب المتن والدلالة، إذ وجود الاختلال الطارئة عليها سندا ودلالة كثيرة قد أشرنا إليها فيما مضى ، وقد فصّلنا القول في بيان ظنّيتها وعدم إفادتها اليقين بالواقع بما لا مزيد عليه ، وأوضحنا فساد ما لفّقه جماعة من الأخباريّة من الشبه في بيان قطعيّتها ، ولو سلّم قطعيّة تلك الأخبار حسب ما ادّعوه ، فمن البيّن أنّها لا تفي ببيان جميع الفروع المتجدّدة على سبيل التفصيل ، بل لابدّ من التأمّل في إدراجها فيما يناسبها من القواعد المقرّرة في تلك الأخبار. ومن الظاهر أيضا اختلاف الأنظار في ذلك وعدم إمكان تحصيل اليقين غالبا بذلك ، كما لا يخفى على من مارس التفريعات الفقهيّة وأمعن النظر فيما يرد عليه من الفروع المتجدّدة ، فإنّه لا مناص غالبا من الأخذ بالظنّ في الحكم باندراجها في خصوص كلّ من القواعد المقرّرة. وذلك أيضا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى البيان. فإذا تقرّر انسداد باب العلم في معرفة الأحكام مع القطع ببقاء التكليف تعيّن الانتقال إلى الظنّ ، أو الأخذ

٦٧٤

بالوجوه الظنية الّتي دلّت على حجّيتها الأدلّة المخصوصة ، وهو المعنيّ بالاجتهاد.

الثاني : انعقاد الإجماع عليه من الخاصّة والعامّة ، وقد نصّ بانعقاد الإجماع عليه جماعة من أجلّاء الطائفة ، وهو معلوم من ملاحظة الطريقة الجارية المستمرّة في سائر الأعصار والأمصار بين الشيعة. وملاحظة كتب الفتاوى والاستدلال كافية في العلم به.

وقد ناقش في ذلك بعض من الأخباريّين بوجوه موهونة لا بأس بالإشارة إليها ليقضى بالعجب منها.

قال : والجواب أوّلا : بمنع حجّية الإجماع إذ لم يوردوا لها دليلا قطعيّا ، والاعتماد على الظنّ في الاصول غير معقول ، بل الدليل الظنّي الّذي أوردوه غير تامّ ولا سالم عن المعارضة بما هو أقوى منه.

وثانيا : بمنع انعقاد الإجماع هنا بمخالفة المتقدّمين والمتأخّرين وتصريحاتهم بذلك يطول الكلام بنقلها.

وثالثا : بتقدير انعقاد الإجماع فهو دليل ظنّي لا يجوز العمل به في الاصول.

ورابعا : أنّه ظنّي لا يجوز الاستدلال به على الظنّ ، إذ يلزم منه الدور.

وخامسا : المعارضة بمثله فقد نقل الشيخ في العدّة الإجماع على خلافه وهو مقدّم ، لتقدّمه وتواتر النصوص به.

وسادسا : أنّ الإجماع عند محقّقيهم إنّما يعتبر مع العلم بدخول الإمام عليه‌السلام ، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك هنا.

وسابعا : أنّه على تقدير ثبوت قول الإمام عليه‌السلام هنا فالحجّة قول الإمام عليه‌السلام لا الإجماع ، وهو على ذلك التقدير خبر واحد لا يعارض المتواتر.

وثامنا : أنّه على تقدير ثبوت قول الإمام عليه‌السلام هنا فهو خلاف الآيات الصريحة ، ومعارضته (١) من قول الأئمّة عليهم‌السلام موافق لها فيتعيّن المصير إليه للأمر بالعرض على الكتاب.

__________________

(١) بصيغة الاسم الفاعل المؤنّث.

٦٧٥

وتاسعا : أنّه على ذلك التقدير موافق للعامّة فيتعيّن حمله على التقيّة ، والعمل بما يعارضه ، لعدم احتمال التقيّة ، ونظيره الإجماع على بيعة أبي بكر فقد دخل فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يدلّ دخوله على صحّتها ، للتقيّة وهذا أقوى المرجّحات المنصوصة على تقدير وجود المعارض الصحيح ، فكيف! وأهونها غير موجود انتهى.

وأنت خبير بأنّ أقصى ما يمكن ايراده في المقام وإن كان واضح الفساد أيضا : المنع من تحقّق الإجماع ، لما يتوهّم من كلمات جماعة من الأصحاب من المنع من الاجتهاد ، أو العمل بالظنّ ، وقد أشار إليه بما ذكره : من مخالفة جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين فيه ، وحكاية الشيخ الإجماع عليه ، وسيجيء الإشارة إلى جملة من عبائرهم بما يوهم دلالتها على ذلك. وتوضيح القول في فساده إن شاء الله.

وأمّا سائر ما ذكر من الإيرادات فغير معقولة ، لما هو واضح من أنّ الإجماع على فرض تحقّقه من الأدلّة القطعيّة الكاشفة عن رأي الإمام عليه‌السلام ، أو عن الحجّة الّتي لا مجال للتشكيك في حجّيته ، ولزوم الأخذ به حسب ما حقّق في محلّه.

نعم لو اريد به الإجماع المنقول صحّت دعوى كونه ظنّيا ، إلّا أنّه غير مراد المستدلّ قطعا ، وحينئذ فمعارضته بحكاية الشيخ غير متّجهة ، على أنّه من الواضح أنّ مراد الشيخ من الاجتهاد غير ما هو المقصود في المقام ، وليت شعري كيف يعقل القول بدعوى الشيخ الإجماع على حرمة الاجتهاد والمنع منه ، مع ما يرى من طريقته في الاحتجاج في المبسوط والخلاف وغيرهما. وسنوضح ما هو مقصوده من الاجتهاد في ذلك المقام ، وأنّه ممّا لا ربط له بالمرام. وما ذكره : من أنّ مفاد الإجماع المذكور مخالف للآيات الصريحة والأخبار المأثورة ، ضعيف جدّا ، لوضوح كون مفاد الإجماع على فرض تحقّقه قطعيّا ، وأقصى ما يسلّم كون ظاهر إطلاق الآيات والروايات ذلك فكيف! يمكن أن يقاوم القاطع ، مضافا إلى أنّ الاستناد إليها استناد إلى الظنّ والمدّعى خلافه ، فلو صحّ الاستناد إليها بطل ما ذكر

٦٧٦

من الدعوى ، على أنّ دلالتها على ذلك محلّ منع أيضا كما ستعرف الوجه فيه إن شاء الله.

الثالث : ظواهر كثير من الأخبار :

منها : الصحاح المستفيضة الدالّة على أنّ عليهم عليهم‌السلام إلقاء الاصول وإنّ علينا التفريع عليها. فقد رواه زرارة وأبو بصير في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام والصادق عليه‌السلام ورواه البزنطي في جامعه عن هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام ، ورواه البزنطي بنفسه عن الرضا عليه‌السلام ، إذ من البيّن انّ تفريع الفروع على الاصول والقواعد لا يكون غالبا إلّا على سبيل الظنّ ، إذ دلالة العمومات على حكم كلّ من الجزئيّات المندرجة فيها إنّما تكون في الغالب على سبيل الظهور دون التنصيص ، وأيضا كثير من التفريعات ممّا يختلف فيه الأنظار ويتفاوت الأفهام في إدراجها تحت القواعد المقرّرة. وكثيرا مّا لا يتأتّى الحكم باندراج الفرع تحت أصل معيّن إلّا على سبيل يندرج فيها المداليل الالتزاميّة المفهومة بتوسّط الخطاب ، كدلالة الأمر بالشيء على الأمر بمقدّمته ودلالة النهي على الفساد ، وكثير من دلالات المفاهيم ونحوها.

وقد يناقش فيه بالمنع من شمولها للتفريعات الظنّية فلا يفيد المدّعى.

ويمكن دفعها : بأنّ قضيّة الأمر بالتفريع إثبات ما يتفرّع على الكلام من الأحكام بحسب العرف ، وهو أعمّ ممّا يفيد العلم بالواقع هذا.

وقد أورد بعض المحدّثين في المقام : بأنّه لا دلالة في الأخبار المذكورة على صحّة الاجتهاد الظنّي في أحكام الله تعالى ، فإنّ مفادها الأخذ بالقواعد الكلّية المأخوذة عن أهل العصمة كقولهم عليهم‌السلام «إذا اختلط الحلال بالحرام غلب الحرام» وقولهم عليهم‌السلام «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه» وقوله عليه‌السلام «الشكّ بعد الانصراف لا يلتفت إليه» وقولهم «لا تنقض اليقين بالشكّ أبدا وإنّما تنقضه بيقين آخر» وذلك أنّ الأنظار العقليّة إذا كانت مادّة الفكر فيها وصورته مأخوذين عن أهل العصمة فلا ريب في جواز العمل به ، لأنّه معصوم عن الخطأ. ولا شكّ أنّ مفاد الأخبار المذكورة هو التفريع على الاصول المأخوذة

٦٧٧

عن الأئمّة عليهم‌السلام خاصّة ، وهو عين مذهب الأخباريين وخلاف دعوى الاصوليين.

قلت : من البيّن أنّ تفريع الأحكام على الاصول المأخوذة عن أهل العصمة إمّا أن يكون ثابتا بإثبات تلك الأحكام للجزئيّات الظاهرة الاندراج أو للجزئيّات الّتي يتأمّل في اندراجها تحت أيّ من تلك القواعد ويتوقّف اندراجها في خصوص بعضها على البحث والنظر ، أو بإثبات اللوازم المتفرّعة على الملزومات المأخوذة عنهم عليهم‌السلام. وحينئذ فقد يكون اللزوم بيّنا ، وقد يفتقر إلى البيان ، فقد يكون المبيّن له العقل ، أو النقل ، أو الملفّق منهما. وظاهر تلك الأخبار تعميم ذلك للجميع. ومن البيّن حينئذ أنّه لا يلائم طريقة الأخباريّين. وتخصيصها بالصورة الاولى خروج عما يقتضيه إطلاق تلك النصوص. بل ربما يقال بعدم عدّ ذلك تفريعا ، فإنّ تلك الصور الجزئيّة هو نفس ما ذكر في تلك القواعد الكلّية ، لظهور أنّ المحكوم عليه في القضايا الكلّية هو خصوص كلّ من الجزئيّات ، فإثبات الحكم لكلّ منها من جهة الأخذ بعين المنصوص لا التفريع على المنصوص.

ومع الغضّ عن ذلك فلا ينفكّ ما ذكر أيضا من استعمال الظنّ ، لظهور احتمال التخصيص في تلك العمومات. فالقول بحصول العصمة عن الخطأ بمجرّد الأخذ بظواهر تلك العمومات والإطلاقات كما ترى.

ومنها : الأخبار الكثيرة الدالّة على الرجوع إلى المرجّحات الظنّية عند تعارض الأخبار المأثورة ليتميّز الصحيح منها عن السقيم ، والمقبول من المردود ؛ ومن البيّن أنّ ذلك من أعظم موارد الاجتهاد ، فإنّ تمييز المعوّل عليه من الأخبار من غيرها قد يشكل جدّا.

وقد دلّت الأخبار المذكورة على الرجوع في التميز إلى وجوه ظنّية ، والمستفاد من جميعها بعد الجمع بينها هو الأخذ بالراجح من حيث المفاد والسند. وما قد يتوهّم من أنّ المرجّحات المذكورة إنّما هي لأجل تمييز الخبر الوارد من جهة التقيّة من غيرها ـ وإنّ جميع أخبارنا المذكورة في الكتب المعتمدة قطعي الصدور من الأئمّة عليهم‌السلام ـ واضح الفساد حسب ما مرّت الإشارة إليه ، مضافا إلى

٦٧٨

أنّ في تلك الأخبار شهادة على خلافه ، إذ الرجوع إلى الأعدل وترجيحه على غيره لا ربط له بالجهة المذكورة. وكذا الحال في عدّة من المرجّحات المقرّرة ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ومنها : ما دلّ من الأخبار على حجّية قول الثقة والاعتماد على نقله ، إذ من البيّن أنّ الوثاقة لا يبلغ إلى درجة العصمة حتّى يمتنع في شأنه الخطأ والغفلة. كيف! وقد وقع من أعاظم الثقات من السهو والاشتباه في أسناد الروايات ومتونها ما لا يخفى على المتتبّع في الأخبار ، سيّما كتابي التهذيب والاستبصار ، مضافا إلى ما عرفت من الاكتفاء في العدالة بحسن الظاهر. ومن الظاهر أنّه بمجرّده لا يفيد العلم بحصول العدالة ، فلو سلّمنا قضاء تلك الصفة بعدم وقوع الكذب والغفلة والزيادة والنقيصة من المتّصف بها فكيف! يعقل القول بقضاء الظنّ بها للعلم بذلك.

ومنها : غير ذلك من الأخبار المتكثّرة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد حسب ما فصّل في محلّه.

فالملخّص من ملاحظة مجموع الأخبار المذكورة القطع بحجّية الظنّ في نفس إثبات الأحكام الشرعيّة. وكون كلّ واحد من تلك الروايات ظنّيا لا يقدح في المقصود بعد كون القدر الجامع بينها قطعيّا ، على أنّهم يدّعون قطعيّة الأخبار ، فكلّ واحد منها حجّة قاطعة بالنسبة إليهم.

هذا وقد زعمت الأخباريّة عدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعيّة وحكموا بحظرها في الشريعة لشبه واهية ، وشكوك ركيكة ، واضحة الفساد ، غير صالحة للاعتماد عند من له أدنى مسكة لا بأس بالإشارة إلى جملة منها.

منها : أنّه لا دليل على جواز العمل بالظنّ ، فلا وجه للرجوع إليه والتعويل في استنباط الأحكام عليه.

وفيه : أنّه لا كلام في عدم جواز الاستناد إلى الظنّ من غير قيام دليل عليه ، وما ادّعي من انتفاء الدلالة في المقام فهو بيّن الفساد. كيف! ولو لم يكن هناك دليل على حجّيته سوى انسداد سبيل العلم ـ وانحصار الطريق في الظنّ مع القطع ببقاء

٦٧٩

التكليف ـ لكفى في القطع بحجّيته ، مع أنّ هناك أدلّة خاصّة على حجّية عدّة من الطرق الظنّية ، كما قرّر في محلّه.

وقد اعترف الأخباريّون بحجّية قول الثقة وجواز الاعتماد عليه في الأحكام الشرعيّة ـ كما دلّت عليه عدّة من النصوص ـ مع أنّه لا يفيد غالبا ما يزيد على الظنّ. ودعوى إفادة قول الثقة القطع بالواقع ـ كما صدر من جماعة منهم ـ ممّا يشهد ضرورة الوجدان بخلافه مع ثبوت وثاقته بطريق اليقين فكيف! مع ثبوتها بحسن الظاهر.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ ممّا يستقلّ العقل بقبحه فيستحيل تجويز الشرع له ، ووهنه ظاهر ، فإنّه إن تمّ ذلك فإنّما يتمّ بالنسبة إلى الاعتماد على الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، وأمّا مع أوله إلى العلم وانتهائه إلى اليقين فكلّا. وكيف! يتوهّم ذلك ولا عمل حينئذ إلّا بالعلم.

ومن البيّن أنّ المسائل الفقهيّة إنّما يراد لأصل العمل ، ومن الظاهر أيضا أنّه بعد قيام الدليل القاطع على وجوب العمل بمؤدّى الأدلّة الظنّية يكون العمل حاصلا على وجه اليقين ، دون الظنّ والتخمين. كيف! ولو لا ذلك لم يجز بناء الشرع على الأخذ بالظنّ أصلا لعدم جواز الاستثناء في القواعد العقليّة ، مع أنّ جواز العمل بالظنّ في كثير من المقامات ـ كالحكم بالشهادات والاعتماد على إخبار ذي اليد ونحوهما ـ ممّا لا كلام في وروده في الشرع ، بل وكذا الحال بالنسبة إلى دلالة الألفاظ ، لقيام الإجماع على جواز الاعتماد فيها على الظنون ، وكذا الحال في جواز الاعتماد على قول الثقة ، كما دلّت عليه روايات عديدة.

ومنها : ما ذكره بعض المحدّثين : من أنّ المتقدّمين من علمائنا لا يقولون بجواز الاجتهاد والتقليد ولا يجيزون العمل بغير الكتاب والسنّة من وجوه الاستنباطات الظنّية. ومن المعلوم أنّ طريقة المتقدّمين هي الموافقة للأئمّة عليهم‌السلام ولأحاديثهم المتواترة ، فإن شذّ منهم شاذّ أحيانا أنكر عليه الأئمّة إن كان في زمان ظهورهم. وفي هذه الطريقة مباينة لطريقة العامّة مباينة كلّية. وطريقة المتأخّرين

٦٨٠