هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

موافقة الشهيد رحمه‌الله ليس على ما ينبغي ، كيف؟ وقد أطلق الحكم بضعف كلامه.

وقوله : «وبأنّ الشهرة الّتي يحصل معها إلى آخره» مزيد بيان لدفع الوجه الثاني.

وبالجملة : أنّ فحوى كلامه كالصريح في عدم حجّية الشهرة ، كيف؟ ولو قال بها لفصّل القول فيها زيادة على ذلك وبيّن صحّة الاستناد إليها في الأحكام الشرعيّة في ما عدا ما يتراءى من الشهرة الحاصلة بين المتأخّرين عن الشيخ رحمه‌الله ، فإنّ ذلك هو الّذي يقتضيه المقام ، ومع ذلك أطلق القول بضعف الاستناد إليها ، هذا.

وقد ظهر بما قرّرنا ضعف ما يورد عليه في المقام من أنّ احتمال الخطأ في دليلهم إنّما ينافي قطعيّة الشهرة لا ظنّيتها ، وبعد الخطأ معها جدّا ، وذلك لأنّ اتّفاق المعظم مع نهاية عدالتهم وفقاهتهم واختلاف أفهامهم وآرائهم وعدم موافقة بعضهم لبعض في المسائل الخلافيّة الاجتهاديّة ـ حتّى أنّ بعضهم ربّما خالف نفسه واختار في المسألة أقوالا عديدة في الكتب العديدة أو الأبواب المتعددة ـ إذا رأيناهم متّفقين على حكم من دون تزلزل وإبداء ريب استبعدنا وقوع خلل منهم في الاستدلال ، بل يحصل الظنّ القويّ غاية القوّة بصحّته.

أمّا أوّلا فلأنّه بصدد دفع كونه باعثا على العلم بوجود المستند به المعتبر كما هو ظاهر كلام الشهيد رحمه‌الله بكون القدر المعلوم وجود المستند الصحيح على حسب اجتهادهم وهو لا يستلزم الصحّة بحسب الواقع فلا يرتبط به الإيراد المذكور.

وأمّا ثانيا فلأنّ غاية الأمر كون الشهرة مفيدا للمظنّة ، وكون تلك المظنّة حجّة أوّل الدعوى ، فإنّ الخطأ غير مأمون على الظنون إلّا أن يقام دليل على حجّيتها وجواز الاتّكال عليها ، وهو غير مذكور في كلام الشهيد رحمه‌الله ولو بنى ذلك على أصالة حجّية الظنّ لأشار إليه في كلامه ولاتّحد الدليلان المذكوران ، وهو مخالف لظاهر تقريره ، وليست تلك القاعدة عندهم مقرّرة واضحة حتّى يجعل كبرى مطويّة ، لغاية وضوحه ، كيف؟ وطريقتهم جارية على خلافه حيث إنّهم لا زالوا يطالبون الحجّة على حجّية كلّ من الظنون ، ولا يأخذون بشيء منها إلّا مع قيام الدليل عليه. والاحتجاج بتلك الطريقة العامّة لحجّية الظنّ مطلقا غير معروف بينهم ، وإنّما أشار إليه المصنّف وبعض منهم ولا يعلم ارتضاؤه ، بل دفعه للشهرة في

٤٦١

المقام أقوى شاهد على خلافه.

نعم لو اخذت تلك المقدّمة في الاحتجاج المذكور اتّجه ما ذكره ، وليس في المقام ما يفيد اتّكال المستدلّ عليه أصلا.

وقد يتخيّل من احتجاجه بافادة الشهرة قوّة الظنّ قوله «بتلك المقدّمة» إلّا أنّ احتمال كونه من قبيل ضمّ المؤيد إلى الدليل قريب جدّا حسب ما أشرنا إليه.

قوله : (وبأنّ الشهرة الّتي ... الخ.)

هذه العلاوة الّتي ذكرها لتوهين جملة من الشهرات وهي الحاصلة من بعد الشيخ رحمه‌الله موهونة جدّا ، بل فاسدة قطعا ، كيف! وفيه تفسيق علماء الفرقة وتضليلهم أو تجهيلهم بحيث لم يبق في الفرقة مجتهد يرجع إليه حتّى التجأوا إلى تقليد الأموات ، وكلّ ذلك واضح الفساد ، وجلالة هؤلاء وعظم منزلتهم في الفرقة معلومة ، وذكر خلافهم ووفاقهم في المسائل متداول بين أساطين علمائنا كالفاضلين والشهيدين وغيرهم ، ولو كانوا هؤلاء بمنزلة العوام المقلّدة لما التفتوا إلى خلافهم ووفاقهم ، وما اعتنوا بذكر أقوالهم ، ومخالفة هؤلاء ومن تأخّر عنهم للشيخ رحمه‌الله معروفة مذكورة في كتب الاستدلال ، كما يعرف ذلك من ملاحظة فتاويهم المذكورة في كتبهم والمنقولة في كتب الأصحاب ، ومخالفات المحقّق ابن ادريس للشيخ قدس‌سره من الامور البيّنة الجليّة ، وكتاب السرائر مشحون به ، وردّه لفتاوى الشيخ ظاهر معروف حتّى انتصر الفاضلان للشيخ رحمه‌الله وأخذا في ردّه والذبّ عن الشيخ كما هو ظاهر من ملاحظة المعتبر والمنتهى وغيرهما.

ثمّ إنّ مخالفات الفاضلين ومن بعدهما للشيخ رحمه‌الله واستبدادهم في الاستدلال أمر واضح غنيّ عن البيان. وكان الأصل في ما ذكره الجماعة هو ما حكاه الورّام قدس‌سره عن الحمصي ، والحكم باشتباهه في ذلك أولى من التزام ما ذكر ، وكان الجماعة من تلامذة الشيخ رحمه‌الله وتلامذة تلامذته لغاية وثوقهم به في الفنّ ما كانوا يتجرّون في الفتاوى على مخالفته في الغالب لا تقليدا له ، بل كانوا يرجّحون ما رجّحه ، ويعتمدون على احتجاجاته ، ويرون أنّ ما اختاره أقوى من سائر الأقوال والاحتمالات ، كما هو الحال لنا بالنسبة إلى بعض مشايخنا ممّن نرى له قدما

٤٦٢

راسخا في الفنّ ، وخبرة تامّة في طرق الاستدلال وفهم الأخبار وتطبيق الأحكام على القواعد وتفريع الفروع على الاصول وأين ذلك من التقليد؟

ألا ترى أنّ المهرة في الفنّ لا يتجرّون على مخالفة المشهور إلّا مع باعث قويّ ودليل ظاهر يصرفهم عنه؟! ولا زالوا يحرصون على موافقة المشهور وتحصيل دليل يوافقه ويأخذون به ولو كان الدالّ على غيره أقوى في نفسه ، وذلك لأنّ الاعتضاد بالشهرة يجعل المرجوح أقوى من الراجح الدالّ على خلافه ، ولا يعدّ ذلك تقليدا للأكثر وأخذا بقول الجماعة ولا حكما بحجّية الشهرة ، وذلك أمر ظاهر لا مرية فيه ، بل ذلك طريقة جارية في سائر الفنون ، فإنّ مخالفة الأئمّة في كلّ صناعة ممّا لا يقع من أرباب الخبرة والمهارة إلّا مع باعث قويّ وحجّة واضحة تقودهم إليها ، والظاهر أنّ ذلك هو المنشأ في وهم الحمصي ، وهو من المقاربين لعصر الشيخ رحمه‌الله ، ومقصوده ممّن ذكره هو من ذكرناهم من تلامذته وتلامذة تلامذته ـ مثلا ـ إلى أن نشأ الفاضل ابن إدريس وبنى على مخالفة الشيخ رحمه‌الله والمناقشة معه في الأدلّة. فظهر أنّ ما ذكر من كون الشهرة المتأخّرة عن الشيخ رحمه‌الله ناشئة عن تقليده في كمال الوهن والقصور.

ولو سلّم ذلك في الجملة فغاية الأمر أن يتمّ بالنسبة إلى الشهرة الحاصلة ما بين زماني الشيخ وابن إدريس ، بل الظاهر أنّ الحمصي لم يدّع زيادة عليه ، إذ لا مجال لادّعائه ، فإنّ عدم متابعة الحلّي ومن تأخّر عنه للشيخ رحمه‌الله من الامور الواضحة لمن له أدنى خبرة.

فغاية الأمر أن لا يعتمد على تلك الشهرة المخصوصة فلو سلّم وجود شهرة كذلك يتمّ الإشكال بالنسبة إليها ومعظم الشهرات الحاصلة عندنا غير مأخوذة من خصوص فتاوى تلك الجماعة.

غاية الأمر أن ينضمّ في بعض المقامات فتاواهم إلى فتاوى غيرهم ممّن تقدّمهم أو تأخّر عنهم ويلحظ الشهرة من اتّفاق الجميع ، ولا يجري فيه الإشكال المذكور بوجه ، وذلك أمر واضح غنيّ عن البيان.

* * *

٤٦٣

ـ أصل ـ

قد وقع الخلاف في جواز الاكتفاء بالخبر الضعيف مع عدم انجباره بالعمل ونحوه ممّا يفيد حجّيته في السنن والآداب.

فالمعروف بين المتأخّرين التسامح في أدلّتها والاكتفاء بثبوتها بما يدلّ عليها ولو من طريق ضعيف ، والظاهر أنّ ذلك هو الطريقة الجارية بين القدماء أيضا حيث يكتفون في الدعوات الواردة والزيارات والصلوات المندوبات وغيرها من المستحبّات بما دلّ عليها من الروايات ، والغالب ضعف الأخبار الواردة في تلك المقامات ، ويومئ إليه ما يظهر من جماعة من اتّفاق الأصحاب عليه كما سنشير إليه. وقد جرى عليه الطريقة بين المتأخّرين في العمل.

وخالف فيه جماعة منهم : السيّد في المدارك والفاضل الجزائري وصاحب الحدائق فقالوا بعدم الفرق في ذلك بين الأحكام وأنّه لابدّ في جميعها من قيام الحجّة المعتبرة على ثبوتها حتّى يجوز الحكم بها.

حجّة القول الأوّل وجهان :

أحدهما

الأخبار المستفيضة الواردة في ذلك

وهي مرويّة من طرق الخاصّة والعامّة.

فمنها : صحيحة هشام بن سالم المرويّة في الكافي عن الصادق عليه‌السلام : من سمع

٤٦٤

شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه.

ورواه ابن طاووس في الإقبال عن أصل هشام عن الصادق عليه‌السلام وفي المحاسن بإسناده الصحيح عن هشام عنه عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله.

وروى الصدوق رحمه‌الله في ثواب الأعمال عن أبيه ، عن عليّ بن موسى ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم ، عن هشام ، عن صفوان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك ، وإن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله» وليس في الإسناد من يتأمّل في شأنه سوى عليّ بن موسى ، والظاهر أنّه الكمنداني الّذي هو أحد رجال عدّة ابن عيسى المذكور في الكافي ولم يصرّحوا بتوثيقه ، إلّا أنّ الظاهر أنّه من المشايخ المعروفين.

وفي رواية الأجلّاء كالكليني وعليّ بن بابويه رحمهما‌الله عنه إشارة إلى جلالته فالظاهر عدّ خبره قويّا ، بل الظاهر أنّه لا مانع من قبول الرواية من جهته ، ولا يقضي رواية هشام لهذا الخبر هنا بالواسطة وهناك من دون واسطة وهنا في الرواية ، إذ لا بعد في وقوع الأمرين سيّما مع اختلاف اللفظين.

وروى الكليني رحمه‌الله أيضا بإسناده إلى محمّد بن مروان قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول: من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (١).

وروى البرقي في المحاسن باسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله (٢).

وروى ابن فهد في عدّة الداعي عن الصدوق رحمه‌الله أنّه روى عن محمّد بن يعقوب بطرقه الى الأئمّة عليهم‌السلام : «أنّه من بلغه شيء من الخبر فعمل به كان له من

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٨٧ باب من بلغه ثواب من الله على عمل ح ٢.

(٢) المحاسن : ص ٢٥ باب من بلغه ثواب شيء فعمل به طلبا لذلك الثواب ح ١.

٤٦٥

الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه» (١).

وروى السيّد في الإقبال مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه (٢).

قال العلّامة المجلسي في البحار بعد ذكر صحيحة هشام بن سالم المرويّة في المحاسن : هذا الخبر من المشهورات ، رواه الخاصّة والعامّة بأسانيد (٣).

قلت : فهي مع استفاضتها واعتضاد بعضها بالبعض وذكرها في الكتب المعتمدة لا مجال للتأمّل في أسنادها ونفى بعض المتأخّرين البعد عن عدّها من المتواترات مضافا إلى صحّة عدّة من طرقها بحسب الاصطلاح أيضا ، واعتضادها بعمل الأصحاب وتلقّيهم لها بالقبول كما هو ظاهر من ملاحظة الطريقة الجارية ، بل يظهر من جماعة اتّفاق الأصحاب على ذلك وانعقاد الإجماع عليه فقال الشهيد رحمه‌الله في الذكرى : أنّ أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم.

وفي عدّة الداعي بعد ذكر عدّة من الأخبار المذكورة : فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين (٤).

وقال شيخنا البهائي رحمه‌الله بعد الإشارة إلى بعض ما مرّ من الأخبار : وهذا هو سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن (٥).

وقال أيضا في موضع آخر : قد شاع العمل بالضعاف في أدلّة السنن وإن اشتدّ ضعفها ولم ينجبر ، ثمّ قال : وأمّا نحن معاشر الخاصّة فالعمل عندنا ليس في الحقيقة ، بل بحسبه مع من سمع ... إلى آخره (٦). وهي ما تفرّدنا بروايته. وقال الشيخ الحرّ بعد ذكر جملة من الأخبار : هذه الاحاديث سبب تسامح الأصحاب

__________________

(١) عدة الداعي : ص ٩.

(٢) إقبال الاعمال : ص ٦٢٧.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢ ص ٢٥٦ باب ٣٠ من بلغه ثواب من الله على عمل فأتى ذيل حديث ٣.

(٤) عدّة الداعي ص ١٣.

(٥) الأربعين ص ٣٨٩.

(٦) والعبارة في الأربعين هكذا : لأنّ حكمهم باستحباب تلك الأعمال وترتّب الثواب عليها ليس مستندا في الحقيقة إلى تلك الأحاديث الضعيفة ، بل إلى هذا الحديث الحسن المشتهر المعتضد بغيره من الأحاديث.

٤٦٦

وغيرهم في الاستدلال على الاستحباب والكراهة بعد ثبوت أصل المشروعيّة.

وقد نصّ جماعة من المحقّقين إلى اشتهار ذلك بين الأصحاب قال الشهيد الثاني قدس‌سره: جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال إلّا في صفات الله وأحكام الحلال والحرام ، وهو حسن حيث لا يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاق ، لما اشتهر بين العلماء المحقّقين عن التساهل في أدلّة السنن ، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخبر.

وقال المحقّق الخوانساري : قد اشتهر بين العلماء أنّ الاستحباب إنّما يكتفى فيه بالأدلّة الضعيفة و... (١) بعد ذلك لكن اشتهار العمل بهذه الطريقة بين الأصحاب من غير نكير ظاهر (٢) بل هي في الغاية يجري النفس ويستحقّها عليه لعلّ الله تعالى يقبل عذره.

وقد اورد عليه بوجوه :

أحدها : أنّ هذه المسألة من اصول المسائل الاصوليّة ـ حيث يثبت بها مدرك في الشريعة لركن من الأحكام الشرعيّة ـ فلا يكتفى في مثلها بمجرّد المظنّة ، حسب ما تقرّر عندهم من عدم الاكتفاء بالظنّ في المسائل الاصوليّة يريدون به أمثال هذه المسألة.

ويدفعه أوّلا : منع اشتراط القطع في مسائل اصول الفقه ، والمقصود ممّا ذكروه مسائل اصول الدين ، كيف؟ ومبنى أدلّتهم في مسائل الاصول على الظنّ كمسائل الفقه. غاية الأمر اعتبار انتهاء الظنّ فيها إلى اليقين ، وهو معتبر في الفقه أيضا.

نعم انتهاء المسائل الفقهيّة إلى القطع إنّما يكون في علم الاصول. وأمّا المسائل الاصوليّة فهي إنّما تنتهي إلى القطع في ذلك الفنّ دون غيره ، فلابدّ أن يكون في جملة مسائلها مسألة قطعيّة يكون الاتّكال في الظنون المتعلّقة بسائر المسائل عليها ، وعلى فرض أن يراد بالكلام المذكور هنا ما يشمل مسائل اصول الفقه فكان المراد به هو هذا المعنى ، فعنوا باعتبار القطع في الاصول أنّه يعتبر بلوغ

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) مشارق الشموس ص ٣٤.

٤٦٧

مسائلها الى حدّ القطع في ذلك الفنّ بخلاف مسائل الفقه ، فإنّها ظنّية في فنّ الفقه وإنّما ينتهي إلى القطع في فنّ آخر.

وثانيا : أنّ الأخبار المذكورة مشهورة بين الأصحاب بل مرويّة من طريقين : العامّة والخاصّة ، معروفة عند الفريقين قد تلقّاها معظم الأصحاب بالقبول مع اعتضاد بعضها بالبعض وتكرّرها في الكتب المعتمدة ، فلا تأمّل في حجّية مثلها ولو عند القائل بعدم حجّية الآحاد ، فإنّه يعدّ مثل ذلك من المتواتر ـ كما ادّعي في المقام ـ أو من المحفوف بقرائن القطع ، كيف؟ ولو لا البناء على حجّية مثلها لسقط اعتبار الأخبار بالمرّة ، وفيه هدم للشريعة. كذا يستفاد من كلام بعض الأفاضل ، وفيه تأمّل ، إذ ليس ذلك جوابا غير الأوّل، إذ أقصى ما يستفاد من ذلك حجّية مثل الأخبار الظنّية المفروضة في الفروع ، وأمّا حجّيتها في الاصول فمبنيّ على عدم (١) منع المقدّمة المذكورة. نعم إن ثبت قطعيّة الأخبار المذكورة كان ذلك جوابا آخر.

وثالثا : أنّا لا نقول بحجّية الأخبار الضعيفة في إثبات الآداب والسنن الشرعيّة ، بل نقول بكونها قاضية باستحباب الفعل من الجهة المفروضة ، سواء كان ذلك الخبر صدقا بحسب الواقع أو كذبا ، فهو حكم واقعي ثابت للفعل من تلك الجهة قد دلّت عليه الأخبار المذكورة.

كيف! ولو قلنا بحجّية الروايات الضعيفة في إثبات الأحكام المفروضة لكانت تلك الروايات أدلّة على الواقع ، فإن وافقت الواقع كان الحكم ثابتا بحسب الواقع وإلّا فلا ، كما هو الحال في غيرها من الأدلّة الظنّية ، وليس الحال هنا كذلك ، إذ نقول حينئذ بثبوت الحكم بحسب الواقع وإن لم يطابق الواقع ، كما هو مقتضى الأخبار المذكورة.

وحينئذ نقول : إنّ القول بحصول الرجحان في الفعل من جهة بلوغ الخبر المفروض حكم شرعي ندبي كسائر الأحكام الشرعيّة ، فهي جهة مرجّحة للفعل على نحو سائر الجهات المرجّحة للأفعال ، فكما أنّه لا مانع من الرجوع فيها ،

__________________

(١) ليس في «ق».

٤٦٨

بل وفي ما هو أهمّ منها ـ من الأحكام الوجوبيّة والتحريميّة ـ إلى الأدلّة الظنّية فكذا بالنسبة إليها ، بل الأمر فيها أسهل جدا.

وربّما يجاب أيضا : بأنّه لا يترتّب على حجّية الأخبار المفروضة مفسدة حتّى يلزم هناك باعتبار القطع ، إذ أقصى الأمر الوقوع في ما لا حرج فيه ولا رجحان.

وفيه : أنّ الحكم والإفتاء من غير دليل معتبر في الشريعة من الامور المحرّمة ، بل من جملة الكبائر ، فكيف يقال بالأمن عن الوقوع في الحرام في هذا المقام؟

نعم إن لم يلحظ الخصوصيّة في العمل اتّجه ذلك إلّا أنّه خلاف المقصود ، فإنّهم أرادوا ثبوت الاستحباب في المقام من جهة ورود الخبر الضعيف.

ثانيها : أنّ مفاد الأخبار المذكورة أخصّ من المدّعى ، لاختصاصها بصورة ورود الثواب على العمل ، فلو دلّ على رجحان الفعل من دون بيان ثوابه كما هو الغالب كان خارجا عن مورد الأخبار المذكورة.

واجيب عنه : بأنّ ما دلّ على رجحان الفعل يدلّ على ترتّب الثواب عليه بالالتزام ، وهو كاف في اندراجه تحت الأخبار المذكورة. وتنظّر فيه بعض الأجلّة ، وهو في محلّه ، إذ مجرد الدلالة الالتزاميّة لا يكفي في اندراجها في الأخبار المذكورة ، إذ ظاهرها ذكر الثواب صريحا على العمل.

نعم يمكن إتمام الكلام حينئذ بالقطع بالمناط ، إذ ليس لخصوص التصريح بالثواب مدخل فيه بعد كونه مفهوما من الكلام ولو بالالتزام ، مضافا إلى عدم القول بالفصل ، والطريقة الجارية في العمل على أنّ صحيحة البرقي يعمّ ذلك ، بناء على حمل الثواب فيها على العمل الّذي فيه الثواب إطلاقا للمسبّب على السبب كما هو ظاهر الضمير الراجع إليه ، ويقضي به زيادة لفظ «الأجر» في قوله : كان أجر ذلك له ، وإلّا كان ينبغي أن يقال كان ذلك له ، فيعمّ حينئذ ما ذكر فيه الثواب صريحا أو التزاما.

وفي مرسلة الإقبال دلالة عليه أيضا ، وكذا في مرسلة العدّة في وجه.

ثالثها : أنّ هذه الروايات إنّما دلّت على ترتّب الثواب على العمل ، وذلك لا يقتضي تعلّق الطلب من الشرع لا وجوبا ولا استحبابا كما هو المدّعى.

٤٦٩

ويدفعه : أنّ حكم الشارع بترتّب الثواب على عمل يساوق الحكم برجحانه ، إذ لا ثواب على غير الواجب والمندوب كيف ومن البيّن أنّه لو حكم الشارع ثبوت ثواب على عمل مخصوص ـ كما ورد في كثير من الأخبار ـ دلّ ذلك على استحباب ذلك العمل من غير إشكال ، فكيف لا يحكم به مع حكمه به على سبيل الكلّية كما في المقام.

قال صاحب الحدائق في بيان الإيراد أنّ غاية ما تضمّنته تلك الأخبار هو ترتّب الثواب على العمل ، ومجرّد هذا لا يستلزم أمر الشارع وطلبه لذلك ، فلابدّ أن يكون هناك دليل آخر على طلب الفعل والأمر به ليترتّب عليه الثواب بهذه الأخبار. قال : وهذا الكلام جيّد وجيه لا مجال لإنكاره ، فقول المجيب : «إنّ ترتّب الثواب على عمل يساوق رجحانه ... إلى آخره» كلام قشريّ لا معنى له عند التأمّل الصادق ، لأنّ العبادات توقيفيّة من الشارع واجبة كانت أو مستحبّة ، فلابدّ لها من دليل صريح ونصّ صحيح يدلّ على مشروعيّتها ، وهذه الأخبار لا دلالة فيها على الثبوت والأمر بذلك ، وإنّما غايتها ما ذكرناه انتهى.

ولا يخفى ضعفه ، إذ بعد تسليم دلالة الأخبار المذكورة على حكم الشارع بترتّب الثواب على العمل الّذي روي فيه الثواب كيف يعقل التأمّل في حكم الشرع برجحان ذلك الفعل من الجهة المفروضة؟ وكيف يحتمل انفكاك الحكم بالرجحان عن الحكم بترتّب الثواب، وليس معنى الراجح في الشرع إلّا ما ترتّب الثواب على فعله ، فقوله «إنّ مجرّد ذلك لا يستلزم أمر الشارع وطلبه» من الغرائب ، وتعليله ذلك «بأنّ العبادات توقيفيّة من الشارع واجبة كانت أو مستحبّة» ممّا لا ربط له بذلك ، فإنّ المفروض حصول التوقيف من الشارع، لورود الأخبار المذكورة الدالّة على حصول الرجحان من الجهة المفروضة ، وكأنّه أشار بذلك إلى ما استدلّوا به على المنع من الأخبار الدالّة على توقيفيّة أحكام الشريعة ، وأنّه لابدّ فيها من الرجوع إلى الكتاب والسنّة فإنّها تعمّ جميع الأحكام الشرعيّة ، فأراد بذلك معارضتها بالأخبار المذكورة ، وستعرف ما فيه.

٤٧٠

نعم قد يقال في المقام : إنّ مفاد هذه الأخبار أنّ من بلغه ثواب مخصوص على عمل من أعمال الخير فعمل ذلك طلبا لنيل ذلك الثواب أعطاه الله سبحانه ذلك وإن لم يكن على ما بلغه ، فليس المقصود الحكم برجحان الفعل المفروض ، ولا ترتّب الثواب عليه مطلقا ، بل لابدّ من ثبوت كونه خيرا أو راجحا من الأدلّة الخارجيّة حتّى يترتّب عليه ذلك الثواب الخاصّ بمقتضى هذه الأدلّة ، فليس المقصود بهذه الأخبار بيان مشروعيّة العمل بمجرّد ورود الرواية الضعيفة ، بل المراد ترتّب الثواب المخصوص على العمل المشروع من جهة وروده في الخبر وبلوغه إليه ، كما إذا ورد ثواب مخصوص لصلاة الليل أو زيارة مولانا الحسين عليه‌السلام مع ثبوت المشروعيّة لقيام الضرورة ، فمشروعيّة العمل يتوقّف على طريقها المقرّر في الشريعة ، ولا يتوقّف ترتّب الثواب الخاصّ بعد ثبوت المشروعيّة وكون ما يأتي به خيرا وعملا شرعيّا حسب ما يستفاد منها حيث علّق الحكم على ذلك وهو إيراد رابع في المقام ، وقد يحمل عليه كلام صاحب الحدائق وإن لم يوافق ظاهر عبارته.

ويدفعه : أنّه وإن لم يدلّ ذلك إذن على ثبوت استحباب أصل الفعل بالخبر المفروض لكنّه يفيد استحباب الخصوصيّة ورجحانها فيما إذا ذكر الأجر على الخصوصيّة ، وهو أيضا حكم شرعيّ ، كما إذا ورد صلاة ركعتين في ليلة مخصوصة وذكر له فضيلة عظيمة أو قراءة سورة معيّنة في ليلة ونحو ذلك ، فإنّ هذه الصورة مندرجة في الأخبار المذكورة قطعا ، فيثبت بها مشروعيّة الخصوصيّة واستحبابها ، فيثبت بها المدّعى في الجملة ، على أنّه لم يعتبر في تلك الأخبار كون الثواب على الخبر إلّا في رواية الصدوق ، والأخبار الباقية خالية عنه ، فبعضها مطلق كصحيحة المحاسن وفي بعضها اضيف الثواب إلى العمل والشيء ، ومن الظاهر شمولها لكلّ الأفعال. والبناء على حمل المطلق على المقيّد ممّا لا وجه له في المقام ، إذ لا معارضة بين الحكمين.

غاية الأمر أن يثبت ببعض تلك الأخبار ما هو أخصّ ممّا يثبت بالباقي ، وهو ظاهر.

٤٧١

خامسها : أنّ الثواب الوارد في الأخبار المذكورة مطلق ، وكما أنّ الثواب يثبت للمندوب يثبت للواجب أيضا ، فلم خصّوا الحكم بالمندوب ولم يجروه بالنسبة إلى الواجبات مع أنّ مفاد الأخبار المذكورة أعمّ منه لحصول الثواب على كلّ من الأمرين ، وإطلاق لفظ العمل ونحوه ممّا ورد في تلك الأخبار.

وجوابه ظاهر ، إذ ليس مفاد تلك الروايات لزوم الأخذ بما دلّ عليه الخبر من الحكم ، بل مقتضاها الحكم بترتّب الثواب على الفعل المذكور ، وذلك إنّما يفيد رجحان ذلك الفعل لا وجوبه ، إذ ليس فيها ما يدلّ على ترتّب العقاب على تركه ، فإن دلّ الخبر على الأمرين بني عليه في الحكم بترتّب الثواب من جهة ظاهر هذه الأخبار دون ترتّب العقاب على تركه ، لانتفاء ما يدلّ عليه ، وعدم نهوضها حجّة في نفسها ولا ملازمة بين الأمرين ، مضافا إلى ما عرفت من صراحة سياق هذه الروايات في إرادة الاستحباب مع عدم ثبوت الوجوب من الخارج ، فكيف يمكن إجراؤها في وجوب ما دلّ الخبر المفروض على وجوبه ، مع إطلاق الأخبار المذكورة بالنسبة إلى الواجب والمندوب يكون مقتضاها استحباب الإتيان بما دلّ الأخبار على وجوبه أيضا ، ولا مانع منه مع عدم نهوض ما دلّ على الوجوب على إثباته.

فإن قلت : إنّ مفاد هذه الروايات ترتّب الثواب الّذي بلغه على الفعل المفروض سواء كان ذلك الفعل ممّا ثبت وجوبه ـ كما إذا بلغه ثواب على أداء الصلاة اليوميّة ، أو صيام شهر رمضان ـ أو كان ممّا ثبت ندبه ـ كصلاة الليل ـ أو كان دائرا بين الوجوب والندب ، أو دائرا بين الإباحة والاستحباب ، ودلّ الخبر المفروض على وجوبه أو ندبه ، إلى غير ذلك. وحينئذ كيف يقال بدلالة تلك الأخبار على استحباب الإتيان بذلك الفعل وكونه مطلوبا على وجه الندب؟

قلت : لا نقول بصراحة الأخبار المذكورة في استحباب الإتيان بما ورد الثواب فيه حتّى يزاحم ما دلّ على وجوب ذلك الفعل فلا يصحّ اجراؤها في جميع الصور المذكورة ، بل نقول: إنّه لا دلالة فيها على وجوب الإتيان بذلك الفعل الّذي

٤٧٢

ورد الثواب فيه بوجه من الوجوه ، إذ مفادها ترتّب الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، فإن ثبت وجوب ذلك الفعل من الخارج فلا كلام ، إذ لا دلالة في هذه الأخبار على خلافه.

غاية الأمر أنّه يحكم بترتّب الثواب الخاصّ عليه إذا اتي به رجاء ذلك الثواب ، وإن لم يثبت كان قضيّة الأخبار المذكورة حينئذ استحبابه حسب ما يفيده سياقها ، نظرا إلى إفادتها كون تلك الجهة مرجّحة للفعل ترجيحا غير مانع من النقيض ، فلا تزاحم ما دلّ على ثبوت جهة اخرى مانعة من النقيض ، إلّا أنّه مع عدم ثبوتها يتعيّن الندب بمقتضى تلك الأخبار ، مضافا إلى قضاء الأصل أيضا حينئذ بالندب ، لعدم دلالة تلك الأخبار على الوجوب أصلا كما عرفت ، وعدم نهوض دليل آخر على الوجوب.

ومن غريب الكلام! ما اتّفق لصاحب الحدائق في المقام حيث إنّه حكى الإيراد المذكور عن بعض الفضلاء والجواب المتقدّم عن بعض مشايخه.

ثمّ أورد على المجيب بأنّ مراد المورد ـ كما هو ظاهر سياق كلامه ـ أنّه لو اقتضى ترتّب الثواب الوارد في هذه الأخبار طلب الشارع لذلك الفعل لكان الواجب عليهم الاستناد إلى هذه الأخبار في وجوب ما تضمّن الخبر الضعيف وجوبه كما جروا عليه بالنسبة إلى ما تضمّن الخبر الضعيف استحبابه ، مع أنّهم لم يجروا هذا الكلام في الواجب.

وحاصل الكلام الإلزام لهم بأنّه لا يخلو إمّا أن يقولوا : إنّ ترتّب الثواب في هذه الأخبار يقتضي الطلب والأمر بالفعل أم لا؟

فعلى الأوّل يلزمهم ذلك في جانب الوجوب كما التزموه في جانب الاستحباب ، مع أنّهم لا يلتزمونه.

وعلى الثاني لابدّ من دليل آخر يقتضي ذلك ويدلّ عليه. انتهى بعبارته.

وأنت خبير بوهن ما ذكره ، وعدم ترتّب فائدة على تقرير الإيراد على النحو الّذي قرّره ، إذ نقول : إنّ ترتّب الثواب الوارد في هذه الأخبار يقتضي رجحان

٤٧٣

الإتيان بذلك الفعل. وهذا كما ذكرنا إنّما يفيد استحباب ذلك الفعل لا وجوبه حتّى يلزمهم الالتزام بالوجوب في ما دلّ عليه ، بل قضيّة ذلك استحباب ما دلّ الخبر الضعيف على وجوبه أيضا.

نعم لو دلّت هذه الأخبار على وجوب الحكم بمقتضى الخبر الوارد في الثواب قد يتّجه ما ذكره ، لكن ليس فيهما ايماء بذلك أصلا ، وهو واضح.

فان قلت : إنّ مفاد الأخبار المذكورة يعمّ ما إذا كان البلوغ بطريق معتبر وغير معتبر ، ولا يختصّ بالأخير حتّى يقال حينئذ باستحباب ما دلّ على وجوبه ، فلو كان البلوغ على الوجه المعتبر كان ما دلّ على وجوبه واجبا ، وما دلّ على ندبه مندوبا قطعا ، فإذا فرض اعتبار البلوغ الغير المعتبر نظرا إلى اعتبار الأخبار المذكورة فينبغي أن لا يختلف الحال في الصورتين ، فكيف يقال بالتفكيك بين الأمرين؟!

قلت : ثبوت الوجوب والاستحباب في الصورة الاولى إنّما هو من جهة اعتبار الدليل الدالّ عليه ولا ربط له بمؤدّى هذه الأخبار ، فإنّ مقتضاها ثبوت الرجحان لمجرّد البلوغ مع قطع النظر عن كونه بالطريق المعتبر ، فهذا الوجه إنّما يفيد رجحان الإتيان بالفعل من الجهة المذكورة مطلقا أو رجحانا غير مانع من النقيض ، وذلك لا ينافي حصول الرجحان المانع من جهة اخرى.

فمحصل ما يستفاد من الأخبار المذكورة : أنّ مجرّد بلوغ الخبر إليه قاض برجحان ذلك الفعل على أحد الوجهين المذكورين ، من غير أن يستفاد منها وجوب ذلك الفعل بوجه من الوجوه ، فإن دلّ دليل شرعي على الوجوب فذاك ، وإلّا فليس المستفاد من تلك الأخبار إلّا الندب.

وما قد يقال : من أنّ مقتضى الروايات المذكورة ترتّب ثواب الواجب فيما إذا روي وجوبه وثواب المندوب فيما إذا روي ندبه ـ فكما يقال بدلالة الحكم بترتّب ثواب المندوب في ما روي ندبه فكذا ينبغي القول بدليليّته بالنسبة إلى ما روي وجوبه ـ فاسد ، إذ الفرق بين الواجب والمندوب إنّما هو في ترتّب العقاب على

٤٧٤

الترك لا في مقدار الثواب ، إذ قد يكون الثواب المترتّب على المندوب أكثر من الواجب ـ حسب ما قيل في ثواب الابتداء بالسلام وثواب ردّه ـ على أنّه لا مانع من القول بالتزام ترتّب ثواب الواجب في المقام من باب التفضّل ، نظرا إلى الجهة المذكورة وإن قلنا بنقصان ثواب المندوب من الواجب في أصله.

سادسها : أنّ الآية الشريفة الدالّة على ردّ خبر الفاسق أخصّ من هذه الأخبار لدلالتها على ردّ خبر الفاسق ، سواء كان ممّا تعلّق بالسنن أو غيرها ، وهذه الروايات قد اشتملت على ترتّب الثواب المذكور على العمل ، سواء كان المخبر به عادلا أو فاسقا ، ولا ريب أنّ الأوّل أخصّ من الثاني فيجب حمل تلك الأخبار على غير تلك الصورة حملا للمطلق على المقيّد ، كما هو مقتضى القاعدة ، كذا قيل.

وفيه : أنّ المعارضة بينهما من قبيل العموم من وجه ، لوضوح عدم دلالة هذه الأخبار على قبول الخبر مطلقا ليكون ما دلّ على ردّ خبر الفاسق مقيّدا لها ، بل إنّما دلّت على قبول الخبر في ترتّب الثواب على العمل من دون دلالة على ما يزيد على ذلك أصلا.

وحينئذ نقول : إنّ قضيّة هذه الأخبار قبول مطلق الخبر المشتمل على ترتّب الثواب ، سواء كان راويه عادلا أو فاسقا ، وقضيّة ظاهر الآية ردّ خبر الفاسق مطلقا سواء دلّ على ترتّب الثواب على العمل أو غير ذلك.

ومن الواضح : أنّ النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه ، ومن العجب إصرار صاحب الحدائق رحمه‌الله في المقام على كون التعارض بينهما من قبيل العموم المطلق ، مع أنّه في غاية الوضوح من الفساد.

قال رحمه‌الله في بيان ذلك : إنّ الأخبار دلّت على ترتّب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم عليه‌السلام سواء كان المخبر عدلا أم لا ، طابق خبره الواقع أم لا ، من الواجبات كان أم من المستحبّات ، ومورد الآية خبر الفاسق تعلّق بالسنن أو بغيرها. ولا ريب أنّ هذا العموم أخصّ من ذلك العموم مطلقا لا من وجه.

وضعفه ظاهر بما عرفت ، كيف! ولو تعلّق خبر الفاسق بترتّب عقاب على عمل

٤٧٥

وغير ذلك من الامور الّتي لا يقتضي ترتّب الثواب على العمل كان مندرجا في الآية قطعا ولا إشعار في هذه الأخبار بقبوله فكيف يعقل القول بكون المعارضة بينهما من قبيل العموم المطلق؟!

فإن قلت : تسليم كون المعارضة بينهما من قبيل العموم من وجه كاف في سقوط الاحتجاج المذكور ، إذ لابدّ إذن من الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، ولا ريب أنّ الأصل ومقطوعيّة المتن مرجّحان للعمل بالآية الشريفة ، سيّما بملاحظة ما ورد من عرض الأخبار على الكتاب.

قلت : دلالة الأخبار المذكورة أوضح وأبين في جواز العمل بخبر الفاسق في ذلك من دلالة الآية على المنع ، سيّما بملاحظة ما حكم فيها من جريان الحكم ولو على فرض كذب الخبر ، فيقدّم على إطلاق الآية.

واجيب عنه أيضا : بأنّ مفاد الآية الشريفة عدم جواز العمل بقول الفاسق من دون تثبّت ، والعمل في ما نحن فيه ليس كذلك ، لورود تلك المعتبرة بجواز العمل بها ، فيكون ذلك تثبّتا في خبر الفاسق وعملا به بعد التثبّت. كذا ذكره غير واحد من الأجلّاء.

أقول : يرد عليه : أنّ التبيّن المأمور به في الآية هو التجسّس من صدق الخبر وكذبه ، وهو غير حاصل بهذه الأخبار ، إذ مفاد هذه الروايات هو العمل بمضمونها وإن لم يطابق الواقع من دون حاجة إلى التعيين والتثبّت ، فمفادها مناف لما دلّت عليه الآية الشريفة في الجملة ، فإن كانت أخصّ منها عملنا بها وخصّصنا الآية من جهتها ، لكنّها كما عرفت أعمّ من وجه حسب ما ذكره المورد.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّه ليس حكمنا باستحباب ما دلّ خبر الفاسق على ترتّب الثواب عليه عملا بقول الفاسق ليجب ردّه قبل التبيّن ، وإنّما هو من جهة العمل بهذه الأخبار المعتبرة الحاكمة به ، فيكون مجيء الفاسق بالخبر محصّلا لموضوع الحكم الثابت بهذه الأخبار من دون أن يكون هناك اتّكال على الفاسق أصلا حسب ما قدّمنا الإشارة إليه.

٤٧٦

وبالجملة : أنّ الشارع قد طلب منّا الإتيان بما بلغنا فيه ثواب وحكم بترتّب ذلك الثواب عليه وإن لم يكن الحال على ما بلغنا وقد دلّت هذه المعتبرة على صدور ذلك التكليف من الشرع ، فالحكم بالرجحان في ما نحن فيه من جهة هذه الأخبار دون خبر الفاسق. ولذا يثبت الرجحان وإن كان المخبر كاذبا كما هو قضيّة هذه الروايات ، فيكون بلوغ الثواب على الوجه المذكور سببا لترتّب الثواب على الفعل لا كاشفا عن حصوله في الواقع ومبيّنا له كما هو شأن الدليل ليكون الاعتماد فيه على الفاسق ، فليس مدلول هذه الأخبار تصديق الفاسق في ما أخبر به من حكاية الثواب فيه عن المعصوم ، وإنّما دلّت على الحكم بترتّب الثواب واقعا بسبب بلوغ الخبر إلى العامل ، ورجحان الفعل بالنسبة إليه ، وليس في ذلك عمل بقول الفاسق أصلا.

وبهذا التقرير يظهر أن لا معارضة بين هذه الروايات والآية الشريفة رأسا ليفتقر إلى بيان طريق الجمع ، فما ذكرناه أوّلا من كون المعارضة من قبيل العموم من وجه كان مماشاة مع المورد.

ومن ذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأجلّاء ـ وهو إيراد سابع في المقام ـ من أنّ الأحاديث المطلقة تحمل عندهم على الأخبار المقيّدة ، وتعرض مع هذا على الكتاب فما لم يوافقه منها يضرب به عرض الحائط ، مع أنّه يجب إطراحها أو تأويلها إذا خالفت السنّة المقطوع بها ، والامور الثلاثة حاصلة في المقام.

أمّا الأخبار المقيّدة فهي ما دلّت على النهي البليغ عن أخذ العلوم كلّها إلّا عن العالم الربّاني ، وأنّه لا يؤخذ شيء من العلم من جماهير المخالفين وأنّ الرشد في خلافهم ، وكتاب اصول الكافي مشحون بمثل هذه الأخبار ، وأمّا الكتاب فقوله عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ...) الآية (١) ولا شك أنّ الأحكام المستحبّة والمكروهة من أعظم الأخبار ، لأنّها أحكام إلهيّة.

وأمّا السنّة القطعيّة فظاهرة من قطع الأصحاب ، لنصّ الأخبار على ردّ شهادة

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

٤٧٧

الفاسق والتوقّف عند إخباره ، إلّا في موارد نادرة ليس هذا منها. وحينئذ فيجب علينا أن نقول : لهذه الأخبار معنى صحيحا ، وهو أنّ معنى «من بلغه ثواب من الله» البلوغ والسماع المعتبرين عند الشرع الأقدس ، وهو أن يكون سماعا ممّن يفيد قوله الظنّ وإن لم يفد العلم ، انتهى.

إذ ليس (١) عندنا في الأخبار ما هو أخصّ من هذه الأخبار ليحمل هذه عليها ، وما ذكره من الأخبار الدالّة على المنع من أخذ العلم ، إلّا عن العالم الربّاني فلا دخل له بالمقام ، إذ لا يعتبر ذلك في الأخذ عن الراوي قطعا ، ويحتمل أن يراد بذلك الإمام عليه‌السلام.

فالمراد به الأخذ عنهم عليهم‌السلام ولو بالواسطة لا عن مخالفيهم ، أو المراد به الأخذ على سبيل التقليد والتعلّم من غير أن يكون هو عالما مستنبطا ، ولو سلّم كون المراد به الراوي فالحال فيها كالآية الشريفة ويجري فيها ما عرفت في بيان الحال في مفاد الآية. وأمّا ما دلّ على المنع من الرجوع إلى كتب المخالفين فبالالتزام به أخذا بتلك الأدلّة المعتضدة بإعراض الأصحاب عن الرجوع إلى كتبهم وأخبارهم الموجودة عندهم حسب ما يأتي الإشارة إليه ، ولا يقضي ذلك بعدم الرجوع إلى سائر الأخبار الضعيفة.

وأمّا الكتاب فقد عرفت الحال فيه.

وأمّا السنّة المقطوعة فإن أراد بها الأخبار المرويّة فقد عرفت الحال فيها وهو عين ما ادّعاه أوّلا من وجود الأخبار المقيّدة وإن أراد بها الطريقة المعلومة من الشرع المأخوذ من الروايات المقرّرة عند الأصحاب من ردّ قول الفاسق ، فإن أراد به قيامها في خصوص المقام فهو في محلّ المنع ، بل القول بعكسه أولى حسب ما ادّعاه أوّلا من عمل الأصحاب بالأخبار الضعيفة في السنن والمكروهات ، وإن أراد ردّها في الشهادات ونحوها فهو حقّ ولا دخل له بالمقام ، مضافا إلى ما عرفت من الإلزام به والقول بأنّ الرجوع إليه في المقام ليس رجوعا إلى قول

__________________

(١) تعليل لقوله : يظهر ضعف ما أورده.

٤٧٨

الفاسق وإنّما ذلك أخذ بهذه الروايات المعتبرة على ما فصّلنا القول فيه ، وما ذكره في حمل الأخبار فهو تقييد بعيد عن ظواهرها من دون قيام دليل عليه بل لا يلائم سياقها كما عرفت الحال فيها.

الوجه الثاني (١)

التمسّك بقاعدة الاحتياط

وهو ظاهر فيما إذا دلّ الخبر الضعيف على وجوب شيء أو حرمته ، لوضوح أنّ الاحتياط حينئذ في فعل الأوّل وترك الثاني ، ويدلّ على رجحان الاحتياط فيه العقل والنقل المستفيض ، بل هو الفرد المتيقّن من الأخبار الدالّة على رجحان الاحتياط في الدين ، وأمّا إذا دلّ على الاستحباب أو الكراهة فالظاهر أنّه كذلك ، إذ البناء على موافقة أوامر المولى ونواهيه مطلقا قاض بذلك من غير فرق بين كون المطلوب حتميّا أو غيره ، لقطع العقل بأنّ الباني على امتثال جميع أوامر المولى وجوبيّة كانت أو ندبيّة وترك جميع نواهيه كذلك ينبغي البناء له على ذلك ، ولذا ترى العقل يقطع بمدح العبد الّذي يأتي بكلّ فعل يحتمل كونه محبوبا لمولاه وترك كلّ فعل يحتمل كونه مبغوضا له من جهة احتمال كونه محبوبا أو مبغوضا. والظاهر أنّ الأخبار الدالّة على رجحان الاحتياط دالّة عليه أيضا ، إذ هو احتياط في تحصيل المندوب أو ترك المكروه ، وهما متعلّقان لطلب الشرع وإن لم يكن الطلب فيهما مانعا من النقيض ، فهذه الجهة ـ أعني ملاحظة الاحتياط في أداء ما أراده الشارع من الفعل أو الترك ـ جهة محسّنة للفعل أو الترك بحسب الواقع وإن لم يكن كلّ منهما في حدّ ذاته راجحا في الواقع ، فذلك من الجهات الاعتباريّة المحسّنة للفعل أو الترك.

وقد تقرّر أنّ حسن الأفعال وقبحها بالوجوه والاعتبارات ، وليسا من لوازم الذات.

__________________

(١) قد تقدّم الوجه الأوّل في ص ٤٦٤.

٤٧٩

والحاصل : أنّ الأخذ في المقام بمقتضى الخبر الضعيف أخذ بمقتضى الاحتياط في الدين ، والأخذ بمقتضى الاحتياط حسن راجح في الشرع. أمّا الصغرى فقد عرفت الحال فيها ، وأمّا الكبرى فلما دلّ عليه من صريح حكم العقل ، وما ورد فيه من الأخبار المستفيضة المعتضدة بحكم العقل وتلقّي الأصحاب لها بالقبول.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته في بيان الصغرى إنّما يصحّ مع عدم قيام احتمال المنع ، وهو قائم في المقام ، إذ مع عدم موافقة ذلك للواقع يكون الإتيان به على سبيل الاستحباب ، وتركه على وجه الكراهة بدعة محرّمة ، فلا وجه لإجراء الاحتياط في شيء من المقامين.

وقد نصّ على ذلك بعض أفاضل المتأخّرين قائلا : بأنّ احتمال الحرمة في هذا الفعل الّذي تضمّن الحديث الضعيف استحبابه حاصل فيما إذا فعله المكلّف بقصد القربة ولاحظ رجحان فعله شرعا ، فإنّ الأعمال بالنيّات ، وفعله على هذا الوجه دائر بين كونه سنّة ورد الحديث بها في الجملة ، وبين كونه تشريعا وإدخالا لما ليس من الدين فيه.

ولا ريب أنّ ترك السنّة أولى من الوقوع في البدعة ، فليس الفعل المذكور دائرا في وقت من الأوقات بين الإباحة والاستحباب ولا بين الكراهة والإباحة ، فتاركه متيقّن السلامة وفاعله متعرّض للندامة ، على أنّ قولنا بدورانه بين الحرمة والاستحباب إنّما هو على سبيل المماشاة وإرخاء العنان ، وإلّا فالقول بالحرمة من غير ترديد ليس عن السداد ببعيد ، والتأمّل الصادق على ذلك شهيد. انتهى.

وأيضا فنية الوجه معتبرة عند جماعة من الأصحاب في أداء الواجبات والمندوبات ، وهي متوقّفة على ثبوت الخصوصيّة عند المكلّف ، لعدم جواز الترديد في النيّة واعتبار الجزم فيها ، وهو غير حاصل مع قيام الاحتمالات ، فبملاحظة ذلك لا نسلّم الاحتياط في المقام.

قلت : أمّا الوجه الأوّل فمدفوع بأنّ احتمال البدعة مرتفع بالاحتياط ، إذ بعد

٤٨٠