هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

الوجه المذكور ، لا الحكم بفساد الاستعمال المنقول ، حتّى يطرح الرواية المشتملة عليه ، أو يحكم بعدم جواز حمل الرواية على المعنى المشتمل عليه ، على ما هو الملحوظ في أنظار أرباب الاصول.

غاية الأمر أن لا يصحّ الحكم بالحمل عليه ، وليس ذلك ثمرة يعتدّ بها في المقام.

ثالثها : أنّ التخصيص استعمال العامّ في غير ما وضع له ، فيتبع جوازه وجود العلاقة المصحّحة ، ولا علاقة مصحّحة في المقام سوى علاقة المشابهة ، وهي غير حاصلة إلّا بقاء الأكثر ، وسيأتي الكلام إليه في كلام المصنّف.

ويضعّفه المنع من انحصار العلاقة هنا بالمشابهة ، إذ علاقة العامّ والخاصّ أيضا من جملة العلائق المعتبرة الجارية في تخصيص العمومات ، بناء على القول بمجازيّتها ، وهو أمر مشترك بين مراتب التخصيص ، إلّا أنّه لمّا دار الأمر مدار عدم الاستقباح لم يطّرد في جميع الصور حسب ما قرّرناه.

والقول بكون علاقة العامّ والخاصّ إنّما هي في العامّ والخاصّ المنطقي دون الاصولي ـ كما ذكره المدقّق المحشّي رحمه‌الله ـ ممّا لا وجه له ، إذ لا باعث على حملها عليه ، مع أنّ ملاحظة الاستعمالات كما يقضي بجواز استعمال العامّ المنطقي في الخاصّ ، كذا يقضي بجواز استعمال العامّ الاصولي في الخاصّ. واستعمال المنطقي في الخاصّ من قبيل استعمال المطلق في المقيّد ، وقد عدّت علاقة اخرى فيختصّ علاقة العامّ والخاصّ بالثاني ، إلّا أن يفرق بينهما بأخذ المطلق على سبيل التفصيل في الإطلاق على المقيّد بخلاف إطلاق العامّ على الخاصّ. وفيه : أنّه لا وجه لتقييده بذلك مع صدق الإطلاق والتقييد على الوجهين.

ومع البناء عليه بناء على كون التعدّد المذكور مبنيّا على تكثير الأقسام لا مانع من عدّ اطلاق العامّ الاصولي على الخاصّ من جملة العلائق أيضا ، كإطلاق العامّ المنطقي على الخاصّ ، وملاحظة الاستعمالات كما تشهد للثاني فهي شاهدة للأول أيضا ، بل الأمر فيه أظهر لكونه أشيع في الإطلاقات.

* * *

٢٦١
٢٦٢

معالم الدين :

أصل

وإذا خصّ العامّ واريد به الباقي ، فهو مجاز مطلقا على الأقوى ، وفاقا للشيخ ، والمحقّق ، والعلّامة في أحد قوليه ، وكثير من أهل الخلاف. وقال قوم : إنّه حقيقة مطلقا. وقيل : هو حقيقة ، إن كان الباقي غير منحصر ، بمعنى أنّ له كثرة يعسر العلم بعددها ؛ وإلّا ، فمجاز. وذهب آخرون إلى كونه حقيقة ، إن خصّ بمخصّص لا يستقلّ بنفسه ، من شرط ، أو صفة ، أو استثناء ، أو غاية ، وإن خصّ بمستقلّ ، من سمع أو عقل ، فمجاز. وهو القول الثاني للعلّامة ، اختاره في التهذيب. وينقل ههنا مذاهب للناس كثيرة سوى هذه، لكنّها شديدة الوهن ، فلا جدوى للتعرّض لنقلها.

لنا : أنّه لو كان حقيقة في الباقي ، كما في الكلّ ، لكان مشتركا بينهما. واللازم منتف. بيان الملازمة : أنّه ثبت كونه للعموم حقيقة ، ولا ريب أنّ البعض مخالف له بحسب المفهوم ، وقد فرض كونه حقيقة فيه أيضا ؛ فيكون حقيقة في معنيين مختلفين ، وهو معنى المشترك. وبيان انتفاء اللازم : أنّ الفرض وقع في مثله ، إذ الكلام في ألفاظ العموم التي قد ثبت اختصاصه بها في أصل الوضع.

٢٦٣

حجّة القائل بأنّه حقيقة مطلقا ، أمران :

أحدهما : أنّ اللفظ كان متناولا له حقيقة بالاتّفاق ، والتناول باق على ما كان ، لم يتغيّر ، إنّما طرء عدم تناول الغير.

والثاني : أنّه يسبق إلى الفهم ؛ إذ مع القرينة لا يحتمل غيره. وذلك دليل الحقيقة.

والجواب عن الأوّل : أنّ تناول اللفظ له قبل التخصيص إنّما كان مع غيره ، وبعده يتناوله وحده ، وهما متغايران ؛ فقد استعمل في غير ما وضع له.

واعترض : بأنّ عدم تناوله للغير أو تناوله له ، لا يغيّر صفة تناوله لما يتناوله.

وجوابه : أنّ كون اللفظ حقيقة قبل التخصيص ليس باعتبار تناوله للباقي ، حتّى يكون بقاء التناول مستلزما لبقاء كونه حقيقة ، بل من حيث إنّه مستعمل في المعنى الّذي ذلك الباقي بعض منه ، وبعد التخصيص يستعمل في نفس الباقي ، فلا يبقى حقيقة. والقول بأنّه كان متناولا له حقيقة مجرّد عبارة ؛ إذ الكلام في الحقيقة المقابلة للمجاز ، وهي صفة اللفظ.

وعن الثاني : بالمنع من السبق إلى الفهم. وإنّما يتبادر مع القرينة ، وبدونها يسبق العموم. وهو دليل المجاز.

واعترض : بأنّ إرادة الباقي معلومة بدون القرينة. إنّما المحتاج إلى القرينة ، عدم إرادة المخرج.

وضعفه ظاهر ؛ لأنّ العلم بإرادة الباقي قبل القرينة إنّما هو باعتبار دخوله تحت المراد ، وكونه بعضا منه. والمقتضي لكون اللفظ حقيقة فيه ، هو العلم بارادته على أنّه نفس المراد ، وهذا

٢٦٤

لم يحصل إلّا بمعونة القرينة. وهو معنى المجاز.

حجّة من قال بأنّه حقيقة ، إن بقى غير منحصر ، أنّ معنى العموم حقيقة هو كون اللفظ دالا على أمر غير منحصر في عدد ، وإذا كان الباقي غير منحصر ، كان عاما.

والجواب : منع كون معناه ذلك ؛ بل معناه تناوله للجميع. وكان للجميع أوّلا ، وقد صار لغيره. فكان مجازا.

ولا يذهب عليك أنّ منشأ الغلط في هذه الحجّة اشتباه كون النزاع في لفظ العامّ أو في الصيغ. وقد وقع مثله لكثير من الاصوليّين في مواضع متعدّدة ، ككون الأمر للوجوب ، والجمع للاثنين ، والاستثناء مجازا في المنقطع. وهو من باب اشتباه العارض بالمعروض.

حجّة القائل بأنّه حقيقة ، إن خصّ بغير مستقلّ : أنّه لو كان التقييد بما لا يستقلّ يوجب تجوّزا في نحو : «الرجال المسلمون» من المقيّد بالصفة ، و : «أكرم بني تميم ان دخلوا» من المقيّد بالشرط ، و «اعتزل الناس إلّا العلماء» من المقيّد بالاستثناء ، لكان نحو : «مسلمون» للجماعة مجازا ، ولكان نحو : «المسلم» للجنس أو للعهد مجازا ، ولكان نحو : «ألف سنة إلّا خمسين عاما» مجازا. واللوازم الثلاثة باطلة. أمّا الأوّلان : فإجماعا ، وأمّا الأخير ، فلكونه موضع وفاق من الخصم. بيان الملازمة : أنّ كلّ واحد من المذكورات يقيّد بقيد هو كالجزء له ، وقد صار بواسطته لمعنى غير ما وضع له أوّلا. وهي بدونه ، لما نقلت عنه ، ومعه لما نقلت إليه. ولا يحتمل غيره. وقد جعلتم ذلك موجبا للتجوّز. فالفرق تحكّم.

والجواب : أنّ وجه الفرق ظاهر. فانّ الواو في «مسلمون» ، كألف «ضارب» وواو «مضروب» جزء الكلمة ، والمجموع لفظ واحد.

٢٦٥

والألف واللام في نحو «المسلم» وإن كانت كلمة ، إلّا أنّ المجموع يعدّ في العرف كلمة واحدة ، ويفهم منه معنى واحد من غير تجوّز ونقل من معنى إلى آخر. فلا يقال : إنّ «مسلم» للجنس ، والألف واللام للقيد والحكم بكون نحو «ألف سنة إلّا خمسين عاما» حقيقة ـ على تقدير تسليمه ـ مبنيّ على أنّ المراد به تمام مدلوله ، وأنّ الإخراج منه وقع قبل الإسناد والحكم.

وأنت خبير بأنّه لا شيء ممّا ذكرناه في هذه الصور الثلاث بمتحقّق في العامّ المخصوص ؛ لظهور الامتياز بين لفظ العامّ وبين المخصّص ، وكون كلّ منهما كلمة برأسها ، ولأنّ المفروض إرادة الباقي من لفظ العامّ ، لا تمام المدلول مقدّما على الإسناد. وحينئذ فكيف يلزم من كونه مجازا كون هذه مجازات؟

٢٦٦

قوله : (وإذا خصّ العامّ واريد به الباقي ... الخ.)

لا يخفى أنّ ظاهر العنوان لا يوافق القول بكون ألفاظ العموم حقيقة في العموم بخصوصه حسب ما مرّ ، إذ بعد فرض كون اللفظ حقيقة في العموم دون غيره لا يقبل النزاع في كونه حقيقة في الباقي ، فعقد هذا النزاع بعد الفراغ من المسألة المذكورة والبناء على كون ألفاظ العموم حقيقة فيه بخصوصه لا يخلو في بادئ الرأي عن التدافع ، وربما يوجّه ذلك بأنّ عقد هذا النزاع إنّما يبتنى على وجود لفظ يفيد العموم في الجملة ، ولا يبتنى على كون تلك الألفاظ موضوعة للعموم خاصّة ، فعقدهم لهذا النزاع إنّما هو مع قطع النظر عن كون العامّ حقيقة في العموم بخصوصه مجازا في غيره ، فمن يقول بكون ألفاظ العموم حقيقة في الخصوص خاصّة ومن يقول باشتراكها بين العموم والخصوص يقول بكونها حقيقة في الباقي ، بخلاف القائل بوضعها للعموم خاصّة.

وفيه : أنّه لا فائدة إذن في عقد ذلك نزاعا آخر وجعله عنوانا برأسه لتفرّع كونه حقيقة أو مجازا على المختار في تلك المسألة حسب ما ذكر.

كيف! والقائل بكونه حقيقة عند إرادة الباقي إنّما يقول به على فرض كون اللفظ للعموم ، لا من جهة كونه حقيقة في خصوص الخصوص ، أو مشتركا بين العموم والخصوص ، ولذا لم يستند الى ذلك أحد من القائلين بكونه حقيقة عند إرادة الباقي ، كما استند القائل بالتجوّز إلى أنّه قضيّة كونه حقيقة في العموم ، كما في احتجاج المصنّف وغيره ، فظاهر كلامهم عقد هذا النزاع بعد البناء على كون اللفظ حقيقة في العموم خاصّة كما هو ظاهر العنوان ، حيث فرضوا البحث في أنّ تخصيص العام وإرادة الباقي هل يقضي بمجازيّته أو لا؟ فالملحوظ أنّ كون اللفظ للعموم هل يقضي بالتجوّز عند التخصيص وإرادة الباقي أو لا يقتضي ذلك؟ وسيأتي التنصيص عليه في كلام المصنّف ، فالإشكال المذكور على حاله. ويمكن تصحيح محلّ النزاع في المقام بوجهين :

أحدهما : إنّه ليس الكلام في استعمال العامّ بخصوصه في خصوص الباقي

٢٦٧

وإنّما الكلام في تخصيص العامّ وإرادة الباقي ، فإنّه يتصوّر ذلك مع إرادة الباقي من العامّ بخصوصه ، أو من مجموع العامّ والمخصّص ، أو بإرادة العموم من اللفظ وإسناد الحكم إلى الباقي على ما يأتي تفصيل القول فيها.

فعلى الأوّل لا مناص من القول بالتجوّز بخلاف الأخيرين ، إذ لا مانع من القول بكونه حقيقة ، فيصحّ أن يكون بناء القائل بكونه حقيقة على أحد الوجهين الأخيرين من غير أن ينافي كونه موضوعا للعموم بخصوصه.

وقد اختار ذلك جماعة في الاستثناء كما سيجيء تفصيل القول فيه إن شاء الله. هذا إذا اريد تصحيح النزاع على المذاهب المعروفة ، وأمّا على بعض المذاهب النادرة فالأمر واضح لا حاجة إلى التوجيه كما يتبيّن الحال من ملاحظة أدلّتهم ، لكنّك خبير بأنّ ذلك لا يوافق الحجّة المعروفة من القائل بكونه حقيقة ، فإنّ مقتضاه كونه حقيقة في خصوص الباقي حسب ما هو ظاهر عنوان المصنّف ، إلّا أن يقال : إنّ ضعف الحجّة لا يقتضي فساد النزاع في المسألة ، ولذا قد دفعوه بذلك كما في كلام المصنّف وغيره فتأمّل.

ثانيهما : إنّ العموم كيفيّة عارضة على دلالة اللفظ ، قاضية بشمول اللفظ لجميع مصاديقه الحقيقيّة ، أو جميع معانيه الموضوع لها عند القائل بكون المشترك ظاهرا في الجميع ، فملحوظ القائل بكونه حقيقة عند عروض التخصيص أنّ الباقي أيضا مصداق حقيقي للّفظ ، فمع إرادته يكون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي أيضا.

غاية الأمر سقوط تلك الكيفيّة في المقام ، وذلك لا يقضي بالتجوّز في العامّ الّذي هو معروض العموم ، نعم لو ذهب القائل بكونه حقيقة في الباقي إلى كونه بعضا من الموضوع له لم يعقل ذهابه إلى كونه حقيقة فيه حينئذ ، لكن ليس الحال على ذلك عنده ، إذ دلالة العامّ على كلّ من جزئيّاته على سبيل المطابقة عندهم ، كما مرّت الإشارة إليه ، فبذلك يتصوّر القول فيه بكون العامّ حقيقة في الباقي ، مع القول بأنّ للعموم صيغة تخصّه وإن فرض فساده بعد التأمّل فيه ، وكأنّ هذا هو ملحوظ بعض القائلين به كما يظهر من احتجاجهم الآتي ، والأولى أن يصحّح

٢٦٨

النزاع على الوجهين المذكورين ، فيكون الوجه الأوّل ملحوظا عند بعض القائلين بكونه حقيقة ، والثاني عند غيره.

ثمّ إنّ الأقوال المذكورة في المسألة ثمانية كما سيجيء إن شاء الله الإشارة إليها. والمختار عندنا أنّه لا تجوّز غالبا في لفظ العامّ ، وإنّما التجوّز على فرض حصوله فيما يفيد العموم إن كان هناك لفظ موضوع بإزائه ، فإنّك قد عرفت أنّ أغلب الألفاظ المستعملة في العموم ليست بنفسها موضوعة لخصوص العموم ، فإنّ الدالّ على العموم هناك مغاير لما يفيد المعنى الّذي يتعلّق العموم به ، ففي بعضها يكون العامّ لفظا والموضوع لإفادة عمومه لفظا آخر كما في «كلّ رجل» وفي بعضها يكون معنى العموم مستفادا بالالتزام ، وفي بعضها من ظاهر المقام أو نحو ذلك.

نعم لا يبعد في بعضها أن يكون العامّ والمفيد للعموم لفظا واحدا ، كما في أسماء المجازات ، ومع كون لفظ العامّ موضوعا لخصوص العموم أو كون الدالّ على عمومه موضوعا لذلك انّما يلزم التجوّز فيه إذا استعمل فيه في غير الشمول ، وأمّا مع استعماله فيه كما في عدّة من المخصّصات فلا مجاز أيضا ، فهناك تفصيل في المقام.

ولنوضح الكلام في المرام برسم امور :

أحدها : أنّه نصّ جماعة منهم بأنّ الغرض من وضع الألفاظ المفردة ليس إفادتها معانيها الأفراديّة ، وإنّما المقصود من بعضها إفهام معانيها التركيبيّة بعد تركيب بعضها مع بعض ، والظاهر انّ مقصودهم من ذلك أنّ الغرض من تقرير الأوضاع هو إظهار ما في الضمير من المطالب والحاجات ، وظاهر أنّ ما يتعلّق به الأغراض إنّما هو بيان المعاني التركيبيّة دون المفاهيم الأفراديّة ، لعدم تعلّق الأغراض بها إلّا نادرا ، فالحاجة إنّما تمسّ إلى بيانها من جهة توقّف المطالب التركيبيّة عليها ، فالوضع إنّما تعلّق بالألفاظ المفردة من جهة توقّف المعاني التركيبية على المعاني الأفراديّة المدلول عليها بالألفاظ المفردة ، والغرض الباعث

٢٦٩

إلى وضعها هو الإيصال إلى المعاني التركيبيّة الحاصلة من ضمّ بعضها إلى البعض بعد وضع الهيئات العارضة عليها لمعانيها النسبيّة على حسب ما تقرّر في محلّه.

فالمقصود الأصلي من وضع المفردات هو إفهام المعاني التركيبيّة الحاصلة من تركيبها للعالم بأوضاعها ، وهذا ظاهر لكنهم علّلوا الحكم المذكور بأنّه لو كان الغرض من أوضاعها إفادة معانيها الأفراديّة لزم الدور ، لأنّ استفادة المعاني منها يتوقّف على العلم بأوضاعها ، ضرورة توقّف الدلالات الوضعيّة على العلم بالوضع ، والعلم بالوضع للمعنى يتوقّف على تصوّر ذلك المعنى وحصوله في النفس ، وهو دور مصرّح.

وضعف هذا التعليل ظاهر ، ضرورة أنّ المراد من كون الوضع لإفادة المعنى كون اللفظ باعثا لإخطار المعنى ببال السامع والإشارة إليه ، والعلم بالوضع إنّما يتوقّف على تصوّر المعنى وحصوله في البال في الجملة ، لا على ذلك الإخطار الحاصل بسماع اللفظ عند تلفّظ المتكلّم به ، فلا مجال لتوهّم الدور وهو واضح.

ويمكن أن يقال : إنّ المقصود ممّا ذكروه أنّه ليس الغرض من وضع المفردات إفادة معانيها وتصويرها في ذهن السامع من أوّل الأمر ، لما عرفت من لزوم الدور ، لتوقّف حصول تلك المعاني في النفس بواسطة تركيب تلك الألفاظ على العلم بوضعها لتلك المعاني المتوقّف على تصويرها وحصولها في النفس بخلاف المعاني التركيبيّة ، فإنّه يمكن حصولها بواسطة تركيب تلك الألفاظ من غير أن تكون حاصلة للنفس قبل ذلك أصلا ، فالمقصود أنّ وضع الألفاظ المفردة ليس لتصوير معانيها الأفراديّة للزوم الدور ، وإنّما هي لأجل تصوير معانيها التركيبيّة الغير الحاصلة للمخاطب قبل تلفّظ المتكلّم بها.

وأنت خبير بأنّه لو اريد ذلك فكون الوضع لأجل تصوير المعاني التركيبيّة إنّما هو على سبيل الإهمال ، إذ يمكن أن يكون الإفهام في المركّبات على الوجهين : من إفادة تصوير المعنى المركّب ، ومن الإشارة إلى المعنى الحاصل في الذهن قبل تلفّظ المتكلّم به على ما هو الحال في المفردات.

٢٧٠

وكيف كان ، فالأنسب بالتعليل هو ما ذكرناه وإن صحّ توجيه ما علّلوه بما قلناه ، ثمّ إنّك بعد التأمّل ممّا ذكرناه من الوجهين تعرف أنّه لا منافاة بين ما ذكروه في المقام وما أخذوه في تعريف الوضع من «أنّه تعيين اللفظ أو تعيّنه للدلالة على المعنى بنفسه» نظرا إلى أنّ ظاهره كون وضع المفردات لأجل الدلالة على معانيها الأفراديّة فينافي ذلك ما قرّروه هناك ، وذلك لأنّ المراد بالدلالة هنا هو إخطار معانيها الموضوع لها عند التلفّظ بها وإن كان ذلك مقصودا بالتبع من أجل حصول معانيها التركيبيّة حسب ما قرّر أوّلا ، وليس المراد به تحصيل تصوّر تلك المعاني من أصلها لوضوح امتناعه نظرا إلى ما قرّرناه ، وإنّما المراد مجرّد إحضارها والإشارة إليها من بين المعاني المخزونة في الخيال وهو واضح.

ومن الغريب ما ذكره بعض الأفاضل في بيان عدم المنافاة بين ما ذكروه في المقامين أنّ مقصودهم ممّا نفوه ـ من كون استفادة المعاني الأفراديّة غرضا في الوضع ـ أنّه ليس الغرض من وضعها إفادة معانيها ، بمعنى حصول التصديق من وضعها بأنّ تلك المعاني قد وضعت لها تلك الألفاظ (١) والمقصود فيه.

ثانيها : أنّ استعمال اللفظ في المعنى ـ أعني إطلاق اللفظ وإرادة المعنى ـ يكون تارة بإرادة ذلك المعنى على وجه يكون هو المقصود بالإفادة فيريد المتكلّم إفادة تصديقه للمخاطب ، وتارة لا يكون على الوجه المذكور ، بل يكون مقصود المتكلّم تصوير ذلك المعنى في ذهن المخاطب لينتقل منه الى غيره بملاحظة القرينة الحاليّة أو المقاليّة القاضية به ، ويكون ذلك الغير هو المقصود بالبيان والإفادة ، وحينئذ فهل يكون المستعمل فيه هو المعنى الأوّل أو الثاني؟ وجهان : والّذي يتقوّى في النظر كون المستعمل فيه حينئذ هو الثاني ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، فإنّ الملحوظ في الاستعمال هو المعاني الّتي يكون المقصود من الكلام بيانها وإفادتها ، فيكون اللفظ مستعملا فيها دون المعاني الّتي جعلت وسيلة للانتقال إليها من غير أن تكون مقصودة في الإسناد ، ولا يراد بيانها ولا إفادتها

__________________

(١) في هامش المطبوع ما يلي : هذه المقدّمة ناقصة في الأصل.

٢٧١

أصلا ، فيكون المناط فيما يستعمل فيه اللفظ هو المعنى المقصود بالإفادة ، فإن كان ذلك ممّا وضع اللفظ بإزائه كان اللفظ حقيقة ، وإلّا كان مجازا وإن اريد من اللفظ صورة ما وضع بإزائه ليجعل وسيلة للانتقال إليه ، على ما مرّ التفصيل فيه.

بقي الكلام في شيء وهو أنّه قد يكون المعنى الّذي يراد الانتقال إليه حاصلا من ملاحظة أوضاع متعدّدة ويكون ذلك المعنى حاصلا باستعمال الألفاظ في معانيها الموضوع له، إلّا أنّ ذلك قد يستلزم أن لا يكون خصوص المعنى الموضوع له لبعض تلك الألفاظ مقصودا بالإفادة حقيقة ، بل يكون المقصود بالإفادة غيره إلّا أنّه ليس مقصودا بالإفادة من تلك اللفظة ، بل من مجموع تلك الألفاظ بملاحظة أوضاعها المنتقلة بها.

وتوضيح المقام : أنّ المعنى الّذي يراد الانتقال إليه قد يكون معنى مجازيّا لتلك اللفظة ويراد من اللفظ خصوص معناه الحقيقي لأجل الانتقال إلى معناه المجازي الّذي هو المقصود بالإفادة ، وقد يكون معنى مجازيّا مقصودا من ملاحظة مجموع الألفاظ من غير أن يراد ذلك المعنى من خصوص بعض منها ، بل إنّما يراد من خصوص كلّ من تلك الألفاظ معناه الحقيقي لينتقل من المجموع إلى معناه الحقيقي التركيبي الحاصل من الأوضاع العديدة ثمّ ينتقل منه إلى المعنى المجازي المقصود بالإفادة ، كما في التمثيل ، وحينئذ يكون التجوّز في المركّب ، بل وفي خصوص كلّ من تلك الألفاظ أيضا ، وقد يكون معنى حقيقيّا مقصودا بالإفادة من إرادة المعاني الحقيقيّة من كلّ من تلك الألفاظ المستعملة لكن يكون اللازم من ذلك عدم كون المراد من بعض تلك الألفاظ مقصودا بالإفادة ، لا بأن يراد بتلك اللفظة الانتقال إلى المعنى الآخر ليجعل إرادة معناه الحقيقي وسيلة إليه ، بل ذلك المعنى إنّما يراد من مجموع تلك الألفاظ بملاحظة أوضاعها الحقيقيّة ، فليس ذلك المعنى مرادا من تلك اللفظة ليقال بكونها مستعملة فيه على وجه المجاز ، كما في الصورة الاولى ، وليس المعنى المراد من الجملة خارجا عمّا وضعت له ليكون الانتقال من الجملة إلى ذلك المعنى قاضيا بالخروج عن أوضاع

٢٧٢

المفردات ، حسب ما قلناه في الصورة الثانية ، فلا مجاز حينئذ ، فيكون كلّ من المفردات مستعملة فيما وضع له وإن كان المعنى الموضوع له المراد من بعض تلك الألفاظ غير مقصود بالإفادة على الوجه الّذي قرّرناه.

وتوضيح ذلك : أنّه كما يكون الحقيقة دالّة على المعنى الحقيقي بواسطة وضع اللفظ ، فكذا المجاز هو الدالّ على المعنى المجازي بواسطة القرينة القائمة عليه ، فالمستعمل في المعنى المجازي والمجعول عليه هو لفظ المجاز وإن كانت دلالته عليه بواسطة القرينة ، فإذا لم يكن اللفظ ممّا اريد به معناه المجازي ـ ولم يكن تلك اللفظة دالّة على ذلك المعنى بواسطة القرينة ، بل كان ذلك اللفظ وغيره دالّا عليه ، وكان ذلك المعنى مرادا من مجموع اللفظين أو الألفاظ ـ لم يكن ذلك اللفظ مستعملا في ذلك المعنى ، بل كان المستعمل فيه هو ما اريد منه من معناه الحقيقي والمجازي.

نعم لو كان المعنى مجازيّا للمركّب وكانت تلك الألفاظ في حال التركيب مستعملة فيه ـ كما في التمثيل ـ كان كلّ من الألفاظ المستعملة فيه مجازا حسب ما قرّرناه في التمثيل على تأمّل فيه من بعضهم كما مرّ بيانه في محلّه.

وبالجملة أنّ حصول التجوّز مبنيّ على أحد امور ثلاثة : من استعمال اللفظ ابتداء في غير ما وضع له كما في «رأيت أسدا يرمي» أو كون المراد منه بالأصالة غير ما وضع له وإن اريد به الموضوع له لأجل التوصل إليه كما في الكناية في المفرد ، أو عدم كون المقصود بالإفادة منه معناه الموضوع له وإن لم يستعمل في معنى مجازي مخصوص ، بل كان المقصود منه في ضمن الجملة إفادة غير ما وضع له ، بأن كانت الجملة المركّبة منه مستعملة في غير معناه الموضوع له ، كما في المجاز المركّب والكناية المركّبة ، ولا شيء من الوجوه الثلاثة حاصلة في المقام ، فلا وجه لالتزام التجوّز فيه.

ثالثها : أنّ القيود الواردة على اللفظ لا يقضي بتجوّز فيه ، إلّا أن يكون مفاد ذلك القيد مندرجا في المعنى المراد من المطلق ، فيكون ذلك قرينة على إرادة

٢٧٣

خصوص ذلك المعنى منه ، فيندرج حينئذ في المجاز ، لكن ذلك غير شائع في التقييدات ، بل الشائع فيها ضمّ القيد المدلول عليه باللفظ الدالّ عليه إلى المطلق المدلول عليه بلفظه ، فيكون اللفظ الدالّ على المطلق مستعملا في معناه ، وحيث إنّه مأخوذ على وجه اللا بشرط فلا ينافيه ضمّ الشرط إليه المدلول عليه بالقيد اللاحق ، فإنّ اللا بشرط يجامع ألف شرط ، وحينئذ فيكون ذلك المطلق ممّا اطلق على المقيد مع كون التقييد مستفادا من الخارج ـ أعني القيد المأخوذ معه ـ فلا تجوّز فيه حسب ما قرّرناه في إطلاق الكلّيات على أفرادها.

ولا فرق في ذلك بين التقييد المتّصل والمنفصل ، فأقصى ما يفيده التقييد بالمنفصل إطلاق المطلق على خصوص ذلك القيد مع استفادة الخصوصيّة من الخارج وكونه قرينة على الإطلاق المذكور ، إذ إطلاق المطلق على خصوص بعض الأفراد نظير التجوّز باللفظ في افتقاره إلى وجود القرينة الدالّة عليه ، وبدونه لا يحمل المطلق إلّا على معناه الإطلاقي المأخوذ على وجه اللا بشرط من دون ضمّ شرط إليه.

رابعها : أنّ العموم الوارد على الألفاظ المقيّدة إنّما يرد عليها بملاحظة القيود المنضمّة إليها ، وذلك لأنّ المطلوب من تلك المطلقات هو معانيها الإطلاقيّة المقيّدة بالقيود المنضمّة إليها ، فتكون تلك المطلقات مطلقة على خصوص بعض أنواعها على حسب التقييد الوارد عليها ، كما عرفت ، فيكون العموم الوارد عليها على حسب ذلك ، فإنّ العموم الوارد على اللفظ إنّما يتبع ما اطلق عليه ذلك اللفظ ، وحينئذ فعدّ الصفة والشرط ونحوهما من القيود مخصّصا للعامّ إنّما هو من جهة إخراجه عن معناه الإطلاقي ، بحيث لم يلحظ العموم فيه على حسب ظاهر مدلوله ، بل خصّ ذلك بما يفيده القيد المنضمّ إليه ، فسمّي تخصيصا للعامّ ، حيث إنّه بمعناه وإن لم يكن ذلك عند التحقيق تخصيصا له ، بإيراد العموم على المطلق ثمّ إخراج بعضه بالقيود المذكورة ، بل لم يرد العموم إلّا على خصوص ما اطلق عليه ذلك المطلق نظرا إلى ما انضمّ إليه من القيد ، ويجري نحو ذلك في المخصّص المنفصل

٢٧٤

إذا دلّ ذلك على إطلاق ما يتعلّق العموم به على بعض مصاديقه ، كما في قولك «أكرم كلّ رجل ولا تكرم الجهّال» فإنّ ذلك يفيد كون ما اطلق عليه الرجل هناك خصوص العالم، فيكون العموم الوارد عليه بحسب ما اريد من اللفظ واطلق عليه دون مطلق الرجل ، وحينئذ لا مجاز في لفظة «كلّ» وما في معناه حيث استعمل في معناه ، ولا في مدخولها حيث اطلق على بعض مصاديقها.

وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه على وجه الحقيقة ، نعم لو اريد بذلك هو معناه اللا بشرط من غير أن يقال بدلالة المخصّص على إطلاقه على خصوص المقيّد تعيّن التزام التجوّز فيما يفيد العموم من لفظة «كلّ» وما بمعناه.

خامسها : أنّ الألفاظ الدالّة على العموم على وجوه :

فمنها : ما يكون موضوعا لإفادة العموم والشمول ويكون الأمر الشامل غيره كما في لفظة «كلّ» وما بمعناه.

ومنها : ما يفيد ذلك من جهة المقام لوروده في سياق الشرط أو العموم كما في قولك «كلّما جاءك رجل فأكرمه» ومنه أسماء المجازات ونحوها.

ومنها : ما يدلّ على العموم على سبيل الالتزام كالنكرة الواقعة في سياق النفي.

ومنها : ما يدلّ عليه من جهة انصراف ظاهر الإطلاق إليه كما في الجمع المعرّف ، إذ ليس موضوعا لخصوص العموم كما مرّت الإشارة إليه.

سادسها : إنّك قد عرفت انّ شمول العامّ إنّما هو لمصاديقه والجزئيّات المندرجة تحته ، فلذا عرّفوه باللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له سوى بعض العمومات ، كالجمع المعرّف حيث إنّ شموله بالنسبة إلى أجزائه حسب ما مرّ بيانه ، فحينئذ نقول : إنّ صدق العامّ على كلّ من جزئيّاته على وجه الحقيقة من حيث انطباقه عليه ، فيكون العموم الطارئ عليه قاضيا بإطلاقه على جميع مصاديقه ، فيكون مستغرقا لجميع ما يصلح له ، وحينئذ فمفاد التخصيص الوارد عليه إطلاق ذلك العامّ على بعض مصاديقه والجزئيّات المطابقة له ، فلا تجوّز إذن في اللفظ من تلك الجهة ، إنّما التجوّز هناك ـ على القول به ـ بالنسبة إلى ما يفيد عموم اللفظ

٢٧٥

وشموله لمصاديقه حيث لم يرد به معناه بعد ظهور التخصيص ، وحينئذ فإن كان الدالّ على العموم موضوعا بإزائه كان ذلك مجازا ، حيث اريد به غير ما وضع له من الشمول ، وكذا لو كان دالّا على عموم النفي ، فإنّه إنّما يجيء التجوّز فيه من تلك الجهة ، وأمّا إن لم يكن إفادته العموم بالوضع بل بالالتزام أو ظهور الإطلاق فلا تجوّز ، كما في النكرة الواقعة في سياق النفي.

فإن قلت : إنّ العموم إذا كان معنى التزاميّا له كان عدم ثبوت العموم شاهدا على انتفاء ملزومه ، فيلزم التجوّز فيه من تلك الجهة.

قلت : لا وجه لالتزام التجوّز من تلك الجهة إذ أقصى الأمر أنّه أن يكون النكرة الواقعة هناك قد اطلق على قسم خاصّ ليكون النفي واردا عليه ، من غير أن يراد بها مطلق الفرد المنتشر ليستلزم انتفاؤه انتفاء الجميع ، وذلك أيضا ممّا لا تجوّز فيه كما عرفت.

وأمّا الجمع المعرّف إذا ورد التخصيص عليه فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك مع إطلاقه على جميع الأفراد وإخراج المخرج عن الحكم فليس ذلك إذن مستعملا إلّا في العموم. وإمّا أن يكون باستعماله فيما دون الدرجة العليا من الجمع على حسب ما ورد عليه التخصيص وهو إذن مستعمل في بعض مراتب الجمع ، وليس إطلاق الجمع على تلك المرتبة إلّا على وجه الحقيقة ، لوضع الجمع لما يشمل الجميع ولا اختصاص له وضعا بالدرجة العليا ، وإنّما ينصرف إليه مع الإطلاق لما مرّ بيانه.

إذا تقرّر هذه الجملة فقد تلخّص لك منها أنّه لا تجوّز في التخصيص بالمتّصل من الاستثناء وغيره : من الوصف والغاية والشرط ونحوها.

أمّا الاستثناء فلما عرفت من عدم استعمال المستثنى منه في خصوص الباقي ، بل إنّما يراد الباقي من مجموع المستثى والمستثنى منه ، فنحو «عشرة إلّا ثلاثة» قد اريد من لفظ «العشرة» مفهومها واريد «بإلّا ثلاثة» إخراج الثلاثة منها من حيث تعلّق الحكم به ، فيبقى السبعة متعلّقا للحكم الوارد عليه ، فالمستفاد من

٢٧٦

مجموع الألفاظ المذكورة بملاحظة أوضاعها هو ذلك ، فكلّ من تلك الألفاظ قد استعمل في موضوعه ، وتلخّص ذلك من ملاحظة المجموع ، ولو كان لفظ «العشرة» مستعملا في خصوص السبعة على سبيل المجاز لكان ما يستفاد منه خصوص الباقي هو العشرة ، وكان الاستثناء قرينة عليه ، كسائر القرائن المقاليّة القائمة على إرادة المعاني المجازيّة من غير أن يتلخّص ذلك من المجموع ، حسب ما قرّرناه في دلالة المجاز وهو ممّا يأبى عنه ظاهر الفهم عند التأمّل في المقام.

وممّا يشير إلى ذلك أنّهم أنكروا أنّ من فوائد الاستثناء تدارك ما فات المتكلّم عند ذكر المستثنى منه ، إذ قد يغفل من خروج المستثنى فيذكر المستثنى منه على اطلاقه فيظهر منه إسناد الحكم إلى المجموع ثمّ إذا تنبّه على خروج المستثنى منه تداركه بالاستثناء مع بقاء محلّه ، وحينئذ فلا يراد به إخراج المستثنى عن المستثنى منه من حيث تعلّق الحكم به ، وليس حينئذ قرينة على استعمال الستثنى في الباقي ، إذ المفروض استعماله في المجموع ، وقد يجعل الاستثناء في المقام قاضيا بنسخ الإرادة الأوّليّة ودلالته على إرادة البعض من ذلك اللفظ ثانيا ، إلّا أنّ الظاهر بعده ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وإذا ظهر ورود الاستثناء في المقام على الوجه المذكور فالظاهر جريانه في سائر الصور، لوروده على وجه واحد في الجميع وإن كان في بعض الصور مبنيّا على الغفلة دون البعض ، وممّا يشهد بما ذكرناه أنّه لو كان ما استعمل فيه المستثنى منه هو الباقي بقرينة الاستثناء لجاز التخصيص المستوعب وبالأزيد من المستثنى منه إذا ورد استثناء آخر على المستثنى بجعله أنقص من المستثنى منه ، كما إذا قال «له عليّ عشرة إلّا عشرة إلّا خمسة» أو «له عندي عشرة إلّا عشرين إلّا خمسة عشر» إذ لا استيعاب بالنظر إلى ما اريد من المستثنى في المقام ، مع أنّ ملاحظة الاستعمالات تأبى عنه جدّا ، بل الظاهر عدم التأمّل في فساده ، والظاهر أنّ الوجه فيه هو ما قرّرناه فيتأيّد به ما قلناه ويشير إلى ذلك أنّ أسامي الأعداد لا يجوز إطلاق الأكثر منها على الأقلّ من جهة علاقة الكلّ والجزء في غير الاستثناء ،

٢٧٧

كما إذا قال «أكرم هذه العشرة» مشيرا إلى رجل واحد ، أو قال «لزيد هذه الدراهم العشرون» مشيرا إلى عشرة دراهم ، إلى غير ذلك من الأمثلة. فعدم جواز الاستعمال المذكور مطّردا في غير الاستثناء ، وجوازه فيه على سبيل الاطّراد شاهد على عدم استعماله هناك في العدد الأقلّ ، إذ لو جاز الاستعمال فيه من جهة العلاقة المذكورة لجاز في المقامين، لاتّحاد المعنى والعلاقة في الصورتين ، غاية الأمر أن يكون التفاوت بينهما من جهة القرينة. ومن البيّن أنّه لا يختلف الحال في المجازات من جهة اختلاف القرائن.

وأمّا سائر المخصّصات المتّصلة من الشرط والصفة والغاية ونحوها فلأنّ الظاهر تقييد ما يرد العموم عليه بها ، فقد قيّد بذلك على حسب سائر المطلقات المقيّدة ، ويكون العموم واردا عليه على حسب ما اريد منه واطلق عليه بعد ضمّ القيد ، فيكون العموم واردا على المقيّد ، لأنّ التقييد حصل بعد إرادة العموم ، بل نقول : إنّ التقييد المذكور كاشف في بعضها من إطلاق المطلق على خصوص المقيّد من حيث انطباقه معه حسب ما بيّناه ، وحينئذ فيكون العموم واردا عليه كذلك.

نعم لو كان العموم مرادا من أوّل الأمر ثمّ تنبّه المتكلّم على خلافه فتداركه بالتوصيف أو غيره من التقييدات لم يتّجه في ذلك. إلّا أنّه يكون ذلك حينئذ قصرا للحكم الأوّل على محلّ الوصف وإخراجا لغيره عمّا حكم به ، فيكون كلّ من تلك الألفاظ مستعملا فيما وضع له ، ويكون الباقي هو المتلخّص من المجموع على نحو ما ذكر في الاستثناء ، ولا تجوّز فيه حسب ما عرفت.

وقد يقال بكون التقييد حينئذ رفعا للإرادة الاولى من اللفظ ونسخا لما اريد به من الطبيعة المطلقة بتقييده بالوصف المذكور وإطلاق ذلك المطلق على المقيّد ، حسب ما ذكرنا في المتفطّن ، ولا مانع منه مع بقاء محلّه ، ولا تجوّز فيه أيضا كما عرفت ، ويجري ما ذكرناه في أسماء الشرط ونحوها ، نظرا إلى ورود التقييد هناك على حمل الشرط أو الصفة ، فيكون عمومه أيضا على حسب ذلك على نحو ما قرّرناه.

٢٧٨

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ استفادة العموم من بعض العمومات ليست بالوضع ، بل من جهة الالتزام أو ظهور الإطلاق ، فعدم اقتضاء التخصيص هناك تجوّزا في اللفظ أظهر حسب ما مرّ بيانه.

وأمّا المخصّصات المنفصلة فقد عرفت جريان الوجهين فيها ، فيمكن أن يكون التخصيص الوارد هناك على غير وجه التجوّز بدلالة المخصّص على إطلاق ما ورد العموم عليه حين استعماله على خصوص المقيّد ، ويكون المخصّص ولو كان منفصلا قرينة دالّة على ذلك ، فيكون العموم واردا على المقيّد ، وأن يكون قرينة دالّة على عدم إرادة العموم من اللفظ الموضوع له إلّا أنّه إنّما يتمّ المجازيّة فيما إذا كان العامّ موضوعا للعموم ، وأمّا مع استفادة العموم من جهة اخرى فلا مجاز أيضا ، حسب ما مرّت الإشارة إليه ، هذا وقد ظهر بما قرّرناه دفع ما يورد في المقام من لزوم التناقض في الاستثناء نظرا إلى ما يترآى من إثبات الحكم تارة للمستثنى ونفيه عنه اخرى.

ولهم في التفصّي عنه وجوه :

أحدها : أنّ المراد بالمستثنى منه هو معناه الحقيقي وقد اخرج عنه المستثنى ثمّ اسند الحكم إلى الباقي من غير أن يكون هناك إسنادان ليحصل التناقض في المقام.

وقد عزي ذلك إلى جماعة منهم العلّامة واختاره المحقّق الرضي وحكاه عن جماعة.

ثانيها : أنّ المراد بالمستثنى منه خصوص الباقي على سبيل المجاز والاستثناء قرينة على التجوّز ، فليس المستثنى داخلا في المستثنى منه ليلزم التناقض بالحكم عليه تارة بالإثبات واخرى بالنفي.

وعزي ذلك إلى الأكثر تارة وإلى الجمهور اخرى ، وأسنده المحقّق الرضي إلى البعض وحكاه بعضهم عن السكّاكي.

ثالثها : أنّ مجموع المستثنى منه والمستثنى والأداة اسم للباقي ، فعشرة

٢٧٩

إلّا ثلاثة اسم للسبعة ، وله اسمان مفرد ومركّب ، حكاه المحقّق الرضي عن القاضي عبد الجبّار وعزّاه العضدي إلى القاضي أبي بكر ، وحيث كانت الوجوه المذكورة مسوقة لبيان دفع الإيراد المذكور لم يتعرّضوا للاحتجاج على ما اختاروا منها ، اكتفاء به في مقام دفع الإيراد ، كما هو الحال في سائر الأجوبة المذكورة عمّا يورد في المقام ، وإنّما اكتفوا بذكر الوجه المختار والإيراد على غيره من الإشكال.

ويمكن الاستناد لكلّ من الوجوه المذكورة ببعض الوجوه : كأن يستند للوجه الأوّل بأصالة حمل اللفظ على الحقيقة مهما أمكن. وللثاني بأنّ المقصود بالإفادة من المستثنى منه بحسب الحقيقة إنّما هو الباقي خاصّة دون المجموع والاستثناء قرينة عليه فيكون اللفظ مستعملا فيه كسائر المجازات المنضمّة إلى قرائنها. وللثالث بأنّ التبادر أمارة الحقيقة فيكون المجموع حقيقة في ذلك.

والوجوه المذكورة بعضها فاسد ، وبعضها محلّ نظر ، وسنبيّن لك حقيقة الحال إن شاء الله.

وكيف كان فقد اورد على الوجه الأوّل : تارة بأنّ البناء على ذلك يستلزم أن لا يكون الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا ، فلا يثبت على من قال «ليس له عليّ شيء إلّا خمسة» شيء أصلا ، فإنّ إخراج المستثنى قبل تعلّق الحكم بالمستثنى منه يجعل المستثنى في حكم المسكوت عنه ، وهو خلاف التحقيق ، بل الثاني منه فاسد عند الكلّ على ما قيل. وتارة بأنّه لو اشير إلى عشرة مجتمعة شخصيّة كأن يقول «خذ هذه العشرة إلّا ثلاثة منها» لم يتصوّر هناك إخراج الّا عن الحكم ، إذ المفروض عدم إخراج أشخاص الثلاثة من جملة العشرة ، فلا يمكن إلّا أن يكون المراد إخراجها عنها بحسب الحكم ، فلابدّ من القول بإخراجها عن الحكم المتعلّق بالمجموع ، إذ لا حكم هناك إلّا الإسناد الموجود في الكلام وهو متعلّق بالمجموع. واخرى بلزوم اللغو في كلام الحكيم ، فإنّ إرادة الاستغراق من اللفظ حينئذ مع إسناد الحكم إليه ممّا لا فائدة فيه بل يندرج في الأغلاط ، إذ الغرض من وضع الألفاظ تركيب معانيها ، وتفهيم المعاني التركيبيّة الحاصلة منها ،

٢٨٠