هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

الصورة المفروضة المجامعة للكفّ فهو كذلك ، وإن أراد ترتّبه على مجرّد الترك كيف ما حصل فهو بيّن الفساد لما عرفت.

قوله : (المنع من أنّه غير مقدور.)

لمّا كانت المقدّمة المذكورة مستدلا عليه في كلام المستدلّ ولم يتعلّق المنع المذكور بشيء من مقدّمات دليله لم يتّجه الإيراد عليه بالمنع ، ولذا وجّهه المحقّق المحشّي رحمه‌الله بأنّ المراد بالمنع هنا غير المنع المصطلح ، بل المنع اللغوي ، فالمقصود إبطال ما ذكره من كون العدم غير مقدور ، نظرا إلى ما أقام عليه من الدليل ، فيكون ذلك معارضة للدليل المذكور ، ويكون قوله «فإن قيل» معارضة على المعارضة ، وقد صرّح بعضهم بجوازه. نعم وقعت المعارضة الثانية بعين ما ذكر في الدليل ولا يخفى قبح إعادته.

قلت : يمكن حمل المنع في كلامه على المنع المصطلح والوجه فيه : أنّه لمّا كانت المقدّمة المذكورة مستدلا عليها في كلامه توقّف ورود المنع عليها على إبطال دليلها ، فجعل ما يبطل به الدليل المذكور على وجه المعارضة سندا للمنع ، فيكون ذكر السند في المقام مصحّحا لورود المنع ، إذ بعد إبطال ما أقامه من الدليل عليها يبقى المقدّمة المذكورة خالية عن الدليل ، فيصحّ توجيه المنع إليها. فلمّا كانت قضيّة المعارضة المذكورة لما ذكره من الدليل على إيجاب تلك المقدّمة ثبوت تأثير القدرة في كلّ من الوجود والعدم ـ حيث ذكر أنّ تأثير صفة القدرة في الوجود فقط وجوب لا قدرة ـ أورد عليه : بأنّه لا بدّ للقدرة من أثر عقلا ، ضرورة كون التأثير مستلزما للأثر والعدم غير صالح لذلك لكونه نفيا محضا ، ولأنّه لا بدّ من استناد الأثر إلى المؤثّر وهو غير ممكن في المقام ، حسب ما قرّره ، فالملحوظ في المقام نفي كون العدم أثرا للقدرة ، ليلزم من ذلك نفي تأثير القدرة فيه ، ليتفرّع عليه نفي كونه مقدورا ، إذ المقدوريّة يستدعي تأثير القدرة فيه ، حسب ما اعترف المستدلّ به.

والوجه الأوّل من هذين الوجهين غير مذكور في كلام المستدلّ. والثاني وإن كان عين ما ذكره المستدلّ إلّا أنّه إنّما ذكر في المقام لدفع كون العدم أثرا للقدرة ليتفرّع عليه عدم مقدوريته ، والمستدلّ إنّما أخذ ذلك حجّة على عدم المقدوريّة

٢١

من أوّل الأمر ، وهذا القدر كاف في التفاوت مضافا ، إلى اشتمال ما ذكره ثانيا على بيان جواب آخر عن أصل الاستدلال : فلا يخلو إعادته عن فائدة. فتحصّل بما ذكر جوابان عن الاستدلال : أحدهما المنع من عدم مقدوريّة العدم حسب ما قرّرناه ، والآخر إثبات مقدوريّته في الزمان المتأخّر عن الصيغة وإن جعلهما جوابا واحدا أو جعل الجواب الثاني رفعا لما يورد على الجواب الأوّل فتأمّل.

قوله : (باعتبار استمراره ... الخ.)

هذا الوجه جواب عن الإيراد الآخر وكأنّه لم يتعرّض للجواب عن الأوّل اكتفاءا بما ذكر في الجواب عنه ، فإنّ لاستمرار العدم حظّا من الوجود ، ولذا يستند في ملاحظة العقل إلى اختيار المكلّف ويترتّب ذلك عليه ، فلا يكون أثر القدرة نفيا محضا ، حسب ما ادّعاه المستدلّ ، لكنك خبير بأنّ عدم الفعل نفي محض بحسب الخارج لا تأثير ولا تأثّر فيه أصلا ، وليس استمرار العدم أمرا حاصلا بحسب الواقع وإنّما هو اعتبار عقليّ محض ، ثبوته في العقل كمفهوم العدم ، فتأثير صفة القدرة فيه بحسب الخارج غير معقول.

والحقّ أن يقال : إنّ مقدوريّة الفعل إنّما يكون باقتدار الفاعل على قطع استمرار العدم بالتأثير في الوجود ، لا بتأثيره في العدم أيضا ، وإن صحّ بذلك حكم العقل باستناد عدم المعلول الى عدم علّته ، فإنّ مناط الحكم بالاستناد المذكور هو عدم حصول الأثر عند عدم حصول التأثير لا بتأثير الفاعل في عدمه ، فالمراد باستناد عدم المعلول إلى علّته والترتّب العقليّ الحاصل بينهما في لحاظ العقل هو ذلك ، لا بتأثير العدم في العدم. كيف! وحصول التأثير والتأثّر غير معقول بين الأعدام ، فليس تأثير القدرة في المقام إلّا في جهة الوجود ويكون العدم مقدورا بذلك أيضا ، وحينئذ فما ادّعاه المجيب «من لزوم تأثير القدرة في كلّ من جانبي الوجود والعدم وإلّا لكان وجوبا لا قدرة» كما ترى. ويمكن تنزيل كلامه على ما ذكرنا فيكون مقصوده بالتأثير في العدم هو مفاد الترتّب العقليّ المذكور ، وهو لا ينافي كون عدم الفعل نفيا محضا بحسب الخارج.

* * *

٢٢

معالم الدين :

أصل

قال السيد المرتضى رضى الله عنه وجماعة منهم العلّامة في أحد قوليه : «إنّ النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار ، بل هو محتمل له وللمرّة». وقال قوم : بافادته الدوام والتكرار ، وهو القول الثاني للعلّامة رحمه‌الله ، اختاره في النهاية ، ناقلا له عن الأكثر وإليه أذهب.

لنا : أنّ النهي يقتضى منع المكلّف من إدخال ماهيّة الفعل وحقيقته في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع من إدخال كلّ فرد من أفرادها فيه ؛ إذ مع إدخال فرد منها يصدق إدخال تلك الماهيّة في الوجود ؛ لصدقها به ؛ ولهذا إذا نهى السيّد عبده عن فعل ، فانتهى مدّة كان يمكنه إيقاع الفعل فيها ثمّ فعل ، عدّ في العرف عاصيا مخالفا لسيّده ، وحسن منه عقابه ، وكان عند العقلاء مذموما بحيث لو اعتذر بذهاب المدّة التي يمكنه الفعل فيها وهو تارك ، وليس نهي السيّد بمتناول غيرها ، لم يقبل ذلك منه ، وبقي الذمّ بحاله. وهذا ممّا يشهد به الوجدان.

احتجّوا : بأنّه لو كان للدوام ؛ لما انفكّ عنه ، وقد انفكّ. فانّ الحائض نهيت عن الصلاة والصوم ، ولا دوام. وبأنّه ورد للتكرار ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وبخلافه، كقول الطبيب : لا تشرب اللّبن ،

٢٣

ولا تأكل اللحم. والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فيكون حقيقة في القدر المشترك. وبأنّه يصحّ تقييده بالدوام ونقيضه ، من غير تكرار ولا نقض ؛ فيكون للمشترك.

والجواب عن الأوّل : أنّ كلامنا في النهي المطلق. وذلك مختصّ بوقت الحيض ، لأنّه مقيّد به ، فلا يتناول غيره. ألا ترى أنّه عامّ لجميع أوقات الحيض.

وعن الثاني أنّ عدم الدوام في مثل قول الطبيب ، إنّما هو للقرينة ، كالمرض في المثال. ولو لا ذلك ، لكان المتبادر هو الدوام. على أنّك قد عرفت في نظريه سابقا : أنّ ما فرّوا منه بجعل الوضع للقدر المشترك ـ أعني : لزوم المجاز والاشتراك ـ لازم عليهم ، من حيث انّ الاستعمال في خصوص المعنيين يصير مجازا فلا يتمّ لهم الاستدلال به.

وعن الثالث : أنّ التجوّز جائز ، والتأكيد واقع في الكلام مستعمل ، فحيث يقيّد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز ، وحيث يؤتى بما يوافقه يكون تأكيدا.

فائدة :

لمّا أثبتنا كون النهي للدوام والتكرار ، وجب القول بأنّه للفور ؛ لأنّ الدوام يستلزمه. ومن نفى كونه للتكرار ، نفى الفور أيضا. والوجه في ذلك واضح.

٢٤

قوله : (إنّ النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار ... الخ.)

يمكن تقرير النزاع في ذلك على نحو الأمر فيكون الكلام في وضع الصيغة له ، فالقائل بدلالتها على الدوام يقول بوضعها لخصوص ذلك ، والقائل بكونها للأعمّ يجعل مفادها مجرّد ترك الطبيعة في الجملة. ويمكن تقريره في الدلالة الالتزاميّة فيقال : إنّ النهي موضوع لطلب ترك الطبيعة ، لكن هل يستلزم ذلك الدوام والتكرار أو لا بل هو أعمّ من الأمرين؟ وعلى هذا فيجري الكلام في كلّ طلب متعلّق بالترك وإن كان بصيغة الأمر ك «اترك» و «انته» و «كفّ» ونحوها وكذا في مادّة النهي ك «أنهاك عن كذا» أو «نهانا عن كذا» ونحو ذلك ، ويخرج عنه ما يكون أمرا بصورة النهي نحو «لا تترك» ويمكن تقرير النزاع في الأعمّ من الوجهين المذكورين فيصحّ للقائل بدلالتها على الدوام الاستناد إلى كلّ من الوجهين المذكورين فلابدّ للنافي من إبطال كلّ منهما ، والظاهر البناء في تحرير محلّ النزاع على أحد الوجهين الأخيرين.

ثمّ إنّ المقصود بالتكرار هنا هو خصوص الدوام ، لا مسمّى التكرار كما مرّ احتماله في الأمر ، وإن كان الظاهر هناك أيضا خلافه ، ولذا عبّروا هنا عن التكرار بالدوام. ثمّ إنّ المقصود بالدوام هل هو خصوص التأبيد والدوام مدّة العمر أو يرجع فيه إلى العرف؟ فيختلف بحسب اختلاف الأفعال والأحوال وجوه : أظهرها الأخير.

وهل المطلوب حينئذ خصوص الترك المستدام فيتوقّف حصول الامتثال على ترك الكلّ من غير أن يحصل هناك امتثال بالنسبة إلى خصوص التروك الحاصلة في كلّ من الأزمنة ، أو أنّ كلّ ترك منها مطلوب في نفسه مع قطع النظر عن انضمام الآخر إليه؟ فينحلّ ذلك إلى تكاليف عديدة ، وإن عبّر عن الكلّ بتعبير واحد ، وجهان : أظهرهما الثاني كما يشهد به العرف.

وهل الكلام في وضع الصيغة المطلقة للدوام أو لما يستلزمه؟ فلا تجري في النواهي المقيّدة بزمان خاصّ ، أو في وضع مطلق الصيغة؟ فيلزم التجوّز في بادئ

٢٥

الرأي فيما يقيّد بخصوص بعض الأزمنة بناء على القول بوضعه لذلك ، وعلى هذا يلزمه التزام التجوّز في معظم النواهي الواردة ، وسنبيّن لك ما هو الحقّ في المقام هذا. ولهم في المسألة قولان معروفان أشار المصنّف رحمه‌الله إليهما.

أحدهما : اقتضاؤه للدوام ذهب إليه الآمدي والحاجبي والعضدي ، واختار جماعة من علمائنا ـ منهم المصنّف رحمه‌الله ، والعلّامة في النهاية ، والسيّد العميدي ، وشيخنا البهائي ، وتلميذه الفاضل الجواد ، وغيرهم ـ وعزاه في النهاية والمنية والزبدة إلى الأكثر ، وحكاه الشيخ عن أكثر المتكلّمين والفقهاء ممّن قال بأنّ الأمر يفيد المرّة ، ومن قال بأنّه يفيد التكرار ، وقال الآمدي في الإحكام اتّفق العلماء على أنّ النهي عن الفعل يقتضي الانتهاء عنه دائما ، وقال العضدي النهي يقتضي دوام ترك المنهي عنه عند المحقّقين اقتضاءا ظاهرا فيحمل عليه إلّا إذا صرف عنه دليل.

ثانيهما : نفي دلالتها على ذلك ، ذهب إليه جماعة من علمائنا : منهم السيّد والشيخ والمحقّق والعلّامة في التهذيب ، وعزاه الآمدي إلى بعض الشاذّين ، والعضدي إلى شذوذ ، والسيّد العميدي إلى الأقلّ.

وحينئذ فإمّا أن يكون موضوعا لمطلق طلب الترك الشامل للوجهين كما هو المصرّح به في كلام بعض هؤلاء ، أو يكون موضوعا لخصوص المرّة ، وحكاه في غاية المأمول حيث قال: إنّ القائلين بعدم الدوام منهم من ذهب إلى أنّه للمرّة فقط ، ومنهم من يجعله مشتركا بينها وبين التكرار ، بحيث يتوقّف العلم بأحدهما على دليل من خارج كما في الأمر ، فيكون الأقوال حينئذ ثلاثة ، وربما يحكى هنا قول رابع : وهو وضعه لهما على سبيل الاشتراك اللفظيّ ، وقد يعزى ذلك إلى السيّدين ، كما هو قضيّة مذهبهما من أصالة الاشتراك اللفظيّ فيما يستعمل في معنيين. وخامس : وهو القول بالتوقّف حكاه الشيخ في العدّة عن بعض.

والحقّ عندنا وضع الصيغة لمجرّد طلب ترك مطلق الطبيعة المعرّاة عن الوحدة والكثرة على حذو ما مرّ في الأمر ، وقد تقدّم الدليل عليه ، وحينئذ نقول : إنّ النهي

٢٦

إن لم يقيّد بقيد أفاد طلب ترك الطبيعة المطلقة ، أعني المفهوم اللا بشرط ، ولا يمكن حصوله إلّا بترك جميع الأفراد ، بخلاف طلب إيجاد الطبيعة فإنّه يحصل أداؤه بإيجاد فرد من أفرادها ، والفرق بين الأمرين أنّ إيجاد المطلق حاصل بإيجاد فرد منه ، فإذا حصل ذلك حصل به أداء المأمور به والإتيان بالمنهيّ عنه ، فيحصل امتثال الأمر ومخالفة النهي بإيجاد فرد من الطبيعة ، فلابدّ إذن في حصول امتثال النهي من ترك المخالفة الحاصلة بترك كلّ فرد من أفراد المنهيّ عنه وهو ما أردناه. وليس تركها في ضمن بعض الأفراد تركا للطبيعة المطلقة ، وإنّما هو ترك الطبيعة المقيّدة وترك المقيّد لا يستلزم ترك المطلق ، كما أنّ فعله يستلزم فعله حسب ما عرفت، هذا مع إطلاق النهي. وأمّا إذا قيّد الطبيعة بزمان مخصوص أو قيد خاصّ لم يكن هناك تجوّز في الصيغة ، ولا في المادّة ، لصدق اللا بشرط على ذلك أيضا.

والحاصل : أنّ النهي موضوع لطلب ترك مطلق الطبيعة ، وهو قدر جامع بين طلب ترك الطبيعة المطلقة والمقيّدة ، فإن وجد هناك قيد انصرف إلى الثاني وكان حصوله في ضمن المقيّد ، وإلّا انصرف إلى المطلق ، إذ مع عدم القيد لا يكون مفاد اللفظ إلّا المطلق ، فلا يكون النهي مع الإطلاق دائرا بين الأمرين ، ليكون مجملا غير منصرف بحسب اللفظ إلى أحد الوجهين.

فإن قلت : إنّ المراد بالطبيعة في المقام إمّا الطبيعة من حيث هي أو من حيث حصولها في ضمن الفرد ، لا سبيل إلى الأوّل ، فإنّ الأحكام الشرعيّة بل وغيرها من الأحكام المتداولة بين أهل العرف واللغة بل وأرباب العلوم العقليّة إنّما ينتسب إلى الطبائع من حيث وجودها في ضمن الفرد ، لعدم العبرة بالقضيّة الطبيعيّة. وأمّا الثاني فإمّا أن يراد من حيث حصولها في ضمن الفرد في الجملة أو في ضمن جميع الأفراد ، ولا يثبت إرادة الدوام إلّا في الصورة الثانية ، وإرادتها في المقام أوّل الدعوى ، غاية ما يسلّم إرادة ترك الطبيعة في ضمن الفرد في الجملة.

قلت : قد عرفت أنّ المبادئ المأخوذة في الأفعال بمعنى الطبائع المطلقة وحيث إنّ الطلب الحاصل في الأمر والنهي إنّما يتعلّق بالإيجاد والترك لا حاجة

٢٧

إلى اعتبار حيثية الحصول في ضمن الفرد في مدلول المادّة ، فإنّ إيجاد الطبيعة إنّما يكون بإيجاد فردها ، وتركها إنّما يكون بترك جميع أفرادها ـ حسب ما عرفت ـ فمرجع الأمر في ذلك إلى المحصورة وإن لم يلاحظ الحصول في ضمن الفرد في خصوص مواردها ، ولو سلّم كون الطبائع المدلولة لمواردها ملحوظة من حيث وجودها في ضمن الفرد فهو أيضا كاف في المقام ، لأنّ المرجع فيها إلى النكرة وهي تفيد العموم في المقام ، فإنّ ترك مطلق الطبيعة في ضمن الفرد إنّما يكون بترك جميع أفرادها ، لعين ما مرّ. نعم لو كان مفاد ذلك حصول الترك في ضمن الفرد في الجملة تمّ ذلك ، إلّا أنّه ليس من مدلول الصيغة في شيء هذا.

ومع الغضّ عن كون الدوام لازما عقليّا للنهي على الوجه المذكور ، فلا شكّ في كون ذلك هو المنساق منه عرفا ، فلا أقلّ إذا من الظهور العرفيّ لو لم نقل باللزوم العقليّ ، ومنع انفهام ذلك منه في العرف يكاد يشبه إنكار الضروريّات ، كما لا يخفى على من تأمّل في الاستعمالات وموارد الإطلاقات.

ثمّ إنّ بعض الأفاضل بعد ما أنكر ثبوت الدلالة على كلّ من الوجهين المذكورين تمسّك في دلالة النواهي المطلقة على الدوام بوجه ثالث ، وذلك بالرجوع إلى دليل الحكمة إذ لا وجه لإرادة النهي عن الفعل في وقت غير معيّن ، لما فيه من الإغراء بالجهل ولا معيّن ، لانتفاء التعيين إذ المفروض إطلاق النهي فتعيّن إرادة النهي عنه على وجه العموم.

وأنت خبير بما فيه : فإنّه مدفوع أوّلا : بالنقض بالأمر فإنّه لا وجه لإرادة الإتيان به في زمان معيّن ، لانتفاء التعيين ، ولا في زمان غير معيّن ، لما فيه من الإغراء بالجهل ، فتعيّن إرادة الدوام ، مع أنّه لا يقول به. وثانيا بأنّ هناك احتمالا آخر وهو إرادة التخيير في أداء المطلوب بالنسبة إلى الأزمنة كما هو الحال في الأمر ، فإذا كان الحال في النهي نظير الأمر في عدم الدلالة على الدوام جرى فيه التخيير الّذي يثبت في الأمر.

قوله : (إنّ النهي يقتضي منع المكلّف من إدخال ماهيّة الفعل ... الخ.)

٢٨

يمكن تقرير هذه الحجّة بوجهين :

أحدهما : ما أشرنا إليه من الرجوع إلى العقل بعد إثبات دلالة اللفظ على المنع من إدخال طبيعة الفعل في الوجود ، وهذا هو الّذي يقتضيه ظاهر الآية.

ويرد عليه حينئذ أنّ ذلك إنّما يقتضي كون الدوام مدلولا التزاميّا لطلب ترك الطبيعة ، سواء ادّي ذلك بصيغة النهي أو بغيره ، فلا يفيد وضع الصيغة للدوام ، فإن اريد بذلك بيان وضع الصيغة له فهو ظاهر الفساد ، وإن اريد به بيان الدلالة الالتزاميّة فهو متّجه ، كما مرّ القول فيه ، إلّا أنّه مخالف لما يظهر من كلامه في آخر المبحث ، لظهوره في دعوى الوضع للدوام.

وقد يورد عليه أيضا بأنّه إن اريد بالمنع من إدخال الماهيّة في الوجود دائما فهو أوّل الكلام ، وإن اريد بالمنع من إدخاله في الوجود في الجملة فغاية ما يقتضيه عدم إدخال شيء من أفراد الماهيّة في الوجود في بعض الأوقات ، لصدق عدم إدخال الماهيّة في الوجود مع عدم إيجاد شيء من أفرادها في بعض الأزمنة.

ويدفعه ما عرفت من أنّ عدم إيجاد الطبيعة المطلقة لا يصدق إلّا بتركها بالمرّة ، دون ما إذا تركها في وقت وأتى بها في آخر ، لظهور صدق إتيانه حينئذ بالطبيعة وهو لا يجامع صدق تركه لها.

غاية الأمر أن يصدق تركه للطبيعة في الزمان المفروض وهو لا يستلزم صدق ترك الطبيعة مطلقا كما عرفت. ويشهد له أنّ المنع من الترك الحاصل بإيجاب الفعل إنّما يقتضي عدم ترك الفعل مطلقا ، كيف! ولو صدق ترك الفعل مع ترك جميع أفرادها في آن من الأوان لزم القول بالملازمة بين الأمر والنهي في الدلالة على الدوام ، مع أنّهم لا يقولون به ، فإنّ وجوب الشيء يستلزم المنع من تركه أو يتضمنه ـ حسب ما مرّ ـ ومع البناء على حصول ترك الشيء بتركه في آن مّا يلزم تركه أن يكون تركه في كلّ آن متعلّقا للمنع ، بناء على استلزام المنع من الشيء المنع من جميع أفراده في جميع الأزمنة ـ كما هو مختار القائل بدلالة النهي على الدوام ـ فلا يصحّ البناء على الفرق بين الأمرين.

٢٩

ودعوى كون المنع من الترك تابعا لإيجابه فلو لم يكن إيجابه على سبيل التكرار لم يكن المنع منه كذلك ، مدفوع : بأنا نقرّر الكلام على فرض دلالة الأمر على طلب مطلق الطبيعة ـ كما هو مختار معظم المحقّقين ـ فيكون المنع من الترك التابع للأمر هو المنع من ترك نفس الطبيعة ـ كما هو مدلول سائر النواهي الواردة من غير فرق أصلا ـ فإذا صدق ترك الطبيعة بترك جميع أفرادها في آن واحد لزم أن يكون متعلّقا للمنع ، إذ المفروض تعلّق المنع بترك الطبيعة وقضاء ذلك بتركها في جميع الأزمان ، فلزم من ذلك أن يكون إيجادها مطلوبا في كلّ زمان.

نعم لو قلنا بدلالة الأمر على المرّة تمّ ما ذكر ، إلّا أنّه غير ما هو المفروض في التقرير المذكور. فظهر بما قرّرنا صحّة ما ذكرنا من كون مفاد ترك الطبيعة تركها في جميع الأزمان ، وهو الّذي يتعلّق به الأمر (١) عند الأمر بالفعل ويحصل امتثاله بأداء المطلوب ولو مرّة واحدة ـ كما مرّ بيانه في محلّه ـ وقد تبيّن بملاحظة جميع ما بيّناه ضعف ما أورده المحقّق المحشّيرحمه‌الله من منع اقتضاء النهي سلب جميع الأفراد ، فإنّ ورود النفي على المفهوم خبرا وإنشاءا يتصوّر على وجهين : وروده في ضمن جميع أفراده ، ووروده عليه في الجملة ، بحيث يصلح تحقّقه في ضمن السلب الكلّيّ والسلب الجزئيّ ، فلا يلزم ترك جميع الأفراد ولو في آن واحد أيضا انتهى ملخّصا. كيف! وصريح العرف ينادي بخلاف ما ذكره وليس المطلوب بالنهي إلّا عدم إيجاد الفعل ـ كما مرّ ـ وهو رفع لما هو المطلوب بالأمر ، وكيف يعقل رفع إيجاد الفعل مع فرض الإتيان به ممّا لا يتناهى من أفراده ، فيكون مفاد النهي أمرا هو واجب الحصول. فما ذكره من الاحتمال فاسد قطعا لا مجال للخلاف فيه. فدلالة النهي على كون المطلوب ترك جميع أفراد المنهيّ عنه ولو في زمان واحد مقطوع به غير قابل للنزاع ، إنّما الكلام في دلالته على اعتبار دوام الترك المفروض وعدمه ، وقد عرفت دلالته على ذلك حسب ما بيّناه.

ثانيهما : أن يكون مقصوده بذلك الرجوع إلى التبادر بدعوى أنّ المتبادر من

__________________

(١) كذا في نسخة «ق ١» وفي سائر النسخ : المنع.

٣٠

الصيغة هو المنع من إدخال ماهيّة الفعل في الوجود مطلقا ، وذلك إنّما يتحقّق بعدم إدخال شيء من أفرادها في الوجود. فيكون قوله : «ولذا إذا نهى السيّد ... الخ» استشهادا بالمثال المذكور على حصول التبادر ، وعدّ جماعة منهم الآمدي والعلّامة في النهاية والفاضل الجواد ذلك دليلا برأسه على المطلوب ، وهو رجوع إلى التبادر المدّعى.

ويدفعه حينئذ المنع من استناد التبادر إلى نفس اللفظ ، وإنّما ذلك من جهة استلزام مدلول اللفظ ، فالانتقال إليه إنّما يكون بتوسّط ذلك ، فإن اريد بذلك الاستناد إليه في وضع النهي للدوام فهو ممنوع ، وإن اريد التمسّك به في استفادة الدوام منه في الجملة فمسلّم ومرجعه إلى ما قرّرناه ، وقد يمنع من حصول التبادر وفهم العرف للدوام وهو ضعيف كما عرفت.

نعم ، لو قام هناك قرينة على إرادة عدم الدوام لم يفهم منه ذلك ـ كما لو اشتغل أحد بضرب زيد فنقول له لا تضرب زيدا فإنّ المستفاد حينئذ من اللفظ نهيه عمّا يقع منه من الضرب دون منعه منه على سبيل الدوام كما هو الحال في نواهي الطبيب بالنسبة الى المريض ـ فالاستشهاد بذلك على المنع من حصول التبادر بالنسبة الى المجرّد عن القرينة كما هو محطّ النظر في المقام كما ترى.

هذا وقد يستدلّ أيضا على القول المذكور بوجوه اخر :

منها : دعوى الإجماع عليه ، فإنّ العلماء لم يزالوا يستدلّون بالنواهي على الدوام من غير نكير ، وقد حكى ذلك عنهم جماعة من الخاصّة والعامّة ، فمن الخاصّة العلّامة في النهاية والسيّد العميدي في المنية وشيخنا البهائي في الزبدة والفاضل التوني في الوافية وغيرهم ، ومن العامّة الحاجبي والعضدي وغيرهما.

ويرد عليه مثل ما مرّ من عدم دلالة ذلك على حصول الوضع. غاية الأمر حصول الاستفادة ولو من جهة الالتزام العقليّ أو العرفيّ ، فإن اريد بذلك بيان حصول مجرّد الدلالة في الجملة فهو متّجه ، وإن اريد الاستناد إليه في حصول الوضع فهو ضعيف.

٣١

ودعوى أصالة كون الدلالة تضمّنية عند الدوران بينها وبين الالتزاميّة ممّا لا يعرف الوجه فيه.

والقول بأنّ الدلالة الالتزاميّة مغايرة بالذات للدلالة المطابقيّة بخلاف التضمّنية لاتّحادهما بالذات وتغايرهما بحسب الاعتبار فبأصالة عدم تعدّد أصل الدلالة يترجّح كون الدلالة في المقام تضمّنية ، ممّا لا يصغى إليه ، لو سلّم قضاء الأصل بذلك ، لدوران الأمر في المقام مدار الظنّ. وعدم حصوله من التخريج المذكور واضح جدّا.

ثمّ إنّه قد يمنع في المقام من جريان طريقتهم على ذلك ، أو من دلالته على فرض ثبوته على استفادته من اللفظ ، فقد يكون ذلك من جهة انضمام القرائن ، ولا وجه له بعد نقل الجماعة استنادهم في فهم الدوام إلى مجرّد النواهي الواردة.

ومنها : أنّ مبادئ الأفعال نكرات في المعنى فإذا وردت في سياق النفي أو النهي أفادت العموم.

واورد عليه : بالمنع من جريان ذلك في المصادر الّتي في ضمن الأفعال سيّما في المقام ، غاية الأمر ان يسلّم ذلك في النكرة المصرّحة. ويدفعه فهم اشتراك العرف.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ غاية ما يستفاد من النكرة في سياق النفي نفي الحكم عن جميع الأفراد ، وأمّا في جميع الأوقات والأزمان فلا ، ألا ترى أنّ قولك : لا رجل في الدار لا يفيد نفي وجود الرجل فيها في كلّ زمان.

وفيه : أنّه إنّما يتبع الزمان الّذي وقع الحكم بالنسبة إليه من الماضي والحال والاستقبال، ويفيد عدم الحكم بالنسبة إلى ذلك الزمان إن كان قابلا له. وأمّا قولك : لا رجل في الدار فلا يفيد إلّا النفي في الحال ، كما هو قضيّة الجملة الاسميّة في الإثبات (١). فالأولى الإيراد عليه : بأنّه لا دلالة في ذلك على ثبوت الوضع لما سيجيء بيانه إن شاء الله من عدم وضع النكرة في سياق النفي للعموم ، فإن اريد بما ذكر إفادة الموضوعيّة للعموم لم يتّجه ذلك وإلّا كان وجها كما عرفت.

__________________

(١) الإيجاب ـ خ ل.

٣٢

ومنها : ما أشار إليه شيخنا البهائي في حاشية الزبدة وحكاه الفاضل الجواد في الشرح وهو : أنّ ترك الفعل في وقت من الأوقات أمر عاديّ للمكلّف حاصل منه بحسب العادة فلا حاجة إلى النهي عنه ، فلو لم يكن النهي مفيدا للدوام لكان صدوره من الحكيم لغوا.

وأورد عليه تارة : بأنّ من قال بأنّ النهي للمرّة قال بالفور ، كما هو ظاهر من كلام بعضهم حيث صرّح بأنّ النهي لا يفيد إلّا الانتهاء في الوقت الّذي يلي وقت النطق بالنهي ، فلا يلزم عبث على مذهبهم ، وكذا عند من يجعله مشتركا ، فإنّه يتوقّف في الحكم إلى أن يظهر دليل ، وحينئذ فلا يلزم من كون الترك عاديا في بعض الأوقات أن يكون النهي عبثا. كذا ذكره الفاضل الجواد.

ويدفعه عدم دلالة النهي على الفور عند القائل بكونه للمرّة أو لمطلق الطبيعة ، حسب ما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله : من أنّ القائل بنفي دلالته على الدوام ينفي الدلالة على الفور ، وهو وإن لم يكن متّجها كما سنشير إليه ، إلّا أنّ القائل المذكور لا يلزمه القول بدلالته على الفور قطعا ، فلا وجه للإيراد المذكور عند من نفى الدلالة على الفور كما هو المختار.

وتارة : بأنّه يثمر ذلك في حصول الامتثال فإنّه وإن حصل الترك مع انتفاء النهي إلّا أنّه لا يتفرّع عليه حصول الامتثال بالترك إلّا مع حصول النهي فيمكن معه قصد الامتثال.

وأورد عليه : بانّه لا اعتبار لقصد الامتثال في جانب النهي ، إذ ليس المقصود من تشريعه قصد التقرّب المعتبر في العبادات ، لوضوح عدم اندراج النواهي الشرعيّة في العبادة إلّا ما ورد من النواهي المأخوذة في بعض العبادات ـ كالصوم ـ فالمراد به في الحقيقة بيان حقيقة تلك العبادة المأمور بها ، واعتبار الوجه فيه إنّما هو من جهة الأمر فلا ربط له بالمقام.

وفيه : أنّ مقصود المورد إمكان قصد الامتثال حينئذ ، فيترتّب عليه الثواب على فرض حصول القصد المذكور ، وهو كاف في الخروج عن اللغويّة ، لا لزوم

٣٣

حصوله ، واعتباره في نفس التكليف ليكون القصد المذكور مأخوذا في النواهي ليعتبر القربة في التروك المطلوبة بها ليلزم اندراجها في العبادة ، وهو ظاهر.

فالحقّ في دفعه : أن يقال : إنّ ذلك لا يكفي في تصحيح التكليف ، إذ لا بدّ في صحّة التكليف بالفعل أو الترك كونه في حيّز الإمكان ، فيكون خارجا عن درجتي الوجوب والامتناع ، فلو كان الفعل أو الترك واجبا لم يصحّ تعلّق الأمر أو النهي به.

غاية الأمر أنّه إذا كان تركه واجبا كان تعلّق الأمر به قبيحا من قبح التكليف بما لا يطاق ، وإن كان فعله واجبا كان قبحه من جهة الهذرية ، وهي أيضا إحدى الجهات في امتناع التكليف ـ حسب ما تقرّر في محلّه ـ وكذا الحال لو كان الفعل أو الترك واجبا في تعلّق النهي به ، لكن على عكس الحال في الأمر ، وليس مجرّد صحّة قصد الامتثال في صورة وجوب الفعل بالنسبة إلى الأمر وامتناعه بالنسبة إلى النهي كافيا في صحّة التكليف ، فإنّ صحة القصد المذكور فرع تحقّق التكليف ، فإذا كان التكليف قبيحا لم يصحّحه ذلك ولو اخذ ذلك قيدا في الفعل. وتوضيح القول في ذلك يتوقّف على إطالة الكلام ولا يناسبه المقام ، سيّما مع وضوح المرام ولعلّنا نتعرّض في المقام اللائق به. وبالجملة فقبح ما ذكر في الجملة من الامور الظاهرة عند العقل. ألا ترى وضوح قبح أمر المكلّف بالكون في المكان والزمان ونهيه عن الجمع بين النقيضين والطيران في الهواء مطلقا أو مقيّدا بقصد التقرّب؟ مع جريان ما ذكره المستدلّ هنا فيها أيضا. والتحقيق في الإيراد على الدليل المذكور ما عرفته في الجواب عن غيره : من عدم دلالة ذلك على وضع الصيغة للدوام ، إذ لو كان موضوعا لما يستلزم الدوام مع الإطلاق ـ حسب ما قرّرنا ـ كان كافيا في حصول الثمرة المطلوبة.

ومنها : ظهور التناقض عرفا بين قولنا : اضرب زيدا ولا تضربه ، وقد عرفت أنّ مفاد اضرب هو طلب حقيقة الضرب في الجملة الحاصلة بمرّة واحدة ، فلو كان النهي أيضا موضوعا لذلك لم يكن بينهما مناقضة ، لرجوعهما حينئذ إلى قضيّتين مهملتين هما في قوّة الجزئيّة ، ولا تناقض بين الجزئيّتين بوجه من الوجوه.

٣٤

وفيه : أنّ المناقضة بينهما قد تكون من جهة أنّ تعلّق الأمر بالطبيعة يفيد مطلوبيّة الفعل في كلّ آن من الآنات مع عدم فعله في الأوّل ، كما هو قضيّة الإطلاق فيرجع إلى العموم لكن على سبيل التخيير بين جزئيّاته ، وهو لا يجامع الجزئيّة المستفادة من النهي ، ومع الغضّ عن ذلك فقد يكون مبنى المناقضة على انصراف إطلاق النهي إلى الدوام لا وضعه له ، فإن كان المقصود من الدليل المذكور إفادة الوضع له لم يتمّ ذلك. ودعوى أصالة كون الدلالة تضمّنيّة عند الدوران بينها وبين الالتزاميّة وقد عرفت وهنها. وهناك حجج اخرى للقول المذكور موهونة جدّا فهي بالإعراض عنها أحرى.

قوله : (بأنّه لو كان للدوام لما انفكّ عنه ... الخ.)

قد يورد عليه : بأنّ الكلام حينئذ في الدلالة اللفظيّة ، والتخلّف جائز ، واقع بالنسبة إليها ، كيف! وباب المجاز واسع حتّى قيل بأغلبيّته على الحقيقة ، فالملازمة المدّعاة فاسدة جدّا.

ويمكن دفعه تارة بأن الكلام هنا في الملازمة العقليّة ـ حسب ما مرّ ـ ويحتمله الدليل المتقدّم في كلامه ، بناء على أنّ ترك الطبيعة لا يتحقّق إلّا بترك جميع أفرادها ، فيقال لو تمّ ذلك لجرى في جميع النواهي وليس كذلك. واخرى بأنّ التخلّف في الدلالات اللفظيّة إنّما يكون بالنسبة إلى الإرادة دون نفس الدلالة ، والمفروض حصول الثاني فيما ذكره من المثال ، إذ لا يدلّ نهي الحائض عن الصلاة والصيام على المنع منهما على سبيل الدوام ، فذلك وجهان في تقرير الاحتجاج المذكور.

ويمكن الإيراد عليهما : بأنّ أقصى ما يلزم منها عدم وضع الصيغة لخصوص الدوام وعدم استلزام مدلول الصيغة للدوام مطلقا ، حيث حصل الانفكاك بينهما ، ولا يلزم منهما عدم وضع الصيغة لما يستلزم الدوام حال الإطلاق ، وإن أمكن الانفكاك بينهما بعد قيام القرينة متّصلة أو منفصلة على عدم إرادة المطلق ، بل هي حينئذ قد تفيد الدوام أيضا على حسب القيد.

٣٥

والحاصل : أنّ النهي يفيد الدوام مطلقا مع الإطلاق والدوام على حسب القيد مع التقييد ، ولا يفيد الدوام أصلا مع قيام القرينة على ارادة الترك في الجملة من دون لزوم المجاز في شيء من الصور ، حسب ما مرّ بيانه.

وقد يقرّر الاحتجاج بوجه ثالث : وهو أنّه لو كان حقيقة في خصوص الدوام لما كان مستعملا في غيره على وجه الحقيقة ، والملازمة ظاهرة ، والتالي باطل ، لنهي الحائض عن الصلاة والصوم مع كون النهي المتعلّق بهما على وجه الحقيقة دون المجاز.

وفيه : أنّ الدعوى المذكورة محلّ خفاء ، إذ كون النهي عنهما على وجه الحقيقة أوّل الكلام.

وأورد عليه أيضا برجوعه حينئذ إلى الدليل الثالث.

وأنت خبير بما فيه لاختلاف كيفيّة الاستدلال في المقامين وإن اتّحدت المقدّمات المأخوذة فيهما. على أنّ ذلك أيضا ممنوع بناءا على حمل المناقضة في الدليل الآتي على المناقضة الحقيقيّة دون الصوريّة الحاصلة في المجازات الباعثة على صرفها من الحقيقة.

وقد يقرّر ذلك بوجه رابع حاصله : أنّ بعض صيغ النهي ورد لا للتكرار ومجيئه للتكرار أمر مقرّر معلوم ، فيجب أن يكون للقدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والمجاز.

وأنت خبير ببعده عن العبارة جدّا فحملها على ذلك تعسّف ركيك ، مضافا إلى أنّه عين الدليل الثاني. فلا وجه لحمل العبارة عليه ، ثمّ الإيراد بعدم الفرق بين الدليلين ـ كما فعله المدقّق المحشّي رحمه‌الله ـ.

وقد يقرّر بوجه خامس : وهو أنّه لو كان للتكرار لما انفكّ عنه مع إطلاق النهي ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وهو أيضا خارج عن ظاهر العبارة ولا يوافقه الجواب المذكور في كلامه ، وإنّما يناسبه منع الملازمة إن اريد بإطلاق النهي إطلاقه بحسب الظاهر وإن ورد

٣٦

التقييد بعد ذلك ، لجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. ومنع بطلان التالي إن اريد إطلاقه بحسب الواقع. فاحتمال حمل العبارة كما صنعه المدقّق المحشّي رحمه‌الله ليس على ما ينبغي ، وهو ظاهر.

قوله : (وبأنّه ورد للدوام) إن اريد بذلك دفع وضعه لخصوص أحد المعنيين وكلّ منهما ليكون مجازا في الآخر أو مشتركا لفظيّا بينهما فله وجه بناءا على صحّة الاستناد في إثبات الأوضاع إلى الأصل المذكور إلّا أنّه لا يفيد عدم دلالته على الدوام ولو على سبيل الالتزام ، وإن اريد به دفع دلالته على الدوام مطلقا فلا إشعار في الدليل المذكور على دفعه ، أقصى الأمر أن يفيد عدم وضعه للدوام.

قوله : (وبأنّه يصحّ تقييده بالدوام ... الخ.)

يمكن تقرير ذلك بوجهين :

أحدهما : أن يراد به أنّ مدلول النهي على ما هو المنساق منه في العرف قابل للتقييد بالدوام ونقيضه ، من غير أن يعدّ ذلك تكرارا ولا تناقضا في الظاهر ليلزم به الخروج عن ظاهر النهي ، بل مفاده أمر قابل للأمرين ، فيعلم بذلك كون المفهوم منه أعمّ منهما.

ثانيهما : أن يقال إنّه يجوز تقييد النهي بكلّ من القيدين ، والأصل فيما يقيّد أن يكون حقيقة في كلّ منهما هربا من التأكيد والمجاز ـ حسب ما مرّ بيانه في محلّه ـ.

قوله : (والجواب عن الأوّل ... الخ) يمكن تقرير الجواب عن كلّ من الوجهين الأوّلين المذكورين في تقرير الاستدلال ، أمّا على الأوّل : فبأن يقال : إنّ ما يدّعى من الملازمة المذكورة العقليّة إنّما هو بالنسبة إلى النواهي المطلقة ، إذ اقتضاء ترك الطبيعة على سبيل الإطلاق قاض بعدم إدخال شيء من أفرادها في الوجود ، إذ لا يعقل ترك الطبيعة المطلقة إلّا بذلك كما مرّ. أمّا إذا قيّد النهي أو المنهيّ عنه بشيء فإنّما يكون قضيّة النهي حينئذ عدم إدخال شيء من أفراد المنهيّ عنه في الوجود ـ على حسب ما ذكر من القيد ـ فالدلالة على الدوام حينئذ حاصلة

٣٧

أيضا ، لكن على حسب ما حصل من النهي أو على النحو الّذي تعلّق به النهي عن الفعل.

وأمّا على الثاني : فبأنّ الصيغة إنّما وضعت لإفادة الدوام بالنسبة إلى ما تعلّقت به ، فإن تعلّقت بالمطلق أفادت إطلاق الدوام ـ كما هو المقصود في المقام ـ وإن تعلّقت بالمقيّد أفادت دوامه ـ على حسب ذلك القيد ـ ففي المثال المفروض إنّما تعلّق النهي بالصلاة والصيام الواقعين في أيّام الحيض لا مطلقا ، فليس هناك خروج عن مقتضى وضع الصيغة ، وإنّما حصل الخروج عن الظاهر في تقييد المادّة حيث إنّ مقتضاه الإطلاق وقد التزم تقييدها بما ذكر من القيد ، والصيغة تفيد الدوام في الصورتين.

قوله : (إنّ عدم الدوام في مثل قول الطبيب ... الخ.)

أراد بذلك أنّه بعد تسليم قضاء الأصل بما ذكر فإنّما يفيد ما أراده إذا لم يقم دليل على خلافه وقد قام في المقام ، حيث إنّ المتبادر من النهي هو الدوام ولا يفهم منه غيره إلّا لقيام القرينة عليه ـ كما في نهي الطبيب ـ فيكون ذلك دليلا على كونه حقيقة في الأوّل مجازا في غيره.

وأنت خبير : بأنّ التبادر المدّعى في المقام ليس مستندا إلى نفس اللفظ ليفيد كونه حقيقة في خصوص الدوام فلا يتمّ ما ذكره ، بل لو قيل بكون المتبادر من نفس الطبيعة طلب ترك الطبيعة مطلقا ـ كما أنّ المتبادر من الأمر طلب إيجادها كذلك من غير دلالة في نفس اللفظ على مرّة أو تكرار ودوام ـ كان أولى.

قوله : (من حيث إنّ الاستعمال في خصوص المعنيين يصير ... الخ.)

قد عرفت فيما مرّ أنّ ما ذكره يتمّ إذا ثبت استعمال اللفظ في خصوص كلّ من المعنيين ، فاريد من ذلك إثبات كونه حقيقة في القدر الجامع بينهما من غير ثبوت استعماله فيه أو مع ثبوته أيضا ، إلّا أنّه مع عدم الثبوت أوضح فسادا ، وأمّا إذا علم استعماله في القدر الجامع وعلم استعماله في مقام إرادة الدوام تارة وغيره اخرى من غير أن يعلم استعمال الصيغة في خصوص الدوام أو المرّة ، بل لكونه قسما من

٣٨

الطلب كما هو الحال في المقام فلا يلزم ما ذكره ، إذ قضيّة الأصل حينئذ كونه حقيقة في القدر الجامع ، وتنزيل الإطلاقات الخاصّة على كونها من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد ، وإطلاق طلب ترك الطبيعة على قسم خاصّ منه ، مع فهم الخصوصيّة من القرينة المنضمّة إليه أو غيرها ، لاندفاع المجاز والاشتراك إذا ، وفرض جواز استعماله حينئذ في خصوص كلّ من المعنيين فيلزم المجاز والاشتراك أيضا لا يثمر في المقام ، إذ المقصود التخلّص من المجاز والاشتراك في الاستعمالات الواردة ، حيث إنّ الأصل فيها الحقيقة المتّحدة لا فيما يفرض الاستعمال فيه ، بل لا يبعد القول بما ذكرنا فيما إذا لم يعلم حينئذ استعماله في مطلق طلب الترك أيضا ، ودار الاستعمال بين كونه في المطلق أو الخاصّ. وقد مرّ تفصيل القول في ذلك في محلّه.

قوله : (بأنّ التجوّز جائز ... الخ.)

لا يخفى أنّ الجواب المذكور بظاهره لا يلائم شيئا من الوجهين المتقدّمين في تقرير الاحتجاج ، إذ ليس مبنى التقريرين المذكورين على عدم جواز التجوّز والتأكيد حتّى يجاب بجوازهما ووقوعهما في الكلام ، بل مبنى الأوّل على كون ما يستفاد من إطلاق النهي عرفا قابلا للقيدين المذكور من غير أن يخرج النهي به من ظاهره ، فلا وجه لدفعه بجواز كلّ من الأمرين المذكورين. ومبنى الثاني على كون ما ذكر من الأمرين على خلاف الأصل ، فمهما أمكن البناء على انتفائهما تعيّن البناء عليه ، فيكون ذلك تمسّكا بالأصل ، فلا وجه لدفعه بجواز وقوع الأمرين.

ويمكن الجواب بإمكان قطعيّته على كلّ من الوجهين ، أمّا على الأوّل : فبأنّ المقصود منه منع ما ادّعاه من قبول المفهوم من إطلاق النهي لكلّ من القيدين وما يرى من استعماله على الوجهين فمبنيّ على الخروج عن الظاهر من التزام التجوّز أو التأكيد.

وأمّا على الثاني : فبأن يقال : إنّ التجوّز والتأكيد وإن كانا على خلاف الأصل إلّا أنّهما شائعان في الاستعمالات ، فمجرّد كونهما على خلاف الأصل لا يثبت

٣٩

الوضع ، لأنّه أمر توقيفيّ لابدّ في ثبوته من الرجوع إلى توقيف الواضع لا إلى مجرّد الاصول المذكورة.

غاية الأمر أن يرجع إليها في تعيين المراد ويقال : إنّ المقصود أنّهما وإن كانا على خلاف الأصل لكنّهما واقعان في الكلام فلا مانع من الالتزام به بعد قيام الدليل عليه ، لما مرّ من بيان ما يفيد دلالته على الدوام. هذا. وقد يذكر للقول المذكور حجج موهونة اخرى لا بأس بالإشارة إلى جملة منها :

منها : أنّه لو كان موضوعا للدوام لكان قولنا : «لا تضرب زيدا غدا» غلطا ، والتالي واضح الفساد ، أمّا الملازمة فلانحصار استعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز ، والأوّل منفيّ قطعا وكذا الثاني ، إذ لا علاقة بينه وبين الدوام ، ولذا لا يجوز أن يطلق لفظ الدوام ويراد به خصوص الغد ـ مثلا ـ ويوهنه أنّه لو تمّ ذلك فإنّما يتمّ لو كان الدوام تمام مفاد الصيغة ، وأمّا إذا كان بعض مفاده كما هو واضح فأقصى الأمر إسقاط قيد الدوام ، واستعماله في الباقي فيكون من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، ولا يتصوّر إذن مانع من صحّة الاستعمال.

ومنها : أنّه لو كان للدوام لكان مفاد قوله : «لا تفعل» لا تفعل في شيء من الأوقات ، فإذا قلت : «لا تفعل غدا» صار من قبيل تخصيص العامّ بأكثر من النصف وهو غير جائز. وضعفه ظاهر ممّا عرفت ، إذ أقصى الأمر حينئذ إسقاط قيد الدوام فلا يكون من تخصيص العامّ في شيء.

ومنها : أنّ «لا تفعل» مركّب من حرف وفعل وشيء منهما لا يفيد العموم انفرادا قطعا ، والأصل عدم دلالة الهيئة التركيبيّة زيادة على ما هو من مقتضيات التركيب ولوازمه عقلا ، ومن الظاهر أنّ الدوام ليس منها.

وفيه : بعد الغضّ عن عدم جريان الأصل في مداليل الألفاظ أنّ أقصى ما يفيده ذلك عدم وضع الهيئة لإفادة الدوام ، وأمّا عدم كون الدوام مدلولا التزاميّا له مع الإطلاق حسب ما بيّناه فلا ، ويجري ذلك في دفع الوجهين الأوّلين أيضا.

قوله : (لمّا أثبتنا كون النهي للدوام ... الخ) إذا قلنا بكون النهي موضوعا

٤٠