الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٥٩
علم الأصول ، فلو رأيت أنّ الجنب يمسّ آية الكرسي ، فقلت له ، لا يمسّنّ آيات القرآن محدث ، يكون دليلا على أنّ الجنب يحرم عليه مسّ القرآن على الإطلاق.
وأمّا منزلة هارون من موسى ، فيكفي في بيانها قوله سبحانه ـ حكاية عن موسى ـ : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١) فجاء الجواب :
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢).
إنّ من تتبّع سيرة النبي يجده يصوّر عليّا وهارون كالفرقدين في السماء ، والعينين في الوجه ، لا يمتاز أحدهما في أمّته عن الآخر في أمته بشيء ما ، ومن ذلك :
أ ـ إنّ النبي سمّى أبناء علي كأسماء أبناء هارون ، فسمّاهم حسنا وحسينا ومحسنا ، وقال : إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون : «شبّر ، وشبير ، ومشبر» (٣).
ب ـ إنّ النبي اتّخذ عليّا أخاه ، وآثره بذلك على من سواه ، تحقيقا لعموم الشّبه بين منازل الهارونيّين من أخويهما ، وحرصا على أن لا يكون ثمة من فارق بينهما. وقد آخى بين أصحابه ، فجاء عليّ عليهالسلام وقال : آخيت بين أصحابك ، ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنت أخي في الدنيا والآخرة (٤).
ج ـ أمر بسد أبواب الصحابة من المسجد ، تنزيها له عن الجنب والجنابة ، لكنه أبقى باب علي عليهالسلام ، وأباح له عن الله تعالى ، أن يدخل المسجد جنبا ، كما كان هذا مباحا لهارون ، فدلّل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونيّين
__________________
(١) لاحظ سورة طه : الآيات ٢٩ ـ ٣٢ وقوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) يدل على اشتراك هارون مع موسى في النبوة كما يدل عليه قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (سورة مريم : الآية ٥٣) ، ولأجل ذلك استثناها النبي من منزلة هارون من موسى.
(٢) سورة طه : الآية ٣٦.
(٣) مستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٦٥ و ١٦٨.
(٤) سنن الترمذي ، ج ٥ ، ص ٦٣٦ ، الحديث ٣٧٢٠. ومستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٤.
عليهماالسلام ، كما قال ابن عباس : «وسدّ رسول الله أبواب المسجد غير باب علي ، فكان يدخل المسجد جنبا ، وهو طريقه ليس له طريق غيره» (١).
* * *
ج ـ حديث «الغدير»
حديث الغدير ، حديث الولاية الكبرى ، حديث إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب تعالى. وهو حديث نزل به كتاب الله المبين ، وتواترت به السنّة النبوية ، وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى اليوم الحاضر ، وقد صبّ شعراء الإسلام واقعة الغدير ، في قوالب الشعر ، وهو من أحسن ما أثار قرائحهم الشعرية وإليك فيما يلي حاصل تلك الواقعة ، وخطبة النبي الأكرم فيها :
أجمع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، الخروج إلى الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به حجته ، تلك الحجة التي سميت بحجة الوداع ، وحجة الإسلام ، وحجة البلاغ ، وحجة الكمال ، وحجة التمام (٢) ، ولم يحج غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه الله سبحانه. واشترك معه جموع لا يعلم عددها إلّا الله ، وأقلّ ما قيل إنّه خرج معه تسعون ألفا ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك ، كالمقيمين بمكة ، والذين أتوا من اليمن. فلما قضى مناسكه وانصرف ، راجعا إلى المدينة ، ومعه من كان من الجموع المذكورات ، ووصل إلى غدير «خم» من الجحفة ، التي تتشعب فيها
__________________
(١) حديث «سدّ الأبواب كلّها إلّا باب علي» ، من الأحاديث المتضافرة المنقولة عن لفيف من الصحابة ، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ، لاحظ مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٢٦. ومنهم أبوه عمر بن الخطاب ، لاحظ مستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٢٥. ومن أراد التبسّط في أسانيده فعليه بالغدير ، ج ٣ ، ص ٢٠٢ ـ ٢١٥. والمراجعات ، المراجعة ٣٤.
(٢) تسميتها بالبلاغ وبالتمام والكمال ، لنزول قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). وقوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) سورة المائدة : الآيتان ٦٧ و ٣ في ذلك الحج.
طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس ، الثامن عشر من ذي الحجة ، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١) ، وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة ، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم ، حتى إذا أخذ القوم منازلهم ، نودي بالصلاة ، صلاة الظهر ، فصلّى بالناس ، وكان يوما حارا ، يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، فلما انصرف من صلاته ، قام خطيبا وسط القوم على أقتاب الإبل ، وأسمع الجميع رافعا عقيرته ، فقال :
«الحمد لله ، ونستعينه ، ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أمّا بعد :
أيّها الناس ، إنّي أوشك أن ادعى فأجبت ، وإنّي مسئول وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون»؟.
قالوا : «نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ، وجهدت ، فجزاك الله خيرا».
قال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وناره حقّ ، وأنّ الموت حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور»؟.
قالوا : «بلى نشهد بذلك».
قال : «اللهم اشهد». ثم قال : «أيّها الناس ، ألا تسمعون؟».
قالوا : «نعم».
قال : فإنّي فرط على الحوض (٢) ، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين».
فنادى مناد : «وما الثّقلان يا رسول الله؟».
__________________
(١) سورة المائدة : الآية ٦٧.
(٢) أي متقدّمكم إليه.
قال : «الثّقل الأكبر ، كتاب الله ، والآخر الأصغر ، عترتي ، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».
ثم أخذ بيد علي فرفعها ، حتى رؤي بياض آباطهما ، وعرفه القوم أجمعون ، فقال : «أيّها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟».
قالوا : «الله ورسوله أعلم».
قال : «إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم.
فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه ـ يقولها ثلاث مرات ـ ثم قال : اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله :
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية ، فقال رسول الله : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي».
ثم أخذ الناس يهنئون عليّا ، وممّن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر ، كل يقول : بخ بخ ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وقال حسان ، ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتا ، فقال : قل على بركة الله ، فقام حسانا ، فقال :
يناديهم يوم الغدير نبيّهم |
|
بخمّ واسمع بالرسول مناديا |
فقال فمن مولاكم ونبيّكم |
|
فقالوا ولم يبدوا هناك التّعاميا |
إلهك مولانا وأنت نبيّنا |
|
ولم تلق منا في الولاية عاصيا |
فقال له قم يا عليّ فإنّني |
|
رضيتك من بعدي إماما وهاديا |
فمن كنت مولاه فهذا وليّه |
|
فكونوا له أتباع صدق مواليا |
هناك دعى اللهمّ وال وليّه |
|
وكن للذي عادى عليّا معاديا |
فلمّا سمع النبي أبياته قال : «لا تزال يا حسّان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (١).
هذا مجمل الحديث ، في واقعة الغدير ، وقد أصفقت الأمّة على نقله ، فلا نجد حديثا يبلغ درجته في التواتر والتضافر ، ولا في الاهتمام نظما ونثرا.
والاحتجاج به على إمامة عليّ عليهالسلام يتحقق ببيان الأمور التالية :
الأمر الأول : البلاغ الرسمي للولاية
إنّ النبي الأكرم أشاد بولاية علي ووصايته ، في حديث يوم الدار ، في مجتمع محدود ، لا يربو عددهم الأربعين. كما أشاد بخلافته عند توجّهه إلى تبوك ، أمام جماعة من الصحابة والمهاجرين ، وكان هذا وذاك ، وغيرهما ممّا صدر منه صلىاللهعليهوآله ، في ظروف مختلفة ، حول ولاية الإمام ، تهيئة للأذهان ، للإعلان الرسمي لهذه الولاية أمام الجموع الهائلة ، ليقف عليها القريب والبعيد ، والحاضر والبادي ، فقام بإبلاغ ذلك في ذلك المحتشد العظيم ، وأخذ منهم الإقرار والاعتراف ، وهنّأ الصحابة عليّا عليهالسلام ، بهذه المكرمة الإلهية ، فكان هذا إعلانا رسميا ، للأمّة جمعاء ، لا يصحّ لأحد إنكاره ، والتغاضي عنه. وسيوافيك دلالة الحديث بوجه واضح لا يدع لقائل كلمة ، ولا لمجادل شبهة.
* * *
__________________
(١) هذا من أعلام النبوة ، فقد علم أنّه سوف ينحرف عن إمام الهدى في أخريات أيّامه ، فعلّق دعاءه على ظرف استمراره في نصرته. وقد نقل هذه الأبيات عن حسان بن ثابت عدّة من أعلام المؤرخين والمحدّثين ، وإن حذف من ديوانه ، فحرّفت الكلم عن مواضعها ، ولعب بديوانه كما لعب بكثير من الدواوين ، كديوان الفرزدق ، وديوان كميت ، وديوان أبي فراس ، وديوان كشاجم ، التي حذفت منها ما يرجع إلى مدح أهل البيت ورثائهم.
لاحظ الغدير ، ج ٢ ، ص ٣٤ ـ ٤٢.
الأمر الثاني : سند الحديث وتواتره
إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة من عصر الرسول الأكرم إلى يومنا هذا ، يقف عليه من سبر كتب الحديث والتاريخ والسّير والكلام والتفسير وغيرها. وما ربما يصدر من كلمات حول الحديث من أنّه من أحاديث الآحاد ، فهو كلام صدر من المغرضين ورماة القول على عواهنه ، من غير تدبّر وتثبت.
إنّ كتب الإمامية في الحديث وغيره ، مفعمة بإثبات قصة الغدير والاحتجاج بمؤداها. فمن مسانيد معنعنة إلى منبثق أنوار النبوة ، إلى مراسيل أرسلها المؤلفون إرسال المسلّم ، وحذفوا أسانيدها لتسالم الفريقين.
وأمّا المحدثون وغيرهم من أهل السنّة فلا يتأخرون عن الإمامية في نقل الحديث والبخوع لصحته ، والركون إليه ، والتصحيح له ، والإذعان بتواتره إلّا شذّاذ تنكبوا عن الطريقة ، وقد ألّف غير واحد من علماء الإسلام كتبا مستقلة ، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة في الكتب ، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده ، وضبطوا ما صحّ لديهم من طرقه ، كل ذلك حرصا على كلاءة متنه من الدثور ، وعن تطرق يد التحريف إليه ، منهم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين (ت ٢٢٤ ـ م ٣١٠) ، وأبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني المعروف بابن عقدة (م ٣٣٣) ، وأبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمي البغدادي (م ٣٥٥) وغيرهم (١).
ولأجل إيقاف القارئ على اهتمام الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، والعلماء ، والأدباء ، والفقهاء ، بنقل الحديث وضبط أسانيده ، نذكر عدد رواته في كل قرن على وجه الإجمال ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدّة لذلك.
١ ـ روى الحديث من الصحابة ١١٠ صحابيا ، وطبع الحال يستدعي أن يكون رواته أضعاف المذكورين ، لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف ، أو يزيدون.
__________________
(١) ذكر شيخنا الحجة العلامة الأميني ، أسماء المؤلفين وخصوصيات كتبهم ، في الجزء الأول ، من غديره ، ص ١٥٢ ـ ١٥٧.
٢ ـ رواه من التابعين ٨٤ تابعيا.
وأما عدّة الرواة من العلماء والمحدثين فنذكرها على ترتيب القرون.
٣ ـ عدد من رواه في القرن الثاني : |
|
٥٦ عالما ومحدّثا. |
٤ ـ عدد من رواه في القرن الثالث : |
|
٩٢ عالما ومحدّثا. |
٥ ـ عدد من رواه في القرن الرابع : |
|
٤٣ عالما ومحدّثا. |
٦ ـ عدد من رواه في القرن الخامس : |
|
٢٤ عالما ومحدّثا. |
٧ ـ عدد من رواه في القرن السادس : |
|
٢٠ عالما ومحدّثا. |
٨ ـ عدد من رواه في القرن السابع : |
|
٢٠ عالما ومحدّثا. |
٩ ـ عدد من رواه في القرن الثامن : |
|
١٩ عالما ومحدّثا. |
١٠ ـ عدد من رواه في القرن التاسع : |
|
١٦ عالما ومحدّثا. |
١١ ـ عدد من رواه في القرن العاشر : |
|
١٤ عالما ومحدّثا. |
١٢ ـ عدد من رواه في القرن الحادي عشر : |
|
١٢ عالما ومحدّثا. |
١٣ ـ عدد من رواه في القرن الثاني عشر : |
|
١٣ عالما ومحدّثا. |
١٤ ـ عدد من رواه في القرن الثالث عشر : |
|
١٢ عالما ومحدّثا. |
١٥ ـ عدد من رواه في القرن الرابع عشر : |
|
١٩ عالما ومحدّثا. |
وقد أغنانا المؤلفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمة كبيرة من أعلام الطائفة :
منهم العلّامة السيد هاشم البحراني (م ١١٠٧) مؤلف غاية المرام.
ومنهم السيد مير حامد حسين الهندي اللكهنوئي (م ١٣٠٦) ، ذكر حديث الغدير ، وطرقه ، وتواتره ، ومفاده في مجلدين ضخمين في ألف وثمان مائة صحيفة ، وهما من مجلدات كتابه الكبير «العبقات» ، فقد أتمّ الله به الحجة ، وأوضح المحجة ، وكتابه العبقات كتاب جليل ، فاح أريجه بين لابتي العالم ، وطبق حديثه المشرق والمغرب.
ومنهم العلامة المتتبع المحقق الفذّ الشيخ عبد الحسين النجفي (ت ١٣٢٠ ـ م ١٣٩٠) في كتابه الفريد «الغدير» ، وبعين الله ، إنّ كتابه هذا هو المعجز
المبين ، ومن حسنات الدهر الخالدة ، جزاه الله خير الجزاء (١).
* * *
الأمر الثالث ـ دلالة الحديث
إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين ، دلالة واضحة ، لم يشك فيها أي عربي صميم ، عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون ، ولم يفهموا من لفظة المولى سوى معنى الإمامة ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء إلى أن ولّد الدهر إمام المشككين ، فجاء بتشكيكات ، كسائر تشكيكاته ، التي تاب منها عند احتضاره (٢).
والدلالة مركزة على أن لفظ المولى نصّ فيما نثبته من الإمامة بالوضع اللغوي ، أو بالقرائن المحتفة به. وعلى كلا التقديرين ، يكون الحديث حجة قاطعة في الإمامة ، ونحن نسلك كلا الطريقين.
الطريق الأول ـ الدلالة بالوضع اللغوي
إنّ «مفعل» ـ هنا ـ بمعنى «أفعل» ، ولفظ «مولى» أريد منه هنا الأولى ، سواء أقلنا إنّه المعنى الوحيد ـ كما سيوافيك ـ أو أحد معانيه ، كما في قوله سبحانه : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٣).
والمفسّرون للآية على فريقين منهم من حصر التفسير بأنّها أولى بكم ، ومنهم
__________________
(١) ومن أراد التبسط فعليه الرجوع إلى ما ذكرنا من المصادر ، وإلى كتاب «المراجعات» لمصلح الدين ، السيد شرف الدين العاملي رحمهالله.
(٢) لاحظ دائرة المعارف ، لفريد وجدي ، ج ٤ ، ص ١٤٩ ، وفيها أنّه قال : «وأمّا ما استكثرت من إيراد السؤالات ، فإنّي ما أردت إلّا تكثير البحث وتشحيذ الخاطر ، والاعتماد في الكلّ على الله تعالى».
(٣) سورة الحديد : الآية ١٥.
من جعله أحد المعاني ، وهؤلاء أئمة العربية ، عرفوا أنّ هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية ، ولولاه لما صحّ لهم تفسيره به ، يقول الخازن : «هي مولاكم ، أي وليّكم ، وقيل أولى بكم ، لما أسلفتم من الذنوب ، والمعنى : هي التي تلي عليكم ، لأنّها ملكت أمركم وأسلمتم إليها ، فهي أولى بكم من كل شيء» (١). وقد نقل كون المولى بمعنى الأولى ، الرازي في تفسيره عن الكلبي النسّابة (م ١٤٦) والفرّاء (م ٢٠٧) (٢) وأبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري (م ٢١٠) ، والأخفش الأوسط (م ٢١٨) (٣) ، ونهاية العقول (٤).
واستشهد أبو عبيدة ببيت لبيد :
فقدت كلا الفرجين تحسب أنّه |
|
مولى المخافة خلفها وأمامها |
حتى أنّ البخاري ، صاحب الصحيح ، في قسم التفسير منه ، فسّره ب «أولى»(٥).
نعم هنا شبهة ذكرها الرازي في تفسيره ، حسب أنّها تصادم دلالة الحديث على الولاية الكبرى للإمام عليّ عليهالسلام ، فقال في تفسير قوله سبحانه : (هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : «لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة ، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر ، فيجب أن يقال : هذا مولى من فلان ، ولمّا بطل ذلك ، علمنا أنّ الذي قالوه معنى ، وليس بتفسير».
وقال في نهاية العقول : «لو كان المولى يجيء بمعنى الأولى ، لصحّ أن يقرن بأحدهما ، كلّما يصحّ قرنه بالآخر ، لكنه ليس كذلك ، فامتنع كون المولى بمعنى الأولى ، مع أنّه لا يقال : هو مولى من فلان ، ولا يصحّ أن يقال : «هو أولى» بدون من».
__________________
(١) تفسير الخازن ، نقلا عن الغدير ، ج ١ ، ص ٣٤١.
(٢) معاني القرآن ، للفراء ، ج ٣ ، ص ١٣٤.
(٣) لاحظ جميع ذلك في تفسير الرازي ، ج ٨ ، ص ٩٣.
(٤) نهاية العقول ، للرازي ، أيضا.
(٥) صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ٢٤٠.
يلاحظ عليه : قد فات الرازي أنّ اتّحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ ، إنّما يقع في جوهريات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب ، وتصاريف الألفاظ ، وصيغها. مثلا : الاختلاف الحاصل بين المولى والأولى ، بلزوم مصاحبة الثاني بالباء (أولى به) ، وتجرّد الأول منه ، إنّما حصل من ناحية صيغة افعل من هذه المادة ، كما أنّ مصاحبة «من» ، هي مقتضى تلك الصيغة مطلقا ، إذن مفاد «فلان أولى بفلان» ، و «فلان مولى فلان» ، واحد ، حيث يراد به «الأولى به من غيره» ، ويشهد لذلك أنّ «افعل» بنفسه ، يستعمل مضافا إلى المثنّى والجمع ، أو ضمير هما بغير أداة ، فيقال : زيد أفضل الرجلين ، أو أفضلهما ، وأفضل القوم وأفضلهم ، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفردا ، فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، وإنّما يقال هو أفضل منه ، ولا يرتاب عاقل في اتّحاد المعنى في الجميع.
قال الأزهري في باب التفضيل : «إنّ صحة وقوع المرادف موقع مرادفه ، إنّما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وهاهنا منع مانع ، وهو الاستعمال ، فإنّ اسم التفضيل ، لا يصاحب من حروف الجر إلّا «من» خاصة ، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١)». (٢)
ثمّ إنّ الرازي اختار أنّ المولى في الحديث بمعنى «الناصر» ، مع أنّ ما أورده على القول بأنّه بمعنى «الأولى» ، وارد عليه ، فلا يقال في اللغة العربية ، «هو مولى دين الله» ، مكان «ناصر» ، ولا يصحّ تبديل قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣). إلى «من مواليّ إلى الله» ، أو تبديل قول الحواريين : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (٤) إلى «نحن موالي الله».
هذه الحالة مطّردة في كثير من المترادفات التي جمعها الرّماني (م ٣٨٤) في تأليف مفرد ، مع أنّ اختلاف الكيفية حاكم عليها أيضا ، مثلا يقال : عندي
__________________
(١) سورة الأعلى : الآية ١٧.
(٢) التصريح ، لخالد بن عبد الله الأزهري ، باب أفعل التفضيل.
(٣) سورة آل عمران : الآية ٥٢.
(٤) الآية السابقة نفسها.
درهم غير جيد ، ولا يصحّ أن يقال : عندي درهم إلّا جيد ، كما هو السائد في كلمة «هل» و «همزة الاستفهام» ، فإنّهما بمعنى واحد ، ولكن يفترقان بفروق ثلاثة ، أو خمسة ، أو ستة.
ولما كان الإشكال ضئيلا ، قال النيسابوري ، في تفسيره ـ بعد نقل كلام الرازي ، إلى قوله : وحينئذ يسقط الاستدلال به ـ : «قلت : وفي هذا الإسقاط بحث لا يخفى»(١).
ولما وقف التفتازاني على تمامية دلالة الحديث على الإمامة ، حاول رمي الحديث بعدم التواتر ، قال ـ في دلالة الحديث ـ : ««المولى» قد يراد به المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العم ، والناصر ، والأولى بالتصرف ، قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) ، أي أولى بكم ، ذكره أبو عبيدة ، وقال النبي : «أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مولاها» ، أي الأولى بها ، والمالك لتدبير أمرها ، ومثله في الشعر كثير. وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي ، والمالك للأمر ، والأولى بالتصرف ، شائع في كلام العرب ، منقول عن كثير من أئمة اللغة ، والمراد أنّه اسم لهذا المعنى ، لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنّه ليس من صيغة اسم التفضيل ، وأنّه لا يستعمل استعماله ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ، ليطابق صدر الحديث ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأول ، وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره ، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله». إلى أن قال : «ولا خفاء في أنّ الولاية بالناس ، والتولّي ، والمالكية لتدبير أمرهم ، والتصرّف فيهم ، بمنزلة النبي ، وهو معنى الإمامة» (٢).
هذا من غير فرق بين تفسير مفعل ب أفعل ، أي المولى بمعنى أولى ، أو تفسيره بفعيل ، أي الولي ، وقد نصّ على ذلك أئمة العربية منهم الفراء في تفسيره ، وأبو العباس المبرّد ، قالا : «الولي والمولى ، بمعنى في لغة العرب واحد» (٣).
__________________
(١) تفسير النيسابوري ، تفسير سورة الحديد.
(٢) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٩٠.
(٣) لاحظ معاني القرآن للفراء ، ج ٣ ، ص ١٢٤ ، والغدير ج ١ ، ص ٣٦١.
قال في الصحاح : والولي كل من ولي أمر واحد ، فهو وليّه ، وقول الشاعر :
هم المولى وإن جنفوا علينا |
|
وإنّا من لقائهم لزور (١) |
وقال في النهاية : «وكلّ من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه ووليه» (٢).
وقال الفيروزآبادي ، في قاموسه : «المولى : المالك ، والعبد ، والمعتق ، والولي ، والربّ» (٣).
واستشهد الزبيدي في تاج العروس ، على كون مولى بمعنى ولي ، بقولهصلىاللهعليهوآله : «أيّما امرأة أنكحت بغير إذن مولاها ...» (٤).
ليس للمولى إلّا معنى واحد
إنّ السابر في كتب اللغة يرى أنّهم يذكرون في تفسير «المولى» أمورا ، يبدو أنّها معان مختلفة له ، مثلا يقول صاحب القاموس : «المولى : المالك ، والعبد ، والمعتق ، والمعتق ، والصاحب ، والقريب كابن العم ونحوه ، والجار ، والحليف ، والابن ، والعمّ ، والنّزيل ، والشّريك ، وابن الأخت ، والوليّ ، والربّ ، والناصر ، والمنعم ، والمنعم عليه ، والمحبّ ، والتابع ، والصّهر» (٥).
والحق أنّه ليس للمولى إلّا معنى واحد وهو الأولى بالشيء ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل مورد من موارده ، والاشتراك معنوي ، وهو الأولى من الاشتراك اللفظي المستدعي لألفاظ كثيرة غير معلومة بنصّ ثابت ، والمنفية بالأصل المحكّم ، وهذه النظرية أبدعها ابن البطريق الحلّي (ت ٥٣٣ ـ
__________________
(١) الصحاح ، ج ٦ ، مادة «ولى» ، ص ٢٥٢٩.
(٢) النهاية لابن الأثير ، ج ٥ ، ص ٢٢٨.
(٣) القاموس المحيط ، مادة «ولى» ، ج ٤ ، ص ٤٠١.
(٤) تاج العروس ، ج ١٠ ، ص ٣٩٩.
(٥) القاموس ، ج ٤ ، ص ٤٠١.
م ٦٠٠) (١).
وهذا المعنى الواحد ، وهو الأولى بالشيء جامع لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلّا بمناسبة لهذا المعنى :
١ ـ فالمالك أولى بكلاءة مماليكه ، وأمرهم ، والتصرف فيهم.
٢ ـ والعبد أولى بالانقياد لمولاه من غيره.
٣ ـ والمعتق (بالكسر) أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.
٤ ـ والمعتق (بالفتح) أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره.
٥ ـ والصاحب ، أولى بأن يؤدّي حقوق الصحبة من غيره.
٦ ـ والقريب ، هو أولى بأمر القريبين منه ، والدفاع عنهم ، والسعي وراء صالحهم.
٧ ـ والجار ، أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلّها من البعداء.
٨ ـ والحليف ، أولى بالنهوض بحفظ من حالفه ، ودفع عادية الجور عنه.
٩ ـ والابن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له.
١٠ ـ والعمّ ، أولى بكلاءة ابن أخيه ، والحنان عليه ، وهو القائم مقام والده.
١١ ـ والنّزيل ، أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم ، وأمن في جوارهم.
١٢ ـ والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الإضرار.
١٣ ـ وابن الأخت ، أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.
١٤ ـ والولي ، أولى بأن يراعي مصالح المولّى عليه.
١٥ ـ والناصر ، أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.
١٦ ـ والربّ ، أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.
__________________
(١) عمدة عيون صحاح الأخبار ، لابن البطريق ، ص ١١٤ ـ ١١٥.
١٧ ـ والمنعم (بالكسر) أولى بالفضل على من أنعم عليه ، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.
١٨ ـ والمنعم عليه ، أولى بشكر منعمه من غيره.
١٩ ـ والمحب ، أولى بالدفاع عمّن أحبّه ٢٠ ـ والتابع ، أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.
٢١ ـ والصهر ، أولى بأن يرعى حقوق من صاهره ، فشدّ بهم أزره ، وقوي أمره.
إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الاستعمال. والأولوية مأخوذة فيها بنوع من العناية.
إلى هنا قد ظهر أنّ المولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى ، أو بمعنى الولي ، وأنّ ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة ، فليس من قبيل المعاني المختلفة ، حتى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة ، بل من قبيل المصاديق.
هذا كلّه في الطريق الأول.
الطريق الثاني ـ الدلالة بالقرائن
إنّ القرائن الحافة بالحديث تدلّ على أنّ المراد من المولى هو الأولى أو الولي ، وهي على قسمين : قرائن حالية وقرائن مقالية :
والمراد من الأولى ، ما احتف به الكلام الصادر من النبي الأكرم ، من ظروف زمانية ومكانية. والمراد من الثانية ما يتصل بالكلام نفسه من الجمل والعبارات.
أمّا القرائن الحالية ، فبيانها بكلمة جامعة أنا لو فرضنا أنّ لفظ المولى مشترك بين المعاني التي تلوناها عليك ، إلّا أنّه لا يمكن إرادة غيره في المقام ، إمّا لاستلزامه الكفر ، كما إذا أريد منه الرب.
أو الكذب ، كما إذا أريد منه العم ، والابن ، وابن الأخت ، والمعتق ،
والمعتق ، والعبد ، والمالك ، والتابع ، والمنعم عليه ، والشّريك ، والحليف ، وهو واضح لمن تدبر فيه.
وأمّا الصاحب ، والجار ، والنزيل ، والصّهر ، والقريب ، فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني ، لسخافته ، لا سيما في هذا المحتشد الرهيب ، وفي أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، وقد أمر صلىاللهعليهوآله بحبس المتقدم في السير ، ومنع التالي منه ، في محلّ ليس صالحا للنزول ، غير أنّ الوحي الإلهي ، حبسه هناك ، فيكون صلىاللهعليهوآله قد عقد هذا المحتفل ، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر ، وحرّ الهجير ، وحراجة الموقف ، حتى أنّ أحدهم ليضع طرفا من ردائه تحت قدميه ، وطرفا فوق رأسه ، فيرقى هنالك منبر الأهداج ، ويعلمهم عن الله تعالى بأنّه من كان هو صلىاللهعليهوآله مصاحبا أو جارا أو نزيلا عنده ، أو صهرا أو قريبا له ، فعليّ كذلك!!.
وأمّا المنعم ، فلا ملازمة بين أن يكون كلّ من أنعم عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله فعليّ منعم عليه.
وأمّا الناصر والمحب ، فسواء كان كلامه صلىاللهعليهوآله ، إخبارا أو إنشاء ، فاحتمالان ساقطان ، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم ، لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ، ويحبس له الجماهير ، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب ، في موقف حرج ، لا قرار فيه.
فلم يبق من المعاني إلّا الولي ، والأولى به ، والمراد منه المتصرف في الأمر ومتوليه. ذكر الرازي في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) (١) ، قال : قال القفال : «هو مولاكم ، سيّدكم والمتصرّف فيكم» (٢).
فتعين أنّ المراد بالمولى : المتصرّف ، الذي قيّضه الله سبحانه لان يتّبع ، ويكون إماما ، فيهدي البشر إلى سنن النجاة ، فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف
__________________
(١) سورة الحج : الآية ٧٨.
(٢) تفسير الرازي ، ج ٦ ، ص ٢١.
في المجتمع الإنساني ، فليس هو إلا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى ، بأمر إلهي ، لا يبارحه في أقواله وأفعاله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).
وأمّا القرائن المقالية : فمتعددة تثبت أيضا أنّ المولى بمعنى الأولى بالشيء أو بمعنى الولي ، إذا تنازلنا إلى أنّه أحد معانيه ، وأنّه من المشترك اللفظي ، وأمّا على القول بأنّه ليس للمولى إلّا معنى واحد ، كما أوضحناه ، فلا حاجة لذكر القرائن إلّا تأكيدا.
القرينة الأولى : صدر الحديث ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «ألست أولى بكم من أنفسكم» ، أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ، ثم فرّع على ذلك قوله : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». وقد روى هذا الصدر من حفاظ أهل السنّة ، ما يربو على أربع وستين عالما(٢).
فإنّ هذا الصدر يعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى ، ولا وجه للتفكيك المخل.
القرينة الثانية : ذيل الحديث ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» ، وفي جملة من طرق الحديث قوله : وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، أو ما يؤدّي مؤدّاه ، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف ، فما معنى هذا التطويل ، فإنّه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلّا بتنصيب علي مقاما شامخا ، يؤهله لهذا الدعاء.
القرينة الثالثة : أخذ الشهادة من الناس ، حيث قال صلىاللهعليهوآله : «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ حجته حقّ الخ». فإنّ وقوع قوله : «من كنت مولاه» ، في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة ، يحقق كون المراد ، الإمامة ، الملازمة للأولوية على الناس.
__________________
(١) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤.
(٢) لاحظ نقولهم ، في كتاب الغدير ، ج ١ ، موزعين حسب قرونهم.
القرينة الرابعة : التكبير على إكمال الدين ، حيث لم يتفرقوا بعد كلامهصلىاللهعليهوآله ، حتى نزل أمين وحي الله بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (الآية) ، فقال رسول الله : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي ، فأي معنى يكمل به الدين ، وتتم به النعم ، ويرضى به الربّ في عداد الرسالة ، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة ، وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.
القرينة الخامسة : نعي النبي وفاته إلى الناس ، حيث قال صلىاللهعليهوآله : «كأنّي دعيت فأجبت». وفي نقل : «إنّه يوشك أن ادعى» ، أو ما يقرر ذلك ، وهذا يعطي أنّ النبي قد بقيت من تبليغه مهمة ، يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، وهي تعرب عن كون ما أشاد به في هذا المحتشد ، تبليغ أمر مهم ، يخاف فوته ، وليس هو إلّا الإمامة.
أضف إليه أنّه يعرب بذلك عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم ، فيحصل بعده فراغ هائل ، وأنّه يسدّ بتنصيب عليّ في مقام الولاية.
القرينة السادسة : التهنئة ، جاء في ذيل الحديث ، وأخرجه الطبري في كتاب «الولاية» عن زيد بن أرقم ، أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : «معاشر الناس ، قولوا : أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا ، وميثاقا بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهالينا ، لا نبغي بذلك بدلا ، وأنت شهيد علينا ، وكفى بالله شهيدا ، قولوا ما قلت لكم ، وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ، وقولوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، فإنّ الله يعلم كلّ صوت ، وخائنة كل نفس ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) قولوا ما يرضي الله عنكم ، فإن تكفروا ، فإنّ الله غنيّ عنكم».
القرينة السابعة : الأمر بإبلاغ الغائبين : وقد أمر صلىاللهعليهوآله في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب ، فما معنى هذا التأكيد ، إذا لم يكن هناك مهمة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين ، وما هي إلّا الإمامة.
وغير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا المتتبع في غديره (١).
حديث الغدير ورجالات الأدب
شاء المولى سبحانه أن يبقى حديث الغدير على مرّ العصور والأيام ، حجة على المسلمين في التعرّف على مستقرّ الولاية الكبرى بعد النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله ، فقيّض المولى سبحانه ، رجالات الأدب ، وأساتذة الشعر ، فنظموا تلك المأثرة النبوية الخالدة ، وصبّوها في قوالب أشعارهم ، وقرائضهم ، فترى أنّهم ـ وهم أساتذة اللغة وبواقع الأدب ـ يعبّرون عنه بكلمات صريحة في الإمامة ، أو الخلافة. وقبل كل شاهد نذكر بيت الإمام أمير المؤمنينعليهالسلام حيث قال :
وأوجب لي ولايته عليكم |
|
رسول الله يوم غدير خمّ |
ثم بعده حسان بن ثابت ، الذي حضر مشهد الغدير ، وقد تقدّم ذكر أبياته.
ومنهم قيس بن سعد بن عبادة ، الصحابي العظيم ، يقول :
وعليّ إمامنا وإمام |
|
لسوانا أتى به التنزيل |
يوم قال النبيّ من كنت مولاه |
|
فهذا مولاه خطب جليل |
ومنهم داهية العرب ، في قصيدته المعروفة ب «الجلجلية» ، يقول فيها معترضا على معاوية :
وكم قد سمعنا من المصطفى |
|
وصايا مخصصة في علي |
وفي يوم خمّ رقى منبرا |
|
وبلّغ والصحب لم ترحل |
فامنحه إمرة المؤمنين |
|
من الله مستخلف المنحل |
وغيرهم من الشعراء الذين يحتجّ بقولهم في الأدب واللغة ، ككميت بن زيد الأسدي المتوفي عام ١٢٦ ، والعبدي الكوفي من شعراء القرن الثاني ، وشيخ
__________________
(١) لاحظ الغدير ، ج ١ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٨٣.
العربية أبي تمّام ، وغيرهم ممّن يطول بذكرهم المقام (١).
إلى هنا تمّ الكلام حول الحديث متنا وسندا ، وهو يعرب عن حقيقة ناصعة من أجلى الحقائق الدينية ، وهي ثبوت الولاية لعلي بعد النبي ، ولا يرتاب فيها إلّا مغرض لا يرتاد الحقيقة ، أو غافل عن مصادر الحديث (٢).
ثم إنّ هاهنا سؤالين مهمّين ، ربما يدفع البعض بهما حديث الغدير ودلالته ، لا بدّ من ذكرهما ، والإجابة عنهما :
* * *
السؤال الأول : لما ذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟
إنّ هاهنا اعتراضا على تواتر حديث الغدير ، أو دلالته على تنصيب عليّ في مقام الولاية والخلافة ، بأنّه لو كان الأمر كذلك ، فلما ذا لم يأخذه الصحابة مقياسا بعد النبي. وليس من الصحيح إجماع الصحابة ، وجمهور الأمّة على ردّ ما بلّغه النبي في ذلك المحتشد العظيم.
والجواب :
إنّ ذلك أقوى مستمسك لمن يريد التخلص من الاعتناق بالنصّ المتواتر الجلي في المقام ، ولكنه لو رجع إلى تاريخ الصحابة ، يرى لهذه الأمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسية ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل. وفيما يلي نذكر نماذج من هذا الاجتهاد المرفوض قبال النصّ.
١ ـ رزية يوم الخميس
كلّ من ألّم بالحديث والتاريخ ، يعرف حديث «رزية يوم الخميس» ،
__________________
(١) من أراد الوقوف على أشعارهم ، فليرجع إلى الغدير بأجزائه.
(٢) لقد استندنا في هذا البحث الضافي إلى كتاب الغدير ، فنقدر جهود شيخنا العلامة الأميني ، المغفور له.
الذي رواه الشيخان وغيرهما ، أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي : «هلم أكتب لكم كتاب لا تضلّوا بعده أبدا» ، فقال عمر : «إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله». فاختلف أهل البيت ، فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا ، يكتب لكم النبي كتابا لن تضلّوا بعده ، ومنهم يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم (صلىاللهعليهوآله) : قرموا.
قال عبد الله بن مسعود : فكان ابن عباس يقول : «إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم» (١).
٢ ـ سرية أسامة
قد اهتمّ النبي ببعث سرية أسامة بن زيد اهتماما عظيما ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها ، وحثّهم عليها ، ثم عبّأهم بنفسه الزكية ، إرهافا لعزائمهم ، واستنهاضا لهممهم ، فلم يبق أحدا من وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر ، وعمر ، وأبي عبيدة ، وسعد ، وأمثالهم ، إلّا وقد عبّأه بالجيش ، وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر ، سنة إحدى عشرة للهجرة ، فلما كان يوم الثامن والعشرين من صفر ، بدأ به (صلوات الله عليه وآله) مرض الموت ، فلما أصبح يوم التاسع والعشرين ، ووجدهم مثّاقلين ، خرج إليهم فحضّهم على السير ، وعقد اللواء لأسامة بيده الشريفة ، إرهافا لعزيمتهم ثم قال : «اغز باسم الله ، وفي سبيل
__________________
(١) أخرجه البخاري ، في غير مورد ، لاحظ ج ١ ، باب كتابة العلم ، الحديث ٣ ؛ وج ٤ ، ص ٧٠ ؛ وج ٦ ، ص ١٠ ؛ من النسخة المطبوعة سنة ١٣١٤. والإمام أحمد في مسنده ج ١ ، ص ٣٥٥ ، وفيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس. ثم نظرت إلى دموعه على خدّيه تحدر كأنّها نظام اللؤلؤ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ائتوني باللوح والدواة ، أو الكتف ، أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا. فقالوا : «رسول الله يهجر»!!.