الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٥٩
الأمر الأول ـ «الموت» في اللغة والقرآن
قال في المقاييس : «الموت ، أصل صحيح يدل على ذهاب القوة من الشيء ، منه: الموت خلاف الحياة» (١). وهذا هو الأصل في استعماله ، فلو أطلق لفظ الموت على إطفاء النار ، وخروج الأرض من قابلية الزرع والاستصلاح ، أو على النوم ، فالكل يرجع إلى ذلك الأصل.
قال في اللسان : «الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة ، فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢).
ومنها زوال القوة الحسيّة ، كقوله تعالى ـ حاكيا قول مريم عليهاالسلام ـ (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) (٣).
ومنها زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٤) ، و (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٥).
ومنها الحزن والخوف المكدر للحياة ، كقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) (٦).
وقد يستعار الموت للأحوال الشّاقة ، كالفقر والذّلّ ، والسؤال والهرم ، والمعصية» (٧). فالاستعمال في الجميع بأصل واحد.
وقد استعمل القرآن لفظ الموت ـ كما عرفت ـ في موارد ، بهذا الملاك ، مثلا يقول: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) (٨). ويقول في الأصنام : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) (٩). ويطلقه على المراحل المتقدمة من خلق الإنسان ، فيقول : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (١٠). فترى في الجميع نوع ذهاب وزوال ، إمّا للطاقة كما في
__________________
(١) مقاييس اللغة ، ج ٥ ، ص ٢٨٣.
(٢) سورة الروم : الآية ٥٠.
(٣) سورة مريم : الآية ٢٣.
(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢٢.
(٥) سورة النمل : الآية ٨٠.
(٦) سورة إبراهيم : الآية ١٧.
(٧) لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٩٢. لاحظ بقية كلامه.
(٨) سورة يس : الآية ٣٣.
(٩) سورة النحل : الآية ٢١.
(١٠) سورة البقرة : الآية ٢٨.
الأرض ، أو للقدرة على الحركة والتكلم ، كما في الأصنام ، وغير ذلك.
* * *
الأمر الثاني ـ هل الموت أمر عدمي؟
إنّ ملاحظة المعنى اللغوي ، والاستعمال القرآني للفظ الموت ، يفيد أنّ الموت أمر عدمي ، ولكنه من زاوية أخرى ، ليس أمرا عدميا في موت الإنسان ، وذلك لو فسّر الموت بقبض الملائكة الطاقات الحسية الموجودة في الإنسان ، فإنّه أمر وجوديّ ، وإن كانت النتيجة أمرا عدميا.
ويمكن جعله أيضا من الأمور الوجودية ـ في الإنسان ، بمعنى آخر ، وهو أنّ الموت نافذة على الحياة الجديدة ، وانتقال من منزل إلى منزل ، وإلى ذلك لمحات في كلام الأئمة الأطهار من أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآله.
يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام : «أيّها الناس ، إنّا خلقنا وإياكم للبقاء ، لا للفناء ، لكنكم من دار إلى دار تنقلون» (١).
ويقول سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ـ مخاطبا أنصاره يوم عاشوراء ـ «صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبّر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر»؟ (٢).
ويمكن جعله أمرا وجوديا أيضا ، ببيان ثالث ، وهو أنّ الموت حدّ الحياة الدنيوية ، وجدارها الذي إليه تنتهي.
أضف إلى ذلك أنّ الموت ربما يوصف بكونه أمرا عدميا إذا نسب إلى الجسم ، وأمّا إذا نسب إلى الروح فلا يمكن تفسيره إلّا بأمر وجودي ، وهو انتقالها من مرحلة إلى مرحلة.
__________________
(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد ، ص ١٢٧.
(٢) معاني الأخبار ، للصدوق ، ص ٢٨٩.
ولعلّه ـ لأحد هذه الوجوه ـ تعلق به الخلق في قوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (١).
والتقدير في قوله سبحانه ـ في تقدير حياة الإنسان ـ : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٢).
* * *
الأمر الثالث ـ الموت سنة عامة في الخلق
إن قوانين الديناميكا الحرارية تدلّ على أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا ، وأنّها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض (٣). فيومئذ تنعدم وتستحيل الحياة ، وهذا ما كشف عنه العلم الحديث.
والقرآن يصف الموت سنة إلهية عامة ، فيقول في الإنسان : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٤).
ويقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٥) ويقول : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٦).
ويقول الإمام علي عليهالسلام : «ولو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما ، أو لدفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود عليهالسلام ، الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس» (٧).
__________________
(١) سورة الملك : الآية ٢.
(٢) سورة الواقعة : الآية ٦٠.
(٣) وهي الصفر المطلق.
(٤) سورة النساء : الآية ٧٨.
(٥) سورة آل عمران : الآية ١٨٥.
(٦) سورة الأنبياء : الآية ٣٤. ولاحظ الآيات التالية : آل عمران : الآية ١٥ ، الأحزاب : الآية ٦٠ ، الزمر : الآية ١٦ ، الواقعة : الآية ٨ ، الجمعة : الآية ٤٢ ، وغير ذلك.
(٧) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢.
وهناك آيات تدلّ على أنّ انهدام النظام أمر حتمي يوم القيامة ، وهو موته وسيجيء الكلام فيه في المباحث الآتية.
* * *
الأمر الرابع ـ لما ذا يستوحش الإنسان من الموت؟
إنّ للإنسان علاقة شديدة بالبقاء ، وهي ميل طبيعي يحسّه بفطرته. وبما أنّ الموت يضادّ تلك النّغمة الفطرية ، فيجزع الإنسان العادي غير العارف بحقيقة الموت.
وعلى كل تقدير ، فالناس في الحياة الدنيا على قسمين ، قسم يستوحش من الموت ، ويتصوره شبحا مخيفا ، يريد أن يقطع أنياط قلبه ويفترس حياته ، وهؤلاء بين من يرى الموت آخر الحياة ونفادها ، ويتخيّلون أنّ الموت إبطال لذواتهم وشخصياتهم ، ومن يعتقد أنّ الموت نافذة للحياة الأخرى ، من دون أن يستعدوا لتلك المرحلة بصالح الأعمال ، بل أثقلوا كواهلهم بالمعاصي والذنوب ؛ فالموت عندهم سمّ يتجرعونه.
يقول سبحانه تنديدا باليهود : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (١).
وقسم آخر ، يشتاقون إلى الموت ويتلقونه بصدور رحبة ، ووجوه مشرقة ، لأنّهم يرونه انتقالا من حياة مرّة إلى حياة حلوة ، وهؤلاء هم الأنبياء والأولياء.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «ولو لا الأجل الذي كتب عليهم ، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم».
__________________
(١) سورة البقرة : الآيتان ٩٤ ـ ٩٥ ، ولاحظ الجمعة : الآيتان ٧ ـ ٨.
الأمر الخامس ـ الموت وأقسامه
ينقسم الموت إلى أقسام نأتي بها فيما يلي :
أ ـ الموت السهل والموت العسير
لا شكّ أنّ الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى ، لا يخلو من مشقة ، حتى أنّ الطفل عند ما ينتقل من عالم الأجنة إلى عالم الشهود ، يتحمل جهدا ومشقة بالغين. وللإنسان في إطار حياته في النشأتين مراحل حساسة تعدّ كلّ منها منعطفا في مسيرته الوجودية ، وهي : مرحلة التّولّد ، ومرحلة الموت ، ومرحلة البعث ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١).
فالموت أحد هذه الحلقات الرئيسية في وجود الإنسان ، فهو لا يخلو بطبعه من مشقة وعسر ، ولكن لو غضّ البصر عنه ، فالموت حسب القرآن ينقسم إلى موت سهل وموت عسير :
الأول لصلحاء المؤمنين ، والثاني للعصاة والكافرين.
يقول سبحانه : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).
ويقول سبحانه : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٣).
ويقول سبحانه في العصاة والظالمين : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (٤).
__________________
(١) سورة مريم : الآية ١٥ ، ولاحظ مريم : الآية ٣٣.
(٢) سورة النحل : الآية ٣٢.
(٣) سورة الفجر : الآيتان ٢٧ و ٢٨.
(٤) سورة ق : الآية ١٩.
ويقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (١).
وفي الروايات الإسلامية أخبار كثيرة فيما قدمنا (٢).
ب ـ موت البدن وموت القلب
وهناك تقسيم آخر للموت حسب متعلقه ، وهو أنّه تارة ينسب إلى الجسم والبدن ، وأخرى إلى القلب ومراكز الإدراك ، والأول هو الموت الطبيعي ، والثاني من شئون بعض الأحياء ، إذا حلّ الكف محلّ الإيمان ، والجهل مكان العلم في قلوبهم ، فهؤلاء أموات بهذا النظر ، وإن كانوا أحياء ماديين يأكلون ويشربون ويتحركون ، يقول سبحانه : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٣) ويقول : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٤).
ولا يختص الموت بهذه الطغمة الظالمة ، بل يعمّ المتخاذلين المستبطئين في الدفاع عن عزّهم وكيانهم ، ليعيشوا أياما أو أعواما صاغرين ، فهؤلاء أموات في منطق الإمام علي عليهالسلام ، كما أنّ المتفانين في حفظ عزّتهم وكرامتهم أحياء ، وإن تضرّجوا بدمائهم في سوح الجهاد ، يقول عليهالسلام : «فالموت ، في حياتكم مقهورين. والحياة ، في موتكم قاهرين» (٥).
كما أنّ من لا يحسّ بالمسئولية أمام المجتمع ، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعامة مراتبهما ، ميّت الأحياء ، يقول علي عليهالسلام : «ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه ، وقلبه ويده ، فذلك ميّت الأحياء» (٦).
__________________
(١) سورة محمد : الآية ٢٧.
(٢) لاحظ بحار الأنوار ، ج ٦ ص ١٢٢ ـ ١٥٤.
(٣) سورة النمل : الآية ٨٠.
(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢٢. ولاحظ الروم : الآية ٥١ ـ ٥٢.
(٥) نهج البلاغة ، الخطبة ٥١.
(٦) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم : ٣٧٤.
ج ـ موت الفرد والمجتمع
إنّ للفرد شئونا من أوج وحضيض ، ورقيّ وهبوط ، وموت وحياة ، كما أنّ للمجتمع نفس تلك الشئون ، حرفا بحرف.
مثلا : إنّ الثورة نواة تنبت وتشتد وتستوي وتأخذ لنفسها حالة الهجوم والاندفاع ، ولا تبرح على تلك السّمة حتى تنتقل إلى حالة أخرى ، تأخذ لنفسها حالة الدفاع ، وردّ السّهام الموجهة إليها. ولن تبرح على تلك الحالة حتى ينجرّ أمرها إلى الانكسار والانقراض.
ونظير ذلك جميع الحضارات البشرية ، والمناهج الاقتصادية والسياسية الإنسانية ، فلكلّ منها حالات ثلاث : هجوم ، دفاع ، خمود.
فكما أنّ لكل فرد حياة وموتا وأجلا حسب القرآن ، كذلك إنّ للمجتمع حياة وموتا وأجلا.
يقول سبحانه : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ، لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١).
ويعود القرآن ليبين ، عامل تدمير الحضارات والمجتمعات والأنظمة البشرية ، ويركز منها على الظلم بالأخص ، وعلى الإتراف ثانيا ، فالظلم خروج عن الحدّ الوسط ، والإتراف هو الانهماك في المعاصي ، وكلاهما يعجل في هلاك المجتمع واندثاره.
يقول سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (٢). ويقول أيضا : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) (بالطاعة) (فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (٣).
ويقول سبحانه : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ، وَكَفى بِرَبِّكَ
__________________
(١) سورة الأعراف : الآية ٣٤. ولاحظ سورة يونس : الآية ٤٩.
(٢) سورة هود : الآية ١١٧.
(٣) سورة الإسراء : الآية ١٦.
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١). والإمعان في هذه الآية يفيد أنّ الظلم والفسق والذنوب ، مد مرات للمجتمع (٢).
د ـ موت العزّ وموت الهوان
ينقسم الموت إلى موت عزّ وموت هوان ، فالفادون أنفسهم في طريق نشر القسط والعدل والعلم وسائر المبادي الإلهية يموتون موت عزّ وشرف ، والذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ونشر الشرّ والجهل والفساد ، لغاية نيل أجور ضئيلة ومناصب مؤقتة ، يموتون موت الهوان والذلّ والعار.
يقول سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ، بَلْ أَحْياءٌ ، وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (٣).
ويقول سبحانه فيمن خرج طالبا للعلم والإيمان : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (٤).
* * *
الأمر السادس ـ الموت والأجل المسمّى
يقسم القرآن الأجل إلى أجل ، وأجل مسمى ، وبيانه :
إنّ لكل نوع من أنواع الموجودات الحيّة ، بل مطلق الموجودات ، قابلية خاصة لإدامة الحياة والوجود. ومن هذا ، ما يقال إنّ العمر الطبيعي للإنسان هو
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ١٧.
(٢) وأما ما هي الصلة بين هذه العوامل وتدمير المجتمع وانحلاله ، فهو يحتاج إلى بيان خارج عن موضوع الكتاب ، غير أنّا نقول إجمالا : إنّ بين هذه العوامل وإهلاك المجتمع ، رابطة مادية وطبيعية ، وفي الوقت نفسه رابطة إلهية ، فالوقوف على العلل المادية لا يغني عن الإذعان بأنّ هناك رابطة غيبية بين هذه العلل ومعلولها.
(٣) سورة البقرة : الآية ١٥٤. ولاحظ سورة آل عمران : الآية ١٦٩.
(٤) سورة النساء : الآية ١٠٠ ، ولاحظ سورة الحج الآية ٥٨.
مائة وعشرون سنة ، فالإنسان ـ بما هو إنسان ـ قابل لأن يعيش هذا المقدار من الزّمن. وفي ضوء ذلك ، لكلّ إنسان «أجل» ، بهذا المعنى ، ولكنه ليس أجلا حتميا وقطعيا ، بل قد ينقص عنه أو يزيد عليه لعوامل خاصة في حياته ، فربّ إنسان يموت في العقد الخامس أو السادس من عمره ، وهو أجلّ حتمي ومسمى له ، مع أنّ الأجل المطلق كان أزيد منه. وربّ إنسان يعيش أزيد من هذا الحدّ الطبيعي ، ويموت في العقد الخامس عشر من عمره ، وهو أجل حتمي ومسمى له ، وإن كان الأجل المطلق أنقص منه.
والأجل المطلق يعرفه غيره سبحانه ، ولكنّ الأجل الحتمي عنده ، فهو الذي يعرف الحدّ الذي تقف فيه حياة كل إنسان ، ولا تتجاوزه قطعا ، يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (١).
* * *
الأمر السابع ـ الإنابة عند الموت
قد عرفت أنّ قسما من النّاس يخافون من الموت لما علموا من أنّ كواهلهم مثقلة بعظائم الذنوب ، أو لاعتقادهم بأنّه خاتمة المطاف في الحياة البشرية. والصنف الأول ، إذا فوجئوا بالموت ، يلجئون إلى التوبة والإنابة ، ويندمون ، ولكن لات حين مندم ، فإنّهم قد ضيّعوا الفرص ، والتوبة إنّما تقبل إذا كان الإنسان ذا مقدرة على الفعل والترك والطاعة والعصيان ، فيرجّح باختياره الانقياد ، على المخالفة ، وهذا من تقبل توبته ، لأنّ الإنابة في هذا المقام ، تكشف عن تحول روحي ، وثورة نفسانية على المعصية والتمرد والتجري ، وأمّا إذا وصل الإنسان في مدارج حياته إلى نقطة ليس أمامها إلّا طريق واحد ، وهو ترك التمرّد ،
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٢. وبما أنّ الكلام فيه قد سبق في الجزء الثاني من هذا الكتاب «الإلهيات» ، ص ٢٤٢ ـ ٢٤٦ ، فقد اكتفينا بهذا المقدار.
لفقدان القوة والطاقة ، فلا تقبل التوبة عند ذاك ، لأنّها لا تكشف عن انقلاب روحي نحو الكمال ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ، قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١).
وقد ندم طاغية مصر ، فرعون ، عند ما وافاه الغرق ، وأحسّ بالعجز عن استمراره بالعصيان فأسلم ، وقال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٢).
وقد كان الطغاة من الأمم السالفة على هذا النمط ، فلا يلجئون إلى الإنابة إلّا بعد ما يروا بأس الله تعالى ، يقول سبحانه :
(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٣).
يقول الإمام علي عليهالسلام : «فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره» (٤).
* * *
الأمر الثامن ـ الوصية عند الموت
لا ينبغي لا مريء مسلم أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه (٥).
ومع ذلك ربما يترك الإنسان هذه الفريضة ، فله الإيصاء حال الموت.
يقول سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً
__________________
(١) سورة النساء : الآية ١٨.
(٢) سورة يونس : الآيتان ٩٠ و ٩١.
(٣) سورة غافر : الآيتان : ٨٤ و ٨٥.
(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.
(٥) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، كتاب الوصايا ، الباب الأول ، الحديث ٧.
الْوَصِيَّةُ) (١) والمراد من الخير هو المال.
ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، حِينَ الْوَصِيَّةِ ، اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ...) (٢).
* * *
الأمر التاسع ـ جهل الناس بأوان موتهم
اقتضت الحكمة الإلهية جهل الناس بزمان ومكان موتهم ، وذلك لوجهين :
أ ـ لو علم الإنسان بزمن موته ، فربما يفشل في العمل قبل أن يحلّ أجله ، فإنّ العامل الباعث إلى العمل والنشاط في الحياة ، هو الأمل ، فالأمل رحمة ، ولو لاه لما أرضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرة (٣).
ب ـ إنّ لجهل الإنسان بأوان موته ومكانه ، تأثيرا تربويا ، فإنّه لو علم بأنّه سيموت بعد عام أو أشهر ، فترك التمرّد والتجري ، فلا يعد ذلك كمالا روحيا ، وثورة للفضائل على الرذائل ، وهذا بخلاف ما إذا سلك طريق الطاعة ، وترك المعصية ، وهو يرجو العيش أعواما طويلة ، فإنّه يكشف عن كمال روحي ، يدفعه نحو الفضائل ، يقول سبحانه : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (٤).
* * *
الأمر العاشر ـ الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح
قد عرفت أنّ الخلق والتدبير من شئونه سبحانه ، فهو القائل عزوجل :
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٨٠.
(٢) سورة المائدة : الآية ١٠٦.
(٣) سفينة البحار ، مادة : «أمل».
(٤) سورة لقمان ، الآية ٣٤ ، وهاهنا وجه ثالث وهو أنّ علم الإنسان بزمن موته يشجّعه على الفجور والعصيان متكلا على التوبة والإنابة قبل مدّة من حلول أجله.
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١). غير أنّ كونه مدبّرا لا ينافي أن يكون هناك أسباب غيبيّة أو طبيعية لقبض الأرواح فإنّه أيضا من شئون التدبير. فتوفّي الأنفس وأخذها ، فعل لله سبحانه ، وفي الوقت نفسه فعل لملائكته ، يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢).
وفي الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة ، ويقول : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٣).
وفي موضع ثالث ينسبه إلى ملك الموت ، ويقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٤).
والنّسب كلّها صحيحة ، أخذا بما ذكرناه في أقسام التوحيد من أنّ شيئا واحدا يكون فعلا لله سبحانه ، وفي الوقت نفسه فعلا لعباده ، وقد تقدّم ذلك مفصّلا.
* * *
__________________
(١) سورة الأعراف : الآية ٥٤.
(٢) سورة الزمر : الآية ٤٢.
(٣) سورة النحل الآية ٢٨ ، والآية ٣٢ منها.
(٤) سورة السجدة : الآية ١١.
مباحث المعاد
(٧) الحياة البرزخية
البرزخ هو المنزل الأول للإنسان بعد مفارقة الدنيا بالموت ، وتحقيق الحال يتوقف على تبيين معنى البرزخ ، وإثبات الحياة في تلك النشأة التي هي قبل البعث يوم القيامة.
قال ابن فارس في المقاييس : «البرزخ : الحائل بين الشيئين ، كأنّ بينهما برازا أي متسعا من الأرض ، ثم صار كل حائل برزخا فالخاء زائدة لما ذكرنا» (١).
ويقول ابن منظور في اللسان : «البرزخ : ما بين شيئين. وفي الصحاح الحاجز بين شيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة : قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث ، فمن مات فقد دخل البرزخ» (٢).
هذا معنى البرزخ وبه يفسر قوله سبحانه : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣). والوراء في الآية بمعنى الأمام كما في قوله سبحانه : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٤).
__________________
(١) المقاييس ، ج ١ ، ص ٣٣٣.
(٢) لسان العرب ، ج ٣ ، مادة برزخ ، ص ٨.
(٣) سورة المؤمنون : الآية ١٠٠.
(٤) سورة الكهف : الآية ٧٩.
والآية لا تفيد أزيد من وجود الفاصل ، والحاجز بين الدنيا والقيامة ، مثل قوله سبحانه : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١). ولا تدل على وجود حياة في هذا الفصل.
نعم ، هناك آيات يستفاد منها وجود حياة واقعية للإنسان في تلك النشأة ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ قال تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (٢)؟.
وهذه الآية تحكي عن تحقيق إحياءين وإماتتين إلى يوم البعث ، وقد اختلف المفسّرون في تفسيرهما ، والمروي عن ابن عباس أنّ الإماتة الأولى ، حال كونهم نطفا ، فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة الثانية ، ثم أحياهم للبعث ، فهذان إحياءان وإماتتان ونظيره قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣).
يلاحظ عليه : إنّ الآية الثانية ليست نظير الآية الأولى حتى تفسّر بها ، فإنّ الآية الثانية ، تصف الناس بكونهم أمواتا ، وهو ينطبق على الإماتة في حال كون الإنسان نطفة أو قبل ذلك ، بخلاف الآية الأولى فإنّها تحكي عن إماتة الإنسان ، والفرق بين الموت والإماتة واضح ، فالأحوال المتقدمة على النطفة ، ونفسها ، توصف بالموت ، دون الإماتة. فلأجل ذلك لا يصح تفسير الإماتة بما جاء في هذا القول.
والظاهر أنّ المراد هو ما يلي :
الإماتة الأولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا.
والإحياء الأوّل هو الإحياء في البرزخ ، وتستمر هذه الحياة إلى نفخ الصور الأول.
__________________
(١) سورة الرحمن : الآية ٢٠.
(٢) سورة غافر : الآية ١١.
(٣) سورة البقرة : الآية ٢٨.
والإماتة الثانية ، عند نفخ الصور الأول ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (١).
والإحياء الثاني ، عند نفخ الصور الثاني ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٢).
وتعدد نفخ الصور يستفاد من الآيتين ، فيترتب على الأول هلاك من في السموات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله ، وعلى الثاني قيام الناس من أجداثهم ، وفي أمر النفخ الثاني يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٣).
ويقول سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٤). واختلاف الآثار يدل على تعدد النفخ.
وعلى ضوء هذا فللإنسان حياة بعد الإماتة من الحياة الدنيا ، وهي حياة برزخية متوسطة بين النشأتين.
٢ ـ قوله سبحانه : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٥).
وهذه الآية تدل على أنهم دخلوا النار بعد الغرق بلا فصل للفاء في قوله : (فَأُدْخِلُوا). ولو كان المراد هو نار يوم القيامة لكان اللازم الإتيان ب «ثم» أوّلا ، وارتكاب التأويل في قوله (فَأُدْخِلُوا) ، حيث وضع الماضي مكان المستقبل لأجل كونه محقّق الوقوع ، وهو خلاف الظاهر ، ثانيا.
٣ ـ قوله سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ
__________________
(١) سورة الزمر : الآية ٦٨.
(٢) سورة يس : الآية ٥١.
(٣) سورة الكهف : الآية ٩٩.
(٤) سورة المؤمنون : الآية ١٠١.
(٥) سورة نوح : الآية ٢٥.
السَّاعَةُ ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١).
وهذه الآية تحكي عرض آل فرعون على النار صباحا ومساء ، قبل يوم القيامة ، بشهادة قوله بعد العرض : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ). ولأجل ذلك ، عبّر عن العذاب الأول بالعرض على النار ، وعن العذاب في الآخرة ، بإدخال آل فرعون أشدّ العذاب ، حاكيا عن كون العذاب في البرزخ ، أخفّ وطئا من عذاب يوم الساعة.
نعم ، هناك آيات تدلّ على حياة الإنسان في هذا الحدّ الفاصل بين الدنيا والبعث ، حياة تناسب هذا الظرف ، تقدّم ذكرها عند البحث عن تجرّد النفس ، ونكتفي هنا بهذا المقدار ، حذرا من الإطالة.
وأمّا من السنة ، فنكتفي بما جاء عن الصادق عليهالسلام ، عند ما سئل عن أرواح المؤمنين ، فقال : «في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون ربّنا أتمم لنا الساعة وأنجز ما وعدتنا».
وسئل عن أرواح المشركين ، فقال : «في النار يعذّبون ، يقولون لا تقم لنا الساعة ، ولا تنجز لنا ما وعدتنا» (٢).
السؤال في القبر وعذابه ونعيمه
إذا كانت الحياة البرزخية هي المرحلة الأولى من الحياة بعد الدنيا ، يظهر لنا أنّ ما اتّفق عليه المسلمون من سؤال الميت في قبره ، وعذابه إن كان طالحا ، وإنعامه إن كان مؤمنا صالحا ، صحيح لا غبار عليه ، وأنّ الإنسان الحي في البرزخ مسئول عن أمور ، ثم معذّب أو منعّم.
قال الصدوق في عقائده : «اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقّ لا بدّ منها ، ومن أجاب الصواب ، فاز بروح وريحان في قبره ، وبجنة النعيم في الآخرة ، ومن
__________________
(١) سورة غافر : الآية ٤٦.
(٢) البحار ، ج ٦ ، باب أحوال البرزخ ، ص ١٦٩ ، الحديث ١٢٢ ، وص ٢٧٠ ، الحديث ١٢٦.
لم يجب بالصواب ، فله نزل من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة» (١).
وقال الشيخ المفيد : «جاءت الآثار الصحيحة عن النبي أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم ، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة ، فمنها أنّ ملكين لله تعالى ، يقال لهما ناكر ونكير ، ينزلان على الميت فيسألانه عن ربّه ونبيّه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحق ، سلّموه إلى ملائكة النعيم ، وإن أرتج سلّموه إلى ملائكة العذاب. وفي بعض الروايات أن اسمي الملكين الذين ينزلان على الكافر ، ناكر ونكير ، واسمي الملكين الذين ينزلان على المؤمن مبشّر وبشير». إلى أن قال :
«وليس ينزل الملكان إلّا على حيّ ، ولا يسألان إلّا من يفهم المسألة ويعرف معناها ، وهذا يدلّ على أن الله تعالى يحيى العبد بعد موته للمسألة ، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه ، أو لعذاب إن كان يستحقه» (٢).
وقال المحقق الطوسي ، في التجريد «وعذاب القبر واقع ، للإمكان ، وتواتر السمع بوقوعه».
وقال العلامة الحلي ، في شرحه : «نقل عن ضرار أنّه أنكر عذاب القبر ، والإجماع على خلافه» (٣).
والظاهر اتّفاق المسلمين على ذلك ، يقول أحمد بن حنبل : «وعذاب القبر حق ، يسأل العبد عن دينه وعن ربه ، ويرى مقعده من النار والجنة ، ومنكر ونكير حق» (٤).
وقد نسب إلى المعتزلة إنكار عذاب القبر ، والنسبة في غير محلها ، وإنّما المنكر واحد منهم ، هو ضرار بن عمرو ، كما تقدم ، وقد تاب عن الاعتزال ولحق بالمجبرة ، قال القاضي عبد الجبار في فصل عذاب القبر : «وجملة ذلك أنه لا
__________________
(١) عقائد الصدوق ، ص ٨١ ، من الطبعة الحجرية الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.
(٢) شرح عقائد الصدوق : ص ٤٥ ـ ٤٦.
(٣) كشف المراد ، ص ٢٦٦ ، ط صيدا ، ولاحظ إرشاد الطالبين ، ص ٤٢٥.
(٤) السنة ، لأحمد بن حنبل ، ص ٤٧ ، ولاحظ الإبانة للأشعري ، ص ٢٧.
خلاف فيه بين الأمّة إلّا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة ، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا ، فيقول : إنّ المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرّون به» ، ثم استدلّ بآيات على حياة الإنسان في البرزخ (١).
هذا كلّه ممّا لا ريب فيه ، إنّما الكلام فيما هو المراد هنا من القبر ، والإمعان في الآيات الماضية التي استدللنا بها على الحياة البرزخية ، والروايات الواردة حول البرزخ ، يعرب بوضوح عن أنّ المراد من القبر ، ليس هو القبر المادي الذي يدفن فيه الإنسان ، ولا يتجاوز جثّته في السّعة ، وإنّما المراد منه هو النشأة التي يعيش فيها الإنسان بعد الموت وقبل البعث ، وإنّما كنّى بالقبر عنها ، لأنّ النزول إلى القبر يلازم أو يكون بدء لوقوع الإنسان فيها.
والظاهر من الروايات تعلّق الروح بأبدان تماثل الأبدان الدنيوية ، لكن بلطافة تناسب الحياة في تلك النشأة ، وليس التعلق بها ملازما لتجويز التناسخ ، لأنّ المراد من التناسخ هو رجوع الشيء من الفعلية إلى القوة ، أعني عودة الروح إلى الدنيا عن طريق النطفة فالعلقة ، فالمضغة إلى أن تصير إنسانا كاملا ، وهذا منفي عقلا وشرعا ، كما سيوافيك. ولا يلزم هذا في تعلّقها ببدن ألطف من البدن المادي ، في النشأة الثانية.
قال الشيخ البهائي : «قد يتوهم أنّ القول بتعلق الأرواح ، بعد مفارقة أبدانها العنصرية ، بأشباح أخر ـ كما دلّت عليه الأحاديث ـ قول بالتناسخ ، وهذا توهّم سخيف ، لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه ، هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها ، بأجسام أخر في هذا العالم ، وأمّا القول بتعلّقها في عالم آخر ، بأبدان مثالية ، مدّة البرزخ ، إلى أن نقوم قيامتها الكبرى ، فتعود إلى أبدانها الأوّلية بإذن مبدعها ، فليس من التناسخ في شيء» (٢).
قال الرازي : «إنّ المسلمين يقولون بحدوث الأرواح وردّها إلى الأبدان ،
__________________
(١) شرح الأصول الخمسة ، ص ٧٣٠.
(٢) البحار ، ج ٦ ، ص ٢٧٧.
لا في هذا العالم ، والتناسخية يقولون بقدمها ، وردّها إليها ، في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنّة والنار ، وإنّما كفّروا من أجل هذا الإنكار» (١).
نفخ الصّور
إنّ الإنسان الذي يعيش في هذا الكوكب ، بالنسبة إلى المعارف الغيبية ، كالجنين في بطن أمّه ، فلو قيل له إنّ وراء الرحم أنجما وكواكب وشموسا وأقمارا ، وبحارا ومحيطات ، لا يفقه منها شيئا ، لأنّها حقائق خارجة عن عالمه الضيّق ، والإنسان الماديّ القاطن في هذا الكوكب لا يفقه الحقائق الغيبية الموجودة وراء هذا العالم ، فلأجل ذلك لا مناص له من الإيمان المجرّد من دون تعمق في حقيقتها ، وهذا أصل مفيد جدا في باب المعاد ، وعلى ذلك تبتني مسألة نفخ الصور ، فما هو المراد من الصور ، أهو شيء يشابه البوق المتعارف أو شيء غيره؟ وما هو المراد من النفخ؟ لا مناص لنا من الاعتقاد بوجوده وتحققه ، وإن لم نتمكن من التعرف على واقعيته ، ومع ذلك فلا بدّ أن تكون هناك حقيقة واقعية ، لها صلة بين نفخ الصور في هذا العالم ، ونفخه في النشأة الأخرى.
تدلّ الآيات على أنّ الإنسان يعيش في البرزخ إلى أن يفاجئه نفخ الصور ، فعند ذلك يهلك كل من في السموات والأرض إلّا من شاء الله ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢). ففي النفخ الأول موت كل ذي حياة في السّماوات والأرض ، كما أنّ في النّفخ الثاني ، إحياءهم.
يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣).
* * *
__________________
(١) نهاية العقول ، للرازي ، البحار ، ج ٦ ، ص ٢٧٨.
(٢) سورة الزمر : الآية ٦٨.
(٣) سورة يس : الآية ٥١. والآية ناظرة إلى النفخ الثاني.
ما ذكرناه في هذا البحث تصوير وترسيم للنشأة التي يمرّ بها الإنسان بعد موته إلى أن يقوم من جدثه ، ويحشر إلى الله تعالى. وفي البحث القادم تصوير لمشاهد القيامة ، من بداية وقوعها إلى أن يحاسب الإنسان ويصير إلى مآله من الجنة أو النار.
* * *