الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٥٩
بكل وضوح في الجديد ، في موارد كثيرة منها ما يلي :
١ ـ «فإنّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه ، وملائكته ، وحينئذ يجازي كلّ واحد حسب عمله» (١).
٢ ـ «هكذا يكون في انقضاء العالم ، يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ، ويطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء ، وصرير الأسنان» (٢).
٣ ـ «في ذلك اليوم جاء إليه حدقيون ، الذين يقولون ليس قيامة ، فسألوه* قائلين : يا معلم ، قال موسى إن مات أحد وليس له أولاد ، يتزوج أخوه بامرأته ، ويقيم نسلا لأخيه* فكان عندنا سبعة إخوة وتزوج الأول ومات ، وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه ، وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة* وآخر الكل ماتت المرأة أيضا* ففي القيامة لمن من السبعة تكون الزوجة فإنّها كانت للجميع* فأجاب يسوع ، وقال لهم : تضلّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله* لأنّهم في القيامة ، لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء» (٣).
وهذا يعرب عن كون المعاد عند كاتب الإنجيل روحانيا محضا ، لا جسمانيا وروحانيا كما عليه الذكر الحكيم.
٤ ـ «وإن أعثرتك رجلك ، فاقطعها ، خير لك أن تدخل الحياة أعرج ، من أن تكون لك رجلان وتطرح في جهنم في النار التي لا تطفأ* حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ* وإن أعثرتك عينك فاقلعها ، خير لك أن تدخل ملكوت الله أعور من أن تكون لك عينان وتطرح في جهنم النار* حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ» (٤).
٥ ـ «وهذه مشيئة الأب الذي أرسلني ، إن كلّ ما أعطاني لا أتلف منه شيئا
__________________
(١) إنجيل متّى : الأصحاح ١٦ : الجملة ٢٧ ، ط دار الكتاب المقدس.
(٢) إنجيل متى : الأصحاح ١٣ : الجملتان ٤٩ و ٥٠. ط دار الكتاب المقدس.
(٣) إنجيل متى : الأصحاح ٢٢ : الجملتان ٢٣ ـ ٣١ ، ط دار الكتاب المقدس.
(٤) إنجيل مرقس : الأصحاح ٩ : لاحظ الجملات ٤٢ ـ ٤٩ ، ط دار الكتاب المقدس.
بل أقيمه في اليوم الأخير* لأنّ هذه هي مشيئته الذي أرسلني إن كلّ من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (١).
هذا ، وفي العهدين جمل أخر تصرّح أو تشير إلى يوم القيامة ، وقد اقتصرنا على ما ذكرنا روما للاختصار ، والذي نلفت النظر إليه هو عدم اهتمام يهود اليوم ، والأمّة المسيحية ، بالبعث ويوم القيامة وما فيها من الحساب والجزاء ، وهذا هو الذي أجرأهم على المعاصي ، والخلاعة ، والانحلال من كل القيم الأخلاقية ، أعاذنا الله من ذلك ، ولأجل عدم اهتمام البيع والكنائس باليوم الموعود ، صارت تلكما الأمّتين ، يهوديّة ومسيحية بالهوية الدولية ، لا أكثر.
القرآن والمعاد في الشرائع السماوية
قد بيّن الذكر الحكيم وجود تلك العقيدة في الشرائع السماوية من لدن آدم إلى المسيح ، ولأجل أن يقف الباحث على نماذج من ذلك ، نأتي ببعض الآيات الكريمات :
أ ـ إنّه سبحانه ـ بعد ما هبط آدم إلى الأرض ـ يخاطب الخليقة بخطابات عامّة ، تعرب عن أنّ الهدف من إهباطه إليها هو استقرار الخليقة في الأرض استقرارا مؤقتة محدودا ، ليعودوا بعد ذلك إلى النشأة الأخرى. وجاءت تلك الخطابات في آيات مختلفة ، نذكر منها :
ـ (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢).
ـ (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ، فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣).
__________________
(١) إنجيل يوحنّا : الأصحاح ٦ : الجملتان ٣٩ ـ ٤٠ ، ط دار الكتاب المقدس.
(٢) سورة الأعراف : الآية ٢٤.
(٣) سورة الأعراف : الآيتان ٣٥ و ٣٦.
وهذه الخطابات العامة لجميع الخلائق ، تعرب عن أنّ المعاد هو الهدف الأصيل لخلق الإنسان في الأرض ، وأنّ الله سبحانه أنزل آدم لهذه الغاية.
ب ـ نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحا ، الذي جاء لهداية قومه بشريعة بسيطة ، يخاطبهم بخطابات فيها الدعوة إلى تلك العقيدة ، نذكر منها قوله :
ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (١).
فالدعوة إلى المعاد في هاتين الآيتين صريحة ، كما أنّها في الآية التالية بالإشارة.
ـ (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).
ج ـ وهذا إبراهيم بطل التوحيد ، يذكر المعاد واليوم الآخر في غير واحد من كلماته ، كما يحكيه عنه الذكر الحكيم :
ـ (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٣).
ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤).
ـ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٥).
ـ (وَاشْكُرُوا لَهُ ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٦).
وهو سلام الله عليه ، لم يكتف بذلك ، بل طلب من الله تعالى إحياء
__________________
(١) سورة نوح : الآيتان ١٧ ـ ١٨.
(٢) سورة هود : الآية ٤٧ ، وهذا التضرع صدر منه عند ما علم بغرق ابنه في الماء ، فالمراد من الخسران هو الخسران بعد الموت.
(٣) سورة البقرة : الآية ١٢٦.
(٤) سورة إبراهيم : الآية ٤١.
(٥) سورة الشعراء : الآية ٨٧.
(٦) سورة العنكبوت : الآية ١٧.
الموتى ، وحكاه الذكر الحكيم (١). وسيوافيك بيانه في المباحث الآتية.
د ـ وهذا موسى الكليم ، خاطبه سبحانه عند التنديد بأعمال قومه بخطابات ، فيها الوعد والوعيد.
ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).
ونرى أنّ موسى عند ما يدعو على طاغية عصره فرعون مصر ، يطلب له العذاب الأليم ويقول :
(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣).
كما أنّه عليهالسلام ، يخاطب من يفسّر معاجزه بالسحر قائلا :
(رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٤).
ويقول تنديدا بفرعون وملائه :
(إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٥).
وإنّ بني إسرائيل لما كانوا أشدّ الناس لجاجا وعنادا ، قام موسى ـ بأمر منه سبحانه ـ بإحياء الميت في قضية البقرة (٦) ، وسيوافيك بيانه في المباحث الآتية.
نعم ، كانت العقيدة بالمعاد ، عقيدة واضحة بين الشرائع السماوية ، حتى
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٢٦٠.
(٢) سورة الأعراف : الآيتان ١٤٦ و ١٤٧.
(٣) سورة يونس : الآية ٨٨.
(٤) سورة القصص : الآية ٣٧.
(٥) سورة غافر : الآية ٢٧.
(٦) سورة البقرة : الآية ٧٢.
أنّ مؤمن آل فرعون أخذ يعظ قومه بكلمات فيها إخافتهم من يوم القيامة ، ويقول :
ـ (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (١).
ـ (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٢).
ـ (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) (٣).
ه ـ وهذا المسيح عيسى بن مريم ، يخاطبه سبحانه بآيات فيها التذكير بيوم القيامة ، يقول :
ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ* وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤).
المعاد في القرآن
إذا كان المعاد يحتل المكانة العليا في الشرائع السماوية ، وكان القرآن خاتم الكتب ، والمبعوث به خاتم الأنبياء ، فيناسب أن يكون المعاد مطروحا فيه ، بشكل مستوف ، مقترنا بالدلائل العقلية المقنعة.
وقد صدّق الخبر الخبر ، فالذكر الحكيم يعتني بالمعاد ، ويهتم به اهتماما بالغا ، يكشف عنه كثرة الآيات الواردة في مجال المعاد ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليه في القرآن فبلغ زهاء ألف وأربعمائة آية ، وكان السيد العلامة الطباطبائي
__________________
(١) سورة غافر : الآية ٣٢.
(٢) سورة غافر : الآية ٣٩.
(٣) سورة غافر : الآية ٤٣.
(٤) سورة آل عمران : الآيات ٥٥ ـ ٥٧ ..
رحمهالله يقول بأنّه ورد البحث عن المعاد في القرآن في آيات تربو على الألفين ، ولعلّه ضمّ الإشارة إليه ، إلى التصريح به. وعلى كل تقدير ، فهذه الآيات الهائلة ، تعرب عن شدّة اهتمام القرآن به.
أسماء المعاد في القرآن
ويعرب عن هذا الاهتمام أنّه سبحانه يسميه بأسماء ، ويصفه بصفات خاصة ، فيسميه ب :
١ ـ يوم القيامة ، ٢ ـ يوم الدين ، ٣ ـ اليوم الآخر ، ٤ ـ يوم الحسرة ، ٥ ـ يوم الوقت المعلوم ، ٦ ـ يوم الحق ، ٧ ـ يوم الفصل ، ٨ ـ يوم الحساب ، ٩ ـ يوم التلاق ، ١٠ ـ يوم الآزفة ، ١١ ـ يوم التناد ، ١٢ ـ يوم الوعيد ، ١٣ ـ يوم الخلود ، ١٤ ـ يوم الخروج ، ١٥ ـ يوم الجمع ، ١٦ ـ يوم التغابن ، ١٧ ـ اليوم الموعود ، ١٨ ـ يوم البعث ، ١٩ ـ الساعة ، ٢٠ ـ الحاقّة ، ٢١ ـ القارعة ، ٢٢ ـ الطامّة الكبرى ، ٢٣ ـ الصاخّة ، ٢٤ ـ الميعاد ، ٢٥ ـ الغاشية ، ٢٦ ـ الآخرة.
ويصفه بأنّه : ١ ـ يوم عظيم ، ٢ ـ يوم كبير ، ٣ ـ يوم محيط ، ٤ ـ يوم عقيم ، ٥ ـ يوم أليم ، ٦ ـ يوم مشهود ، ٧ ـ يوم عسير ، ٨ ـ يوم عبوس قمطرير ، ٩ ـ يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة ، ١٠ ـ يوم مجموع له الناس ، ١١ ـ يوم تشخص فيه الأبصار. ١٢ ـ يوم على الكافرين عسير ، ١٣ ـ يوم لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ، ١٤ ـ يوم يجعل الولدان شيبا ، وغير ذلك من الأوصاف.
* * *
مباحث المعاد
(٢) أدلة وجوب المعاد وضرورته
قد تعرفت على أنّ الحياة الأخروية للإنسان ، أمر ممكن لا يمنع منه شيء ، وإنّما الكلام في وجوب وقوعها وضرورة وجودها. وفيما يلي نستدلّ على ضرورة وجود هذه النشأة بوجوه عقلية هدانا إليها القرآن الكريم.
الدليل الأول ـ صيانة الخلقة عن العبث
ذكرنا أنّ أحد الأسئلة التي تلاحق كلّ إنسان ويعاني منها ، هو الوقوف على هدف الخلقة ، وأنّه لما ذا خلق ، وما هو الغرض من خلق الإنسان ، والإنسان الإلهي بما أنّه يصون فعل الحقّ عن العبث واللغو (لا بمعنى أنّ هناك غرضا للخالق يستكمل به ، بل بمعنى أنّ فعله ليس بلا غاية) ، يجيب بأنّه لم يخلق عبثا ولا سدى ، بل خلق ليبلغ الكمال الذي يناله في النشأة الأخروية ، على وجه لولاها لأصبح خلقه وإيجاده لغوا وباطلا.
ثم إنّ هذا الدليل ، أي صيانة فعل الباري عن العبث ، يمكن بيانه بوجوه ، تتحد في الجوهر ، وإنّما تختلف في التقرير وهي :
١ ـ المعاد وغاية الخلقة.
٢ ـ المعاد والحقّ المطلق.
٣ ـ المعاد والنّظم البديع.
فيستدلّ على المعاد تارة بأنّه هو غاية الخلقة ، وأخرى بأنّ الحقّ تعالى شأنه لا ينفك فعله عن غاية ، وثالثة بأنّ النّظم البديعة السائدة على العالم لا تنفك عن غرض وغاية ، والكلّ صور مختلفة لاستدلال واحد ، استوحيناه من الذكر الحكيم ، فإليك بيانها :
١ ـ المعاد غاية الخلقة
يستدلّ الذكر الحكيم على لزوم المعاد بأنّ الحياة الأخروية هي الغاية من خلق الإنسان وإنزاله إلى هذه البسيطة ، وأنّه لولاها لصارت حياته منحصرة في إطار الدنيا ، ولأصح إيجاده وخلقه ـ بالتالي ـ عبثا وباطلا ، والله سبحانه منزّه عن الإيجاد بلا غرض ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١).
ومن لطيف البيان في هذا المجال قوله سبحانه : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) فترى أنّه يذكر يوم الفصل بعد نفي كون الخلقة لعبا ، وذلك يعرب عن أنّ النّشأة الأخروية تصون الخلقة عن اللغو واللعب ، وبذلك تظهر صلة الآيات.
٢ ـ المعاد والحق المطلق
ومن لطائف البيان في القرآن الكريم أنّه تعالى يصف نفسه بالحق (المطلق) وأنّه لا حقّ سواه ، ثم يرتب على ذلك إحياء الموتى والنشأة الآخرة ، وذلك لأنّ الحق المطلق عبارة عن الوجود الذي لا يتطرق البطلان إلى ذاته أوّلا ، وصفاته ثانيا ، وأفعاله ثالثا ، ولو كان فعله بلا غاية ولا هدف ، لما كان حقّا مطلقا ،
__________________
(١) سورة المؤمنون : الآية ١١٥ ، ولاحظ سورة ص : الآية ٢٧.
(٢) سورة الدخان : الآيات ٣٨ ـ ٤٠.
فيستدلّ بكونه حقّا محضا على لزوم الغاية التي تتمثل في الحياة الأخروية للإنسان ، يقول سبحانه :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١).
ولعلّ من هذا الباب وصفه سبحانه نفسه بالحق ، ثم ذكره بعد ذلك آيات البعث والقيامة ، فكأنّه يشير بذلك إلى أنّ كونه حقّا مطلقا لا يعتريه الباطل ، يلازم البعث ، وإلّا لا يكون حقّا مطلقا ، نرى هذا البيان في قوله سبحانه :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) (٢).
ثم بعد ثلاث آيات يقول :
(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٣).
ومثله قوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) (٤).
ثم بعد آيتين يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ...) (٥).
٣ ـ المعاد والنظم البديع
وفي الذكر الحكيم تلويح وإشارة إلى هذا النوع من الاستدلال ، حيث نرى أنّه سبحانه يذكر النبأ العظيم واختلاف الناس فيه بين مثبت وناف ، ثم يبيّن
__________________
(١) سورة الحج : الآيتان ٦ و ٧.
(٢) سورة الحج : الآية ٦٢.
(٣) سورة الحج : الآية ٦٦.
(٤) سورة لقمان : الآية ٣٠.
(٥) سورة لقمان : الآية ٣٣.
النظام البديع السائد في الكون ، ببيان رائق مبسوط ، معربا عن أنّه لو لا النبأ العظيم ، لأصبح خلق العالم بلا غاية.
يقول سبحانه : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ* الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ).
ثم يقول : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً) إلى قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (١).
وبذلك تقف على انسجام الآيات وصلة بعضها ببعض.
وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين إشارة إلى هذا النمط من الاستدلال ، يقول عليهالسلام.
«وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مرفلين في مضمارها إلى الغاية القصوى»(٢).
وفي خطبة أخرى قال عليهالسلام : «قد شخصوا من مستقر الأجداث وصاروا إلى مصائر الغايات» (٣).
* * *
الدليل الثاني ـ المعاد مقتضى العدل الإلهي
لزوم العمل بالعدل ، والاجتناب عن الظلم ، من فروع التحسين والتقبيح العقليين ، اللذين هما من أحكام العقل العملي. فمن قال بلزوم فعل الحسن واجتناب القبيح ، يرى العمل بالعدل واجبا لكل فاعل مريد مختار ، من غير فرق
__________________
(١) سورة النبأ : الآيات ١ ـ ١٧.
(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٦.
(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٠. وفي رسالته إلى ابنه الحسن : «واعلم يا بنيّ أنّك خلقت للآخرة لا للدنيا الخ». (الكتاب ٣١).
بين أن يكون ممكنا ، أو واجبا ، لأنّ الحسن حسن في كل حال ، والقبيح قبيح كذلك.
وهناك جماعة من المتكلمين ـ كالأشاعرة ـ ينكرون التحسين والتقبيح العقليين ، ويتركون المجال في القضاء بهما للوحي السماوي ، وهم أيضا يقولون بلزوم العمل بالعدل والاجتناب عن الظلم ، بحكم أن الشرع قد أمر بهما ، وأنّه سبحانه وصف نفسه بالقيام بالقسط (١) ، فتكون النتيجة لزوم معاملة العباد بالعدل.
ثم إنّ إثابة المطيعين من باب التفضل منه سبحانه ، لأنّهم يطيعونه تعالى بفضل ما أنعمه عليهم من النعم الوجودية ، كما أنّ عقاب العصاة ، حق محض له ، فله أن يعفو عنهم(٢).
هذا هو حكم العقل في كل واحد من القسمين : المطيع والعاصي ، إذا لوحظا مستقلين.
ولكن هناك كلام آخر ، وهو أنّه لو كان جميع العباد مطيعين سالكين نهج الامتثال ، فله التفضل بالثواب ، كما له تركه. وكذلك لو كان جميع العباد ، عصاة سالكين نهج المخالفة ، فله سبحانه معاقبتهم أو العفو عنهم ، ولكنّ العباد ، ينقسمون إلى قسمين ، فهم بين مطيع وعاص ، والتسوية بينهم بصورها المختلفة ، خلاف العدل. فإنّه لو أثاب الجميع أو عاقب الجميع ، أو تركهم سدى من دون أن يحشروا في النشأة الأخرى ، كان ذلك كلّه على خلاف العدل ، وخلاف ما يحكم به العقل من لزوم كون فعله تعالى حسنا ، فهنا يستقل العقل بأنّه يجب التفريق بينهما من حيث المصير والثواب والعقاب. وبما أنّ هذا غير متحقق في النشأة الدنيوية ، فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى يتحقق فيها ذلك الميز ، ويفرّق فيه بين المطيعين والعاصين ، وهو المعاد.
وهذا الدليل العقلي يشير إليه القرآن الكريم في لفيف من آياته ، وهي على
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ١٨. وسورة يونس : الآية ٤٤.
(٢) كل ذلك مع قطع النظر عن وعده ووعيده.
قسمين : قسم يندد بالتسوية وينكرها ، وقسم يصرّح بالفرق بين العاصي والمطيع في النشأة الآخرة.
فمن القسم الأول :
ـ قوله سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (١).
ـ قوله سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).
ـ قوله سبحانه : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٣).
ومن القسم الثاني :
ـ قوله سبحانه : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤).
ـ وقوله سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ، وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ* وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ* لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ، إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥).
ـ قوله سبحانه : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
__________________
(١) سورة ص : الآية ٢٨.
(٢) سورة القلم : الآيتان ٣٥ و ٣٦.
(٣) سورة الجاثية : الآية ٢١.
(٤) سورة يونس : الآية ٤.
(٥) سورة إبراهيم : الآيات ٤٨ ـ ٥١.
تَسْعى) (١).
فقوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ) و (لِتُجْزى) ، إشارة إلى أنّ قيام القيامة ، تحقيق لمسألة الثواب والعقاب ، الذين هما مقتضى العدل الإلهي.
وفي كلام الإمام علي إشارة إلى هذا البيان :
قال عليهالسلام : «يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب ، وجزاء الأعمال»(٢).
وقال عليهالسلام : «فجدّدهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال». (٣).
* * *
الدليل الثالث : المعاد مجلى لتحقق وعده ووعيده
وهناك دليل ثالث يضفي على المعاد الضرورة والقطعية ، وهو مركب من مقدمة شرعية ، وحكم عقلي ، وذلك أنّه سبحانه قد وعد المطيعين بالثواب ، والعاصين بالعقاب ، وهذه صغرى البرهان أخبر عنها الشرع. وحكم العقل عندئذ واضح ، وهو أنّ إنجاز الوعد حسن ، والتخلّف عنه قبيح. نعم ، تقدم في الدليل السابق أنّ العباد لا يستحقون الثواب بطاعتهم ، وإنّما هو جود وتفضّل ، لكن هذا بغضّ النظر عن الوعد به ، وأمّا معه ، فالوفاء به لازم.
والآيات الواردة في هذا المجال على قسمين : قسم يذكر فيه وعده بالقيامة ووعده بالثواب ووعيده بالعقاب. وقسم يذكر أنّه ينجز وعده ولا يخلف.
أمّا القسم الأول : فما يدلّ عليه كثير ، نذكر بعضه.
ـ أمّا ما يدلّ على الوعد بالقيامة ، فمنه قوله تعالى :
__________________
(١) سورة طه : الآية ١٥. ولاحظ سورة سبأ الآيات ٣ ـ ٥ ، سورة الزلزلة : الآية ٦.
(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٢.
(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (١).
ـ وما يدل على الوعد بالثواب ، فمنه قوله تعالى :
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هذا ما تُوعَدُونَ) (٢).
ـ وما يدلّ على الوعيد بالعقاب ، فمنه قوله تعالى :
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣).
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (٤).
وأمّا القسم الثاني : الذي يركّز على حكم العقل ويدعمه ، وينفي الخلف عن وعده ، فمنه قوله تعالى :
(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ، إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥).
(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٦).
وعلى هذا الأساس يستدلّ المحقق الطوسي ، على ضرورة المعاد ، بقوله : «ووجوب إيفاء الوعد ، يقتضي وجوب البعث» (٧).
* * *
__________________
(١) سورة الزخرف : الآية ٨٣. لاحظ الذاريات : ٦٠ ، المعارج : ٤٤ ، الأنبياء : ١٠٣.
(٢) سورة ق : الآيتان ٣١ و ٣٢.
(٣) سورة الحجر : الآية ٤٣.
(٤) سورة هود : الآية ١٧.
(٥) سورة آل عمران : الآية ٩.
(٦) سورة آل عمران : الآية ١٩٤.
(٧) كشف المراد ، المقصد السادس ، المسألة الرابعة ، ص ٤٠٦.
الدليل الرابع : المعاد مجلى لرحمته سبحانه
ومن لطائف الكلام في الذكر الحكيم أنّه عدّ المعاد فرعا لرحمته ، وجعله مجلى لها ، قال سبحانه : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١).
فترى أنّه سبحانه يرتّب جمع الناس إلى يوم القيامة ، على قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، وذلك لأنّ هذا اليوم يوم الرحمة للمؤمن والكافر ، غير أنّ الكافر ، قد خسر نفسه باقتراف المعاصي وترك الفرائض في الدنيا ، فلا يتوفق لنيل رحمته تعالى ، ولعلّه سبحانه إلى ذلك يشير في الآية بقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
ويعود معنى الآية إلى أنّ يوم القيامة أشبه بمائدة ممدودة ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، ولكن الانتفاع منها رهن قيود وشروط هي في وسع كل واحد من المكلّفين. فلو حرم الكافر من الرحمة ، فهو بفعل نفسه وما جنته يداه لا من جانبه سبحانه ، وهذا كابتلاء العباد وامتحانهم ، فإنّه رحمة ، لأنّ الهدف منه خروج الطاقات من القوة إلى الفعل ، والكمالات من الخفاء إلى البروز ، ولكن الكافر لا يخرج منه إلّا راسبا غير مستفيد من أهداف الابتلاء ، بل يخسر نفسه بفتور عزمه في مجال الطاعة.
ويمكن استفادة ذلك من الآية التالية ، وهي قوله سبحانه :
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢). فللآية دلالتان :
المطابقية منهما تهدف إلى تشبيه إحياء الموتى بإحياء الأرض حتى يرجع المنكر عن إنكاره بمشاهدة إحياء محسوس ، وهو إحياء الأرض. والالتزامية منهما تدلّ على أنّ
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ١٢.
(٢) سورة الروم : الآية ٥٠.
إحياء الموتى يوم القيامة ، رحمة من الله سبحانه لهم ، كما أنّ إحياء الأرض رحمة من الله سبحانه لعباده.
* * *
الدليل الخامس : المعاد خاتمة المطاف في تكامل الإنسان
إنّ الحركة تتقوم بأمور ستة ، منها الغاية ، كما حقق في محلّه. اعتبار الغاية في حقيقة الحركة ينشأ من تصوّر مفهومها ، فإنّ الحركة جهد وسعي ، يتطلب صاحبها غاية يفقدها ، من غير بين أن تكون الغاية عقلائية ، كحركة الطالب لتحصيل العلم ، أو غير عقلائية ، كاللعب بالسّبحة لترويح النفس.
ونرى أنّ الإنسان منذ تكونه نطفة فعلقة فمضغة ، إلى أن يفتح عينه على الوجود ، في حال حركة دائمة وسعي متواصل ليس له ثبات ولا قرار ، وهو يطلب بحركته وسعيه شيئا يفقده. فعلى ذلك لا بدّ من وجود يوم يزول فيه وصف اللاقرار ، ويدخل منزلا فيه القرار والثبات ، يكون غاية المطاف.
والحركة وإن كانت تتوقف بالموت ولا يرى بعدها في الإنسان سعي ، لكنّ تفسير الموت ببطلان الإنسان وشخصيته الساعية ، إبطال للغاية التي كان يتوخاها من حركته ، فلا بدّ أن يكون الموت ورودا إلى منزل آخر ، يصل فيه إلى الغاية المتوخاة من سعيه وجهاده ، وذلك المنزل هو النشأة الأخروية.
ولا يصح أن يقال إنّ الغاية من الحركة والسعي والكدح ، هو نيل اللذائذ المادية والتجمّلات الظاهرية ، لوضوح أنّ الإنسان مهما نال منها ، لا يخمد عطشه ، بل يستمر في سعيه وطلبه ، وهذا يدلّ على أنّ له ضالة أخرى يتوجّه نحوها ، وإن لم يعرف حقيقتها ، فهو يطلب الكمال اللائق بحاله ، ويتصور أنّ ملاذّ الحياة غايته ، ومنتهى سعيه ، ولكنه سوف يرجع عن كل غاية يصل إليها ويعطف توجهه إلى شيء آخر.
قال صدر المتألّهين : الآيات التي ذكرت فيها النطفة وأطوارها الكمالية ،
وتقلّباتها من صورة النقص إلى صورة أكمل ، ومن حال أدون إلى حال أعلى ، فالغرض من ذكرها ، إثبات أنّ لهذه الأطوار والتحولات غاية أخيرة ، فللإنسان توجّه طبيعي نحو الكمال ، ودين إلهي فطري في التقرّب إلى المبدأ الفعّال ، والكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق أوّلا من هذه الطبيعة ، وإلّا كان لا يوجد في هذا العالم الأدنى ، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعي ، وفيها الغاية والمنتهى ، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية ، من الجمادية والنباتية ، والحيوانية ، وبلغ أشدّه الصوري ، وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني ، فلا بدّ أن يتوجه نحو النشأة الآخرة ، ويخرج من القوة إلى الفعل ، ومن الدنيا إلى الأخرى ، ثم المولى ، وهو غاية الغايات ، ومنتهى الأشواق والحركات(١).
وفي الآيات الكريمات إشارات إلى هذا البرهان ، يفهمها الراسخون في الذكر الحكيم.
يقول سبحانه : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (٢).
وأنت إذا لاحظت هذه الآيات وما تقدمها ممّا يتكفل ببيان خلقة الإنسان ، ترى لها انسجاما وترابطا خاصّا ، فالله سبحانه يصف الإنسان بأنّه كان نطفة فعلقة فمضغة ، إلى أن أنشأه خلقا آخر ، ثم يوافيه الموت ، ثم يبعث يوم القيامة ، فكأنّ الآية تبيّن تطور الإنسان تدريجا من النقص إلى الكمال ، ومن القوة إلى الفعل ، وأنّه منذ تكوّن يسير في مدارج الكمال ، إلى نهاية المطاف وهو البعث يوم القيامة ، فهذا غاية الغايات ، ومنتهى الكمال.
ويمكن استظهار ذلك من قوله سبحانه : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٣) ، بالبيان الماضي في الآية السابقة.
__________________
(١) الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٥٩.
(٢) سورة المؤمنون : الآيات ١٤ ـ ١٦.
(٣) سورة النجم : الآيات ٤٥ ـ ٤٧.
ولعلّه لأجل ذلك يصف القرآن يوم البعث ب «المساق» ، و «الرّجعى» ، و «دار القرار» ويقول : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (١) ، و (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٢) ، و (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣).
* * *
الدليل السادس ـ المعاد مقتضى الربوبية
إنّ الربّ في اللغة بمعنى الصاحب ، يقال : ربّ الدّار ، وربّ الضّيعة. فالربوبية تحكي عن مالكية الرّبّ ، ومملوكية المربوب.
والعلاقة المتّسمة بالربوبية ، تقتضي كون المربوب ذا مسئولية أمام ربّه ، وأنّ الربّ لا يتركه سدى ، بل يحاسبه على أعماله ويجازيه بما أتى تجاهه ، وبما أنّ هذه المحاسبة لا تتحقق في النشأة الدنيوية ، فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى تتحقق فيها لوازم الربوبية ، فلا معنى لربّ بلا مربوب ، كما لا معنى لمربوب يترك سدى ، ولا يحاسب على أعماله وأفعاله.
ولعله لهذا الوجه ، يركّز القرآن على كلمة الرّبّ في قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٤).
وفي قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) (٥).
وهذه الآية الثانية ، أصرح في المطلوب ، وهو أنّ كفرانهم بربّهم جعلهم
__________________
(١) سورة القيامة : الآية ٣٠.
(٢) سورة العلق : الآية ٨.
(٣) سورة غافر : الآية ٣٩.
(٤) سورة الانشقاق : الآية ٦.
(٥) سورة الرعد : الآية ٥.
منكرين للمعاد ، فلو عرفوا حقيقة الربوبية ، وعرفوا ربّهم ، لأذعنوا بأنّ مقتضى الربوبية ، لزوم وجود يوم تطرح فيه أعمال العباد على طاولة الحساب.
* * *
وهذه البراهين الستة تضفي على المعاد ضرورة ، وقطعيّة ، ووجوبا ، وحتمية ، وكلّها براهين عقلية أرشدنا إليها الذّكر الحكيم في محكم آياته.
* * *
مباحث المعاد
(٣) بواعث إنكار المعاد وشبهات المنكرين
الناس أمام دعوة الأنبياء إلى البعث في النشأة الأخرى كانوا على صنفين معتنق يشكل الأقليّة في المجتمع الإنساني ، ومنكر يشكّلون الأكثرية الساحقة فيه. وكان المشركون من العرب ، المعاصرون للنبي ، أكثر عنادا ولجاجا في المعارف ، خصوصا ما يرجع منها إلى البعث ويوم الحساب.
غير أنّه كانت لهم بواعث للإنكار ، كما كانت لهم شبهات ، ولم تكن شبهاتهم إلّا واجهة لإنكارهم ، فيبرروا بها جحودهم ، ويعطوه صبغة الحجة ، والعذر.
ونحن نذكر بواعث الإنكار أوّلا ، ثم نردفها بالشّبهات ثانيا ، ونعتمد في ذلك على الذكر الحكيم الذي ينقل ذلك عن المنكرين ، سواء كانوا من الأمم السالفة ، أو من المعاصرين لنزول الرسالة.
بواعث إنكار المعاد
كثيرا ما نرى أناسا يتبنّون شيئا ويحتجون له بأدلة واهية ، وهم يعلمون بوهنها ، وأنّ المخاطبين يقفون على سقمها ، ومع ذلك ، يصرّون على مواقفهم. وهذا من الأمور التي تمكّن من استكشاف الباعث أو البواعث الواقعية لهذا التبني من خلال أفعالهم وسيرتهم ومعاشراتهم ، والذكر الحكيم كشف عن تلك البواعث