الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
المسيح البشرية ، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيئته .
وبعد هذا كله ، أيبقى شك في قدرة الأنبياء الشخصية على خرق العادة ، وتكييف الطبيعة حسب ما يريدون ؟ .
بل ماذا يفهم الإنسان إذا قرأ هذه الآية ـ التي تنقل مخاطبة يوسف عليه السلام إخوتَه ـ : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا . . . ) (١) .
والآية التالية تبين نتيجة أمره : ( فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا . . . ) (٢) .
فما هو العامل المؤثّر في استرجاعه بَصَرَهُ ، بعد ما ابيضت عيناه من الحزن ؟ .
هل هو قميص الملطخ بالدم ؟ أو حامل البشارة والقميص ؟ (٣) .
ليس هذا ولا ذاك ، بل هو نفس إرادته الزكية المؤثّرة بإذن الله ، وعندما تقتضي المصلحة الإلهية ذلك . وإنّما توسّل بالقميص ليعلم أنّه هو القائم بذلك .
فاتّضح من جميع ما ذكرناه من الآيات والشواهد أنّ للمعجزة علّةً إلهيةً متمثلةً في نفوس الأنبياء وإرادتهم القاهرة . وليست إرادتهم هذه فوضوية ، وإنّما لظهورها ظروف وشرائط خاصة سيأتي بيانها بإذنه تعالى .
* * *
__________________
(١) سورة يوسف : الآية ٩٣ .
(٢) سورة يوسف : الآية ٩٦ .
(٣) في الروايات ، أنّ حامله كان أحد إخوته .
الجهة الرابعة
هل الإعجاز يضعضع برهان النظم ؟
إنّ برهان النَّظم من أوضح الأدلة على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر . حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة وجزء من ظواهر الكون وأجزائه كاشف عن دخالة قدرة كبرى وعلم عظيم في تحققه وتكوّنه . هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ المعجزات ـ كما تقدّم ـ خارقة للعادة والسنن السائدة في هذا النظام ، فهي تعدّ استثناء فيه ونوع مخالفة له . فالوليد الإنساني ـ مثلاً ـ يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة ، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية ، ثم تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل والتكامل ، ليخرج بعدها من بطن الأم موجوداً سويّاً متكاملاً .
والقول بأنّ المسيح ـ عليه السلام ـ ولد بلا سيادة هذا النظام ، بل بمجرد نفخ المَلَك في رحم مريم ـ عليها السلام ـ خرق لذاك النظام ، وهو كاشف عن عدم كليته واطراده . أفبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع ؟ .
وبعبارة ثانية : إنّ النظم السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة والتقدير في تكوّن كل شيء إنساناً كان أو حيواناً ، أرضياً كان أو أثيرياً . ولكن خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس ، وخروج الناقة من الجبل الصخري الأصم ، وما شابه ذلك ، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر .
والجواب
إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان النظم أولاً ، كما لم يقف على حقيقة الإعجاز وماهيته ثانياً . ولذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم .
أمّا الأول ، فلأنّ المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم واحد بالعدد سائد على الجميع ، وقائم بمجموع الأشياء في العالم ، بحيث لو شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان ، بحكم كونه واحداً بالعدد غير قابل للانقسام .
ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فإنّ برهان النظم واحد بالنوع كثير بالعدد . فهو يتمثّل ويتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام . فتكون كل ذرة باستقلالها حاملةً لبرهان النظم والدلالةِ على وجود الصانع القادر العليم ، من دون توقف في دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى .
وفي الحقيقة ، إنّ برهان النظم يتكثر عدداً بتكثر الذرات والأجزاء والظواهر الخاضعة للنظام ، ولو فرض فقدان النظم في جزء وظاهرة ، أو أجزاء وظواهر ـ كما يدعيه المعترض في مجال الإعجاز ـ لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء والظواهر ، في إثبات الصانع ، وإلى هذا يهدف القائل :
وفي كل شيء له آية |
تدل على أنّه واحد |
ففي كل خلية وعضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم ، ويتكثر بتكثرها . فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر والمخلوقات والكواكب والمجرّات . وكما أنّ طغيان غُدَّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان ، كما هو الحال في السرطان ، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان ، فكذلك الخروج عن النظام في مجال الإعجاز ، لأغراض تربوية ، ولهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم الغيب ، فإنّه لا يؤثّر شيئاً في برهان النظم من باب أولى .
وأمّا الثاني ، فلأنّ
الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء ، بحيث يكون النبي مصدراً له في كل لحظة وساعة ويوم ، ويكون خرق العادة وهدم
النظام شغله الشاغل . وإنّما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة وحساسة لغايات تربوية .
ثم إنّ النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة ، أطْلَعَ الناس مُسْبَقاً على أنّه سيقوم بخرق العادة في وقت خاص . وهذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم ، تقوم كلما شاءت واقتضت الحكمة والمصلحة القدسية ، بخرق بعض النظم والتخلّف عنها . فالعالم ، قَبْضُه وبَسْطُه ، وسنّ أنظمته وخرقها ، بيد خالقه ، يفعل ما يشاء حسب المصالح .
وخلاصة البحث أنّ الإعجاز ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالم ، وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع . وأيضاً ، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه بالإعلام المسبق ، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة ومشيئة القوة القاهرة المسيطرة على الكون والمجرية للسنن والأنظمة فيه .
هذا كلّه ، مع أنّ الإعجاز ، وإن كان خرقاً للسنن العادية ، إلّا أنّه ربما يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها ، فهي تخرق النظام العادي ، وتجري نظاماً آخر غير عادي ، لا يقلّ في نظمه عنه .
* * *
الجهة الخامسة
الإعجاز والمتجددون من المسلمين
الإيمان بالغيب عنصرٌ أساسيٌ في جميع الشرائع السماوية ، ولو انتزع هذا العنصر عن الدين الإلهي ، لأصبح دستوره دستوراً عادياً شبيهاً بالدساتير والأيديولوجيات المادية البشرية التي لا تمت إلى الخالق والمدبّر لهذا الكون بصلة . ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يَعُدّ الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتّصف بها المتّقون إذ يقول ـ عزّ من قائل ـ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (١) .
وقد كان أصحاب الشرائع وأنصارها ، وفي مُقدِّمتهم علماء الإسلام ، محتفظين بهذا الأصل ، معتصمين به أشدّ الإعتصام ، مؤكّدين عليه غاية التأكيد ، باعتبار أنّه الفارق الجوهري بينها ، وبين الأنظمة البشرية .
ولكن ، من جانب آخر ، إنّ الحضارة المادية الحديثة ، اعتمدت على الحسّ والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية .
وقد أدهشت هذه الحضارة ، جماعة من المفكرين المسلمين ، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب ، باعتباره عنصرا أساسياً في الدين ، ومبادىء الحضارة المادية التي لا تَعْتَبِر إلّا ما كان قائماً على الحسّ والتجربة ، فمن
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٣ .
الجهة الأولى لم يجرؤا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ـ كالمعاجز ـ لأنّهم مسلمون ، ومن الجهة الثانية لم يتجرؤا على التصريح بوجود الملائكة والجن ، وبخرق المعاجز للسنن الطبيعية والأسباب المادية ، تحرزاً من رمي الماديين إيّاهم بالخرافة ، والإيمان بما لا تؤيّده التجربة ولا يثبته الحسّ .
ولأجل ذلك سلكوا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما جاء في مجال الغيب ، خصوصاً المعاجز والكرامات ، حتى يستريحوا بذلك من هجمة الماديين ، ويرضوا به طائفة المتدينين .
وممّن سلك هذا الطريق الشيخ محمد عبده (١) في مناره ، والطنطاوي (٢) في جواهره ، وتلامذة منهجهما . فمن وقف على كلا التفسيرين في المواضع التي يُحدّث القرآن فيها عن معاجز الأنبياء وخوارق العادات ، يقف على أنّ الرجلين يسعيان بكل حول وقوة إلى تصوير الحوادث الإعجازية ، وكأنّها جارية على المجاري الطبيعية ، غيرُ مخالفةٍ أصول الحسّ والتجربة (٣) .
بل ربما نرى أنّ بعض مُقْتَفي منهجهما ينكرون أنْ يكون للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله معجزة غير القرآن الكريم ، وقد تبعوا في نفي معاجزه ، قساوسة النصارى الذين يحاولون إنكار معاجز النبي الكريم ليتسنى لهم بذلك تفضيل سيدنا المسيح عليه السلام عليه أولاً ، وإنكار نبوته لكونه فاقداً للمعاجز ، ثانياً (٤) .
__________________
(١) توفي سنة ١٣٢٣ هـ ق .
(٢) توفي سنة ١٣٥٨ هـ ق .
(٣) لاحظ مثلاً ما جاء في المنار ، ج ١ ، ص ٣٢٢ ، تفسير قوله تعالى : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( سورة البقرة : الآية ٥٦ ) .
وفيه أيضاً ، ج ١ ، ص ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، تفسير قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) . ( سورة البقرة : الآية ٦٥ ) .
وفيه أيضاً ، ج ١ ، ص ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، تفسير قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ . . . . ) ( سورة البقرة : الآية ٧٣ ) .
وغير ذلك من الموارد .
(٤) راجع للوقوف على كلمات القساوسة في هذا المجال ، كتاب « أنيس الأعلام » ، ج ٥ ، ص ٣٥١ .
وهم يتمسكون في هذا المجال بعدّة آيات (١) خفي عليهم المراد منها ، ونحن نكتفي في المقام بتفسير واحدة منها ، لم يزل يتمسك بها كل برّ وفاجر منهم ، وهي :
قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ ، وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ، قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي . هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ) (٢) .
وقد استدلّ بها بعض القساوسة قائلاً : إنّ نبيَّ الإسلام لما طُولِبَ بالمعجزة ، أظهر العجز بقوله إنّه ليس إلّا بشراً رسولاً .
إنّ تحليل هذا الإستدلال ونَقْدِهِ ، يَتَوَقَّفُ على دراسةِ كلِّ واحدةٍ من المقترحات المذكورةِ في الآيات المتقدمة ، وهي :
١ ـ أنْ يَفْجُرَ لهم من الأرض يَنْبوعاً .
٢ ـ أن يكون للنبي جنّة من نخيل وعنب ، وتجري الأنهار خلالها بتفجير منه .
٣ ـ أن يُسقط السماء عليهم كسفاً .
٤ ـ أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً .
٥ ـ أن يكون للنبي بيت من زخرف .
٦ ـ أن يرقى النبي في السماء ، ولا يكفي ذلك في إثبات نبوته حتى يُنَزِّل عليهم كتاباً من السماء يقرؤوه .
__________________
(١) هي ثمانية عشرة آية ، تعرض لها الأستاذ ، دام ظله ، في موسوعته التفسيريّة مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٩٥ إلى ١٥٤ .
(٢) سورة الإسراء : الآيات ٨٩ ـ ٩٣ .
هذه هي مقترحات القوم ، ونحن نجيب عليها بجوابين : إجماليٍّ وتفصيليٍّ :
إجمال الجواب عن هذه المقترحات ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله إنّما لم يأت بها لعدم استجماعها لشرائط الإعجاز ، إذ ليس القيام بالمعجزة من الأمور الفوضوية التي لا تخضع لشرط عقلي أو شرعي . وهذه المقترحات فاقدة لها .
تفصيل الجواب
أمّا الأول ، فإنّ سنة الله الحكيمة في الحياة البشرية إستقرت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم عن طريق السعي والجد ، تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم .
فإذا كان مطلوب القوم أن يُفَجِّر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها ، ليستريحوا بذلك من عناء تحصيل الماء ، فهو على خلاف تلك السنة الحكيمة .
نعم ، ربما تقتضي بعض الظروف ـ كإبقاء حياة القوم ـ قيام النبي بذلك ، كما فعل موسى عندما شكى إليه قومه الظمأَ ، فاستسقى الله تعالى لهم ، فأوحى إليه أنْ يضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً (١) ، ولكن مثل هذا لا يعد نقضاً للسنة العامة ، كما أنّ الظروف في مكة لم تكن ظروفاً اضطراريةً .
وأمّا الثاني ، وهو كون النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب يفجّر الأنهار خلالها ، فليس هو طلباً للإعجاز ، وإنّما كانوا يستدلّون بوجود الثروة على عظمة الرجل ، وبالفقر وفقدان المال والإملاق على حقارته ، ولذا قالوا ، كما يحكيه عنهم تعالى : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٢) .
وعلى هذا ، فإجابة هذا الطلب يكون نوع اعتراف بهذه المزعمة ، إذ ليس هناك رابطة ، عقلية بين كون الرجل صاحب ثروة ، وكونه متصلاً بالغيب . وإلّا
__________________
(١) لاحظ سورة البقرة : الآية ٦٠ .
(٢) سورة الزخرف : الآية ٣١ .
لوجب أن يكون أصحاب الثروات ، أنبياء إذا ادّعوا النبوة .
وأمّا الثالث ، وهو إسقاط السماء عليهم ، فإنّه يضاد هدف الإعجاز ، لأنّ الغاية من خرق الطبيعة هداية الناس لا إبادتهم وإهلاكهم .
وأمّا الرابع ، وهو الإتيان بالله والملائكة ، فقد حكاه عنهم سبحانه في آية أخرى ، بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ) (١) .
ومن المعلوم أنّ هذا المقترح ، أمر محال عقلاً ، وممتنع بالذات ، فكيف يقوم به النبي ؟! .
وأمّا الخامس ، وهو كونه صاحب بيت من زخرف ، فيُرَدُّ بما رُدَّ به الإقتراح الثاني .
وأمّا السادس ، وهو طلب رُقِيِّهِ إلى السماء وإنزال كتاب ملموس يقرؤونه ، فإنّ لحن هذا السؤال يدلّ على عنادهم وتعنتهم إذ لو كان الهدف هو الإهتداء ، لكفى طلبهم الأول ـ أعني رُقيّه إلى السماء ـ ولم تكن حاجة إلى الثاني ، ومن المعلوم أنّ النبيّ إنّما يقوم بالإعجاز لأجل الهداية والإرشاد إلى نبوته واتّصاله بعالم الغيب .
ومجموع هذه الأجوبة يوقفنا على أنّ النبيّ لَمْ يجب مطالبهم إمّا لأجل فقدان المقتضي أو لوجود المانع . وعلى ذلك أجاب بما أمره سبحانه أن يجيبهم به ، قائلاً : ( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ) .
وهو في هذا الجواب يعتمد على لفظين : « بَشراً » و« رسولاً » . والمراد أنّ هذه الطلبات التي طلبتموها مني إمّا لكوني بشراً ، أو لكوني رسولاً . وعلى الأول فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور ، وعلى الثاني ، فهو موقوف على إذنه سبحانه ، لأنّ الرسول لا يقوم بشيء إلّا بإذن مُرْسِلِه ، وليس ها هنا إذن ، لعدم استجماع هذه الطلبات شرائط الإجابة (٢) .
__________________
(١) سورة الفرقان : الآية ٢١ .
(٢) وإذا أردت التفصيل ، فلاحظ « الميزان » ، ج ١٣ ، ص ٢١٧ ـ ٢١٨ .
وبالإجابة التي ذكرناها عن هذه الآيات ، تقدر على الإجابة عن كثير من الآيات التي اتّخذها نفاة المعجزة ذريعة لنظريتهم .
أضف إلى ذلك أنّه كيف يمكن لأحد أن ينكر معاجز النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، مع أنّ القرآن الكريم يخبر عن بعضها أولاً (١) ، والسنّة متواترة بها ، ثانياً .
وليس إنكار المعاجز وغيرها ممّا يرتبط بالغيب ـ كالملائكة والجن ـ إلّا لفقدان الهوية الإسلامية ، واتّخاذ موقف الهزيمة في مقابل الهجمات المادية ، التي أصبحت بحمد الله تعالى ، وبفضل بحوث العلماء الغيارى ، سراباً في صحراء .
* * *
__________________
(١) لاحظ في ذلك الآيات التالية :
سورة آل عمران : الآيتان ٦١ و ٨٦ ، سورة الأنعام : الآية ١٢٤ ، سورة الإسراء : الآية ١ . سورة الروم : الآيات ١ ـ ٣ ، سورة الصافات : الآيتان ١٤ ـ ١٥ ، سورة القمر : الآيات ١ ـ ٤ ، ولاحظ في تفصيل هذه الآيات ، مفاهيم القرآن ج ٤ ص ٧٥ .
الجهة السادسة
دلالةُ الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من الله والإنباء عنه ، عن كذب وافتراء ، ولم يكن لهم متاع غير التزوير ، ولا هدف سوى السلطة والرئاسة .
ومن هنا كان لا بدّ من معايير وضوابط لتمييز النبي عن المتنبيء ، ومن جملتها تَجَهّز المدّعي بالإعجاز ، وإتيانه بخوارق العادة ، متحدياً بها غيره على وجه لا يقدر أحد على مقاومته ، حتى نوابغ البشر .
ويظهر من الآيات الواردة في القرآن الكريم أن طلب الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي ، كان أمراً فطرياً ، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة والسفارة الإلهية ، ولأجل ذلك لمّا ادّعى « صالح » عليه السلام ، النبوّة ، قوبل بجواب قومه : ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (١) .
وقد يخبر الأنبياء الناس بتجهزهم بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة ، قبل أن يطلبها الناس منهم ، كما قال موسى مخاطباً الفراعنة : ( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (٢) .
__________________
(١) سورة الشعراء : الآية ١٥٤ .
(٢) سورة الأعراف : الآيتان ١٠٥ و ١٠٦ .
وكما جاء في عيسى المسيح عليه السلام ، من قوله تعالى : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) (١) .
ولكن الكلام في وجه دلالة الإعجاز على صدق قولِ المدعي ، فهل هو دليل برهاني بحيثُ يكون بين المعجزة وصدق المدّعي رابطةٌ منطقيةٌ ، تستلزم الأولى معها ، وجود الثانية ؟ أو هو دليل إقناعي ، يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي ؟ .
هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي ، دلالة إقناعية لا برهانية ، ويستدلّ هؤلاء المتوهمون ، على مقالتهم ، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المُدَّعَى والدليل ، وتلك الرابطة غير موجودة في المقام . إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة ، دليلاً على صدق المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية . إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال : إنّ قيام الطبيب بعمليةٍ جراحيةٍ بديعةٍ ، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية . أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية . ومن المعلوم ، انتفاء الرابطة المنطقية بينها .
ولأجل ذلك ـ يضيف المتوهم ـ لا يدلّ قيام المسيح بإحياء الموتى وإبراء المرضى ، على صدق ما يدّعيه ، بدلالة برهانية . وإنّما يُكتفى به ، لأنّ مشاهدة هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانةً عالية ، بحيث يأخذ مجامع قلوبهم ويستولي على ألبابهم ، فيقنعهم ، ويجلب يقينهم بصدق دعواه .
هذا ، ولكن الحق وجود الرابطة المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوة ، ويمكن إثبات ذلك ببيانين :
* البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية
ويتّضح بملاحظة الأمور التالية ، التي يسلمها الخصم أيضاً :
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ٤٩ .
الأول : أنّ الخالق عادلٌ لا يجور ، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة .
الثاني : أنّه سبحانه يريد هداية الناس ، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم .
الثالث : أنّ المعجزة إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذ كان حاملها واجداً لشرطين :
١ ـ أن تكون سيرته نقية الثوب ، وبيضاء الصحيفة ، لم يُسَوِّدها شيء من الأعمال المشينة .
٢ ـ أن تكون شريعته مطابقة للعقل ، وموافقة للفطرة . أو على الأقل ، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة .
فلو أنتفى الشرط الأول ، بأن كانت سوابقه سيئة ، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه .
وكذا لو انتفى الشرط الثاني ، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة ، لما تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة .
وأمّا لو توفّر الشرطان فيه ، فتتطاول إليه الأعناق ، وتنقاد له القلوب ، ولشرعه العقول ، فيسلّمون ما يقول ، ويطيعون ما أمر .
وهنا نقول : لو كانت دعوة هذا المدّعي ، صادقة ، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق ، مطابق للحكمة الإلهية .
وأمّا لو كانت دعواه كاذبة ، فإعطاؤه تلك القدرة ، وتسخير عالم التكوين له ، في تلك الظروف ، على خلاف الحكمة ، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس ، ولا يرضى بإضلالهم ، وذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص ، فيكون إقداره على الإعجاز ، مع كونه كاذباً ، إغراءً بالضلالة ، وصدّاً عن الهداية ، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته ، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك ؟ .
ولك أن تصب هذا الإستدلال في قالب القياس المنطقي ، فتقول :
إنّه سبحانه حكيم ، والحكيمُ لا يجعل الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب ، فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب . ولكن المفروض أنّ هذا المدّعي مُسَخِّر للكون ، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق .
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف على القول بالحسن والقبح العقليين ، وأمّا الذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه بهما ، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز ، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة ، إذا قَبُح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه ، واحتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب ، لا يَقْدِرُ على التمييز بين الصادق والكاذب (١) .
وفي بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى ما ذكرنا . يقول القوشجي : « إنّما كان ظهور المعجزة طريقاً لمعرفة صدقه لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق (٢) ، كما إذا قام رجل في مجلس مَلِكٍ بحضور جماعة ، وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجة ، فقال : هي ( الحجة ) أن يخالف هذا الملك عادته ، ويقوم على سريره ، ثلاث مرّات ويقعد ، ففعل . فإنّه يكون تصديقاً له ، ومفيداً للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب » (٣) .
وقال المحقق الخوئي : « إنّما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي ، لأنّ المعجز فيه خرقٌ للنواميس الطبيعية ، فلا يمكن أن يقع من أحد إلّا بعناية من الله تعالى وإقدار منه . فلو كان مدّعي النبوّة كاذباً في دعواه ، كان إقداره على المعجز
__________________
(١) وإن للفضل بن روزبهان الأشعري كلاماً في الخروج عن هذا المأزق ، غير تام ، فمن أراد فليرجع إلى دلائل الصدق ، ج ١ ، ص ٣٦٦ ، وقد أوردناه في الجزء الأول من الكتاب وأجبنا عليه لاحظ ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨ .
(٢) هذا التعبير صحيح على منهج الأشاعرة من أنّ أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى ، ولكن الحق أنّ هذا العلم يوجَدُ في الإنسان بعد عدّة عوامل .
(٣) شرح القوشجي على التجريد ، ص ٤٦٥ الطبعة الحجرية ، ايران .
من قِبَل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادةً بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى ، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوّته .
وهذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور ، ولا يشكون فيها أبداً . فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته ، كان من الواجب عليه أولاً أن يقيم على دعواه دليلاً يعضدها ، حين تشكّ الرعية بصدقه ، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح ، فإذا قال لهم ذلك السفير : الشاهد على صدقي أن الملك غداً سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين ، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية ، كان فِعْلُ الملك هذا تصديقاً للمدعي في السفارة .
ولا يرتاب العقلاء في ذلك ، لأنّ الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذباً ، لأنّه يريد إفساد الرَّعيَة » (١) .
القرآن والدّعوى الكاذبة
يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه فرض على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى ، قال عزّ وجل : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (٢) .
قال المحقق الخوئي : « المراد من الآية الكريمة أنّ محمداً الذي أثبتنا نبوّته ، وأظهرنا المعجزة لتصديقه ، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك ، لأخذنا منه باليمين ، ولقطعنا منه الوتين ، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل ،
__________________
(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٣٥ ـ ٣٦ ، الطبعة الثامنة ، ١٤٠١ هـ ـ بيروت .
(٢) سورة الحاقّة : الآيات ٤٤ ـ ٤٧ .
إمضاءٌ منّا لها ، وإدخال للباطل في شريعة الهدى ، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء ، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث » (١) .
إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية ودلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه ، الذي أقدرهم بها على التصرّف في الكون . فالإنسان الذي يصل إلى هذا المقام ، يستولي على مجامع القلوب ، ويسخّر الناس بذلك لمتابعته ، فكل ما يلقيه ، ويشرّعه ، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع . فلو افتعل هذا الإنسان ـ في مثل هذه الظروف ـ كذباً على الله تعالى ، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه وإبادته ، لِما في إبقائِه وإدامة حياته ، من إضلال الناس ، وإبعادهم عن طرق الهداية ، الأمر الذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت هداية الناس وإبعادهم عن وسائل الضلالة .
والتدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي محقّاً في دعواه ، وإتيانه بالمعجزة وأنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه . وبقاؤه على وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى ، وصدق النبي فيما يأتي به .
وبما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق المدّعي ، وأنّ المدّعي لو كان كاذباً في دعواه لشملته نقمة الله سبحانه وإماتته ، بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين ، فاستمرار المدّعي للنبوّة على الحياة ـ وإن لم يأت بأية معجزة ولم يُقم برهاناً على صدق دعواه ـ هو ، بحدّ نفسه ، كاشفٌ عن صدق دعواه (٢) .
إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت ، ولو صحّت ، للزم تصديق كل متنبيء في العالم ـ وإن ثبت كذبه ـ لمجرّد عدم إهلاك الله تعالى له .
إلى هنا وقفت على البيان الأول الذي يُثبت أنّ بين دعوى النبوّة والإتيان بالمعجزة ، رابطة منطقية .
__________________
(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٣٦ ، الطبعة الثامنة ، ١٤٠١ هـ ـ بيروت .
(٢) ادّعى ذلك الكاتب البهائي ، أبو الفضل الجرفادقاني ، في كتابه الفرائد ، ص ٢٤٠ ، طبعة مصر .
* البيان الثاني لوجود الرابطة المنطقية
إنّ نَفْي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى ، أمر يحتاج إلى التحليل ، فهو باطل على وجه وصحيح على وجه آخر ، وذلك بالبيان التالي :
إن كان المراد من قلب العصا ثعباناً ـ مثلاً ـ أنّه كالأوسط في القياس ، دليلٌ على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ ، عالمٌ قادرٌ ، ليس كمثله شيء . . فلا ريب في عدم صحته . إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون .
ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردةً عن البرهنة ، بل قَرَنَها بلطائف الدلائل والإشارات ، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم .
فَيَسْتَدِلُّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقول : ( أَفِي اللَّـهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ؟ (١) .
وفي البرهنة على وحدة المدبّر ، بقوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ) (٢) .
وفي البرهنة على إبطال أُلوهيةِ الأصنام ، بقوله : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) (٣) .
وفي إبطال أُلوهية المسيح ، بقوله : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ، انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ) (٤) .
إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي تَطْرَحُ الأُصول والعقائد ، بالبراهين
__________________
(١) سورة إبراهيم : الآية ١٠ .
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٢٢ .
(٣) سورة الفرقان : الآية ٣ .
(٤) سورة المائدة : الآية ٧٥ .
الدقيقة . فالمعجزة غير دالّة بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف والأصول التي يأتي بها صاحبها ، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط في صحّة المدّعى ، كالتغيير في قولنا : العالَم مُتَغَيّر ، وكلُّ مُتَغِّير حادث ، فالعالَمُ حادث .
وإنْ كان المُرادُ أنّ خرق العادة الملموسة ـ أعني قلب العصا حيّة ـ دليلٌ على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة ـ وهي الإتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة ـ فهو صحيح ، وإليك بيانه :
إنّ الأنبياء عليهم السلام ، كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس :
الإشكال الأول ـ إنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب ، يجب أن يكون من جنس الملائكة ، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم .
والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الاعتراض ، بقوله : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) (١) .
وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ ، والوحدة النوعية غير مانعة منه ، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع ، فيكون الفاضل مُرْسلاً ، والمفضول مُرْسَلاً إليه .
والقرآن الكريم يحكي هذا الجواب ، بقوله : ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ، وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٢) .
الإشكال الثاني ـ إنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي ، وهو إدراك خاص يوجَد فيهم ولا يوجد في غيرهم ، وليس من قبيل الإدراكات العادية
__________________
(١) سورة إبراهيم : الآية ١٠ .
(٢) سورة إبراهيم : الآية ١١ .