الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
الدليل الثالث :
قد دلّ العقل على أن للعالم صانعاً حكيماً ، والحكيم لا يتعبّد الخلق بما يَقْبُح في عقولهم . وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول ، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة ، والطواف حوله ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإِحرام ، والتلبية ، وتقبيل الحجر الأصمّ . وكذلك ذبح الحيوان ، وتحريم ما يكون غذاءً للإنسان ، وتحليل ما يُنقص من بنيته .
والجواب :
ان هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح الأحكام ومفاسدها . ولذلك زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت الله الحرام بآدابه الكثيرة ، أمر على خلاف العقل . ولكن الدارس لفلسفة الحج ، يقف على عظيم المصالح والمنافع التي يتضمنها ، والمجال لا يسمح باستقصائها ، إلّا انا نشير بايجاز إلى بعضها .
فالتوجه الى البيت ، رمز الوحدة بين المسلمين في جميع أقطار المعمورة ، ولو تعددت وجهاتهم في أداء مراسمهم العبادية ، لسادت الفوضى فيهم ووقع الإِنشقاق بينهم في القطر الواحد فضلاً عن سائر الأقطار .
والسعي بين الصفا والمروة تجسيد لعمل تلك المرأة البارّة التي سعت بين الجبلين سبع مرات طلباً للماء لطفلها الظمآن ، حتى حصّلته . فجعل الباري سبحانه مواطيء أقدامها محلاً للعبادة .
ورمي الجمار تجسيد لرمي الشيطان ، فبما أن الشيطان لا يقع في أُفق الحسّ حتى نرجمه ، فنجسد وجوده في نقاط خاصة تمثّل فيها لإبراهيم عليه السلام ، فنرجمها ظاهراً ، ولكن الهدف رمي الشيطان باطناً وإبعاده عن حريم النفس والروح .
واستلام الحجر الأسود ، تعاهدٌ مع
إبراهيم عليه السلام في السعي على خطاه لإقامة التوحيد وهدم أركان الوثنية . فبما أن إبراهيم قد لبّى دعوة ربّهُ ،
وليس بين ظهرانينا حتى نبايعه على ذلك مباشرة ، نبايعه بآثاره . وهذا أشبه ما يكون بتقبيل الجيوش راية بلادها ـ مع أنه ليس إلّا كسائر الأقمشة ـ وما هو الّا إبرازٌ للتعهد على حفظ البلاد ، وضمان أمنها واستقلالها .
وهكذا الحال في بقية المراسم العبادية ، والواجبات والمنهيات الشرعية . وقد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة التي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم . والمضار الكبيرة التي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وغيرهما .
قال القاضي عبد الجبار في ردّ هذا الدليل : « إن مجرد الفعل لا يمكن أن يُحكم عليه بالقبح والحسن ، حتى لو سألنا سائلٌ عن القيام هل يقبح أم لا ، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك ، والجواب أن نقيّد ، فنقول : إنْ حصل فيه غرض وتعرّى عن سائر وجوه القبح ، حَسُنَ ، وإلّا كان قبيحاً ، هذا .
وإذا كان هكذا ، وكنا قد علمنا بقول الرسول المصدَّق بالمعجز أنّ لنا في هذه الأفعال مصالح وألطافاً ، فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح ؟ .
ويبين ذلك ويوضحه أنا نستحسن القيام في كثير من الحالات ، نحو أن يكون تعظيماً لصديقٍ أو يتضمن غرضاً من الأغراض ، وكذلك القعود إذا تضمّن انتظار الرفيق ، وكذلك الركوع ، والسجود ، والمشي ، والكلام ، والطواف ، وغير ذلك ، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلّا ولها وجه في الحسن إذا تعلّق به أدنى غرض » (١) .
الدليل الرابع :
إن أكبر الكبائر في الرسالة ، اتباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس
__________________
(١) شرح الأصول الخمسة ـ ص ٥٦٦ .
والعقل ، يأكل مما تأكل ، ويشرب مما تشرب . . . . فأي تميّز له عليك ؟ وأي فضيلة أوجبت استخدامك ؟ وما دليله على صدق دعواه ؟ (١)
والجواب :
ليس هذا المذكور في الدليل بشيء مستحدث ، بل هذا ما كان المشركون يكررونه على ألسنتهم معترضين على رسلهم ، كما ذكره تعالى في الكتاب الكريم .
قال تعالى : ( . . . وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا : هَلْ هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . . ) (٢) .
وقال تعالى : ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا : مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) (٣) .
ولكن الرسل قابلتهم بالجواب ، وصدّقتهم بأنّهم مثلهم في الجسم والصورة ، لكنهم غيرهم في المعرفة والكمال الروحي ، لصلتهم بالله سبحانه دونهم ، واطلاعهم على العيب بإذنه سبحانه .
قال عزّ من قائل :
( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ، وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (٤) .
__________________
(١) انظر للوقوف على مدارك أدلة البراهمة ، الملل والنحل للشهرستاني ، ج ٢ ، ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، طبعة مصر ، وكَشْف المراد ، للعلامة الحلي ، ص ٢١٧ ، طبعة صيدا . وشرح التجريد ، لنظام الدين القوشجي ، ص ٤٦٣ ، طبعة إيران .
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٣ .
(٣) سورة المؤمنون : الآيتان ٣٣ و ٣٤ .
(٤) سورة ابراهيم : الآية ١١ .
وقد أمر الله تعالى رسوله أنْ يواجه هذا المنطق بقوله : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١) .
فالجملة الأولى ، وهي الإتحاد في البشرية ، إشارة إلى أحد ركني الرسالة ، وهو لزوم المسانخة التامة بين المُرْسَل ـ بالفتح ـ والمُرْسَل إليه .
وقوله : ( يُوحَىٰ إِلَيَّ ) ، إشارة إلى وجه الفرق بينهما ، وأنّه لأجل نزول الوحي عليه يجب اتباعه وإطاعته .
وبذلك يظهر تميّز الأنبياء وفضيلتهم وتقدمهم على غيرهم .
وأمّا دليلهم على صدق ادعاءاتهم ، فسيوافيك في البحث الثاني أنّ هناك طرقاً ثلاثة لتمييز النبي الصادق عن المتنبيء الكاذب .
وإلى هنا يتمّ الكلام في البحث الأول وهو تحليل حسن بعثة الأنبياء ولزومها ، ونقض ما يثار حولها من الشبهات . وقد حان وقت الشروع بالبحث الثاني ، وهو بيان الطرق التي يعرف بها صدق مدّعي النبوة .
* * *
__________________
(١) سورة فصلت : الآية ٦ .
مباحث النبوة العامة ( البحث الثاني ) |
|
ما تثبت به دعوى النبوة
لا تجد إنساناً سالماً في نفسه وفكره ، يقبل ادعاءات الآخرين بلا دليل يثبتها . وهذا أمر بديهي فطري جبل الإنسان عليه . وفي هذا الصدد يقول الشيخ الرئيس في كلمته المشهورة :
« من قبل دعوى المدعي بلا بيّنة وبرهان ، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية » .
وعلى هذا ، يجب أن تقترن دعوى النبوة بدليل يثبت صحتها ، وإلّا كانت دعوى فارغة ، غير قابلة للإذعان والقبول .
طرق التعرّف على صدق الدعوى
إنّ هنا طرقاً ثلاثة للوقوف بنحو قاطع على صدق مدّعي النبوّة في دعواه ، وهي :
أ ـ الإعجاز .
ب ـ تصديق النبي السابق نبوة النبي اللاحق .
ج ـ جمع القرائن والشواهد من حالات المدّعي ، وتلامذته ، ومنهجه ، بحيث تفيد العلم بصدق دعواه ـ وهذا الطريق من أحسن الطرق في عصرنا هذا .
ولنبدأ باستعراض هذه الطرق الواحدة تلو الأخرى .
طرق إثبات النبوة (١) |
|
الإعجاز
إتفق المتكلمون قاطبة على أنّ الإعجاز دليل قطعي على صدق مدّعي النبوة ، وصلته بالخالق تعالى . ولما كان الإعجاز من المسائل المهمة في باب النبوة ، استدعى ذلك بسطاً في الكلام ، فيقع البحث عن الجهات التالية :
الجهة الأولى ـ ما هي حقيقة الإعجاز وكيف نعرّفه ؟ .
الجهة الثانية ـ هل الإعجاز يخالف القوانين العقلية ؟ .
الجهة الثالثة ـ ما هي العلة المحدثة للمعجزة ؟ .
الجهة الرابعة ـ هل الإعجاز يضعضع أصول التوحيد ؟ .
الجهة الخامسة ـ كيف يفسّر المتجدّدون من المسلمين معجزات الأنبياء ؟ .
الجهة السادسة ـ كيف يعدّ الإعجاز دليلاً على صدق دعوى النبوة ؟ .
الجهة السابعة ـ هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات ؟ .
الجهة الثامنة ـ بماذا تميّز المعجزة عن سائر خوارق العادات كالسحر والكهانة ؟ .
هذه رؤوس المطالب المهمة في هذا
البحث ، وإذا وقف الباحث على أجوبتها ، تتجلى عنده المعجزة بصورة دليل قاطع على صدق مدعي النبوة ، كما
يتبيّن له أنّ القول بالإعجاز ممّا يؤيده العلم والفلسفة ، وليس وليد الوهم والجهل . وإليك فيما يلي البحث عنها ، الواحدة تلو الأخرى .
* * *
الجهة الأولى
تعريف المعجزة
المشهور في تعريف المعجزة أنّها (١) : « أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، مع عدم المعارضة » (٢) .
وبما أنّ الإعجاز يفارق الكرامة في أنّ الأول يكون مقروناً بدعوى النبوة بخلاف الكرامة ، فيجب أن يضاف قيد : « مع دعوى النبوة » إلى التعريف ، ولعلهم استغنوا عنه بقيد « التحدي » . وإليك توضيح هذا التعريف .
١ ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعقل
إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل ، أي مضادة لحكم العقل الباتّ ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ووجود المعلول بلا علّة ، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين . . . فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها .
__________________
(١) شرح التجريد ، لنظام الدين القوشجي ، ص ٤٦٥ .
(٢) وقد عرف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله : « هو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد ، مع خرق العادة ومطابقة الدعوى » ، ( كشف المراد ص ٢١٨ ، طبعة صيدا ـ ١٣٥٣ هـ ) . ولا تخفى المناقشة في هذا التعريف لزيادة قوله مع « خرق العادة » ، للاستغناء عنه بقوله : « ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد » . أضف إلى ذلك أنّه ترك بعض القيود اللازمة فيه . والتعريف الذي ذكرناه أكمل منه .
وهناك أمور تخالف القواعد العادية ، بمعنى أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات والأجهزة العادية ، والمجاري الطبيعية ، ولكنها ليست أمراً محالاً عقلاً لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة ، وهي المسماة بالمعاجز . ولأجل تقريب ما ذكرنا تمثّل ببعض الأمثلة :
مثال أوّل : جرت العادة على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة . ولكن لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه ، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين ، بلا تلك الوسائط العادية . ولكن هذا غير ممتنع عقلاً ، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير ، لم يقف عليها العلم بعد .
ومن هذا القبيل قيام من أُوتي علماً من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ، ملكة سبأ ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، في طرفة عين ، بلا توسط شيء من الأجهزة المادية المتعارفة ، بل بأسباب غيبية كان مطّلعاً عليها . فعمله هذا الخارق للعادة ، غير خارق للعقل لما ذكرنا ، وهو معجزة .
مثال ثان : إنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى ، أمر ممكن لذاته عقلاً ، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة ، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة والأدوية التي تعيد الصحة إلى المسلول ، والبصر إلى الأعمى . ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض ، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية .
وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج ، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق تعالى .
والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمراً ممكناً عقلاً ، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية ، بالطريق والسبب ، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية ، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة ، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي ، فيسمى معجزة .
فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل ، إلّا أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية .
وقس على ما ذكرنا كثيراً من الأمثلة يتميز فيها خارق العادة عن خارق العقل .
٢ ـ الإِعجاز يجب أن يكون مقترناً بالدعوى
هذا هو القيد الثاني لتحديد حقيقة الإعجاز ، ويهدف إلى أنّ خَرْق العادة لا يسمى إعجازاً إلّا بالإتيان به لأجل إثبات دعوى السفارة والنبوة ، فإذا تجرّد عنها يسمى كرامة .
وقد نقل سبحانه في الذكر الحكيم كرامة لمريم عليها السلام ، في قوله عزّ من قائل : ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ، قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ، إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .
وهذا الأمر ( حضور الرزق بلا سعي طبيعي ) لم يكن مقترناً بدعوى المقام والمنصب الرسالي ، فلا يوصف بالإعجاز بل بالكرامة . وهكذا الحال فيما يقوم به الأولياء والصلحاء من عظام الأمور الخارقة للعادة ، فإنّها توصف بالكرامة .
٣ ـ عجز الناس عن مقابلته
هذا هو القيد الثالث في تحديد حقيقة الإعجاز ، وهو ينحلّ إلى أمرين :
الأول ـ دعوة الناس إلى المقابلة والمعارضة ، وطلب القيام بمثله .
الثاني ـ عجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله .
وإلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ « التحدي » . ويترتب على هذا أنّ
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ٣٧ .
ما يقومُ به كبارُ الأطباء والمخترعين من الأمور المعجبة ، خارجٌ عن إطار الإعجاز ، لانتفاء الأمرين فيهما . كما أنّ ما يقومُ به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة ، لا يُعَدّ معجزاً لانتفائهما أيضاً ، خصوصاً الأمر الثاني ، لقيام المرتاض الثاني بمثل ما قام به المرتاض الأول ، بل بأعظم منه .
٤ ـ أن يكون عمله مطابقاً لدعواه
لا بدّ من هذا القيد في صدق الإعجاز على فعل المدعي . فلو خالف ما ادّعاه لما سمّي معجزة ، وإن كان أمراً خارقاً للعادة . وذلك كما حصل مع مسيلمة الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي ، وآية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء ، يكثر ماؤها : فتفل فغار جميع مائها .
وقد كان من أفاعيله ـ الدالّة على كذب دعواه ـ أنّه أمَرٍّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة ، وحنّكهم ، فأصاب القرع كلّ صبيٍّ مَسَحَ على رأسه ، ولَثَغَ كُلُّ صبيٍّ حَنَّكَهُ (١) .
* * *
__________________
(١) لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٥٠٧ .
الجهة الثانية
هل الإعجاز يخالف أصل العليّة ؟
إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية ، تحتاج في تحقُّقِها إلى علّة ، وهذا أمر لم يختلف فيه إثنان ، وعليه أساسُ التجربة والبحث العلمي ، فإنّ العلماء ـ في المختبرات وغيرها ـ يبحثون عن علل تكوّن الظواهر ، وموجداتها ، فشأنهم كشفُ الروابط بين العلل المادية ومعاليلها ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ الكتب السماوية ، والسِيَر التاريخية ، تَنْسِبُ إلى الأنبياء ، أموراً لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل ، فتنسب إلى موسى عليه السلام : أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء ، فانقلب حيّةً تسعى . وأنّ المسيح عليه السلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرؤن . وأنّ الحصى سبّحت في كفّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وغير ذلك من المعاجز . والإعتقاد بهذه لا يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور ، لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها بمراحل عديدة من الإنفعالات الداخلية . وإزالة المرض وعود الصحة ، رهن استعمال الأدوية وإجراء العمليات الجراحية ، والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة وفم ولهوات ، يقوم به العاقل . وهكذا .
وعلى الجملة ، فظهور المعاجز على مسرح الوجود ، مع عدم علل مادية تُظْهِرُها ، يُعَدُّ خرقاً لقانون العلية ، وقول بتحقق المعلول بلا علّة .
الجواب
إنّ المعترض خَلَطَ بين عدم وجود العلّة المادية التي اعتاد عليها الإنسان في حياته ، وعدم العلّة على الإطلاق . فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ المعجزة ظاهرة إتفاقية لا تستند إلى علّة أبداً . وهذا مما لا يقول به أحد من الإلهيين .
وأمّا القول بعدم وجود علّة مادية متعارفة للمعجزة ، فليس هو بإنكار لقانون العلية على الإطلاق ونفياً للعلّة من الأساس ، وإنّما هو نفي دور وتأثير قسم خاص من العلل ، ونفي الخاص لا يكون دليلاً على نفي العام .
وهذا القسم الخاص من العلل ، المنفي في مورد المعجزة ، هو العلل المادية المتعارفة التي أنس بها الذهن ، ووقف عليها العالِم الطبيعي ، واعتاد الإنسان على مشاهدتها في حياته . ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل ، ولم يعرفها العلم ، ولم تقف عليه التجربة ، وبعبارة أخرى ، كون المعجزة معلولاً بلا علّة شيءٌ ، وكونها معلولةٌ لعلّة غيرِ معروفةٍ للناس والعلمِ شيءٌ آخر . والباطل هو الأول ، والمُدّعى هو الثاني ، وسيوافيك الكلام فيه في الجهة الثالثة .
* * *
الجهة الثالثة
ما هي العلةُ المحدثةُ للمعجزة ؟
قد وقفت في الجهة السابقة على أنّ القولَ بالمعاجز لا يضعضع أصل العِلّية ، وأنّ عدم العلّة العادية في موردها لا يدلّ على تحقق المعاجز بلا علّة أصلاً ، بل لها علّة غير معروفة بين العلل التي يشاهدها الإنسان . والكلام في هذه الجهة يقع في تعيين تلك العلة ، وفيها أقوال واحتمالات :
القول الأول ـ إنّها الله سبحانه
ربما يحتمل أن تكون العلّة هي الله سبحانه ، وأنّه يقوم بإيجاد المعاجز والكرامات مباشرة من دون توسط علل وأسباب . فكما هو أوجد المادة الأولى وأجرى فيها عللاً وأنظمة ، قام في فترات خاصة بخلقِ الثعبان من العصا الخشبية ، وتفجير الماء من الصخور الصَّمَّاء . . . وغير ذلك من خوارق الطبيعة والعادة .
ولكن هذا ـ وإن كان أمراً ممكناً ، لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكنٍ بذاته ـ إلّا أنّه على خلاف ما عرفناه من الربّ تعالى من سنته التي أجراها في الكون ، وهي أن يكون لكل شيءٍ سبباً وعلّة . ومن البعيد أن يخالف تعالى سنته في مجال المعاجز (١) .
__________________
(١) هذا ، على أنّ انتساب الحوادث المتجددة المتقضية بلا واسطة علل وأسباب ، إلى الله تعالى المُنَزَّه عن =
القول الثاني ـ إنّها علل مادية غير متعارفة
وهنا احتمال ثان ، وهو أن تكون العلّة المحدثة للمعجزة ، علة مادية غير متعارفة ، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب . ولا بُعْدَ في أن يكون للشيء علتان ، إحداهما يعرفها الناس ، والثانية يعرفها جمع خاص فيهم . ويمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار ، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي ، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام . وهناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة والأشجار والبيئة والمياه وغير ذلك ، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلاً . فإذا كان هذا ملموساً لنا في الحياة ، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة . على أسرار ورموز فيها ، يقدرون بها على إيجاد المعاجز .
ولكنه قول لا يدعمه دليل .
القول الثالث ـ إنّها الملائكة والموجودات المجردة
وهنا احتمال ثالث وهو أنّ المعاجز تتحقق بفعل الملائكة ـ التي يعرّفها القرآن بـ « المدبّرات » (١) ، بأمر منه سبحانه ، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها (٢) .
__________________
= التجدد والحدوث ، ممّا لا تتقبله الأصول الفلسفية المبتنية على لزوم وجود السنخية بين العلّة والمعلول ، سنخية ظلية لا توليدية . وهذا مفقود بينه سبحانه ، والزمان والزمانيات التي طبعت على التجدد والتقضّي . وهذا هو البحث الذي طرحه الفلاسفة عند بحثهم عن ارتباط الحادث بالقديم ، وهو من مشكلات البحوث الفلسفية .
ولا ينافي هذا عموم القدرة ، فإنّ عمومها أمر ثابت ومسلّم ، إلّا أنّ الشيء ربما لا يقبل الوجود إلّا عن طريق أسباب وعلل مادية ، أي يكون وجوده على نحو لا يتحقق إلّا في ظل علل مادية . وهذا ـ من باب التقريب ـ كالأرقام الرياضية ، فإنّ العدد خمسة ـ بوصف أنّه خمسة ـ لا يتحقق إلّا بعد تحقق الأربعة ، ويستحيل تحققه ـ بهذا الوصف ـ استقلالاً بلا تحقق آحاد قبله . وهذا كصدور الأكل من إنسان معين ، فإنّ الأكل يتوقف على وجود أسباب وأدوات مادية ، كالفم واللسان والأسنان ، وعملية المضغ ثم البلع . وهذا النوع من الفعل لا يمكن أن ينسب إلى الله سبحانه نسبة مباشرية ، وإنّما ينسب إليه دائماً نسبة تسبيبيّة ، لأن ماهيته محاطة بالأمور المادية .
(١) وهو قوله تعالى في سورة النازعات : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) الآية ٥ .
(٢) ولعلّ من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم ، كما في قوله سبحانه : ( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) ( سورة مريم : الآية ١٧ ) .
القول الرابع ـ إنّها نفس النبي وروحُه
وذهب إلى هذا جمع من الفلاسفة والمحققين ، وإدراك صحته يتوقف على معرفة القدرة العظيمة التي تمتلكها النفس البشرية ، فنقول :
إنّ الإنسان كلّما ازداد توجهاً إلى باطنه ، وانقطاعاً عن الظواهر المادية المحيطة به ، كلما تفجّرت مكامن قدرات نفسه وتأجّج أوار طاقاتها ، وبالعكس ، كلما ازداد انغماساً في دركات الملذات ، وإشباع الغرائز ، كلما خمدت طاقاتها وانطفأت قدراتها .
ويدلّنا على ذلك عياناً ، ما يقوم به المرتاضون (١) من خوارق الأفعال وعجائبها : فيرفعون الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلّا بالرافعات الآلية ، بمجرد الإرادة . ويستلقون على المسامير الحادة ثم تكسر الصخور الموضوعة على صدورهم ، بالمطارق ، ويدفنون في الأرض أياماً ، ليقوموا بعدها أحياءً . وغير ذلك مما يراه السائح في بلاد الهند وغيرها ، وتواتر نقله في وسائل الإعلام كالجرائد والمجلات والإذاعات . وكل ذلك دليل قاطع على أنّ في باطن الإنسان قوى عجيبة لا تظهر إلّا تحت شرائط خاصة .
وبعبارة واضحة ، إنّ نفس الإنسان كما تسيطر على أعضاء البدن ، فتنقاد لإرادتها ، وتتحرك قياماً وجلوساً بمشيئتها ، فكذلك تسيطر ـ في ظل تلك الظروف الخاصة ـ على موجودات العالم الخارجي ، فتقودها بإرادتها ، وتخضعها لمشيئتها ، وتَقْدِرُ ، بمجرد الإرادة ، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير ، وغير ذلك من الأفعال .
وليس القيام بعجائب الأمور من خصائص المرتاضين ، بل إنّ هناك أُناساً مثاليين ، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة ومعرفة الربّ ، بلغوا إلى حدّ قدروا معه على خرق العادة والمجاري الطبيعية .
__________________
(١) والرياضة هي التوجّه إلى الباطن والإنقطاع عن الظاهر .
يقول الشيخ الرئيس في هذا المجال : « إذا بلغك أنّ عارفاً أطاق بقوته فعلاً ، أو تحريكاً ، أو حركة تخرج عن وسع مثله ، فلا تتلقه بكل ذلك الإستنكار ، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة . . . وإذا بلغك أنّ عارفاً حدّث عن غيب فأصاب ، متقدماً ببشرى أو نذير ، فصدّق ولا يتعسّرن عليك الإيمان به ، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة » (١) .
ويقول صدر المتألّهين : « لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية ، فيطيعها العنصر في العالم المادي ، كإطاعة بدنه إياها . فكلّما ازدادت النفس تجرّداً وتشبّهاً بالمباديء القصوى ، إزدادت قوةً وتأثيراً فيما دونها .
فإذا صار مجرّدُ التصوّر سبباً لحدوث هذه التغيرات ( طاعة البدن للنفس ) في هيولىٰ البدن ، لأجل علاقة طبيعية وتعلّق جبلّي لها إليه ، لكان ينبغي أن يؤثّر في هيولىٰ العالم مثل هذا التأثير ، لأجل اهتزازٍ علويٍّ للنفس ، ومحبة إلهية لها ، فتؤثّر نفسه في الأشياء » (٢) .
ويدلّ على أنّ خوارق العادة رهن فعل النفس الإنسانية ، ما ينقله تعالى من أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى ، وذلك في قوله عزّ من قائل : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (٣) .
وهناك من الآيات ما هو أصرح منها في نسبة الخوارق إلى أصحاب النفوس القوية ، كما ورد في أحوال سليمان النبي عند ما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين . فقال عفريت من الجن إنّه قادر على حمله والإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان ، ولكن مَنْ كان عنده عِلْمٌ من الكتاب قال إنّه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طَرْفُ سُلَيْمانَ إليه ، وبالفعل ، بأسرع من لمح البصر ، كان العرش ماثلاً أمامه .
__________________
(١) الإشارات والتنبيهات ، مع شرح المحقق الطوسي ج ٣ ص ٣٩٧ . وبعدها أخذ الماتن والشارح ببيان قدرة النفس على الأمور الخارقة للعادة .
(٢) المبدأ والمعاد ، ص ٣٥٥ ـ بتصرف .
(٣) سورة البقرة : الآية ١٠٢ .
يقول سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي . . . ) (١) .
بعد هذا كلّه نقول : إذا كان هذا حال الإنسان العادي الذي لم يطرق إلّا باب الرياضة ، أو العارف الذي قام بالفرائض واجتنب المحرمات ، فكيف بمن وقع تحت عناية الله سبحانه ورعايته الخاصة ، وتعليم ملائكته ، إلى أن بلغت نفسُه أعلى درجات القوة والمقدرة ، إلى حدّ يقدر ـ بإرادة ربّانية ـ على خلع الصور عن المواد وإلباسها صوراً أُخرى ، ويَصِيرَ عالمُ المادة مطيعاً له ، إطاعة أعضاءِ بدن الإنسان له .
وفي الذكر الحكيم إشارات إلى هذا المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة إلى نفس الرسول بقوله : ( مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (٢) . فإنّ الفاعل في « يأتي » هو الرسول المتقدّم عليه .
وقد يؤيّد هذا الإحتمال بما ورد في توصيف الأنبياء بأنّهم جند الله ، وأنّهم منصورون في مسرح التحدي ومقابلة الأعداء . قال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (٣) . وكون النبي منصوراً في جميع المواضع ، ومنها مواضع التحدي ، يَدُلّ على أنّ له دوراً ودخالة في الإتيان بخوارق العادات .
ونظير ذلك قوله سبحانه : ( كَتَبَ اللَّـهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (٤) ، فوصف النبي صلى الله عليه وآله بكونه غالباً ، ولا معنى للغالبية إلّا لدخالته في مواضع التحدي .
__________________
(١) سورة النمل : الآيات ٣٨ ـ ٤٠ .
(٢) سورة غافر : الآية ٧٨ .
(٣) سورة الصافات : الآيات ١٧١ ـ ١٧٣ .
(٤) سورة المجادلة : الآية ٢١ .
ولا دليل على اختصاص الآيتين بالمغازي والحروب ، بل إطلاقهما يدلّ على كونهم منصورين وغالبين في جميع مواقع المقابلة ، سواء أكانت محاجة أو تحدّياً بالإعجاز ، أو حرباً وغزواً .
وهذا الفعل العظيم للنفوس ، إنّما يقع بأمره تعالى وتأييده ، ولذا كانت تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة ؛ قال تعالى : ( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ، إِنَّ اللَّـهَ سَيُبْطِلُهُ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) .
فهذه الآيات العامة المتقدمة ، تدلّ بظهورها على كون الفاعل للمعاجز والكرامات ، نفوس الأنبياء وأرواحهم ، بإذن الله سبحانه .
وهناك آيات أخرى خاصة ، تسند إلى خصوص بعض الأنبياء خوارق العادة ، بل ائتمار الكون بأمرهم .
قال تعالى : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) (٢) .
وأنت إذا أمعنت في قوله : ( بِأَمْرِهِ ) ، ينكشف لك الستار عن وجه الحقيقة ، ويظهر لك أنّ إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون .
وقال تعالى في المسيح عيسى بن مريم : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (٣) .
ويقول تعالى أيضاً : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (٤) .
فترى أنّ الآية تنصّ على أنّ نفخ الروح في الهيكل الطيني للطير ، رهن طاقة
__________________
(١) سورة يونس : الآية ٨١ .
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٨١ .
(٣) سورة آل عمران : الآية ٤٩ .
(٤) سورة المائدة : الآية ١١٠ .