أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١
وعلى هذا : فلا يمتنع أن يخلق الله ـ تعالى ـ فى قلوب الكفار سمة تتميز بها عن قلوب الأبرار ـ على ما قاله الجبائى ، وابنه [أبو هاشم] (١) ـ ويبين ذلك للملائكة ؛ لفائدة ذم من رأوه متسما بسمة الكفر ، حتى ينزجر الكافر عن كفره ؛ فإنه إذا علم أنه إذا كفر وسم بسمة يتحقق بها ذمه ، ولعنه من الملائكة المقربين / كان ذلك سببا لزجره ؛ وذلك من أقوى مصالح الدين.
سلمنا امتناع حمله على هذا المحمل ؛ ولكن ما المانع من الحمل على وصف الرب ـ تعالى ـ للكفرة بكفرهم ، وتسميتهم (٢) بما اتصفوا به من الكفر ، على ما ذهب إليه أوائل المعتزلة؟ ولهذا فإنه يصح أن يقول القائل : ختمت على فلان بالكفر ، والضلال ؛ إذا كان آيسا من هداه.
سلمنا امتناع الحمل على هذا المحمل أيضا ؛ ولكن ما المانع من حمل الختم والطبع ، على قطع اللطف عن الكفار؟ ، وهو ما علم (٣) الله ـ تعالى ـ أن العبد يؤمن عنده ، ولا يكفر. على ما قاله الكعبى من المعتزلة ؛ وذلك لأن قطع اللطف مانع من الإيمان. فأمكن إطلاق اسم الختم ، والطبع عليه ، كما قررتموه فى خلق الضلال.
سلمنا امتناع حمله على هذا أيضا ؛ ولكن ما المانع من حمل الطبع والختم ، على ما يخلقه الله (٤) ـ تعالى (٤) ـ من منع الإيمان؟ على ما ذهب إليه بشر بن يزيد ، وعبد الواحد (٥) ، وبكر بن أخت عبد الواحد.
غير أن عبد الواحد ، وبشرا : زعما أنه لا يبقى العبد مع الختم ، والطبع ، مأمورا بالإيمان ؛ ولا منهيا عن الكفر ، حتى لا يفضى إلى التكليف بما لا يطاق ؛ ولأنه إذا كان الإيمان مأمورا به ؛ فالمنع منه يكون قبيحا ، بخلاف بكر بن أخت عبد الواحد.
سلمنا (٦) امتناع الحمل على هذا أيضا ؛ ولكن ما المانع من الحمل على منع الإخلاص ، دون الإيمان؟ كما ذهب إليه بعض أصحاب عبد الواحد (٦) ؛ فإنه زعم أن
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) فى ب : (وهو تسميتهم).
(٣) فى ب (علم).
(٤) فى ب (إليه).
(٥) عبد الواحد : هو عبد الواحد بن زيد. يعرف به ابن أخته بكر بن زياد الباهلى ، شيخ البكرية ، فيقال بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد. مما يدل على مكانته العلمية ، وشهرته. (الفرق بين الفرق ص ٢١٢ ، ٢١٣. وانظر ما سبق هامش. ل ١٩٣ / أ.
(٦) من أول (سلمنا امتناع الحمل ... أصحاب عبد الواحد) مكررة فى أ. وكلمة (منع) ساقطة من ب. وكلمة (بعض) ساقطة من أ.
الختم والطبع ؛ منع الإخلاص دون الإيمان. حتى يقال : إنه يكون مع ذلك مأمورا بالإيمان ، دون الإخلاص.
والجواب عن الاحتمال الأول : من ثلاثة أوجه :
الأول : هو أن الوسم : إما أن يكون بما هو مانع من (١) الإيمان ، أو بما لا يمنع (١).
فإن لم يكن مانعا من الإيمان : فلا يتحقق به المميز بين الكافر ، والمؤمن ؛ فلا يكون فيه معنى الوسم.
وإن كان مانعا : فهو المعنى بالضلال. ولا منافاة بينه ، وبين ما ذكرناه.
الثانى : هو أن ما ذكروه فى تحقيق فائدة الوسم من الانزجار ، فغير (٢) مطرد فى حق من لا يعتقد صانعا ، ولا يعتقد وجود الملائكة ، على ما لا يخفى.
الثالث : هو أن ما ذكروه ، وإن استمر (٣) فى الختم ، والطبع ، فلا يطرد فى الأكنة ، فإن من وسم شخصا بسمة ليميزه عن غيره. لا يقال غشاه / بالأكنة.
وعن الاحتمال الثانى : من وجهين :
الأول : أنا لا نسلم صحة ذلك لغة ؛ فإنه لا يقال : ختم فلان على قلب فلان ، وطبع عليه ، أو غشاه بالأكنة ؛ بمعنى وصفه له بالكفر.
الثانى : أنه وإن صح الإطلاق لغة ؛ لكن يمتنع حمل الختم ، والطبع الوارد فى النصوص المذكورة عليه لوجهين :
الأول : هو أن النصوص الواردة دالة على التمدح ، والاستعلاء ، وفى حمل الطبع ، والختم ، وتغشية الأكنة ، على الوصف ، ومجرد التسمية إبطال فائدة التخصيص بالتمدح ، والاستعلاء ؛ لتصور ذلك من الواحد منا ؛ وهو ممتنع.
الثانى : أنه ـ تعالى ـ أخبر بأن الختم على القلوب مانع من الإيمان حيث قال (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٤) أى لأجل الختم. ومجرد الوصف بالكفر ، لا يمنع من الإيمان ؛ فامتنع الحمل عليه.
__________________
(١) فى ب (أو لا بما لا يمنع).
(٢) فى ب (غير).
(٣) فى ب (اشتهر).
(٤) سورة البقرة ٢ / ٦ ، ٧.
وأما الاحتمال الثالث : فعنه جوابان أيضا :
الأول : منع صحة ذلك لغة ؛ فإنه لا يطلق الطبع ، والختم ، وتغشية الأكنة ، على قطع الألطاف ، وتركها لغة.
الثانى : هو أن الألطاف : إما أن تكون ممكنة ، أو غير ممكنة.
فإن كانت ممكنة ، فعند الخصم يمتنع قطعها ؛ لكونها واجبة على الله تعالى عنده.
وإن لم تكن ممكنة : فلا يكون قطعها مضافا إلى الله ـ تعالى ـ والختم ، والطبع ، وتغشية الأكنة فى النصوص مضاف إلى الرب ـ تعالى ـ والمضاف إلى الله ـ تعالى ـ غير ما ليس بمضاف إليه.
وإن قيل : بإضافة الطبع (١) ، والختم (١) على القلوب ، وتغشيتها بالأكنة إلى الله ـ تعالى ـ من حيث لا يتمكن من خلق لطف بهم يؤمنون عنده ؛ فليس ذلك أولى من إضافته إلى الأنبياء ، وغيرهم ؛ لمساواتهم للرب ـ تعالى ـ فى هذا المعنى.
وأما الاحتمال الرابع : فباطل أيضا ؛ فإن المنع من الإيمان : إما أن يكون بأن لا يخلق الله لهم الإيمان ، أو بأن يخلق ما يمنع من الإيمان.
فإن كان الأول : فالبارى ـ تعالى ـ غير خالق للإيمان عندهم ، وليس إضافة الطبع ، والختم ، وتغشية الأكنة إلى الله ـ تعالى ـ بهذا التفسير ، أولى من إضافته إلى غيره من (٢) المؤمنين ؛ لمشاركتهم لله ـ تعالى ـ فى هذا المعنى.
وإن كان الثانى : فلا يخلو : إما أن يقال بأن الإيمان مأمور به ، أو غير مأمور به.
فإن كان مأمورا به : فالمنع منه قبيح عندهم ، ولأنه يفضى إلى التكليف بما هو ممنوع منه ؛ وهو محال عندهم / أيضا.
وإن كان غير مأمور به (٣) : فهو خلاف إجماع (٤) المسلمين ، قبل ظهور هؤلاء المبتدعة الخارقين لقواعد الدين ؛ وفيه إبطال المذهبين المذكورين.
__________________
(١) فى ب (الختم والطبع).
(٢) ساقط من ب.
(٣) فى ب (فيه).
(٤) فى ب (الإجماع من).
وبهذا الجواب ، يندفع الاحتمال الخامس أيضا.
ويزيد جواب آخر : وهو أن الله ـ تعالى ـ أخبر بأن الختم مانع من الإيمان على ما سبق تحقيقه. فمن فسر الختم بالمنع من الإخلاص دون الإيمان ، كان مراغما لدلالة النص بدعوى لا أصل لها.
المسألة التاسعة
«فى معنى اللطف ، وحكمه»
واللطف فى عرف (١) المتكلمين : عبارة عن كل ما يقع صلاح المكلف عنده بالطاعة والإيمان ، دون فساده بالكفر والعصيان (٢). وقد اختلفوا فيما وراء ذلك.
فقالت المعتزلة (٣) : إنه لا يتخصص بشيء دون شيء ؛ بل كل ما علم الله ـ تعالى ـ أن صلاح العبد فيه ؛ فهو لطف به.
ثم قد يكون ذلك من فعل الله ـ تعالى ـ كخلق القدرة للعبد ، وإكمال العقل ، ونصب الأدلة ، وتهيئة آلات فعل الصلاح ، وترك الفساد.
وقد يكون من أفعال العبد نفسه ، كنظره ، وفكره فيما يجب عليه ، وتوصله إلى تحصيله.
وقد يكون من فعل غيره من المكلفين بالإعانة له فى تحصيل مصالحه ، ودفع مفاسده ، والتأسى به فى أفعاله الصالحة ، وإيمانه ، وطاعته ، والانزجار عن أفعاله الفاسدة اعتبارا به. حتى إنهم قالوا : كفر الكافر إذا كان فيه صلاح الغير بطريق الاعتبار ، والانزجار ؛ كان كفره لطفا بذلك الغير ، وإن كان فسادا بالنظر إلى نفسه.
وقد لا يكون فعلا ؛ بل ترك فعل ؛ وذلك كما لو علم الله ـ تعالى ـ أنه لو بسط الرزق لعباده ، أو لبعضهم لبغوا فى الأرض. ولو ترك بسطه لصلحوا ؛ فيكون ترك بسط الرزق لطفا بهم. وإلى هذا مال القاضى أبو بكر من أصحابنا.
ثم زعمت المعتزلة : أنه يجب على الله ـ تعالى ـ أقصى ممكن من اللطف ، والتزموا على هذا الأصل ، أنه ليس فى مقدور الله ـ تعالى ـ لطف لو فعله لآمنت الكفرة ، وإلا كان تاركا للواجب.
__________________
(١) فى ب (عبارة).
(٢) فى ب (والإحسان).
(٣) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥١٨ ـ ٥٢٥.
وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى ، وأكثر أئمتنا (١) : إلى أن اللطف شيء مخصوص ، وهو خلق القدرة على فعل الصلاح من الإيمان والطاعة.
وهو الأقرب من جهة أن كل ما يقدر سوى القدرة على فعل الصلاح قد لا يقع معه الصلاح والقدرة الحادثة ، على أصل الشيخ كما سنبينه ، مقارنة للمقدور ، وهو ملازم لها ؛ فكانت بوصف / اللطيف ، أولى من غيرها.
وبالجملة : فحاصل هذا الخلاف آئل إلى الاصطلاح اللفظى ، والأمر فيه قريب ، بعد فهم المعنى.
وإنما الّذي يجب الاعتناء بإبطاله ، القول بوجوب اللطف على الله ـ تعالى ـ وأنه ليس فى مقدور (٢) الله ـ تعالى (٢) ـ لطف لو فعله لآمنت الكفرة.
أما الأول : فقد سبق إبطاله فى مسألة نفى وجوب الغرض فى أفعاله (٣).
وأما الثانى : فمع أنه مراغم لقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (٤) وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (٥) فهو مبنى على فاسد أصولهم فى وجوب اللطف على الله ـ تعالى ـ ، وأنه لو كان فى مقدوره لطف لفعله ؛ كى لا يكون تاركا الواجب ؛ وقد أبطلناه.
__________________
(١) لتوضيح مذهب الأشاعرة فى هذه المسألة :
انظر الإبانة للأشعرى ص ٤٩ ، ٥٠ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٣٠٠ ، ٣٠١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤٠٧ ـ ٤١٠.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : شرح طوالع الأنوار ص ١٩٦ وشرح المواقف ٢ / ٣٩٩ وشرح المقاصد ٢ / ١١٨.
(٢) فى ب (مقدوره).
(٣) فى ب (أفعال الله ـ تعالى ـ) انظر ل ١٨٦ / أوما بعدها.
(٤) سورة الأنعام ٦ / ٣٥.
(٥) سورة هود ١١ / ١١٨.
«المسألة العاشرة»
«فى التوفيق ، والعصمة ، والخذلان»
أما التوفيق : ففى اللغة : عبارة عن تهيؤ العبد للموافقة.
وأما فى عرف المتكلمين : فمختلف.
فالذى ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعرى ، وأكثر الأئمة من أصحابه (١) : أن التوفيق : هو خلق القدرة على الطاعة ، وهو موافق للوضع اللغوى ؛ إذ الموافقة إنما هى بالطاعة ، وبخلق القدرة الحادثة يكون التهيؤ للموافقة ضرورة ، وحصول الموافقة عنده ، وعدم حصولها عند عدمه ، وإن لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى الإيجاد.
وعلى هذا فمن زعم من أصحابنا كالإمام أبى المعالى (٢) : أن التوفيق : هو خلق الطاعة ؛ لعدم تأثير القدرة الحادثة فى الطاعة ؛ فقد أبعد عن الوضع اللغوى ، من حيث أن الطاعة بها الموافقة لا التهيؤ للموافقة ، وإن كان لا حرج عليه فى الاصطلاح على ذلك مع نفسه.
وأما المعتزلة (٣) : فمختلفون فى ذلك.
فمنهم : من زعم أن التوفيق : هو الدعوة ، وإيضاح سبل المراشد ، وتبين مقاصدها.
ومنهم : من زعم أن التوفيق : هو اللطف ، على ما سبق تحقيقه.
والمذهبان باطلان.
أما الأول : فلأنه يلزم منه أن يقال : الكفار موفقون ، لتحقيق هذا المعنى فى حقهم ؛ وهو ممتنع.
وأما الثانى : فمن جهة أن الأمة مجمعة على تسويغ الدعاء ، وطلب التوفيق من الله ـ تعالى ـ ؛ فلو كان هو اللطف كما ذكروه : فإما أن يكون ممكنا ، أو لا يكون ممكنا.
__________________
(١) فى ب (أصحابه إليه).
لتوضيح رأى الأشاعرة فى هذه المسألة : انظر الإرشاد لإمام الحرمين ص ٢٥٤ ، ٢٥٥ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١١ ـ ٤١٤ وشرح المواقف ٢ / ٣٨٨ ، ٣٨٩ وشرح المقاصد ٢ / ١١٨.
(٢) انظر الإرشاد ص ٢٥٤ ، ٢٥٥.
(٣) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة انظر : شرح الأصول الخمسة ص ٥١٨ ـ ٥٥٥.
فإن كان ممكنا : فهو واجب على الله ـ تعالى ـ ولا بد من وقوعه ، ولا معنى لطلب ما لا بد منه ، ولا للمتضرع (١) / فى وجوده ، كما أنه لا معنى لقول القائل اللهم لا تظلمنى ، حيث (٢) لم يكن الظلم من الله ـ تعالى ـ متصورا (٢).
وإن لم يكن ممكنا : فلا معنى لطلب ما لا يمكن.
وأما العصمة :
فهى فى اللغة : مأخوذة من المنع ـ ومنه قوله ـ تعالى ـ إخبارا عن ابن نوح عليهالسلام : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) (٣) : أى يمنعنى. وقوله : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أى لا مانع. وقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٤) : أى يمنعهم عنك. وقوله ـ تعالى ـ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) (٥) : أى امتنعوا بالالتجاء إلى فضله عمن سواه. ويقال لقلل (٦) الجبال (٦) عواصم ؛ لامتناع من يلجأ إليها بها عن غيره.
وأما الفرق الأصولى : فمذهب الشيخ أبى الحسن ، والأئمة من أصحابه : أن مدلول العصمة ما هو مدلول التوفيق على ما سبق من أصله. وهو موافق للوضع اللغوى أيضا ؛ فإن خلق القدرة على الطاعة ، والإيمان ، يلازمه الطاعة والإيمان. ويلزم من الطاعة امتناع المعصية ، ومن الإيمان امتناع الكفران ؛ فخلق القدرة على الطاعة ، والإيمان تكون عصمة عن المعصية ، والكفران.
وعلى هذا فلا يمتنع إطلاق اسم العصمة على خلق الطاعة والإيمان نفسهما ؛ لامتناع وقوع المعصية ، والكفر معهما.
فإن قيل : إذا كان خلق القدرة على الإيمان ، وخلق الإيمان عصمة مانعة من الكفر ؛ فخلق القدرة على الكفر ، أو خلق الكفر ، يكون أيضا منعا من الإيمان. وليس خلق القدرة على الكفر مانعا من الإيمان.
__________________
(١) فى ب (ولا يتضرع).
(٢) فى ب (حيث أنه لم يكن الظلم متصورا من الله تعالى).
(٣) سورة هود ١١ / ٤٣.
(٤) سورة المائدة ٥ / ٦٧.
(٥) سورة آل عمران ٣ / ١٠٣.
(٦) فى ب (لقلل) وقلل الجبال معناها قمم الجبال ، و (قلة الجبل) أعلاه والجمع (قلل) المصباح المنير. باب القاف فصل اللام وما يثلثهما).
وكذلك خلق الكفر ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (١). دل على انتفاء كل مانع غير المستثنى ، وإذا لم يكن خلق القدرة على الكفر ، أو خلق الكفر مانعا من الإيمان ؛ فكذلك خلق القدرة على الإيمان ، أو خلق الإيمان ؛ لا يكون مانعا من الكفر.
وأيضا : فإن إطلاق المنع من (٢) الشيء ، إنما يحسن عند المحاولة لذلك الشيء ، ولا يحسن بتقدير كون الشخص كارها له غير مريد له. ومن خلق له الإيمان ، أو خلقت له القدرة عليه على وجه يكون مقارنا له ؛ فلا يكون محاولا للكفر ؛ بل كارها له ؛ فلا يحسن إطلاق المنع بالنسبة إليه.
والجواب عن الأول : لا نسلم أن خلق القدرة على الكفر ليس مانعا من الإيمان حالة كونه كافرا.
وأما / الآية فهى دليل على أن المانع إنما هو استبعاد قدرة الله ـ تعالى ـ على أن يبعث بشرا رسولا ؛ وذلك عين الكفر ؛ وليس فيها ما يدل على أن الكفر ليس بمانع.
وعن الإشكال الثانى : أن صحة إطلاق المنع عن الشيء يستدعى وقوع المحاولة له ، أو صحة المحاولة لذلك الشيء. الأول ؛ ممنوع ، والثانى ؛ مسلم.
وعلى هذا فلا يلزم من عدم وقوع المحاولة للكفر فى حق المؤمن ؛ امتناع صحة المحاولة له.
وأما المعتزلة : فمدلول أصل (٣) العصمة عندهم أيضا ما هو مدلول اسم التوفيق على اختلاف مذاهبهم ، غير أن من فسر التوفيق منهم باللطف اختلفوا. فمنهم من قال : اللطف إنما يسمى عصمة إذا قارنه الإيمان والطاعة ، وقيل ذلك لا يسمى عصمة.
ومنهم من قال : إنه يسمى مثل ذلك عصمة إذا كان فى علم الله ـ تعالى ـ أن ذلك اللطف يعود إلى الإيمان.
والوجه فى إبطال ما ذكروه. ما أبطلنا به تفسير التوفيق ، بالدعوة واللطف ؛ فعليك بنقله إلى هاهنا.
__________________
(١) سورة الاسراء ١٧ / ٩٤.
(٢) فى ب (على).
(٣) فى ب (اسم).
وأما الخذلان :
فهو عند الشيخ أبى الحسن ، وأصحابه ضد التوفيق. فكما أن التوفيق : خلق القدرة على الطاعة ؛ فالخذلان : خلق القدرة على المعصية ؛ وهو على وفق العرف اللغوى.
فإن الخذلان فى عرف أهل اللغة المنع من درك المراشد ، وقطع الأسباب المعينة عليها ، وخلق القدرة على الكفر إذا كانت مقارنة للكفر ، مانعة من درك المراشد ؛ فكان (١) ذلك خذلانا.
وأما البصريون من المعتزلة فقالوا : الخذلان هو ذم الله ـ تعالى ـ للعصاة ، وتوبيخه لهم.
وأما الكعبى فقال : الخذلان عبارة عن قطع الألطاف ، المعبر عنها بالتوفيق عنده كما سبق تعريفه.
والمذهبان بعيدان :
أما الأول : فلأنه على خلاف الإشعار اللغوى.
وأما الثانى : فلأن ما قطع من اللطف : إما أن يكون ممكن الوجود ، أو غير ممكن.
فإن كان الأول : فهو واجب على الله ـ تعالى ـ عنده ؛ فيمتنع قطعه.
وإن كان الثانى : فما ليس ممكنا لا يكون قطعه لله ممكنا ، وليس القول بكون الله خاذلا للكافر باعتبار أنه لم يخلق اللطف فى حقه ، أولى من كون الواحد منا خاذلا له بهذا الاعتبار ؛ ضرورة الاشتراك فى عدم الاقتدار عليه.
وبالجملة : فالبحث أيضا فى هذه المسألة لفظى. واللغة / ما ذكرنا ، ولا حرج فى الاصطلاح بعد فهم المعنى.
__________________
(١) فى ب (وكما أن).
المسألة الحادية عشرة»
«فى تحقيق معنى الأجل ، ووجه الاختلاف فيه» (١)
والنظر فى الأجل من طرفين :
الأول : فى حقيقته ، ومعناه.
الثانى : فى أنه هل يجوز قطعه ، أم لا؟
أما حقيقة الأجل : فاعلم أن أجل كل شيء هو وقت تحققه ، وأما ما هو الوقت ، فسيأتى الكلام فى تحقيقه ، وبيان اختلاف الناس فيه ، وما هو الحق منه فيما بعد ؛ لكن لا بد من الإشارة إلى ما إليه ميل المحققين من أصحابنا فى تحقيق معنى الوقت ؛ لبناء الفرض عليه هاهنا.
والّذي إليه ميل القاضى ، وحذاق الأصحاب : أن وقت كل شيء هو ما قارنه من معلوم متجدد ، لم يكن ذلك الشيء قبله ـ وسواء كان ذلك المعلوم المتجدد وجودا : كما يقال : قدم زيد عند طلوع الشمس ، أو عدما : كما يقال : تحرك الجوهر عند عدم سواده ، أو بياضه.
وعلى هذا : فما جعل وقتا لشيء ، أمكن أن يكون ذلك الشيء وقتا له ؛ فإنه كما يقال قدم زيد عند طلوع الشمس ، ويجعل طلوع الشمس وقتا لقدوم زيد فيقال : طلعت الشمس عند قدوم زيد ؛ فيجعل قدوم زيد وقتا لطلوع الشمس على حسب قصد الموقت وإرادته ، وظهور ما جعل وقتا عند المخاطبة بالنسبة إلى الشيء الموقت به ؛ فالتأقيت لكل شيء تخصيص تحققه بمقارنة معلوم متجدد.
__________________
(١) لتوضيح رأى الأشاعرة فى هذه المسألة ، وردهم على خصومهم بالإضافة إلى ما ورد هنا :
انظر الإبانة عن أصول الديانة للأشعرى ص ٥٥ ، ٥٦ وأصول الدين للبغدادى ص ١٤٢ ـ ١٤٤ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٣٦١ ـ ٣٦٣. ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١٦.
ومن كتاب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :
شرح المواقف ٢ / ٣٨٩ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١١٨ ، ١١٩.
أما عن رأى المعتزلة : فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٧٨٠ ـ ٧٨٤.
وعلى هذا فلا يتصور تأقيت أمر ما بالقديم ؛ لعدم تجدده ؛ وسواء كان ذلك القديم عدما ، أو وجودا ، وكذا لا يتصور تأقيت القديم بوقت ؛ لأن الوقت متجدد كما سبق. والقديم فلا يكون موقتا فى تحققه بالمتجدد ، وإلا لكان القديم متجددا ، أو المتجدد قديما ؛ وهو محال. بلى إن قيل بأن القديم يتفق وجوده ، مع وجود المتجدد من غير تأقيت بالتفسير المذكور ، فهو حق. وذلك كما يقال : وجود الرب ـ تعالى ـ فى الآن مع وجودنا.
فإن قيل : ما ذكرتموه فى تفسير الأجل مخالف للإشعار اللغوى ؛ إذ الأجل فى اللغة مشعر بالتأخير إلى أمد معلوم ، ومنه سمى الدين مؤجلا نظرا إلى تأخير المطالبة إلى وقت معلوم.
قلنا : ليس كذلك ؛ بل الأجل فى اللغة هو التقدير بالوقت ، والتخصيص به ، غير أن المؤجل : أى الموقت ، قد يكون تأخيرا : كتأخير (١) المطالبة فى وقته المقدر ، فأجل تأخير المطالبة هو وقته ، وأجل الأداء هو وقته.
وأما أنه هل / يجوز قطع الأجل المقدّر فى حكم الله ، أم لا؟
فقد اختلف المتكلمون فيه :
فذهبت الأشاعرة وغيرهم : إلى امتناع ذلك ، وأن من قتل ظلما ، أو بحق ؛ فقد فاضت نفسه فى الأجل المحتوم من غير زيادة ، ولا نقصان.
ووافقهم على ذلك الجبائى ، وأبو هاشم ، ومتأخرى المعتزلة.
وأما المتقدمون من المعتزلة فقد اختلفوا :
فمنهم من قال : من مات حتف (٢) أنفه ؛ فقد مات بأجله ، ومن قتل ؛ فقد انقطع أجله بالقتل ، وأنه لو لم يقتل ؛ لبقى إلى وقته المقدر.
ومنهم من قال بجواز الحياة ، والموت ، بتقدير عدم القتل.
__________________
(١) فى ب (لتأخير).
(٢) فى ب (على حتف).
ومنهم من فصل وقال : إذا اتفق هلاك عدد كثير بحريق ، أو غرق ، أو غير ذلك ، أمكن أن يقال فى بعضهم من غير تعيين أنه لو قدر عدم ذلك السبب ؛ لجاز أن يبقى ، وأن يموت.
ولا جائز (١) أن يقال فى الكل أنه لو قدر عدم ذلك السبب فى حقهم ؛ لجاز موت الكل معا من غير سبب ؛ إذ هو خرق للعادة ، وخرق العادة لا بجهة الإعجاز ، قدح فى المعجزات ، وهذا بخلاف الواحد ، أو الاثنين ، وما (٢) لا ينتهى الحال فيه إلى خرق العادة.
وذهب أبو الهذيل العلاف منهم : إلى أن من قتل لو لم يقتل ؛ لمات قطعا ، ولما تصور تقدير بقائه.
وأما الرد على من قال بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل ، وأن القتل (٣) قاطع للأجل المحتوم المقدر ؛ فمن جهة الاستدلال ، والإلزام.
أما الاستدلال :
فهو أن من قتل فى وقت معلوم ، لا يخلو : إما أن يكون وقوع قتله فى ذلك الوقت معلوما لله ـ تعالى ، أو غير معلوم له.
لا جائز أن يكون غير معلوم له : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ جاهلا بعواقب الأمور ؛ وهو محال.
وإن كان عالما به : فلا بد من وقوعه فى ذلك الوقت ، وإلا كان علمه جهلا ؛ وهو محال أيضا.
وإذا كان كذلك استحال أن يكون له أجل يحيى فيه بعد ذلك الوقت فى علم الله ـ تعالى ـ لما فيه من التناقض فى معلوم الله ـ تعالى ـ فبان أن أجله المقدر ، إنما هو وقت قتله لا غير ، وأن القتل لم يكن قاطعا.
وأما من جهة الإلزام : فمن ثلاثة أوجه :
__________________
(١) فى ب (ولا يجوز).
(٢) فى ب (مما).
(٣) فى ب (القطع).
الأول : هو أن (١) القول بوجوب البقاء (١) بتقدير عدم القتل إلى (٢) الوقت المعلوم إما أن يقال معه بجواز الموت (٣) ، أو لا يقال بجوازه (٤).
لا جائز أن يقال بعدم الجواز : فإنا لو قدرنا (٥) عدم تعلق علم الله / بالبقاء إلى ذلك الوقت كان الموت (٦) جائزا ، وتعلق (٧) علم الله بأن الأجل ممتد إلى الوقت (٨) مانع من جواز القتل عندهم ، قبل ذلك الوقت ؛ فلا يمنع من الموت قبل ذلك الوقت ، وإلا فالفرق تحكم غير معقول. وإذا كان الموت ـ بتقدير عدم تعلق العلم بالأجل المقدر ـ جائزا ، وتعلق العلم بالأجل غير مانع من جواز الموت ؛ فهو جائز.
وإذا كان الموت جائزا قبل ذلك الأجل ؛ فقد بطل القول بوجوب البقاء.
الوجه الثانى فى الإلزام :
أنهم حكموا بأن الموت حتف أنفه غير قاطع لأجله ، والقتل قاطع.
ولو قيل : ما المانع من أن يقال : لو قدرنا عدم موته فى ذلك الوقت ؛ لبقى إلى أجل معلوم لله ـ تعالى ـ وأن الموت ـ فى ذلك الوقت ـ قاطع لأجله ـ كما قلتم فى القتل ـ؟ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
الثالث : هو أنهم قضوا بأن شخصا لو أتلف شيئا مما ليس بحيوان أنه لا يكون قاطعا لأجله المعلوم لله ـ تعالى ـ ؛ بل إتلافه وقع فى وقته ، وأجله.
ولو قيل لهم : ما الفرق بين الأمرين؟ كان الجواب متعذرا.
فإن قيل : ما ذكرتموه وإن دل على أن القتل غير قاطع للأجل ؛ لكنه معارض بما يدل على كونه قاطعا للأجل ، وأن الأجل مما يتصور فيه الزيادة ، والنقصان.
وبيانه من جهة المعقول ، والمنقول.
__________________
(١) فى أ (أن القول بوجوب بالبقاء) وفى ب (أن البقاء).
(٢) فى ب (فى).
(٣) فى ب (الوقت).
(٤) فى ب (معه بجوازه).
(٥) فى ب (فرضنا).
(٦) فى ب (الوقت).
(٧) فى ب (إذ تعلق).
(٨) فى ب (ما يمنع).
أما من جهة المعقول :
فهو أن القاتل بغير حق محكوم عليه بكونه جانيا بالاتفاق شرعا وعقلا. ولو لم يكن قاطعا لأجل المقتول ؛ لما كان بقتله جانيا ، ولا ظالما.
وأما من جهة المنقول : فمن جهة الكتاب ، والسنة :
أما من جهة الكتاب :
فقوله ـ تعالى ـ : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (١) [وهو] (٢) دليل جواز ازدياد الأجل ، ونقصانه.
وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٣) ؛ وهو دليل ثبوت أجلين.
وأما من جهة السنة :
فما روى عن النبي عليهالسلام أنه قال : «من سرّه أن يبسط الله فى رزقه وينسأ فى أثره فليصل رحمه» (٤). ومعناه يؤخر أجله ؛ إذ الأثر ، هو الأجل.
قال الشاعر :
والمرء ما عاش ممدود له أمد |
|
لا ينقضى العمر حتّى ينقضى الأثر |
وأراد به الأجل ؛ والحديث ظاهر فى تأخير الأجل ، وزيادته.
سلمنا (٥) امتناع ذلك فى قتل الواحد ؛ لكنه غير ممتنع فى حق جماعة لا يتصور فى العادة اخترامهم معا من غير سبب ، بتقدير عدم قتلهم. ولو قيل بوجوب اخترامهم / معا
__________________
(١) سورة فاطر ٣٥ / ١١.
(٢) ساقط من أ.
(٣) سورة الأنعام ٦ / ٢.
(٤) ورد هذا الحديث فى صحيح البخارى بشرح ابن حجر ١٣ / ٢٠ كتاب الأدب ـ باب من بسط له فى الرزق لصلة الرحم عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : من سره أن يبسط له فى رزقه وأن ينسا له فى أثره فليصل رحمه».
(٥) فى ب (وإن سلمنا).
بتقدير عدم الأسباب العامة المهلكة ؛ لكان ذلك من خرق العوائد فى غير جهة الإعجاز ، وفيه ما يوجب إبطال المعجزة ؛ وهو ممتنع.
وإن سلمنا امتناع ذلك مطلقا ؛ ولكن ما المانع من القول بوجوب الموت بتقدير عدم القتل؟ كما قاله أبو الهذيل. ولو لا ذلك ؛ لكان العلم بانقضاء أجله عند قتله جهلا ؛ وهو محال.
وإن سلمنا امتناع القول بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل ، وامتناع وجوب الموت ؛ ولكن ما المانع من جواز الموت والبقاء ، كما قاله الباقون من الأوائل منهم؟ ، حتى لا يخرج كل واحد عن كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ.
والجواب :
(أما) (١) ما ذكروه من الشبه العقلية ، فجوابها من وجهين :
الأول : أن ما ذكروه غير لازم على أصلنا ، ولا على أصلهم.
أما على أصلنا : فلما علم أن زهوق نفس المقتول ، وخراب بنيته ؛ ليس مكتسبا للقاتل ؛ بل كسبه غير خارج عن محل قدرته ، وهو فعله ، وما هو خارج عنه ؛ فهو من فعل الله ـ تعالى ـ وجناية العبد وظلمه ، ليس بسبب كونه مفوتا للروح ؛ إذ هو غير مقدور له ؛ بل بكسبه ، وهو الفعل القائم بمحل قدرته المقصود له على وجه يعقبه زهوق الروح بفعل الله ـ تعالى.
وأما على أصلهم : فلجواز اشتمال فعل القاتل ، وتسلّطه على قتل الغير بغير حق على مفسدة موجبة لقبحه ، كما هو أصلهم ، وعدم (٢) ذلك فى إماتة الله ـ تعالى ـ له.
الثانى : هو أن ما ذكروه منتقض بإتلاف ما ليس بحيوان على ما سبق.
وما ذكروه من الظواهر ؛ فظنية غير يقينية ؛ فلا يكون حجة فيما (٣) يطلب فيه (٣) اليقين.
__________________
(١) فى أ (أن).
(٢) فى ب (وخلق).
(٣) فى ب (منها المطلوب منه).
ثم هى مؤولة ، ومعارضة.
أما تأويل الآية الأولى : فمن وجهين ذكرهما أهل التفسير :
الأول : أن المراد من قوله : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) بالنسبة إلى أعمار أقرانه.
الثانى : أن المراد به ما يجرى فى نسخ الآجال التى الآجال (١) مثبتة فيها ، من المحو ، والإثبات. وهو المراد من قوله ـ تعالى ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (٢) ؛ وليس هو عائد إلى ما هو معلوم لله ـ تعالى.
وأما الآية الثانية : فقد قال أهل التفسير ، المراد من قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أى أجل الدنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل الآخرة.
ونحن لا ننكر ذلك ، وإنما ننكر ثبوت أجلين للموت ، والحياة ؛ وليس فى الآية ما يدل عليه ، والتأويل للحديث ؛ فكتأويل الآية الأولى.
وأما المعارضة /: فقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣). وهو صريح فى نفى التقديم ، والتأخير فى (٤) الأجل (٤).
وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٥).
وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٦) وفى القول بأن القتل قطع للأجل ؛ مخالفة هذه النصوص.
وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) (٧).
ووجه الاحتجاج به أنه أخبر بتوقف فعل الله ـ تعالى ـ على بلوغ الأجل ، فإذا كان فعل الله متوقفا على الأجل ، ولا (٨) يكون قاطعا له ؛ ففعل الحادث أولى.
__________________
(١) فى ب (إلا الآجال).
(٢) سورة الرعد ١٣ / ٣٩ زائد فى ب (وعنده أم الكتاب).
(٣) سورة الأعراف ٧ / ٣٤.
(٤) ساقط من ب.
(٥) سورة آل عمران ٣ / ١٤٥.
(٦) سورة الحجر ١٥ / ٥.
(٧) سورة العنكبوت ٢٩ / ٥٣.
(٨) فى ب (فلا يكون).
وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) (١).
ووجه الاحتجاج به ، أن منهم من مات حتف أنفه ، ومنهم من قتل ، وقد قررهم البارى ـ تعالى ـ على إخبارهم بلوغ آجالهم ، ولم ينكر عليهم ؛ فدل على أن ما قالوه حق ، ولو كان القتل قاطعا للأجل ؛ لما كانوا صادقين على الإطلاق.
ولا يخفى أن ما ذكرناه من النصوص أصرح وأدل ، على الغرض مما ذكروه ؛ فكان العمل بها أولى.
وعلى ما حققناه من وجوب وقوع المعلوم على ما علمه الله ـ تعالى (٢) ـ يمتنع بتقدير عدم (٢) القتل ، إذا كان الله ـ تعالى (٣) ـ قد (٣) علم انقضاء الأجل فى ذلك الوقت بصفة القتل ، وإلا كان العلم جهلا ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.
وعلى هذا فيمتنع التفريع عليه بوجوب الموت ، أو بجوازه (٤) ، وجواز (٤) الحياة. وسواء كان المقدر أجله بالقتل واحدا ، أو أكثر ، وبه اندفاع ما ذكروه من باقى التشكيكات.
ثم يلزم القائل بوجوب الموت بتقدير عدم القتل ، أن يكون الذابح لشاة الغير دون إذنه ، غير متعد ، ولا جان فى فعله ؛ بل محسنا ؛ فإنه لو لا ذبحه لها لماتت ، وفاتت مصلحتها على مالكها.
وكذلك أيضا يلزم امتناع الجزم بقبح ذبحه على أصل القائل بجواز الموت دون الوجوب ؛ لما ذكرناه من وجوب رعاية (٥) المصلحة على أصلهم.
فلئن قالوا : إنما قبح ذبح الشاة دون إذن المالك ؛ لتضرر المالك (٦) بتسلطه على إتلاف ماله دون رضاه ، ولا يمتنع أن يكون ما فيه الصلاح من وجه قبيحا من جهة ما فيه من المفسدة.
__________________
(١) سورة الأنعام ٦ / ١٢٨.
(٢) فى ب (يمتنع عدم تقدير).
(٣) ساقط من ب.
(٤) فى ب (أو بجواز.)
(٥) فى ب (مراعاة).
(٦) فى ب (المالك عليه).
فنقول : إنما يكون ذلك قبيحا ، أن لو لزم منه مفسدة على أصلهم ، وإنما يكون ما ذكروه من التسلط مفسدة ـ أن لو لم تحصل به مصلحة للمالك تفوت بتقدير عدم الذبح ، وإذا كان الموت أيضا لازما بتقدير عدم الذبح فبالذبح / تحصل المصلحة ، وبتقدير عدمه تفوت ، ومثل ذلك لا يعدّ مفسدة ، ولا قبيحا. وإن كان دون إذن المالك وهذا كما لو رأى شاة الغير مشرفة على الهلاك من حريق ، أو غرق ، أو وقوع فى مهلكة ؛ فأخذ فى تخليصها ، والتصرف فيها بما ينجو به من الهلاك دون إذن المالك ؛ فإن فعله يكون حسنا ؛ لما فيه من تحصيل المصلحة للمالك الفائتة بتقدير عدم تصرفه ؛ فكذلك فيما نحن فيه.
«المسألة الثانية عشرة»
«فى معنى الرزق ، واختلاف الناس فيه»
ولا خلاف بين الأمة أن الرزق يستدعى رازقا ، ومرزوقا.
وإنما الخلاف بينهم فى معنى الرزق ، ومن هو الرازق.
فأما الرزق :
فقد أجمعت المعتزلة (١) : على أنه لا يكون حراما.
ثم اختلفوا فى حده :
فقال الجبائى : إن الرزق هو الملك. وسواء كان أنتفع به ، أم لا؟ ويبطل بالحوادث بجملتها ؛ فإنها مملوكة لله ـ تعالى ـ وليست رزقا له. ويبطل بالبهائم : فإنها مرزوقة ؛ ولها رزق بالإجماع. وبدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٢) ومع ذلك لا ملك لها بالإجماع.
فإن فسر الملك بالقدرة الحسية ، على ما هو الإشعار اللغوى ؛ فيلزمه أن يكون الحرام رزقا للقادر عليه حسا ؛ وهو خلاف إجماع المعتزلة.
وقال أبو هاشم : الرزق كل ملك يتصور الانتفاع به من مالكه ، وهو وإن خرج عنه النقض بملك الله ـ تعالى ـ إلا أنه منتقض بأرزاق البهائم على ما تقرر.
وقال أبو عبد الله البصرى (٣) : الرزق كل ما للحى الانتفاع به ، من غير تعد فيه ، ولم يلتفت فى التحديد إلى الملك ؛ لإدراج أرزاق البهائم فيه ؛ وهو باطل أيضا ، بما تأكله السباع من المواشى ؛ فإنه يجوز لمالكها منع السباع من أكلها شرعا بالإجماع ؛ بل
__________________
(١) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة : انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٨٤ ـ ٧٨٨.
(٢) سورة هود ١١ / ٦.
(٣) أبو عبد الله البصرى : ت ٣٦٩.
الحسين بن على البصرى ، كان شيخا لقاضى القضاة عبد الجبار صاحب المغنى. وهو من أهل البصرة ـ كان على مذهب أبى هاشم ، وإليه انتهت رئاسة أصحابه. وكان تلميذا لأبى القاسم بن سهلويه الّذي تتلمذ على أبى هاشم توفى سنة ٣٦٩ ه. (المنية والأمل ٦٢).