التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

عن موطن الخطر الذي تمثله منها .. أما مع يده ، فكيف السبيل إلى مهرب منها؟ ولكنها إذ جاءت بعد تجربة العصا ، وبعد أن ذهبت مخاوفه ، فإن أمرها يكون هينا محتملا!

وقوله تعالى : (فِي تِسْعِ آياتٍ) .. أي أن هذه الآية ، آية اليد ، واحدة من تسع آيات ، أو في اطار من تسع آيات ، هى جميعا أشبه بآية واحدة .. فى إعجازها ، وتحديها لقوى البشر جميعا .. وهذا هو السر في حرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية.

وقوله تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) .. الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره : هذه اليد آية ، تدخل في تسع آيات تحملها إلى فرعون وقومه.

وقد كانت الدعوة هنا موجهة إلى فرعون وقومه : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) على حين جاء الأمر في بعض القصص بلقاء فرعون وملائه : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ .. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) .. (٣٢ : القصص) أما في سورة طه ، فقد كانت الدعوة إلى فرعون وحده : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى).

والسرّ في هذا والله أعلم ، أن موسى ، حين لقى فرعون لأول مرة ، لقيه فى حاشيته ثم مع سحر له ، وما حشد من جموع ليوم المعركة ، بين موسى ، والسحرة .. ولم يظهر موسى من الآيات التي بين يديه ، إلا العصا ، ويده .. ولهذا كان الذين شهدوا هاتين الآيتين ، هم أعداد قليلة .. هم فرعون وحاشيته ، وخاصة أتباعه ، فناسب أن يكون فرعون وحده ، أو فرعون والملأ حوله هم الذين يذكرون في مواجهة هاتين المعجزتين.

أما الآيات التسع ، وفيها العصا واليد ، فقد شهدها القوم جميعا ، ووقع

٢٢١

أثرها ، على الشعب كله ، وشمل ملك فرعون جميعه ، فناسب أن يذكر القوم ، مع فرعون ، لأن هذه الآيات التسع موجهة إلى فرعون وقومه جميعا.

والآيات التسع ، هى العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والجدب ، والعقم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ .. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) (١٣٣ : الأعراف) وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠ : الأعراف) .. فالسنون هي سنو الجدب ، التي تغيض فيها مياه النيل ، وتجف مياه الآبار والعيون .. ونقص الثمرات ، هو العقم ، الذي أصاب الزروع ، والحيوان ، والإنسان .. وكان هذا وذاك آية من آيات الله ..! وقد شملت هذه الآيات فرعون وقومه جميعا.

وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ـ إشارة إلى كان عليه القوم من ضلال ، وفسق ، أي خروج عن جادة الطريق ، إذ كانوا جميعا متابعين لفرعون ، وعلى إيمان بألوهيته .. (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى). (٧٩ : طه).

قوله تعالى :

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

وصف الآيات بأنها مبصرة ، إشارة إلى ما فيها من هدى مشرق واضح ، وأنها تكاد تكون عيونا شاخصة تبصر ، وتقود العمى إلى الحق ، وإلى طريق مستقيم ..

قوله تعالى :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا .. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ

٢٢٢

عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) .. الجحد ، والجحود : الإنكار ، القائم على المكابرة ، والتحدّى للحق والواقع.

والاستيقاز : التثبت من الشيء ، ورؤيته رؤية كاشفة محققة ..

فالقوم ، قد أنكروا هذه الآيات ، وتنكروا لها ، ورموها بالسحر والخديعة ، مع أنهم في قرارة أنفسهم على غير هذا الذي تنطق بهم ألسنتهم في شأنها .. إنهم يرونها أبعد ما تكون عن السحر ، وأنها مما لا تطوله يد بشر .. ولكن لما عندهم من جرأة على العدوان ، واستكبار على الخضوع للحق ، والولاء له .. أنكروا هذا الذي يجدونه في دخيلة أنفسهم لهذه الآيات.

وقوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) .. الأمر هنا هو إلفات للنبى ، ولكل من عنده استعداد للنظر السليم في وجه الحق وتقبله ..

فالذى ينظر ، بعين مبصرة ، إلى ما حل بهؤلاء القوم ، يرى العبرة فيما أخذهم الله به ، وأن مصرعهم كان حتما مقضيا به ، على كل من يذهب مذهبهم ، ويأخذ طريقهم ، الذي لا يصلح عليه أمر من يسير عليه ، لأنه طريق فاسد ، لا يرى عليه إلا المفسدون ..

____________________________________

الآيات : (١٥ ـ ١٩)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ

٢٢٣

فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

____________________________________

التفسير :

[سليمان .. والنملة .. والهدهد]

مناسبة هذه القصة ، لقصة فرعون ، هى أن الله سبحانه وتعالى ، يبتلى بنعمه من يشاء من عباده ، فمنهم من يكفر بهذه النعم ، ويتخذ منها أسلحة يحارب بها في مواقع الحق ، والخير ، ويضرب بها في وجه المحقين والأخيار من عباد الله .. ومنهم من يتلقى هذه النعم بالشكران لله ، والولاء لطريق الله ، ولمن يسلك هذا الطريق من عباده ..

فهذا فرعون يمكّن الله له في الأرض ، ويبسط له الرزق ، فيتحول من إنسان إلى شيطان مريد ، وإلى إعصار عاصف ، يأتى على كل ما يزرع في منابت الحق والخير .. ثم يبعث الله إليه نبيا كريما ، يحمل إليه دعوة كريمة ، فى رفق ولين ، حتى إن الله سبحانه وتعالى ـ كرما منه ، وفضلا ـ يوصى رسوله أن يتلطف ، ويترفق بهذا الإنسان ، الذي ملأء الغرور ، واستبد به الكفر ، فيقول له الحق جل وعلا :

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى؟) (١٧ ـ ١٩ : النازعات).

٢٢٤

فيلقى هذا النداء الكريم ، وهذا اللطف اللطيف بهذا العناد اللئيم ، الذي وصفه الله تعالى في قوله : (فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى * فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢١ ـ ٢٤ النازعات).

وعلى غير هذا تماما ، كان موقف عباد الله المؤمنين ، الذين يعرفون لله قدره ، ويذكرون له فضله ..

ومن هؤلاء داود وسليمان .. عليهما‌السلام .. لقد آتاهما الله خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان ، وهو العلم ، الذي من ملكه ، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة ، يستطيع بها أن يستولى على سلطان هذا العالم كله .. ومع هذا ، فإنهما استقبلا هذه النعمة الجليلة العظيمة ، بالحمد ، والشكر ، والولاء لله ، وخفض الجناح لعباد الله ، ولكل ما خلق الله .. حتى إن سليمان عليه‌السلام ، وهو في أروع مظاهر سلطانه ، وفي أعظم مجالى قدرته وقوته ، يقف بين يدى أضعف مخلوقات الله ، وهي النملة .. فيأخذ منها العبرة والعظة ، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض ، فيرى أن لها سلطانا كسلطانه ، وملكا كملكه ، وسياسة رفيقة رحيمة ، أروع وأعظم من سياسته ، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله بين يديها ، ويسبح بحمده وجلاله. فيقول في محراب ملكها الذي تسبح فيه بحمد الله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)! فأين موقف فرعون ، من هذا الموقف؟ وأين الأرض من السماء؟ وأين الباطل من الحق ، والعمى من الهدى؟ وأين أعداء الله من أولياء الله؟.

وفي قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) إشارة إلى أن الذي أعطاهما الله إياه من العلم ، هو ـ على عظمته وجلاله ـ شىء قليل ، لا يكاد يذكر

٢٢٥

إلى مالله سبحانه وتعالى من علم ، وهذا ما يدل عليه تنكير كلمة «علم» .. فهو علم قليل قليل ، مما عند الله من علم ..

وفي قوله تعالى : (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) ـ إشارة أخرى إلى أن العلم الذي كان عندهما ، هو وإن علوا به عن كثير من عباد الله ، فإن في عباد الله من أوتى علما أكثر من علمهما .. فهما أكثر من كثير من الناس علما ، وأقل من بعض الناس علما ..

والله سبحانه وتعالى يقول : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦ : يوسف) وبهذه النظرة كانا ينظران إلى علمهما ، وأنهما لم يستوليا على غاية العلم ، مما هو متاح للناس ، وإنما أخذا حظا كبيرا من هذا العلم.

قوله تعالى :

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ، وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

ميراث سليمان لداود ، هو وراثة الملك من بعده ، دون إخوته .. ثم اختياره للنبوة ، فى قومه ، كما كان أبوه نبيا فيهم .. فالملك وراثة ، والنبوة اصطفاء ، لا ميراث. وقد جمعهما الله سبحانه لسليمان ، كما جمعهما لداود .. فتلقى سليمان من الله ما كان لداود من ملك ونبوة ، وكان بهذا قد ورث أباه فى كل ما كان له من ملك ونبوة.

وقوله تعالى : (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) .. هو تحدث بنعمة الله عليه ، واستعراض لهذه النعم التي أسبغها الله عليه ، ليكون في ذلك داعية له إلى القيام بشكرها ، ورعايتها حق الرعاية.

٢٢٦

وفي الحديث عن نفسه «بنا» الدالة على الجمع ، فى قوله «علمنا» .. «وأوتينا» .. هو دعوة إلى الناس ، أن يشاركوا معه في هذا التحدث بنعمة الله ، والاستعراض لأفضاله ، فما هو إلا واحد من هؤلاء الناس ، وما الفضل الذي فضل الله به عليه ، إلا فضل يأخذ منه الناس حظهم ، فلا يختص به نفسه ، وإنما هم شركاء له ، فيما يعود عليه من هذا العلم لمنطق الطير ، ولهذه النعم التي أوتى منها كل شىء! .. وهكذا شأن أهل العلم ، وأرباب الجاه والسلطان من عباد الله .. إن ما يفتح الله عليهم به من علم ، وما يمكّن لهم به من جاه وسلطان في هذا الوجود ، هو خير متاح للناس جميعا ، وتمكين لخلافتهم على هذه الأرض ..

ـ وقوله تعالى : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي أوتينا من كل شىء من أشياء هذه الدنيا مما ينصلح به أمرنا ، ويقوم عليه وجودنا ، وسلطاننا .. فهو لم يؤت كل شىء ، وإنما أوتى شيئا من كل شىء هو في حاجة إليه ..

قوله تعالى :

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ .. فَهُمْ يُوزَعُونَ) الحشر : الجمع والحشد ..

يوزعون : من الوزع ، وهو السوق ، والدفع ، بفعل قوة خارجة ، أو طبيعة غالبة ..

وقد ذكر من جنود سليمان هنا : الجن ، والإنس ، والطير .. إذ كانت هى القوى العاملة معه في دولته ..

فالجن كانوا مسخرين له ، فى عمل ما يريد منهم .. (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (١٣ : سبأ).

٢٢٧

والإنس : هم من تضمهم دولته من رعيته.

والطير : هى أجناس من الطيور ، التي تعيش في جو مملكته ، ويسخرها لخدمته ..

وبهذا يكون له ملك ما على أرض مملكته ، وما في جوها ..

وطبيعى ، أنه ليس كلّ الجنّ قد سخروا لسليمان ، وإنما بعضهم ، شأنهم فى هذا شأن الناس .. فليس كل الناس ، كانوا في سلطان سليمان .. وإنما هم الذين كانوا يعيشون في دائرة مملكته ..

وكذلك الطير .. فليس كلّ الطير كان مسخرا له .. وإنما هي بعض الطيور التي كانت تعيش في هذه الملكة ..

وكان سليمان يستعرض وجوه مملكته .. من الجنّ ، والإنس ، والطير ، ويحشدهم بين يديه ، بسلطانه ، الذي مكن الله سبحانه وتعالى له به ، فى هذه الرعايا ، فلا يقدر أحد على أن يخرج عن هذا السلطان ، الذي يزع هذه الرعايا ، ويأخذ من يخالف منها بالعقاب الذي يستحقه!

وفي ثمان كلمات صوّر هذا العرض العظيم ، الذي جمع عوالم الجن والإنسان ، والطير ، وحشرها في موقف واحد ، وجىء بها من كل صوب ، فى حركة هادفة منتظمة ، أشبه بحركات الأفلاك في مداراتها ، يمسكها نظام ، وتظلها سكينة وجلال ..

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) ..

ثمانى كلمات لا غير ، يقوم بها هذا المشهد ، الذي تعجز أدوات البيان والتصوير كلها عن أن تأتى له بنظير ، وأن تمسك بهذه الروعة وهذا الجلال.

فهذه الكلمات الثمان ، قد استدعيت بها كل هذه الحشود الحاشدة ، من

٢٢٨

الجن ، والإنس ، والطير ، وقد أمسكتها يد القوة القادرة بكلمة واحدة .. هى «يوزعون» التي قامت على هذه الأمم مقام الحرس والقادة ، فى أحدث ما عرفت الجيوش من حراسة ، وضبط ، وقيادة!

قوله تعالى :

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

«حتى» إشارة إلى غاية من غايات للسيرة التي يسير إليها سليمان ، بهذه الحشود التي احتشدت له ، من الجنّ والإنس والطير ..

وقد انتهت به هذه الغاية هو وجنوده إلى «واد النّمل» أي قرية من قراه ، حيث يعيش النّمل جماعات ، وفي نظام أشبه بنظام المجتمع الإنسانى!

وقد أراد سبحانه وتعالى ، أن يصغّر في عينى سليمان هذا الملك العريض الذي بين يديه ، وأن يكسر من حدّة هذا السلطان المندفع كالشهاب ، لا يمسكه شىء ، ولا يعترض سبيله معترض ، وذلك كى لا يدخل على نفسه شىء من العجب والزهو .. فتقف له النملة هذا الموقف الذي يرى منه سليمان عجبا عاجبا .. فيرى سليمان من النّملة ما لم ير أحد من جنده ، ويسمع منها ، ما لم يسمعه أحد غير النمل الذي يعيش معها .. (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

هذا هو صوت النذير ، الذي أنذرت به النملة جماعتها ..

إن الهلاك مقبل على جماعة النمل ، من هذه الحشود الحاشدة ، التي تسير في ركب سليمان .. فلتأخذ الجماعة حذرها ، ولتدخل مساكنها ، وتنجحر في مساربها ، وإلا فالهلاك المحقق!

وممن هذا الهلاك؟

٢٢٩

من جماعة عالية ، لا تنظر إلى ما تحتها ، ولا تلتفت إلى مواطىء أقدامها ، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل ، من تلك الكائنات الضعيفة!

وهل يشعر من يسكن القصر ، بما يعانى ساكن الكوخ؟ وكم في دنيا الناس من المستضعفين من تطؤهم أقدم الأقوياء ، دون أن يشعروا بهم ، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم ، والاستزادة من جاههم وقوتهم؟ وكم من مجتمعات بشرية بأسرها جرفها تيار عات من تيارات الطغاة والمستبدّين؟ وكم من مدن عامرة دمّرتها رحى الحروب التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود؟ وكم؟ وكم؟

إنها حكمة بالغة ، ودرس عظيم ، تلقيه «النملة» ـ أضأل مخلوقات الله ، وأقلها شأنا ـ على الإنسانية ، فى أحسن أحوالها ، وأعدل أزمانها ، وأقوى سلطانها!.

ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟

ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة ..! فحاد بركبه عن وادي النّمل ، وهو يضع ابتسامة على فمه ، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره ، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة ، ذاكرة فضل الله ، ونعمته .. فيقول : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) .. ومن شكر النعمة ، حراستها من أن تكون سلاح بغى وقهر. ومن العمل الصالح ، إرسال هذه النعم في وجوه الخير والإحسان.

إن للنملة سلطانا كسلطان سليمان ، ودولة كدولته ، وجندا كجنده .. ثم إنها تقوم على هذه الدولة وترعاها رعاية الأم لأبنائها ، وإنها لتضع عينها دائما على مواقع الخير ، ترتاده لرعيتها ، وإلى مواطن الشر ، فتدفعها عنها ، وتحذرها منها .. فهل تجد رعايا سليمان في ظله ، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل

٢٣٠

هذا السلطان الحكيم؟ وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ إن مقاييس الحكمة والرشاد لا تقاس بالكم ولا تحسب بالعدد .. ومتى كانت المعاني كمّا وعددا؟

والعجب أن مشيخة المفسّرين يدعون مثل هذه المعاني الدقيقة ، التي جاءت هذه القصة وأمثالها لها ، من حيث الوقوف على مواقع العبرة والعظة فيها ، ثم يشغلون أنفسهم ، ويشغلون الناس معهم ، بالبحث عن النملة ، وهل هي ذكر أم أنثى ، وعن الموضع الذي كانت فيه مملكتها ، واسم الوادي الذي قامت فيه تلك المملكة .. ثم اسم النملة!! إي والله اسم النملة!! حتى لكأنها لا تكون نملة إلا إذا حملت اسما لها ، وحتى لا يكون منها هذا التدبير لمملكتها إلا إذا كانت من ذوات الأسماء!! ثم ما أكثر الأسماء التي تجلب لها من كل واد من أودية الخيال ..

فمن أسمائها «حرس» وأنها من قبيلة بنى الشّيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت في حجم الذئب .. وقد لسب هذا القول إلى الحسن البصري!

ومن أسمائها «طاخية» و «منذرة»! وهكذا تكثر لها الأسماء والصفات ، حتى لتخرج عن أن تكون نملة من هذه النّمال التي يعرفها النّاس ، وحتى ليخرج بها ذلك عن أن تكون موضعا للعبرة والعظة!!

____________________________________

الآيات : (٢٠ ـ ٢٧)

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها

٢٣١

عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(٢٧)

____________________________________

التفسير :

وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة ، حتى يلقاه موقف آخر ، مع طائر ، وديع لطيف ، أقرب إلى النملة في لطفها ، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها .. وهو «الهدهد».

وكأن سليمان قد نسى هذا الموقف الذي كان فيه مع جماعة النمل منذ قليل ، وزايلته تلك المشاعر التي وقعت في نفسه هناك .. وها هو ذا يلبس سلطان الجلال ، ويمسك بصولجان الملك ، ويضرب بسيفه!

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

الهدهد .. هذا الطائر الوديع المسكين .. يتخلّف عن هذا الحشد ، ولا يحضر هذا الحفل ، فيتوعّده ، صاحب السلطان بأشدّ العذاب والنقمة! (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً .. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ .. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)!!

أما للهدهد عذر يمكن أن يقوم لتخلفه هذا ، ويدفع عنه هذا العذاب؟ ألا يجوز أن يكون مريضا؟ ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ ألا يعرض للهدهد ما يعرض للناس من أمور تعطل إرادتهم ، أو تدفع بهم إلى غير

٢٣٢

ما يريدون؟ ألا سأل سليمان عن الهدهد أولا ، وطلب إلى بعض جنده أن يأتوه بالخبر اليقين عنه؟ ألا اطمأن إلى سلامته قبل أن يسأل عن تأخره عن أخذ مكانه في هذا الحشد؟ وماذا يغنى الهدهد في هذا الجمع العظيم؟ وماذا يجدى أو يضير إذا هو حضر أو تخلف ، وبين يدى سليمان من الحشود والقوى مالا حصر له؟.

إنه سلطة السلطان ، وناموس الملك .. الطاعة والولاء ، لحساب الطاعة والولاء ، ولسلطان الهيبة والجلال ..!

وفي قول سليمان : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) ـ هو علم من علم سليمان الذي آتاه الله .. فهو حين ينظر فلا يرى الهدهد ، يتهم نفسه أولا ، ويتشكك في أن تكون حواسه قد خدعته : «مالى لا أرى الهدهد؟» ولم يقل : «أين الهدهد؟» ولم يقل : «إن الهدهد غائب!» .. وهذا هو شأن أصحاب العلم ، إذا التمسوا حقيقة من الحقائق ، فلم يجدوها بين أيديهم ، تشككوا في أسلوب تفكيرهم الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة ، ثم أعادوا البحث والنظر .. حتى يجدوا ما يطلبون .. أما إذا التمس المرء الحقيقة ثم لم يجدها ، ثم كان ذلك مدعاة له إلى إنكارها ، فذلك ليس من أسلوب العلماء ، ولا من طرق تحصيل العلم.

فسليمان ، إذ لم ير الهدهد .. وقف موقف الشك. حتى ينجلى الموقف .. إنه لم يره ، وقد يكون موجودا ، وقد يكون غائبا!

ثم استبان له بعد هذا ، أن الهدهد غائب! .. ومن هنا كان هذا الوعيد بالعقاب الأليم له!

ويطلع «الهدهد» على سليمان بما لم يكن يحتسب ، ويهجم عليه ، وهو

٢٣٣

الأعزل الضعيف ، بسلطان أقوى من سلطانه ، وجيش أعز وأقوى من جيشه ، وعلم أكثر وأشمل من علمه ..

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ .. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)!!

لقد انقلبت الآية ، وانعكس الوضع. وها هو ذا «الهدهد» الضعيف الأعزل ، الذي تنتظر هذه الحشود الحاشدة من الجن والإنس والطير ، مصيره ، ومصرعه ، بين مشفق ، وشامت ، ولاه ـ هذا الهدهد ، يحاكم سليمان ، وينتقص قدرته ، ويتهمه بالقصور عن أن يرى ما حوله ، وأن يدير هذه القوى التي بين يديه الدعوة إلى الله ، وهداية الضالين من عباده ، لا في هذه المظاهر الاستعراضية ، التي لا ثمرة لها ..

لقد حاكم ، هذا المخلوق الضعيف الأعزل ، ملك الملوك في عصره .. حاكمه ، ووضعه موضع الاتهام ، وهو في أبهة ملكه .. وعلى أعين الملأ من جنده .. من الجن والإنس والطير!!

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)!

فلم يكن هذا الطائر الضعيف الصغير ، مجرد مكتشف ، وعالم ، بما لم يعلم به سليمان وحسب ، بل إنه كان داعية إلى الله ، وإلى الإيمان به .. فهو ينكر على المشركين شركهم ، ويسفه أحلامهم ، ويحقر آلهتهم وما يعبدون من دون الله!.

٢٣٤

إنه يدين سليمان في هذه الإنسانية الضالة ، التي ينتمى إليها سليمان ، باعتباره واحدا من عالم الناس!

ثم ماذا بقي لسليمان من فضل على هذا المخلوق الضعيف؟

إن سلطان سليمان ـ كملك ـ قصر عن أن يمتد إلى ما وصل إليه سلطان الهدهد ، وأحاط به علمه!.

وإن دعوته كنبيّ .. لا تقوم على أكثر من هذه الدعوة التي يدعو بها الهدهد .. وإن حجته على دعوته ، ليست بأقوى من حجة هذا الهدهد!

فماذا بقي للإنسان في أكمل صوره ، وأحسن أحواله ، وأعلى منازله.؟ ماذا بقي له من فضل ، على أضعف مخلوقات الله وأقلها شأنا .. كالنملة والهدهد؟ إن جهل الإنسان بأسرار هذا الوجود ، هو الذي يخيل إليه أنه سيّد هذا العالم ، وأنه قد علم مالم يعلمه غيره من مخلوقات الله ..

وهذا ـ لا شك ـ رحمة من رحمة الله بالإنسان .. إذ لو انكشف له الغطاء عن أسرار هذا الوجود ، وما أودع الخالق في مخلوقاته من عجائب وأسرار ـ لمات الإنسان حسرة وكمدا ، على ضآلة شأنه ، وكثافة جهله ، ولانطفأت في نفسه شعلة الأمل التي تدفىء صدره ، وتغريه بالاندفاع وراء المجهول ، لكشف الستر المحجّب وراءها ، ولوقف من هذا الوجود موقف الذليل المهين أمام سلطان جليل مهيب .. وصدق الله العظيم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). (٨٥ : الإسراء)

ولعل خير شاهد لهذا الذي نقول ، ما يعانيه الغرب اليوم من قلق نفسى ، وحيرة فكرية ، واضطراب سلوكيّ .. ومرّد هذا كله ـ فيما نرى ـ إلى هذا القدر الضئيل ، الذي انكشف للعقل من أسرار الوجود ، دون أن يرتبط ذلك بالإيمان بالله ، وإضافة هذا إلى علمه وقدرته ، وإبداعه في خلقه .. فكان

٢٣٥

الأثر المباشر لهذا ، هو ضمور شخصية الإنسان ، وصغاره ، وضآلة شأنه بين عوالم الوجود ..

وليست هذه النظرات المتشائمة ، التي قامت عليها هذه المذاهب المادية السوداء ، التي يعيش فيها الغرب اليوم ـ ليست إلا أثرا من آثار هذه الكشوف العلمية ، التي ألقت أضواء خافتة على أسرار هذا الوجود ، فظهر الإنسان فى شعاعاتها المضطربة المتراقصة ، كأنه حشرة حقيرة ، أو دودة هزيلة ، أو قرد خلقه الله ليتسلى به في أبديته الطويلة المملة ، كما يقول كبير الفلاسفة «نيتشه»!.

ونعود إلى القصة!

فهذا سليمان ، يلقى الهدهد ، بعد أن تلقى منه هذا الدرس القاسي ـ يلقاه بشىء من اللطف والموادعة ، فيقول له :

«سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين».

وسليمان يعلم أن الهدهد صادق فيما جاء به من ألباء! ومن أين تعرف الطيور الكذب ، وليس بينها وبين الإنسان قرابة أو نسب؟

«سليمان» ، يعلم أن الهدهد شهد بما علم ، وتحدث بما رأى ، ولكن سلطان الملك تخرج كبرياؤه إن هو تعرّى أمام الرعية .. فكان من السياسة أن يلقاه بهذا القول الذي ينبىء عن أن سليمان ما زال هو صاحب الدولة والسلطان .. «سننظر!!» .. إنها كلمة صاحب الأمر ، وقاموس أرباب السلطان!

وفيم سينظر؟ إنه سينظر في أمر هذا «الهدهد» .. أصدق فيما يقول .. أم كان من الكاذبين؟! إنها كلمة جارحة ، تكلم فؤاد هذا «المخلوق» ..

٢٣٦

وتجرح كرامته .. إنه في معرض الاتهام بالكذب!! وإنه لا يزال واقعا تحت سيف العقاب الراصد له!!

وأكثر من هذا ، فإن سليمان لم يقل له : أصدقت أم كذبت ، فيكون اتهامه واقعا على تلك الحادثة ، وإنما رماه بهذه الكلمة «أم كنت من الكاذبين» أي ممن شأنهم الكذب في كل حال .. إنه إحقار للهدهد ، وإلقاء به إلى التراب ، بعد أن ارتفع في عين هذه الحشود الحاشدة بسبب ما جاء به من أنباء

____________________________________

الآيات : (٢٨ ـ ٤٤)

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ(٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ

٢٣٧

أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٤)

____________________________________

التفسير :

ولا ينظر سليمان شاهدا يجىء به الهدهد ، ليشهد له بصدق ما يقول ، ولا يسمح له بمزيد من الوقت ، يعرض فيه مزيدا من علمه ، وبيانه ، وحكمته ، أمام هذه الرعية ، التي تفف كلها في ولاء وخشوع بين يديه .. فكيف لهذا المخلوق الضعيف أن يصول ويجول ، ويعرض من علمه ما لم يكن لسليمان به علم؟ وأين إذن صولة الملك وصولجانه؟ وأين هيبته وأين سلطانه؟

لقد قطع سليمان على الهدهد السبيل إلى هذا المرتقى الذي ارتقاه .. وبكلمة واحدة آمرة ، أنزله من هذا المكان ، وأزاله عنه .. وسرعان ما أصبح الهدهد ، فى هذا الوضع الذي كان له بين أبناء جنسه .. جنديا من جنود سليمان ، وخادما من خدمه .. وها هو ذا يتلقى من سليمان أمرا بالذهاب إلى حيث يريد منه أن يذهب.

٢٣٨

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ).

وإلى هنا ينتهى دور الهدهد في القصة ، ويغرب وجهه الذي كان منذ لحظات ، الوجه الذي تعلقت به أنظار مملكة سليمان كلها ، فلا يرى له أحد وجها ، بعد هذا!!

ولا تتعرض القصة لشىء من رحلة الهدهد إلى سبأ ، يحمل كتاب سليمان إلى القوم ، كما لا تذكر شيئا عن ملكة سبأ ، وهي تجد كتاب سليمان بين يديها ، وما وقع في روعها من هذا الأمر العجيب ، الذي طلع عليها من حيث لا تدرى! كما لم يذكر القرآن ما كان بينها وبين أهل سرها من حديث في هذا الحدث العظيم .. كل ذلك لم تعرض له القصة القرآنية ، فتلك أمور مقدر لها أن تقع حتما ، على صورة أو أكثر من صورة .. وفي هذا الفراغ يتحرك ذهن القارئ ، وتستيقظ مشاعره ، حيث يرى لزاما عليه أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة يجدها مناسبة لهذا المكان ، وبهذا يتاح للناس ـ فى كل زمان ومكان ـ أن يتصوروا ويتخيلوا ، وأن يشاركوا بهذا التصور والتخيل ، فى بناء القصة ، وألا يظلوا في عزلة عنها ، غرباء عن مجريات أحداثها .. وبهذا تتقيد الخواطر بالقصة ، وتتفتح لها المشاعر ، ويستيقظ لها الوجدان ، الأمر الذي تتكشف به مواقع العبرة والعظة منها ..

وتنتقل القصة إلى مشهد جديد ..

فهذه ملكة سبأ ، قد دعت إليها وجوه القوم في مملكتها ، ثم ها هي ذى تطلع عليهم بهذا الكتاب الذي ألقى إليها ، وتفضى إليهم بما فيه!.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

٢٣٩

ولأول مرة نعرف ـ نحن النظارة ـ مضمون هذا الكتاب الذي حمله الهدهد .. إنه رسالة من ملك إلى ملكة .. والهدهد ، وهو حامل هذه الرسالة ، ليس من شأنه أن يسأل عن مضمونها ، وليس من وضعه في القصة أن يعرف محتواها .. وبهذا ظلت الرسالة سرا محجبا ، حتى بلغت الجهة الموجهة إليها .. وهذا تدبير تقضى به الحكمة والكياسة ، وتفرضه أصول الحكم ومقتضيات السياسة.

ومن جهة أخرى .. فإن الملكة كذلك ، لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة ، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها .. بل ألقت إليهم الخبر مجهّلا هكذا : «إنى ألقى إلى كتاب كريم» وفي هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب ، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها ، الحافظة لأمن دولتها ، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها ـ ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها .. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة ، جلال فوق جلالها ، وروعة فوق روعة سلطانها ..

وفي وصف الرسالة بأنها كتاب كريم ، أدب من أدب الملوك ، تقابل به الملكة ما في الرسالة من أدب النبوة والملك معا .. فقد كانت الرسالة موجزة العبارة ، وضحة المعنى ، بيّنة القصد ، لا تحمل وعيدا ، ولا تهديدا ، وإنما تحمل دعوة إلى السلام والإسلام ..

وحين يستمع القوم إلى هذا الخبر الذي ألقت به الملكة إليهم ، تدور الرءوس ، ويكثر الهمس ، واللغط وتتقلب العيون ، تتفرس في الوجوه ، وما انطبع عليها من آثار لهذا الخبر المثير!.

٢٤٠