التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

إبراهيم ، واستجابة لدعوته في قوله : (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) .. وكأن الجواب : هذه هي الجنة قد أزلفت لك وللمتقين ، فتبوأ منها حيث تشاء ..

وأما أهل الشقاء ، والضلال ، فها هي ذى الجحيم تبرز لهم ، أي تطلع عليهم ، ويحيط بهم سرادقها .. ثم يقال لهم : أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ أين هم؟ وما حيلتهم لكم في هذا البلاء الذي تساقون إليه؟ (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ)؟ وهل يمدّون إليكم يدا تخرجكم مما أنتم فيه؟ (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هم لأنفسهم ، إذا وقعوا فيما أنتم فيه من مهالك؟ لقد تقطع بينكم ، وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون! وإذن فإلى مصيركم المشئوم : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٧ ـ ٨ : الطور).

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ).

والكبكبة : أصلها الكبّ ، وهو إلقاء الشيء على وجهه ، والكبكبة : تدهور الشيء وسقوطه في هوّة ، حيث يكبّ مرة ومرة ومرات.

ثم إذ تجتمع هذه الأخلاط من الضلال بعضها إلى بعض ، تتصارع وتتناهش كما تتناهش الحيات ، يسوقها سائق عنيف إلى جحر واحد! وفي هذا الجحر الضيق الخائق ، يكثر اللدغ والنّهش ، ويعلو الصّراخ والعويل! (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥ : العنكبوت).

____________________________________

الآيات : (١٠٥ ـ ١٢٢)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى

١٤١

رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ(١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٢٢)

____________________________________

التفسير :

وعلى نهج القرآن الكريم ، فى تنويع المعارض ، والانتقال بالناس من مشاهد الحياة الدنيا ، إلى مشاهد القيامة ، ثم العودة بهم إلى حيث هم في حياتهم الدنيا ، وما هم فيه من غفلة ، حيث تعرض عليهم الآيات والنذر ، ليكون لهم فيها عبرة ومزدجر ـ على هذا النهج ، جاءت قصة نوح وما بعدها من قصص الأنبياء مع أقوامهم ، ليرى فيها هؤلاء المشركون من أهل مكة ، بعد أن عادوا لتوهّم من مشاهد القيامة ، وما يلقى فيها أهل الضلال من عذاب ونكال .. لعلّ في هذا ما يفتح لهم طريقا إلى الهدى والإيمان ..

وفي قصة نوح صورة واضحة ، تجرى فيها الأحداث على نحو مماثل تماما لما يجرى بين النبيّ وقومه .. يدعوهم إلى الله ـ وهو أخوهم ـ فلا تعطفهم عليه عاطفة النسب والقرابة ، ولا ينكشف لأبصارهم شعاع من هذا النور

١٤٢

المشرق الذي بين يديه ، ولا يستجيب له منهم إلّا قليل من حاشية القوم ، من عبيد وإماء ، وصغار ، وإلا بعض من أهل اللّين والتواضع ، ممن لا يراهم القوم من أصحاب الجاه والسلطان فيهم! وهؤلاء الذين آمنوا من المستضعفين وأشباه المستضعفين ، هم علة أخرى من العلل المريضة التي تدعو القوم إلى خلاف النبيّ ، والوقوف في الجانب الآخر المعادى له .. (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)؟ وهذا ضلال في التفكير ، وسفاهة في الرأى .. فإن أول المستجيبين لأنبياء الله ورسله ، كانوا دائما من عامة الناس ، ممن لا يمسكهم الخوف على جاه أو سلطان أن يذهب به الدين الجديد .. وهكذا الشأن في دعوات الإصلاح والتجديد .. إن أكثر الناس حربا عليها ، ووقوفا في وجهها ، هم أصحاب المصالح من ذوى الرياسات المدنية أو الدينية .. على حين يكون أقرب الناس إليها ، وأكثرهم استجابة لها هم من خلت أيديهم من كل سلطان مادّيّ ، أو روحيّ! هكذا موقف النبيّ مع قومه ، وهكذا كان موقف نوح مع قومه ..

ولا يملك نوح إزاء هذا العناد الغاشم ، إلا أن يرفع شكاته إلى ربّه ، قائلا : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) .. وإلا أن يسأله الحكم بينه وبينهم فى هذا الموقف ، الذي بلغ الغاية من التأزم والحرج بينه وبينهم .. فهو إما أن يمسك عن الدعوة إلى الله ، وإما أن يرجموه .. ولا ثالث غير هذين .. (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .. أي فاحكم بينى وبينهم ، فإن الله هو الحكم العدل ، الذي يقضى بهلاك الظالمين ، ونجاة المؤمنين .. ولهذا طلب نوح النجاة له ، ولمن معه من المؤمنين ، من هذا البلاء الذي يحمله حكم الله في القوم الكافرين .. وقد نجّى الله نوحا ومن معه ، وأغرق الكافرين الضالين.

١٤٣

وإن في ذلك لآية ، فيها العبرة والموعظة ، لهؤلاء المشركين من أهل مكة ، ولكن أكثرهم لا يؤمنون بهذه الآيات ، ولا يقفون عندها ، ليطالعوا وجه العبرة فيها.

____________________________________

الآيات : (١٢٣ ـ ١٤٠)

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٤٠)

____________________________________

التفسير :

وآية أخرى من آيات الله هي في هذا الصراع الذي كان بين «هود» عليه‌السلام ، وبين قومه. إن قوم «هود» على شاكلة قوم نوح .. سواء بسواء .. فهل يجد فيها المشركون عبرة لهم؟.

١٤٤

«إن هودا» يدعوهم إلى الله ، وإلى أن يستقيموا على طريقه المستقيم ، وهو فى هذا الذي يدعوهم إليه ، لا يريد إلّا الخير لهم ، والنجاة لأنفسهم ، من عذاب الله .. وليس له أجر على هذا ، يقتضيه منهم ، وإنما أجره على ربّه ، الذي حمّله رسالته تلك .. إنه الطبيب الذي يكشف لهم عللهم وأدواءهم ، ويقدّم لهم الدواء الذي إن قبلوه وتعاطوه ، كان فيه شفاؤهم وسلامتهم.

وإن الداء المتمكن منهم ، هو تكالبهم على الدنيا ، واستعبادهم لزخارفها ، دون أن يكون لهم نظر إلى ما وراء هذه الحياة ..

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ)

الرّيع : المكان المرتفع ، وواحده ربعة.

فهذا هو بعض ما يشغلهم في دنياهم .. الافتنان في بناء مجالس ألهو والسّمر ، والإبداع في تصويرها ونقشها ، وجلب كلّ غريب نفيس إليها .. حتى لتبدو كأنها آية في الحسن والجمال .. ومن شأن الآيات أن تثير العقل ، وتغذّى الوجدان ، وتعلو بالنفس عن مدارج الأرض إلى معارج السماء! ولكن تلك الآيات ، التي يبدعها القوم ، هى آيات لاهية عابثة ، تعلو بحيوانية الإنسان على آدميته ، وتنتصر لجسده على روحه!

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)

المصانع : الأمكنة الجيدة الصنع ، وهي التي للإنسان فيها تقدير وتدبير ، كما يقال : (صُنْعَ اللهِ) .. ويقال : رجل صنع ، أي حاذق الصنعة جيّدها ، وامرأة صناع .. والصنيعة : ما يصنع من خير للغير ..

وهذا وجه آخر من الوجوه التي يصرف القوم فيها جهدهم ، وهو أنهم يجوّدون في صناعة منازلهم وأمتعتهم ، وأدوات ركوبهم .. حتى لكأنهم خالدون في هذه الدنيا ، لا يموتون أبدا .. فليتهم إذ أجادوا الصنعة وأحسنوا

١٤٥

العمل فيما هو لدنياهم ـ أن يجيدوا بعض الإجادة ، ويحسنوا بعض الإحسان ، لما بعد هذه الحياة الفانية.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ).

فقد كان القوم على بسطة خارقة في الجسم ، ومع هذه البسطة الخارقة فى الجسم قوة طاغية في الحرب والقتال .. وتلك نعمة أساءوا استعمالها ، فاستبدّوا بمن حولهم ، وأزعجوا أمّن جيرانهم ، بغيا وعدوانا في غير رحمة .. فكانوا أشبه بالوحوش الكاسرة ، تقتل كل ما يقع ليدها من حيوان أو إنسان ، فى حال جوعها وشبعها على السّواء .. إنها تغذّى طبيعة الافتراس على أية حال .. وشأن القوم مع هذه العظات ، شأن كل غويّ ضال ، قد استبدّ به ضلاله ، فلم ير إلا ما يراه ، وهو الأعمى الذي لا يرى إلا ظلاما وأوهاما ..

يلقاهم الداعي الكريم بهذا النذير : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فيلقونه بهذا الرد الهازئ الساخر.

(سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ)!!

إننا لا نسمع لك قولا ، ولا نقبل منك رأيا.

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ).

أي فما هذا الذي تحدث به إلا أكاذيب وأضاليل ، تحدّث بها أناس قبلك ، وتوعدوا الناس بالعذاب ، فلم يقع شىء مما تحدثوا به.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)

إن كان هناك حقا عذاب. فنحن أقوى الناس قوة ، وأعزهم مكانا ، وأمنعهم سلطانا ـ فكيف نعذب؟ إنما يعذب هؤلاء الضعفاء ، الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم الأيدى التي تمتد إليهم بأذى! .. ذلك ظن من غرهم

١٤٦

ما أنعم الله به عليهم من نعم ، فاستكبروا ، وعتوا ، وقالوا ما قال صاحب الجنتين لصاحبه : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٥ ـ ٣٦ : الكهف)

____________________________________

الآيات : (١٤١ ـ ١٥٩)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٥٩)

____________________________________

التفسير :

وتلك آية أخرى .. فى هذا الموقف الذي كان بين نبي الله صالح عليه‌السلام ، وبين قومه «ثمود» ..! (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١ : يونس)

١٤٧

«وفي سورة هود» عرض لهذه القصة ، فى معرض قصص الأنبياء .. نوح ، وهود ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى.

والعرض الذي جاء هنا ، هو مماثل في مضمونه للعرض الذي جاء في سورة هود ، كما هو مماثل للمعارض التي جاءت في مواضع أخرى من القرآن ، والتي تختلف بسطا وقبضا ـ ومع هذا ، فإن في كل معرض دلالة جديدة ، هى في معرضها روح يسرى في كيان الحدث كله ، فإذا انضمت إلى غيرها ، امتزجت بالروح الساري هناك ، كما ينضم النور إلى النور ، فتتسع رقعة الضوء ، ولا تتغير صفته ، أو كما تجتمع قطرات المطر بعضها إلى بعض ، فيكثر كمها ، والماء ، هو الماء ، صفاء ، ونقاء ، وطهرا.

وقد عرضنا لهذا في مبحثنا : «التكرار في القصص القرآنى» وعرضنا نموذجا للتكرار الذي جاء في قصة موسى : ورأينا كيف كان هذا التكرار مجسّما للأحداث ، محركا لها ، كاشفا عن ظاهرها وباطنها جميعا .. وهذا ما نجده في كل تكرار جاء في القصص القرآنى ، أو في غيره من الموضوعات التي عنى القرآن الكريم بإبرازها ، فى جميع وجوهها .. وهذا ما سنراه في قصة صالح ، إذا نحن جمعنا للواضع التي ورد فيها ذكر من هذه القصة ..

هذا ، ويلاحظ التشابه القوى بين مواقف الأقوام من رسلهم ، على اختلاف أزمانهم وأوطانهم .. إن رسلهم عندهم بموضع تهمة .. فهذا ساحر ، أو مسحور ، وهذا شاعر أو مجنون ، وذك دعى يتلقى من غيره ما يحدّث الناس به .. إلى غير ذلك ، مما يرمونهم به ، من بذيء القول ، وسفيه الحديث .. كما يلاحظ الشبه الكبير بين قوم عاد ، وقوم ثمود .. من حيث فراهة الأجسام وقوة البناء. وذلك مما يقوم شاهدا على أنهم كانوا على قرابة قريبة فى النسب والجوار.

١٤٨

ومن مفردات هذه الآيات :

قوله تعالى : (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) : أي داخل بعضه في بعض ، كأنما شدخ ، والطلع من النخلة أول ما يبدو من ثمرها ، وهو حين تزهر ، فيخرج منها الطلع على هيئة كيزان ، تتشقق جوانبه ، وتتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه ..

وقوله سبحانه : (بُيُوتاً فارِهِينَ) أي حاذقين في صناعتها ونحتها

وقوله سبحانه : (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي ممن أصابهم السحر ، ومسمم أثره ..

وقوله جل شأن : (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ) : أي مورد ، تشرب منه في يوم معين لها ..

وقوله تعالى : (فَعَقَرُوها) أي ذبحوها ..

____________________________________

الآيات : (١٦٠ ـ ١٧٥)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا

١٤٩

الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)

____________________________________

التفسير :

ولا تختلف قصة لوط مع قومه ، عن قصة كل نبى سبقه ، أو جاء بعده مع قومه .. إنه داعية يدعو باسم ربه إلى خير ، وإلى هدى ، وقومه ـ إلا قليلا منهم ـ يتصدون له ، ويقفون في وجه دعوته ، مهددين ، متوعدين ، بالهلاك ، أو الطرد من الديار ..

وإذا كان ثمة اختلاف بين قوم وقوم ، فهو في نوع الداء المتمكن منهم ، والذي يتسط عليهم ، ويحكم تصرفاتهم في الحياة .. فهم ـ أي الأقوام جميعا يحملون في كيانهم عللا نفسية ، وأمراضا روحية ، وعقلية ، ولكنّ لكل قوم داءهم الغالب عليهم ، وعلتهم المتمكنة منهم ، إلى جانب العلة الغليظة المشتركة بينهم ، وهي الكفر أو الشرك بالله.

والداء المتمكن من قوم «لوط» إلى جانب الكفر بالله ، هو هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه ، ويأتونه جهرة من غير حياء أو خجل ، وكانوا في ذلك أول من حمل هذا الداء ، الذي تفشّى في الناس فيما بعد ، كما تتفشى الأمراض الجسدية ، التي تظهر في الناس زمنا بعد زمن .. وفي هذا يقول الله تعالى على لسان لوط ، مخاطبا إيّاهم بهذا القول : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٠ : الأعراف)

ومن مفردات هذه الآيات :

قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) أي أتتصلون بالذكور ، من

١٥٠

بين العالمين ، وبهذا تكونون أول من يذيع هذه الفاحشة في المجتمع الإنسانى!

وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) .. عادون : جمع عاد ، وفعله : عدا يعدو عدوانا ، والعدوان : مجاوزة الحد ، والخروج عن الطريق القويم.

وقوله سبحانه : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) .. القالي : المجانب للشىء الكاره له ..

وقوله تعالى : (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ).! العجوز : هى امرأة لوط ، فقد كانت من المخالفين للوط ، فأهلكها الله بما أهلك به القوم .. وفي هذا يقول الله تعالى : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٣ : العنكبوت). والغابرون : أي الماضون ، الذي هلكوا.

وقوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) المطر هنا ، هو ما رماهم الله سبحانه وتعالى به من حجارة. أتت على القوم ، وعلى ديارهم جميعا .. كما يقول سبحانه (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) (٨٢ ـ ٨٣ : هود) .. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله : (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) .. أي أنه مطر يسوء من يحلّ به ، ويقع عليه ، وليس هو المطر الذي ينزل بالخصب والخير .. ونسبة السوء إلى المطر .. لأنه هكذا كان مطلعه عليهم ، وأثره فيهم ..

____________________________________

الآيات : (١٧٦ ـ ١٩١)

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ

١٥١

إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٩١)

____________________________________

التفسير :

والداء الذي تمكّن من قوم شعيب ، وتسلط على سلوكهم في الحياة ، إلى جانب الداء الغليظ ، وهو الكفر ـ هذا الداء ، هو التلاعب بالمكاييل والموازين ، والتعدّى على حقوق الغير بهذه السرقة الخفية ، وخيانة الأمانة في الكيل والوزن ..

ومع من هذا العدوان؟ إنه مع بعضهم .. فكل منهم يخون صاحبه .. فهذا يخسر الكيل وينقص الميزان مع غيره إذا كال له ، أو وزن .. ثم هو يلقى نفس العمل إذا كيل له أو وزن له .. إنه يسرق ، ويسرق .. وتلك حال لا ينتظم بها أمر مجتمع ، ولا تقوم عليها صلة مودة ، وإخاء ، بين الناس والناس .. فكل منهم على اتهام لكل الناس ، وعلى عداوة لكل من يتعامل معه .. آخذا أو معطيا.

١٥٢

ولا يلقى شعيب من قومه ـ إذ يدعوهم إلى التي هي أحسن ـ لا يلقى منهم إلا التهديد والتكذيب ، وإلا السّفه والتطاول ، وإلا التحدي بنزول العذاب عليهم ، إن كان صادقا .. (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وقد سقط عليهم العذاب الذي طلبوه .. فهلكوا به!

ومن مفردات هذه الآيات :

قوله تعالى : (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة : الأرض ذات الشجر الكثير الكثيف ، وكان أصحابها من أرض مدين بالشام.

وقوله تعالى : (بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) : الميزان المعتدل ، القائم على الحق ..

وقوله سبحانه : (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) : الخلق الذين كانوا قبلهم ..

وقوله تعالى : (كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) : أي قطعا تنزل من السماء ، من حجارة أو نحوها.

وقوله سبحانه (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) .. الظلة ما أظلهم وأطبق عليهم في هذا اليوم من عذاب الله.

هذا ، ويلاحظ أنه لم يقترن «شعيب» بالوصف الذي وصف به الأنبياء ، بأنه أخو القوم ، فقد جاء النظم القرآنى هكذا : (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) .. ولم يحىء على هذا النظم : «إذ قال لهم أخوهم شعيب».

وليس هناك من سبب ـ والله أعلم ـ إلا البعد عن الرتابة ، والتكرار ، الذي يخلو من الفائدة ، التي تلازم دائما كل تكرار جاء في النظم القرآنى .. فقد ذكر في غير موضع أن شعيبا ، هو من القوم وهو بهذا أخ لهم ، كما جاء فى قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (٨٤ : هود).

١٥٣

وفي قوله سبحانه : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (٨٥ : الأعراف).

***

وملاحظة أخرى في التعقيب الذي لزم كل قصة من هذه القصص جميعا ، بلا استثناء ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

ففى كل قصة من هذه القصص ، آية ، فيها مزدجر لمن سيقت فيهم القصة ولمن يأتى بعدهم .. ولكن لم يكن في هذه الآية ولا في الآيات التي تلتها ، ما يفتح هذه العقول المغلقة ، ولا ما يهدى هذه العيون العمى .. فأبى أكثر الناس إلا كفورا .. وقليل هم أولئك الذين نفعتهم هذه الآيات ، وأغنتهم تلك النذر ، فآمنوا ، واهتدوا ، ونجوا من بلاء الدنيا ، وعذاب الآخرة ..

أما التعقيب على القصص بقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). فإن وصف الله سبحانه وتعالى بالعزة ، يكشف عما لله سبحانه وتعالى من سلطان قاهر عزيز ، بحيث يأخذ بناصية كل من يخرج عن سلطانه ، ويكذب رسله .. ولكن مع هذه العزة القاهرة ، رحمة الرحيم ، الذي أمهل الظالمين ، ومدّ لهم في العمر ، وبسط لهم في الرزق ، ولو أخذهم بذنوبهم لحرمهم شربة الماء ، ونفس الهواء ..

____________________________________

الآيات : (١٩٢ ـ ٢٠٩)

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ

١٥٤

بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ(٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)(٢٠٩)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. الضمير فى «إنه» يعود إلى هذا القصص الذي قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم ، فى هذه الآيات ، كما يقول سبحانه وتعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (٦٢ : آل عمران).

وكما يقول جل شأنه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) (١٣ : الكهف) وكما يقول سبحانه وتعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٣ : يوسف).

فالتعقيب على هذا القصص الذي اشتمل على أخبار سبعة أنبياء ، مع أقوامهم ، ومن أرسلوا إليهم ، وهم حسب ترتيب ذكرهم : موسى ، وإبراهيم ، ونوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ـ التعقيب على هذا القصص بهذه الآيات ، وهو رد على ما يدور في خواطر المشركين ، وما يتهامسون به حينا ، ويجهرون به حينا ، من أن هذا القصص ، إنما هو من أساطير الأولين ، ومن

١٥٥

وإرادات هذا المورد الذي ينبع من الأوهام والخيالات ..

وقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).

هو بيان لمتنزل هذا القصص ، والمصدر الذي جاءت منه أخباره .. وأن متنزل هذا القصص ، هو السماء ، وأن مصدره ، هو الله رب العالمين ، وأن حامله إلى الرسول ، هو الروح الأمين ، وهو جبريل عليه‌السلام .. الذي هو أمين على أداء ما اؤتمن على أدائه ، من كلمات الله ، إلى رسول الله ..

وفي قوله تعالى : (عَلى قَلْبِكَ) إشارة تمكن وصول كلمات الله إلى الرسول ، وأنها لم تلق على سمعه وحسب ، بل إنها نفذت إلى أعماقه ، وخالطت مشاعره ، واستقرت في قلبه ..

[كلمات الله .. وكيف تلقاها النبي؟]

كان أكبر همّ الذين صوبوا سهامهم إلى سيرة النبي ، وإلى الرسالة الكريمة التي تلقاها من ربه ، وقام بتبليغها للعالمين ـ كان أكبر همهم ، أن يقطعوا صلة النبي بالسماء ، وأن ينفوا عن القرآن أنه كلام الله ، وأنه كتاب سماوى لشريعة الإسلام .. ثم لا حرج عندهم بعد هذا أن يسلّموا «لمحمد» بكل شىء .. فليكن مشرّعا عظيما ، وليكن مصلحا عبقريا .. ليكن كما يشاء ويشاء له أتباعه ، إلا أن يكون نبيا ورسولا ، وإلا أن يكون صاحب رسالة سماوية ، منزلة من رب العالمين .. فذلك ما يكثر شغبهم عليه ، وتشرع سهامهم له ، ولو كان في ذلك مصرعهم!

وغاية هذا المكر الخبيث ، هو أن ينفوا عن شريعة الإسلام صفة القداسة ،

١٥٦

وأن ينزلوها منزلة الشرائع والمذاهب الوضعية ، ليكون ذلك داعية إلى الجرأة على العبث بها ، وجعلها في معرض التجريح والتعديل ، والتبديل ، حسب مقتضيات الأهواء والنوازع ..

ومن عجب أن يعوّل الطاعنون في نبوة النبي من المستشرقين ، والملحدين ـ من عجب أن يقولوا في دراستهم لأحوال النبي مع الوحى ، على الأحاديث والأخبار التي رواها الثقات من المسلمين ، عن رسول الله ، ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أو شاهدوها من أحواله عند الوحى ، ثم يجعلوا هذه الأخبار ، والأحاديث دليلا على نفى الوحى ، الذي كانت تلك الحالات أعراضا له ، وشواهد عليه ..

وقد يكون من المستساغ أن يحلى هؤلاء الطاعنون أيديهم من الأحاديث والأخبار ، التي تحدّث عن الوحى ، وعن الأحوال التي كانت تعرض للنبى منه ، ثم لينسجوا من مقولاتهم ومفترياتهم ما يشاءون ، للطعن في حقيقة الوحى ، وفي صحة ما يوحى إلى النبي .. فذلك على ما فيه من تلفيق وتزييف ، أقرب إلى المنطق ، من معالجة الحقائق الثابتة ، وتحويلها إلى مخلوقات من الباطل الصريح ..

إن خلق الشيء ابتداء أيسر من إقامته من أنقاض شىء آخر .. إنه بناء من أول الأمر ، ولو كان هذا البناء على شفا جرف هار .. أما الخلق من شىء آخر .. فهو هدم وبناء .. يهدم الشيء ثم يبنيه من أنقاض ما هدم .. إنه أشبه بالثوب الجديد ، يمزق قطعا ثم يعاد جمعه من تلك الأمزاق .. ولثوب بال مهلهل ، خير من هذا الثوب المرقع .. كذلك فعل الملحدون الطاعنون في رسالة الرسول ، وفيما تلقاه وحيا من ربه ..

١٥٧

جاءوا إلى هذا النسج المتين المتلاحم ، فجعلوه أمزاقا ، ثم وصلوا تلك الأمزاق بعضها ببعض ، فكشف ذلك عن جنايتهم ، وفضح مكرهم وسوء تدبيرهم ..

إنهم ينقلون الأخبار الصحيحة ، ويعمدون إلى الحقائق الثابتة من أوثق المصادر الإسلامية ، ثم يتناولونها كما يتناول الحيوان فريسته ، بمخالبه وأنيابه حتى إذا أسالوا دمها ، وأخمدوا أنفاسها ، ومزقوا أشلاءها ـ حاولوا أن يجمعوا من أشلاء هذه الحقائق الممزقة المتناثرة كائنا آخر ، هو هذا الباطل ، الذي يريدون أن يقيموه مقام الحق ..

وهم ـ هنا ـ فى حقيقة الوحى ، يعمدون إلى الأحاديث المروية عن الرسول ، والأخبار المشاهدة من أحواله مع الوحى ثم يصوّبون إلى هذه الأحاديث وتلك الأخبار ، سهاما مسمومة ، يحرفون بها الكلم عن مواضعه ، ليفسحوا لباطلهم ، مكانا يشوّه الحق ، ويشوش عليه ..

فمن الأحاديث المروية عن الوحى وكيف كان ينزل على النبي ، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن السيدة عائشة ، أن الحارث بن هشام ، سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف يأتيك الوحى؟ فقال : «أحيانا يأتينى في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدّه على ، ثم يفصم عنى وقد وعيته .. وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا ، فيكلمنى ، فأعى ما يقول»

ومن ذلك ما يروى عن السيدة عائشة أيضا أنها كانت تقول : «إن كان لينزل ـ أي الوحى ـ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فى الغداة الباردة ثم تفيض جبهته عرقا»

ومن ذلك ما يروى عن عبادة بن الصامت ، أنه قال : «كان نبى الله

١٥٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك ، وتربّد وجهه» .. أي تغير.

وهذا يعنى ـ كما هو ظاهر ـ أن اتصال النبي بالوحى ، كان يستدعى منه مجاهدة روحية ، ونفسية ، وجسدية ، كى تتيح له هذه المجاهدة ، حالا مناسبة للعالم الروحي ، الذي يتصل به .. إنه لقاء بين طبيعتين مختلفتين .. طبيعة بشرية ، وطبيعة ملكية .. ولا بد أن يحدث هذا اللقاء احتكاكا ، وتفاعلا ، وفورانا .. فى الطبيعتين على السواء ، حتى يلتقيا لقاء ، يتم به التجاوب ، والتفاهم!

يقول «ابن خلدون» ، فيما يعرض للأنبياء عامة عند تلقى الوحى : «وعلامة هذا الصنف ـ أي الأنبياء ـ من البشر ، أن توجد لهم في حال الوحى غيبة عن الحاضرين معهم .. مع غطيط ، كأنها ـ أي الحال ـ غشى أو إغماء في رأى العين ، وليست منهما في شىء ، وإنما هي في الحقيقة ، استغراق في لقاء الملك الروحاني ، بإدراكهم المناسب لهم ، الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية ، بسماع دويّ من الكلام ، فيتفهمه ، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله .. تنجلى عنه تلك الحال ، وقد وعى ما ألقى إليه .. ويدركه ـ النبي ـ أثناء ذلك من الشدة والغطّ ما لا يعبر عنه : ففى الحديث : «كان مما يعالج من التنزيل شدة» .. وقالت عائشة : «كان ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصّد عرقا» وقال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥ : المزمل)

ثم يقول ابن خلدون : «ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحى ، كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ، ويقولون : «له رئىّ» أي تابع من الجن .. وإنما

١٥٩

لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال (١)».

ثم يمضى ابن خلدون ، فى تقدير هذا الرأى ، فيقول : «وهؤلاء الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ـ قد جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة ، فطرة فطرهم الله عليها ، وجبلّة صورهم فيها ، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ، ماداموا ملابسين لها ـ أي الموانع ـ بالبشرية ، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة ، التي يحازون بها تلك الوجهة ـ أي الوجهة الملكية ـ ووكز في طباعهم رغبة في العبادة ، تكلف بتلك الوجهة ، وتسيح (٢) نحوها .. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ ، متى جاءوا ـ بتلك الفطرة التي فطروا عليها ، لا باكتساب ولا صناعة .. فلهذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم ، وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه ، وعاجوا ـ أي مالوا ـ به على المدارك البشرية ، منزلا في قواها ، لحكمة التبليغ للعباد .. فتارة يسمع دويا ، كأنه رمز من الكلام ، يأخذ منه المعنى الذي ألقى إليه ، فلا ينقضى الدويّ ، إلا وقد وعاه وفهمه ، وتارة يمثل له الملك الذي يلقى إليه ، رجلا ، فيكلمه ، ويعى ما يقوله.

ثم يقول : «واعلم أن الأولى ـ وهي رتبة الأنبياء غير المرسلين ، على ما حققوه ـ أي العلماء ـ والثانية ـ وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب النبي ـ هى رتبة الأنبياء المرسلين ، ولذلك كانت أكمل من الأول ..

«إنما كانت الأولى أشد ، لأنها مبدأ الخروج ، فى ذلك الاتصال من القوة

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون صفحة ٨٨.

(٢) فى الأصل ، تكشف ، وتسبغ .. وهو تجويف.

١٦٠