التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

أن يكون له دافع من عقل أو رأى .. إنه حركة آلية ، لا يشترك فيها من كيان الإنسان إلّا اللسان .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ـ أي أن هذا الحديث المدار بينكم فى هذا الأمر ، هو حديث ألسنة ، لا تنطق عن علم ، ولا تأخذ عن عقل ، أو منطق .. إنه حديث لسان يأخذ عن لسان ، حتى دون أن يمر على الأذن! (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ).

وإنه لإعجاز من القرآن الكريم هذا التصوير المعجز الشائعات السوء ، حين تجد من الناس آذانا مصغية إليها ، ونفوسا مستجيبة لها .. إنها حينئذ تنطلق فى سعار وجنون ، بحيث لا تدع للناس فسحة من الوقت يتلقونها بآذانهم ، ثم يديرونها فى عقولهم ومشاعرهم ، ليكون لهم خيار فى قبولها أو ردها ، بل إنه يلقى بها على ألسنتهم خلقا مصنوعا ، مجهزا للتعامل به على صورته تلك .. إنها كلمات مردّ الحكم فيها إلى الألسنة .. فلتذقها الألسنة إذن ، ولتحكم عليها بما تذوق منها .. وإن كثيرا من الناس ، ليقفون بالكلام على حدود ألسنتهم ، ويفوّضون لها الأمر فيما تقبل منه أو ترفض .. وإن لكلمات السوء لحلاوة على ألسنة أهل السوء والفساد ، يترشفونها كما يترشفون الماء البارد على ظمأ ، فى يوم قائظ!.

وفى قوله تعالى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) تحذير لهؤلاء الذين يستخفّون بالكلمة ، وينفقون من رصيد ألسنتهم بغير حساب .. ظانين أن ذلك لا يضيرهم فى شىء أبدا ، ما دام الذي ينفقون لا يكلّفهم جهدا أو مالا ..

٤٠١

وهذا ظن خاطئ .. فالكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم ، وإنما هى ـ فى حقيقتها ـ رسالة من الرسالات إلى عقول الناس ، قد تكون طيبة ، فتحمل إليهم الخير والهدى ، وقد تكون خبيثة ، فتسوق إليهم البلاء والهلاك .. وقد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة فقال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ..) وكذلك ضرب الله مثلا للكلمة الخبيثة ، فقال سبحانه : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٤ ـ ٢٦ : إبراهيم) ..

فالكلمة فى حساب المبطلين ، والمفسدين ، وأصحاب النفوس المريضة ، والعقول الفارغة ـ شىء رخيص ، لا وزن له ، ولا ثمن للقليل أو الكثير منه ..

وهى عند أهل الرأى والعقل ، والحكمة ، والإيمان .. شىء عظيم ، هى آية الله فى الإنسان .. بها كان إنسانا ، وكان خليفة الله فى الأرض .. وبالكلمة خلق الله السموات والأرض ، وما فيهن ومن فيهن .. وبالكلمة صاغ الإنسان هذه المصنوعات التي ملأ بها وجه الأرض. فلولا الكلمة ما ولدت الأفكار ، ولو لا الأفكار ما ظهر للإنسان عمل أكثر من عمل الحيوان على الأرض ..

وهذا الحديث الآثم ، الذي انطلق فى آفاق المدينة ، وتداولته بعض الألسنة فى غير تحرج أو تأثم ، هو أخبث ما تنطق به الأفواه من كلم ، إذ كان زورا وبهتانا ، وافتراء على الحق فى أرفع منازله ، وعدوانا على الطهر فى أشرف مواطنه ..

قوله تعالى :

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا .. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) ..

٤٠٢

هو بيان من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين خاضوا فى هذا الحديث ، أو استمعوا له ، أو سكتوا عنه ، وتوجيه لهم إلى الموقف الذي كان ينبغى أن يقفوه من هذه الفتنة ، وتلقين لهم بالكلمة التي كان يجب أن يلقوا بها هذا البهتان العظيم.

فليس للمؤمن إلا موقف واحد من هذا الحديث ، وهو إنكاره ، وبهت المتحدثين به ، ووضعهم موضع التهمة بالكذب والافتراء ..

وفى قوله تعالى : (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ـ إشارة إلى أن الأمر لم يكن إلا حديثا يدار على الألسنة ، ويلقى به على الأسماع ، وأنه لم يكن عن رؤية ومشاهدة ..

وفى قوله تعالى : (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) إشارة أخرى إلى أن هذا الحديث الآثم ، لا ينبغى لمؤمن أن ينطق به ، لأنه عدوان على النبىّ ، وجرح غائر لمشاعره ، وإيذاء شديد له .. وليس مؤمن ذلك الإنسان الذي يسوق إلى النبي شيئا يسوءه ، أو يخدش مشاعره .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١ : التوبة).

فلو فرض وكان هذا الأمر على شىء من الحقيقة ـ فإن الإيمان بالله ورسوله يقتضى المؤمن أن يدفع هذا السوء الذي يعرض للنبى ، وأن يتلقاه دونه ، ويحمله عنه .. إن وجد إلى ذلك سبيلا ..

أما أن يكون خطبا يزيد النار اشتعالا ، فذلك هو الذي لا يجتمع معه إيمان ، ولا يبقى معه دين .. لأن الإيمان ولاء ، وحب وتقديس ، والدين عبادة وصلاة وتسبيح ..

قوله تعالى :

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

٤٠٣

هو دعوة كريمة من رب كريم ، إلى المؤمنين ، ألّا يعودوا إلى مثل هذا الأمر ، وألا يخوضوا فى أعراض المسلمين ، وألا يجعلوا لكلمة السوء مكانا فى قلوبهم ، أو موضعا على ألسنتهم ، أما هذا الحديث الذي حدث ، فالله سبحانه وتعالى ، قد عاد بفضله على الذين عضهم الندم ، وجاءوا إلى الله تائبين مستغفرين ..

فالخطاب هنا موجه إلى كل من كان له مشاركة فى هذا الأمر ، من قريب أو بعيد.

وفى قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ) ـ إشارة إلى أن الذين اشتركوا فى هذا الحديث لم يهلكوا بعد ، وأنهم مدعوون إلى أن يستمعوا إلى ما يوعظون به ، فإن قبلوا الموعظة وعملوا بها نجوا ، وإلا فهم فى الهالكين.

وفى قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إشارة إلى أن الذين توجّه إليهم هذه العظة إنما هم الذين يحرصون على الإيمان ، ويدفعون عن أنفسهم كل ما يشين إيمانهم ، أو ينقصه.

قوله تعالى :

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

هو إشارة إلى أن ما وعظ به المؤمنون فى الآيات السابقة ، هو ما اقتضته رحمة الله بالمؤمنين ، ببيان الشبهات التي تعرض لهم ، وبألا يؤخذوا بالعقاب قبل أن يبلّغوا البلاغ المبين ، الذي لا شبهة فيه .. وفى هذا يقول سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١١٥ : التوبة) .. وذلك عن علم العليم ، الذي يعلم من عباده ما لم يعلموا ، ومن حكمة الحكيم ، الذي كشف بالعلم طريق الهدى لعباده ، ليكونوا بهذا العلم أهل حكمة وبصيرة.

٤٠٤

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

هو تعقيب على هذا الحدث العظيم ، بالتنبيه إلى أن الذين يحبون أن تفشو الفاحشة ، وتشيع الفتنة فى مجتمع المؤمنين ـ هؤلاء لهم عذاب أليم فى الدنيا ، وذلك بأنّ يؤخذوا بما رصد من عقاب لأولئك الذين يرمون المؤمنين بغير ما اكتسبوا .. ثم إن لهم عذابا أشد وأنكى من هذا العذاب ، فى الآخرة.

وإشاعة الفاحشة فى المجتمع من يكون أكثر من وجه.

ـ بالإقدام على الفاحشة ، والتعامل بها ..

ـ أو بالمعالنة بإتيان الفاحشة من مرتكبها ، أو التحدث بها إلى الناس ، وإفشاء ما ستر الله منه ..

ـ أو بإذاعة الأحاديث عن الفاحشة ، سواء أكان ذلك فى أهل الفاحشة أم فى غيرهم.

ـ أو بالإصغاء إلى حديث الإثم ، وترك المتحدثين به ، يثرثرون ، دون أن يردعهم رادع ، أو يمسك ألسنتهم أحد ..

فهذه الوجوه ، وما يدخل مداخلها ، كلها مما تشيع به الفاحشة فى المجتمع ، قولا ، وفعلا .. وأنها إذا لم تؤخذ عليها السبل ، من أول الأمر ، استشرى شرها ، وعظم خطرها ، واتسعت دائرتها ، حتى ليصبح المجتمع كله واقعا فى قبضتها .. إنها أشبه بالنار ، تكون أول الأمر شرارة ، فإذا هى لم تعالج فى الحال ، اندلعت ألسنتها ، وعلا لهيبها ، وصارت حريقا عظيما ، لا يقف له شىء ، ولا يدفعه شىء ، فتقع الجماعة كلها تحت الخطر الذي ترمى به ..

٤٠٥

وفى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تحذير للذين يستمعون لقالة السوء ، ويعطون آذانهم لمن يلقون إليهم بها .. فأكثر هذه المقولات كذب ، وبهتان ، ورجم بالغيب ، ورمى بالظنون .. وأكثر ما يدفع المتقولين إلى ركوب هذا المركب الآثم ، هو ادعاؤهم العلم بخفايا الأمور ، وأنهم يعلمون ما لا يعلم الناس .. وهذا ليس من العلم فى شىء حتى وإن كان صدقا ، فما هو إلا قشور من قشور العلم ، أما العلم الحق ، فهو ما يعلمه الله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ..)

قوله تعالى :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) لو لا : حرف امتناع لوجود .. أي امتناع تحقيق جوابها ، لوجود شرطها .. ولو لا هذا الشرط لتحقق الجواب ووقع ..

وجواب الشرط هنا محذوف ، وتقديره ، ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ، وأنه رءوف رحيم بكم ، لأخذكم بعذابه على هذا الأمر العظيم الذي وقعتم فيه ، وخاض فيه الخائضون منكم ..

____________________________________

الآيات : (٢١ ـ ٢٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ

٤٠٦

وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

هذه الآية وما بعدها إلى الآية (٢٦) ـ هى مما يتصل بحديث الإفك ، ويدور حوله ، ليطفىء النار المشتعلة منه ، ويذهب بدخانها الذي انعقد فى سماء المجتمع الإسلامى كلّه ..

والآية هنا تنهى المؤمنين عن أن يتبعوا خطوات الشيطان ، وأن يستجيبوا له فيما يدعوهم إليه ، فإن دعوته لا تكون إلا إلى شر وبلاء .. (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)

٤٠٧

وإن مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به ، ويزينه للناس ، هو إطلاق الألسنة بالسوء والفحشاء ، تنهش فى أعراض المؤمنين ، وتشيع الفاحشة فيهم ..

فمن أراد أن يكون فى المؤمنين حقا ، فليمسك لسانه عن لغو الحديث ، وليصمّ أذنيه عن سماع كلمات السوء والفحش فى المؤمنين ، فإنه إن لم يفعل ، واستمع إلى كلمات السوء والفحش ، ثم أطلق لسانه بها كان فى ركب الشيطان ، يجرى وراءه ، ويتبع خطواته ، مع أولئك الذين استجابوا للشيطان ووقعوا فى شباكه ..

وقوله تعالى : (لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ..)

ما زكى : أي ما طهر ، وما خلص من الرجس ، والإثم ، وصار طيبا زكىّ النفس بعد أن تطهر ، وأزال ما علق به من ريح خبيثة بما اقترف من إثم .. فالزكاة تجىء بعد الطهر وغسل القذر ..

وهذا يعنى أن الناس جميعا هم أبناء الخطيئة ، وأنهم جميعا ـ بما ركّب فيهم من طبيعة حيوانية ـ معرّضون للزلل ، وللوقوع فى الخطايا والآثام ..

كما يقول الرسول الكريم : «كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون» ..

ولكن الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته بعباده ، قد جعل لهم مطهّرا يتطهرون به من آثامهم التي تعلق بهم ، وهم على طريق الحياة .. وذلك عن طريق العبادات والطاعات والقربات .. فالصلاة مثلا ، هى مطهرة لما بين الفريضتين. كما فى الحديث : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» وقد شبهها الرسول الكريم بنهر جار ، يغتسل فيه المصلى

٤٠٨

خمس مرات فى اليوم ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم ، يغتسل منه كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درنه شىء؟» قالوا : لا يبقى من درنه ، قال «فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بهن الخطايا».

والزكاة ، مطهرة ... شأنها فى هذا شأن الصلاة ، كما يقول الله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (١٠٣ : التوبة) ..

وهكذا الصوم ، والحج ، .. وكل طاعة ، وكل قرية ، هى مما يتطهر به الإنسان ويتزكى من ذنوبه وآثامه ..

هذا إلى «التوبة» التي هى الباب الواسع الذي يدخل منه الآثمون جميعا إلى رحمة الله ومغفرته ، فمن صحت توبته ، صار نقيا طاهرا ، كيوم ولدته أمه .. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢ : البقرة).

وهذا كله مما يفتح للمؤمن الطريق إلى أن يكون فى الطاهرين الزاكين ، الذي يدخلون مع الداخلين فى قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ).

وقوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هو بيان للراغبين فى الطّهر والتزكّى ، وذلك بالانخلاع عما هم فيه من منكرات ، والرجوع إلى الله ، والتقرب إليه ، بالعبادات والطاعات .. والله سبحانه وتعالى (سَمِيعٌ) لما تنطق به أفواههم ، وما تتحدث به خواطرهم (عَلِيمٌ) بما فى قلوبهم من إخلاص فى العمل ، وصدق فى التوبة ..

قوله تعالى :

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى

٤٠٩

وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا .. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَلا يَأْتَلِ) : أي ولا يمتنع ، أو يقصّر.

هذه الآية الكريمة ، نزلت فى أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وكان قد حلف ألّا ينفق على «مسطح» بعد أن خاض مع من خاضوا فى حديث الإفك. وكان مسطح قريبا لأبى بكر ، وقد هاجر فيمن هاجر إلى المدينة ، وكان فقيرا ، يعينه أبو بكر ، وينفق عليه من ماله ، وقد انزلق مسطح إلى هذا المنحدر ، وكان رأسا من رءوس الخائضين فى هذه الفتنة.

وفى هذه الدعوة السماوية لأبى بكر ، تكريم عظيم له ، وإعلاء لمنزلته عند الله .. إذ دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى التي هى أحسن ، وهو أن يلقى السيئة بالحسنة ، ويدفع الشر بالخير .. وهذه المنزلة عالية لا ينالها ، إلا من أراد الله لهم الكرامة والإحسان .. وفى هذا يقول الله تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥ : فصلت).

ومن وجهة أخرى ، فإن الله سبحانه وتعالى أرى أبا بكر المثل الأعلى فى ذاته سبحانه وتعالى ، إذ وصف ذاته سبحانه هنا بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ..) أي فكن ربانيا أيها الصديق ، وكن غفورا رحيما ، أيها الإنسان المبارك ، لأنك عبد لربّ غفور رحيم .. ومن شأن العبد الصالح أن ينظر إلى سيده ، ويتّبع سبيله ..

وليس هذا فحسب ، بل إنه تعالى نادى عبده ، ودعاه إلى رحاب المغفرة بقوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)؟ ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر الله له؟. ولهذا كان جواب أبى بكر على هذا النداء الكريم ، وتلك الدعوة المباركة : «بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا».

٤١٠

ثم إن فى وصف «مسطح» بقوله تعالى : (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ـ إثارة لأكثر من عاطفة تعطف أبا بكر على الإنسان الذي آذاه فى شرفه .. فهناك عاطفة القرابة ، ثم عاطفة الحاجة والمسكنة ، ثم عاطفة الهجرة فى سبيل الله .. وكل واحدة منها تدعو إلى الرحمة والمغفرة ، فكيف إذا اجتمعن جميعا فى هذا الإنسان الذي أوقعه سوء حظه فيما وقع فيه؟ إن هناك لأكثر من داعية تدعو إلى إقالته من عثرته ، والتجاوز عن مساءته ..

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

هو وعيد لأولئك الذين لم يمسكوا ألسنتهم بعد عن الخوض فى هذا الحديث ، والذين لا زال فى أنفسهم بقية من شك فى براءة أم المؤمنين وطهرها .. فهى ـ كما وصفها الله سبحانه ، وتعالى ـ المحصنة ، أي الطاهرة المبرأة من السوء ، وهى الغافلة عن هذا المنكر ، فلم يطف بها ، ولم يقع فى خطرة من خطرات نفسها ، وهى المؤمنة ، الكاملة الإيمان ، المتحصّنة بإيمانها الوثيق ، الذاكرة لجلال ربها وخشيته .. وفى كل صفة من هذه الصفات عاصم يعصم المتصف بها من الزلل ، والوقوع فى هذا المنكر .. وكيف وقد اجتمعن جميعا ، فى أمّ المؤمنين ، الصديقة بنت الصديق ، والحبيبة بنت الحبيب إلى رسول الله ، صلوات الله وسلامه عليه؟

ـ وقوله تعالى : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ـ هو الجزاء الذي يلقاه كل من يخوض فى أعراض المؤمنين والمؤمنات ، ويرميهم بالفاحشة ،

٤١١

كذبا ، وبهتانا .. فالحكم عام ، قائم أبدا الدهر ، وإن كان مساقا فى معرض الحديث الآثم ، الذي رميت به أم المؤمنين من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض. وأنه إذا كان أناس ممن خاضوا فى هذا الحديث قد تابوا ، وأنابوا إلى الله ، واستغفروا لذنبهم ، فقبلهم الله ، وغفر لهم ـ فإن هناك أناسا آخرين ، قد هلكوا بهذا الحديث ، إذ أمسكوا به فى أنفسهم .. فهؤلاء : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

قوله تعالى :

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

الظرف هنا (يَوْمَ) متعلق بقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، أي لهم عذاب عظيم ، فى الآخرة ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ..

فهؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك ، وماتوا به ، وأبوا أن يشهدوا على أنفسهم فى الدنيا ، وبأنهم كانوا كاذبين مفترين ـ هؤلاء ، ستنطق ألسنتهم فى الآخرة بما أبت أن تنطق به فى الدنيا ، وتقوم شاهدة عليهم بأنهم كانوا كاذبين مفترين ، وإنهم ليؤخذون بإقرارهم هذا ، وبما شهدت به عليهم ألسنتهم ، التي خرست فى الدنيا عن قول الحق ، وانطلقت تهذى وتعوى بالزور والبهتان ..

ثم إلى جانب شهادة ألسنتهم عليهم فى الآخرة بما نطقوا به فى الدنيا من زور وبهتان ـ تقوم أيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم بما عملوا من منكر .. فاليدان ، والرجلان شهود أربعة ، تشهد على هذا الادعاء الذي يدعيه اللسان على صاحبه .. وكأن هذا اللسان متهم عند صاحبه ، لأنه لم ينطق أبدا إلا بالزور والبهتان .. فإذا

٤١٢

جاء صاحبه ليردّ شهادته عليه ، قام من كيانه شهود أربعة ، كلها تصدق هذا اللسان ، الذي لم يصدق أبدا إلا فى هذا الموقف! وهذا هو بعض السر فى تقديم اللسان على الأيدى والأرجل فكأنه هو المدّعى ، وكأن شهوده على دعواه .. اليدان والرجلان! ثم إنما قامت الشهادة عليهم ، أخذوا بذنبهم ، جزاء وفاقا.

قوله تعالى :

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ .. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

تعرض الآية الكريمة هنا دليلا من واقع الحياة ، يشهد لما نطقت به الآيات من براءة أم المؤمنين ، مما رمتها به الألسنة الآثمة من زور وبهتان ..

فالسيدة عائشة ، نبتة طيبة ، نبتت فى بيت طيب ، لم يعرف عنه فى الجاهلية شىء مما كان يأتيه الجاهليون ، من استعلان بالفجور ومباهاة به .. بل كان هذا البيت ، أشبه بنسمة رقيقة ، بين هذه العواصف التي تدوّم وتصخب فى بيوت الجاهلين ، من سفك دماء ، واعتداء على الحرمات ، حتى إذا جاء الإسلام كانت أول يد تصافحه ، وأول قلب يتفتح له ، هى يد أبى بكر الصديق ، وهو قلب أبى بكر الصديق .. وما ذاك إلا لأن طبيعته كانت مسلمة ، أو أقرب إلى الإسلام ، من قبل أن يجىء الإسلام ، حتى إذا كان أول صوت يؤذّن بدعوة الإسلام ، كان أبو بكر أول المستجيبين له ، والمتجهين إليه ، حتى لكأنه كان على توقّع له ، وتطلع إليه ..!! فمن ظهر هذا الرجل الكريم النبيل جاءت «عائشة» ، وفى بيت هذا الرجل الطاهر العفّ نشأت «عائشة» ..

ثم كان أن انتقلت السيدة عائشة ، وهى لا تزال فى إهاب الطفولة ـ انتقلت من هذا البيت الطاهر الكريم ، إلى البيت الأكرم بيت النبوة .. فكان فى هذا البيت القدس مرباها فى طفولتها ، وصباها ، وشبابها. فشهدت فيه منذ صباها الباكر

٤١٣

أنوار السماء تنزل على النبي ، فيغمرها هذا النور البهىّ ، ويملأ قلبها ووجدانها ، علما ، وحكمة ، وطهرا .. فكانت بهذا ، المرأة التي أخذت بحظ النساء جميعا من هذا الخير المنزل من السماء .. وكأنها الشاهد القائم على أن المرأة شريكة للرجل حتى فى مقام النبوة ، التي إن اختص بها الرجال فكان منهم الأنبياء ، فإن النساء لم يحرمن حظهن منها ، فكان منهن حواريو الأنبياء!!

فامرأة هذا شأنها ، وذلك هو منبتها ، ومرباها ، يكون من البعيد بعد المستحيل ، أن تزلّ وأن تسقط ، وأن تأتى من المنكر ما تأباه الحرّة ، على شرفها وخلقها ، ومروءتها ..!

ومن جهة أخرى .. فإن الله الذي اصطفى النبي لحمل رسالة السماء ، وصفّى جوهره من كل شائبة ، حتى لقد كان نورا أقرب إلى هذا النور الذي ينزل عليه وحيا من ربه ـ إن الذي اصطفى محمدا لهذا ، قد اصطفى له ـ فيما اصطفى ـ أزواجه ، وأصحابه ، ومواليه ، ومن كان على صلة قريبة مدانية له ..

وقد كانت السيدة عائشة ، أقرب المقربين إلى رسول الله ، وأشدّهم صلة به ، وأكثرهم اطلاعا على سره وعلانيته. فهى ـ والأمر كذلك ـ أصفى من اصطفى الله سبحانه وتعالى من النساء ـ إن لم يكن من الرجال ـ لصحبة نبيه ، ومرافقته رفقة ملازمة ، فى أخطر دور من أدوار رسالته ، وأكثرها ازدحاما والتحاما بالأحداث!.

فإذا جاء قوله تعالى : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) كان مفهوم هذا واضحا أتمّ وضوح وأبينه ، فى التقاء السيدة عائشة بالنبيّ ، وصحبتها له ، وجعلها زوجا يسكن إليها ، ويسعد بصحبتها .. إنها طيبة أطيب الطيبات ، لا تكون إلا لطيّب بفضلها طيبا ، وإن صاحبها لطيب ، أطيب الطيبين ، لا يتصل به ، ولا يدخل فى حياته إلا طيبة ، أشكل الطيبات به ، وأقربهن طيبا إلى طيبه!.

٤١٤

فإذا كان فى الحياة طيب ، وعفة ، وطهر ، فهنا الطيب ، والعفة والطهر ، وإذا كان فى النساء امرأة لا تزلّ ، وأنثى لا تأثم ، فهى هذه المرأة ، وهى تلك الأنثى!! ..

هذا هو منطق الواقع ، فيما تنطق به الحياة ، فى مختلف البيئات ، وفى كل الأزمان .. الطيّب لا يقبل إلا طيبا ، من قول أو عمل ، أو زوج أو صديق .. والخبيث لا يقبل إلا الخبيث ، من قول أو عمل ، أو زوج ، أو صاحب ، .. وهذا ما يشير إليه الحديث : «الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تنافر منها اختلف» ..

وفى الآية أمور ..

فأولا : قدّم (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) على (الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ..)

وذلك لأن الخطاب موجه أولا إلى أولئك الذين خبثوا نفسا ، ودينا ، فأطلقوا ألسنتهم فى الطيبات والطيبين من المؤمنين ، وأنهم لو لم يكونوا على تلك الصفة لظنوا بالمؤمنين والمؤمنات خيرا ، ولكانوا يقولون إذ سمعوا اللغط بهذا الحديث : (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا .. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) كما وصّى الله المؤمنين بذلك ، ودعاهم إليه ..

وثانيا : قدّمت المرأة على الرجل هنا فى الحالين : الخبث والطّيب .. وذلك لأن المرأة هى التي يطلب لها كفؤها من الرجال ، فلا يصح أن تتزوج بمن هو أنزل منها شرفا وقدرا ..

والكفاءة هنا منظور إليها من ناحية التقوى ، والعفة ، والطهر ..

فالخبيثة ، كفؤها من هو أخبث منها خبثا ..

٤١٥

والطيبة ، كفؤها من هو أطيب منها طيبا ..

وثالثا : الإشارة فى قوله تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ..) تشير إلى من مسهم شىء من هذا الحديث الآثم ، وهم الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وعائشة ـ رضى الله عنها ، وأبواها ، وصفوان بن المعطل .. فهؤلاء قد برأهم الله من كل دنس ، وعافاهم من كل سوء ، ودمغ بهذا القول الزائف الآثم أهله .. على حين أجزل الثواب العظيم ، والرزق الكريم لمن مسهم هذا القول بضرّ : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ..

____________________________________

الآيات : (٢٧ ـ ٢٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٢٩)

____________________________________

التفسير :

جاءت هذه الآيات الثلاث ، بعد حديث الإفك ، الذي كان المدخل إليه ، هو هذا الحديث الذي شغل السيدة عائشة عن أن تكون فى الركب ، وقد لقيها على الطريق صفوان بن المعطل ، فحملها على بعيره ، وألحقها بكرب الرسول .. فكان المنافقين ، ومن فى قلوبهم مرض أن ينظروا إلى هذه الحادثة بنفوس

٤١٦

مريضة ، وأهواء متسلطة ، وأن يعموا عن هذا الجوهر الكريم المصفّى الذي ينظرون إليه .. سواء فى ذلك أم المؤمنين ، أو الصحابىّ الذي كان فى خدمتها ..

نقول ـ جاءت هذه الآيات الثلاث ، بعد حديث الإفك لتقيم المسلمين على أدب خاص ، يتصل بالبيوت وحرمتها ، حتى لا تكون مظنّة لريبة ، أو موضعا لتهمة .. ذلك والنفوس ـ إذ تستقبل هذه الآيات ـ مهيأة لقبول كل ما يدفع التهم ، وينفى الرّيب ، بعد تلك التجربة القاسية التي عاشها النبىّ ، وزوجه ، وصديقه الصديق ، وصحابته ، وصالحو المؤمنين ..

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فهذا أول مادة فى دستور هذا الأدب الربانىّ ، فى تزاور المسلمين ، وتواصلهم بلقاء بعضهم بعضا فى البيوت .. وهو ألّا يدخل أحد بيتا غير بيته حتى يستأنس ، ويسلم على أهله ..

والاستئناس ، هو طلب الأنس ، وإزالة الوحشة ، وذلك باستئذان أهل البيت ، ولقاء من يلقاه منهم على باب الدار ، فإذا لقيه أحد سلم عليه .. فإن أذن له بالدخول دخل ، وإن لم يأذن له رجع .. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى :

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ .. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

وفى قوله تعالى : (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي لا دخول

٤١٧

أبدا إلا بعد إذن .. فإن لم يكن أحد فى البيت فلا دخول أبدا .. وإن كان فى البيت أحد ، فلا دخول إلا بعد التسليم ، والإذن ..

وفى قوله تعالى : (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي هذا الموقف هو أزكى لكم ، وهو أن لا دخول أبدا إذا لم يكن أحد ، وأن لا دخول إذا كان أحد إلا بعد تسليم وإذن.

والضمير «هو» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى (فَارْجِعُوا) أي فالرجوع أزكى لكم ، فإن الدخول بغير إذن هو تطفّل ، وعدوان على حرمات غيركم ، فقد يكون عدم الإذن لكم راجعا إلى أن الذي تريدون لقاءه لا يريد لقاءكم ، أو قد يكون لأنه فى أمر لا يحبّ أن تطلعوا عليه منه .. أو نحو هذا .. فالبيوت ستر لأهلها ، ودخولها بغير إذن ابتداء ، هو أشبه باللصوصية ، أما إن كان الدخول بعد طلبكم الإذن ، ثم لم يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ ، فوق أنه تطفّل وصغار!

ـ وفى قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحذير لمن تحدثهم أنفسهم بانتهاك حرمات الله ، أو لا يأتمرون بهذا الأمر ، الذي أمرهم الله به ، وأدّبهم بأدبه.

قوله تعالى :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ).

هذا استثناء من الأمر العام بالاستئذان قبل دخول البيوت ، وبهذا الاستثناء يفهم أن المراد بهذه البيوت هى البيوت المسكونة ، وهى التي يكون الحرج واقعا على من يدخلها بغير إذن ..

أما البيوت غير المسكونة ، كالأمكنة العامة ، مثل النّزل ، والمطاعم ، ونحوها

٤١٨

فلا حرج فى دخولها بغير إذن .. إذ كانت طبيعتها لا تقتضى إذنا ، بل إنها تستدعى الواردين إليها ، وأبوابها مفتوحة لهم دائما ..

والمراد بالمتاع فى قوله تعالى : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) هو المنفعة والحاجة ، وليس المراد أن يكون لهم فيها أمتعة.

ـ وفى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) إشارة إلى أن هذا الأدب المطلوب رعايته فى دخول البيوت المسكونة ـ هو مما يقضى به الظاهر ، وليس امتثاله ، والدخول بعد الاستئذان ، مما يحلّ المؤمن من غضّ البصر ، ورعاية الحرمات ، وحفظ أسرار البيوت ، وما يطلع عليه الذي يدخلها من شئونها وما يجرى فيها ـ فإن لهذا كلّه حسابه عند الله ، الذي يعلم ما نخفى وما نعلن ، وهو يحاسب على كل ما نقول أو نعمل فى علن وسرّ ..

____________________________________

الآيات : (٣٠ ـ ٣١)

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١)

____________________________________

٤١٩

التفسير :

هاتان الآيتان تشرحان تلك الإشارة الخفية التي جاءت فى قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما فى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ ..) حيث جاءت الآيتان تدعوان إلى غضّ الأبصار ، وحفظ الفروج ، وهى أمور تقع غالبا فى خفاء وستر .. فجاءت الآيتان تصرحان بالأمر بما هو مطلوب من المؤمن ، والمؤمنة ، وهو غض البصر ، وحفظ الفرج ..

وقوله تعالى :

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ).

الخطاب موجّه إلى المؤمنين ، الذين هم بحكم إيمانهم بالله ، ومراقبتهم له ، أهل لأن يمتثلوا أمر الله ويستجيبوا له ..

وغضّ البصر ، هو كسره ، وعدم ملء العين من النظر إلى المحرمات من النساء ، مخالسة ، أو معالنة .. فإن النظر هو رسول الشيطان إلى تحريك الشهوة ، والدعوة إلى الفاحشة ..

وقدّم الرجال على النساء ، لأن النساء ، عورة ، والنظر إليهن يدعو إلى الفتنة أكثر من نظر النساء إلى الرجال ..

وقوله تعالى :

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى

٤٢٠