اعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

دكتور منير سلطان

اعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

المؤلف:

دكتور منير سلطان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية
الطبعة: ٣
ISBN: 977-103-297-6
الصفحات: ٢٩٢

الفصل الأول

الباقلانى

هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم (١) القاضى ، أبو بكر الباقلانى. البصرى. الملقب بسيف السنة ولسان الأمة ، المتكلم على لسان أهل الحديث وطريق أبى الحسن الأشعرى ، وإليه انتهت رئاسة المالكيين فى وقته.

لم يعيّن أحد من المؤرخين عام ولادته ، تلقى العلم على أعلام البصرة حيث ولد ، ثم رحل إلى بغداد ، فأخذ عن علمائها ، ثم اتخذها دارا لاقامته. حتى قضى نحبه.

وقد أتيح للباقلانى ، أن يتتلمذ لطائفة من العلماء كالأبهرى والقطيعى والشيرازى وابن مجاهد والباهلى ـ وكان الباهلى وابن مجاهد أعرف العلماء بمذهب الأشعرى وأشدهم فقها له. وعن الباهلى الأشعرى أخذ الأسفرايينى وابن فورك المذهب ، وعن أبى إسحاق الإسفرايينى أخذ أبو القاسم عبد الجبار الإسفرايينى ، وعنه أخذ إمام الحرمين وعن إمام الحرمين أخذ الغزالى ومنه انتشر المذهب انتشارا كبيرا (٢).

وأتاحت سرعة بديهة الباقلانى وطلاقة لسانه وغزارة بيانه أن يطير صيته فى الآفاق حتى وصل إلى أعلام شيراز ، وكانت شيراز فى ذلك الوقت حاضرة ملك أبى شجاع فنّاخسرو بن ركن الدولة البويهى وكان يلقب بعضد الدولة (٣) وظل الباقلانى مع عضد الدولة حتى مات عضد الدولة فى شوال سنة ٣٧٢ ه‍ وتولى

__________________

(١) رجعنا فى ترجمة حياة الباقلانى إلى : البغدادى ـ تاريخ بغداد ٥ / ٣٧٩. وابن العماد ـ شذرات الذهب ـ ٣ / ١٦٨ وابن عساكر تبيين كذب المفترى ٥٣ ـ والذهبى ـ سير أعلام النبلاء ١ / ١١٥ ، وابن خلكان ، وفيات الأعيان ١ / ٦٨٦ وفى الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى مطاعن له فى الباقلانى ١ / ١٤٣. وكذا فى الفصل لابن حزم ٢ / ١٣٧. وهذا وقد أفادتنا كثيرا مقدمة تحقيق كتاب (إعجاز القرآن) للباقلانى ، التى كتبها السيد أحمد صقر.

(٢) ابن زاهد الكوثرى ـ مقدمة تحقيق كتاب الإنصاف ـ للباقلانى ـ ١١.

(٣) الدكتور حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الإسلام ـ ٣ / ٣٧ وما بعدها.

١٠١

بعده ابنه صمصام الدولة ـ تلميذ الباقلانى ـ وتوفى الباقلانى فى يوم السبت لسبع بقين من ذى الحجة سنة ٤٠٣ ه‍.

الباقلانى وإعجاز القرآن :

كانت حياة الباقلانى تدور فى فلكين هما التدريس والتأليف وكلاهما شغل عليه وقته وملك كيانه. وقد دافع الباقلانى كثيرا عن القرآن وعن الإسلام ، ووقف أمام المهاجمين وقوفا صارما ـ ويدل على ذلك ما تركه من آثار مدونة. مثل كتابه (التمهيد) ويقول فى مقدمته «أما بعد ـ فقد عرفت إيثار سيدنا الأمير ... لعمل كتاب جامع مختصر مشتمل على ما يحتاج إليه فى الكشف عن معنى العلم وأقسامه وطرقه ومراتبه وضروب المعلومات وحقائق الموجودات ... وجواز إرساله «تعالى) رسلا إلى خلفه وسفراء بينه وبين عباده ، وأنه قد فعل ذلك وقطع العذر فى إيجاب تصديقهم ، بما أبانهم به من الآيات ، ودل به على صدقهم من المعجزات ، وجعل من الكلام على سائر أهل الملة المخالفين لملة الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وأهل التثنية وأصحاب الطبائع والمنجمين (١).

وله كتاب آخر وهو «الانتصار لصحة نقل القرآن ، والرد على من نحله الفساد بزيادة أو نقصان» وقال فى مقدمته (أما بعد. فقد وقفت. تولى الله عصمتكم وأحسن هدايتكم وتوفيقكم على ما ذكرتموه من شدة حاجتكم إلى الكلام فى نقل القرآن ، وإقامة البرهان على استفاضة أمره وإحاطة السلف بعلمه وانقطاع العذر فى نقله ، وقيام الحجة على الخلق به ، وأبطال ما يدعيه أهل الضلال من تحريفه وتغييره ودخول الخلل فيه ، وذهاب شىء كثير منه ، وزيادة أمور فيه ، وما يدعيه أهل الإلحاد وشيعتهم من منتحلى الإسلام ، من تناقض كثير منه وخلو بعضه من الفائدة وكونه غير مناسب وما ذكروه من فساد النظم ودخول اللحن فيه وركاكة التكرار وقلة البيان وتأخير المقدم وتقديم المؤخر ، إلى غير ذلك من وجوه مطاعنهم ، وذكر جمل مما روى من الحروف الزائدة والقراءات المخالفة لمصحف الجماعة والإبانة عن وهاء نقل ذلك وضعته ... ونحن بحول الله وعونه نأتى فى ذلك بجمل تزيل الريب والشّبهة (٢).

__________________

(١) الباقلانى ـ التمهيد ـ ص ١٢. تحقيق الأب ريتشارد مكارثى. بيروت ١٩٥٧ م.

(٢) السيد أحمد صقر ـ مقدمة تحقيق إعجاز القرآن للباقلانى ـ ٣٩.

١٠٢

وقد ذكر له ابن كثير كتابا بعنوان (كشف الأسرار وهتك الأستار فى الرد على الباطنية) (١).

وله فى الدفاع عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن النبوة كتاب «الفرق بين معجزات النبيين وكرامات الصالحين» وقد ذكره فى كتابه «هداية المسترشدين» قائلا «وقد بينا فى كتاب الفرق بين معجزات النبيين وكرامات الصالحين. معنى وصف النبى ، وأن من الناس من قال : أنه مشتق ومأخوذ من الإنباء عن الشيء والأخبار عن الله عزوجل» (٢).

وقد ذكر له الأستاذ السيد أحمد صقر فى مقدمة تحقيقه لكتاب (إعجاز القرآن) خمسة وخمسين كتابا فى مختلف فنون الكلام والفقه والرد على المخالفين.

ولو أضفنا إلى هذا الجهد كتابه (إعجاز القرآن) تبين لنا كيف دافع هذا المتكلم الأشعرى عن حومة الإسلام وأبلى بلاء عظيما.

ورأى الباقلانى فى الإعجاز ينحصر فى ثلاثة وجوه تكررت فى كتبه وهى : الإخبار عن الغيوب :

وأمّيّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعلوم من حاله أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.

وأن القرآن بديع النظم عجيب التأليف ، متناه فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه.

وقد بلور الباقلانى مسائل المدرسة الأشعرية ، وصاغ آراءها فى وضوح ودقة أمام آراء المدرسة الاعتزالية ، وبيّن أيضا أوجه الخلاف بين المدرستين فى مسائل جوهرية ، فى علم الكلام عامة ، وفى إعجاز القرآن بخاصة ، مما يتصل اتصالا وثيقا بأصول المبادئ عندهما.

ثم نجد الأشعريّين اللذين عالجا الإعجاز فى كتب متداولة ـ هما الباقلانى والجرجانى.

__________________

(١) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ ١١ / ٣٤٦ ح ١ السعادة ١٣٥١ ه‍ القاهرة.

(٢) المصدر السابق والصفحة.

١٠٣

والجرجانى قد شغله الجانب البلاغى ولم يفصّل القول فى الجانب الكلامى بالصورة التى ترينا الفروق بوضوح بين التفكير الاعتزالى والآخر الأشعرى.

ومن هنا تظهر لنا أهمية دراسة الجانب الكلامى عند الباقلانى.

يرى الباقلانى أن «الذى يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن أن نبوة نبينا عليه‌السلام بنيت على هذه المعجزة ، وأن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات كثيرة» (١) أى أننا نثبت إعجاز المعجز أولا حتى ننتقل منه إلى إثبات نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بينما نادى القاضى عبد الجبار بأن إثبات النبوة يجب أن يسبق إثبات إعجاز المعجز لأن النبوة حينما يتأكد منها الشاك ، سيتقبل بالتالى كل ما ورد عنها من معجزات (٢).

ولم ير الباقلانى فى القول بالصرفة وجها من وجوه الإعجاز ، يقول. فإن قيل ، فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرفهم فى أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم أن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه من هذه الطرق الغريبة ، كان على مثل نظم القرآن قادرا ، وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف ، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضربا من المنع ، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ، ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة ، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين ، لم يعجز عن نظم مثلهما ، وإذا قدر على ضم الثانية إلى الأولى ، وكذلك الثالثة ، حتى يتكامل قدر الآية أو السورة؟ فالجواب : أنه لو صحّ ذلك لصحّ لكل من أمكنه نظم ربع بيت أو مصراع من بيت أن ينظم القصائد ، ويقول الأشعار ، وصح لكل ناطق قد يتفق فى كلامه الكلمة البديعة ، نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة ، ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن ، على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع ، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه ، ومنع من مقدار الفصاحة فى نظمه ، وكان أبلغ فى الأعجوبة إذا صرفوا عن الاتيان بمثله ، ومنعوا عن معارضته وعدلت دواعيهم عنه ، فكان يستغنى عن إنزاله على

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٠.

(٢) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ١٥٢ وما بعدها.

١٠٤

النظم البديع ، وإخراجه فى المعرض الفصيح العجيب ، على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به عن الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف لأنهم لم يتحدّوا إليه ولم تلزمهم حجته. فلما لم يوجد فى كلام من قبله مثله ، علم أن ما ادعاه القائل بالصّرفة ظاهر البطلان (١) ولو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة ، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره فى نفسه (٢).

ويشرح الباقلانى مفهوم الإعجاز والمعجز عنه ، قائلا : معنى قولنا «إن القرآن معجز» على أصولنا ، أنه لا يقدر العباد عليه ، وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يصح دخوله تحت قدرة العباد ، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه ، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه ، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام ، فنحن لا نقدر على ذلك. وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة. وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا ، فلما لم يقدر عليه أحد شبّه بما يعجز عنه العاجز ، إنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز ، وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم ، وأن لا يقدروا عليه ، ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله ، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه ، فلما لم يشتغلوا بذلك علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم وأساليب نظامهم وزالت أطماعهم عنه (٣).

فحقيقة إعجاز القرآن عند الباقلانى ، أنه لا يقدر عليه العباد لأنهم لو قدروا عليه لبطل الإعجاز ، وقد أجرى الله أن يتعذر فعل ذلك منهم ، بينما وجدنا القاضى عبد الجبار فى رفضه للصرفة يقول «أنا نقول إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم بأنها غير ممكنة ، على ما دللنا عليه ، ولو لا علمهم بذلك لم

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٩.

(٢) نفس المصدر ـ ٣٠.

(٣) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٨٨ و ٢٨٩.

١٠٥

تكن لتنصرف دواعيهم ، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة» (١).

ونشير إلى ذلك ، لأن حقيقة المعجز عند الباقلانى ـ تؤدى إلى الصرفة ـ بالرغم من ظهور التخفيف منها الذى يصبغ شرحه لرأيه ، والفرق بين القاضى والباقلانى ـ أن القاضى فتح باب التجربة الانسانية أمام إعجاز القرآن ـ فأدت النتيجة إلى انصراف ـ بينما جعل الباقلانى الباب موصدا من البدء أمام المحاولة. فعنده أن الله تعالى قد وفق العرب إلى قدر من البلاغة ، ولكنه أقدرهم على حد محدود ، وغاية فى العرف مضروبة لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا (٢).

وقد أنكر الباقلانى ، القول بالصرفة ، ولكنه استدار إليها وعرضها فى ثوب آخر ، والنتيجة واحدة ، فيما يظهر لى.

وعن قدر المعجز من القرآن عند الباقلانى يقول : الذى ذهب إليه عامة أصحابنا ، وهو قول الشيخ أبى الحسن الأشعرى فى كتبه : أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة. قصيرة كانت أو طويلة. وما كان بقدرها (٣).

والقرآن غير مخلوق ومعجز يقول الباقلانى : قال قيل : فهل تزعمون أنه معجز ، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه أو لأنه عبارة عنه «ولأنه قديم فى نفسه؟ قيل : لسنا نقول بأن الحروف قديمة ، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضا : أن وجه الإعجاز فى نظم القرآن من أجل أنه حكاية عن كلام الله لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عزوجل معجزات فى النظم والتأليف وقد بينا أن إعجازها فى غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة ومنفردها ، وقد ثبت خلاف ذلك» (٤) إذن «فالإعجاز فى نظم الحروف التى هى دلالات وعبارات عن كلامه (تعالى) وإلى مثل هذا النظم وقع التحدى» (٥) ويقول الباقلانى : وقد جوّز

__________________

(١) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ٣٢٤.

(٢) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٨٩.

(٣) نفس المصدر ـ ٣٥٤.

(٤) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٤٧.

(٥) نفس المصدر ـ ٢٦١.

١٠٦

بعض أصحابنا أن يتحداهم ، بمثل كلامه القديم القائم بنفسه (١). ولكنه يستدرك بأن مذهب الجمهور الأشعرى هو ما حكاه وأما الكلام القديم ، فليس هو حروف منظومة ، أو حروف غير منظومة ، أو شىء مؤلف أو غير ذلك (٢).

والمعروف أن القرآن ، كلام الله غير مخلوق عند الأشاعرة. وهم قد عرفوا كلامه تعالى بأنه (معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى ، قديم ... ولا نزاع بين الشيخ والمعتزلة ـ كما يقول الإيجى ـ فى حدوث الكلام اللفظى ، وإنما نزاعهم فى إثبات الكلام النفسى وعدمه) (٣).

وبعد ـ فقد كانت هذه الوقفات هى أبرز أفكار الباقلانى. والأشاعرة معه ـ حين عالج الإعجاز ، وقد تتيح لنا أن ندرك أوجه الخلاف بين الفكرين ، ولكن أعتقد أن هذا لن يتسنى لنا إلا بعد أن نستعرض جهود الباقلانى فى الجانب البلاغى ثم جهود الجرجانى بعده كلاما وبلاغة أيضا.

وقد أنفق الباقلانى جهدا فى سبيل إظهار الجانب الفنى فى القرآن ، فبعد أن تكلم عن جانب تضمن القرآن للإخبار عن الغيوب ، وأنه كان معلوما من حال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ ، أخذ يعالج الوجه الثالث من وجوم الإعجاز وهو أنه بديع النظم عجيب التأليف ، متناه فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه.

وبديع النظم المتضمن لإعجازه ، ينقسم عند الباقلانى إلى وجوه عشرة ، نذكرها كما وردت فى كتابه الاعجاز :

أولا : أن القرآن فى جملته خارج عن المعهود من نظام جميع كلام العرب ، وترتيبه يختلف عن ترتيبهم ، فليس هو شعرا على اختلاف أنواعه ، ولا موزونا غير مقفى ، ولا معدّلا مسجوعا ، ولا معدلا موزونا غير مسجوع ، ولا مرسلا إرسالا ، ولا هو من باب السجع ولا فيه شىء منه. وليس كذلك من قبيل الشعر ولا مرتبا

__________________

(١) نفس المصدر ـ ٢٦٠.

(٢) نفس المصدر ـ ٢٦١.

(٣) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين ـ تحقيق الدكتور سليمان دنيا ـ ٢ / ٥٨٨ (شرح العقائد العضدية).

١٠٧

ترتيبهم خطابهم ، ولا متبعا أسلوبهم ، ولكنه قرآن خارج عن العادة ، معجز.

ثانيا : إن الشاعر قد يجوّد فى المدح دون الهجو ، ومنهم من يسبق فى طويلة جعلته ينفرد بهذا ويتميز على قول الحكيم وشعر الشاعر وخطبة الخطيب ، فليس عندهم القدرة على الإتقان بهذه الدرجة ثم القدرة على الاستمرار فى هذا الإتقان.

ثالثا : إن الشاعر قد يجود فى المدح دون الهجو ، ومنهم من يسبق فى التقريظ دون التأبين ، أو فى الوصف غير النسيب ، وكذا الكتاب البلغاء منهم عاجزون فى ميدان الشعر ، ونرى الخطباء الأبيناء قد لا يتمكنون من نظم بيت ، وغير ذلك. فلكلّ قدرته ، أما القرآن فقد تصرف فى مختلف الوجوه من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وإعذار وإنذار ووعيد وتبشير وتخويف بدرجة لا تتفاوت فى الدقة ولا تقل فى الإبداع.

رابعا : إن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا فى الفصل والوصل والعلو والنزول والتقريب والتبعيد ، وغير ذلك ، مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم بينما نجد القرآن على اختلاف فنونه ، وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة ، والطرق المختلقة ، يجعل المختلف كالمؤتلف والمتباين كالمناسب ، والمتنافر فى الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب.

خامسا : نظم القرآن وقع موقعا فى البلاغة يخرج عن عادة الكلام الجن كما يخرج عن عادة كلام الأنس فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ، ثم يتصور الباقلانى أن أحدهم يعترض على إدخال الجن فى دائرة المحاولة والخطأ ، فيورد بعض الأبيات التى تثبت المحاورات التى قامت بين الشعراء والغيلان؟

سادسا : أن الذى ينقسم إليه الخطاب من البسط والاقتصار ، والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من الوجوه فى كلامهم موجود فى القرآن.

سابعا : أن المعانى التى تضمنها فى أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات فى أصل الدين والرد على الملحدين ، على تلك الألفاظ ، وموافقة بعضها بعضا فى اللطف والبراعة ، مما يتعذر على البشر ويمتنع.

١٠٨

ثامنا : أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر منه الكلمة فى تضاعيف كلام أو تقذف ما بين شعر ، فتأخذها الأسماع ، وتتشوف إليها النفوس ، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به كالدرة التى ترى فى سلك من خرز ، وكالياقوت فى واسطة العقد.

تاسعا : أن الحروف التى بنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا ، وعدد السور التى افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة ، وجملة ما ذكر من هذه الحروف فى أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة ، وهو أربعة عشر حرفا ، ليدل بالمذكور على غيره وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التى ينظمون بها كلامهم.

عاشرا : أنه سهّل سبيله ، فهو خارج عن الوحشى المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصفة المتكلفة وجعله قريبا الى الأفهام ، وهو مع ذلك ممتنع المطلب عسير المتناول غير مطمع مع قربه فى نفسه ولا موهم مع دنوّه فى موقعه ، أن يقدر عليه أو يظفر به (١).

وهذه الوجوه البلاغية بالإضافة إلى أنها من الممكن أن يندرج الفرع منها تحت الأصل ، فينكمش عددها ـ نجد أنها تخدم فكرة كبيرة واضحة هى أن لنظم القرآن موقعا فى البلاغة يخرج عن عادة كلام الأنس كما يخرج عن عادة كلام الجن ، وذلك هو الوجه المذكور فى (خامسا) والذى قد ورد بصور مختلفة فى كل وجه من الوجوه العشرة التى عدد فيها الباقلانى الإعجاز البلاغى للقرآن.

وقد نفى الباقلانى الشعر عن القرآن (٢) ثم نفى السجع أيضا ـ وفى السجع كثرت الأقوال ـ قال الباقلانى «ذهب أصحابنا كلهم إلى نفى السجع من القرآن ، وذكره أبو الحسن الأشعرى فى غير موضع من كتبه ، وذهب كثير ممن يخالفهم إلى اثبات السجع فى القرآن وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام ، وأنه من الأجناس التى يقع فيها التفاضل فى البيان والفصاحة كالتجنيس والالتفات

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٣٥ إلى ٤٧ وما بعدها.

(٢) نفس المصدر ـ من ٥١ إلى ٥٦.

١٠٩

وما أشبه ذلك من الوجوه التى تعرف بها الفصاحة» (١) ثم قال «وهذا الذى يزعمونه غير صحيح ، فلو كان القرآن سجعا ، لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ولو كان داخلا فيها ، لم يقع بذلك إعجاز ، ولو جاز أن يقولوا : هو سجع ، لجاز أن يقولوا : شعر معجز ، كيف؟ والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر ، لأن الكهانة تتنافى مع النبوات ، وليس كذلك الشعر» (٢).

وقد عقد الباقلانى فصلا طويلا من كتابه وكان فى «ذكر البديع من الكلام» (٣) لأنه تصور أن سائلا يسأل : هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تضمنه من البديع؟ فيجيب ، بأن البديع بأشكاله المتعددة «ليس فيه ما يخرق العادة ، ويخرج من العرف ، بل يمكن استدراكه بالتعلم ، والتدريب به والتصنع له كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق فى البلاغة ، وله طريق يسلك ، ووجه يقصد وسلّم يرتقى فيه إليه ، ومثال قد يقع طالبه عليه ، فربّ إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا وآخر يتعود أن يكون جميع كلامه سجعا ، أو صنعة متصلة ، لا يسقط من كلامه حرفا ، وقد يتأتى له ما قد تعوده .. فأما شأو نظم القرآن فليس له نظام يحتذى عليه وإمام يقتدى به ، ولا يصحّ وقوع مثله اتفاقا ، كما يتفق للشاعر البيت النادر والكلمة الشاردة ، والمعنى الفذ الغريب والشيء القليل العجيب» (٤).

ثم يعود مقيّدا هذا الكلام الذى أطلقه معترفا بنصيب القرآن من البديع قائلا «وإنما لم نطلق القول إطلاقا لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه خاصة ووقفا عليها ومضافا إليها وإن صحّ أن تكون هذه الوجوه مؤثرة فى الجملة آخذة بحظها فى الحسن والبهجة» (٥).

وما ذكره هنا جاء فى خاتمة عرض طويل عن الألفاظ التى تضمنت بعض أنواع

__________________

(١) نفس المصدر ـ ٥٧.

(٢) نفس المصدر ـ ٥٧ و ٥٨.

(٣) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٦٦.

(٤) نفس المصدر ـ ١١١ و ١١٢.

(٥) نفس المصدر ـ ١١٢.

١١٠

البديع. فى حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى كلام البلغاء ثم تلاها بذكر طائفة من طرق البديع الكثيرة التى اشتمل عليها مع بيان معانيها وذكر شواهد لها أيضا من القرآن الكريم ، وكلام البلغاء ، واعتبر هذا العرض توطئة للدخول فى شرح كيفية الوقوف على إعجاز القرآن (١) وفيه يبين أن جهد الأعجمى فى إدراك الإعجاز ، إذا أراد إدراكه أن يعرف أن أهل اللسان أنفسهم عاجزون ، إذن فهو أعجز منهم فى ذلك بالضرورة ، أما العربى ذو الدرجة الوسطى فى الفصاحة ، فيرى الباقلانى أن شأنه لا يختلف كثيرا ، فهو ومن ليس من أهل اللسان ، سواء ، وأما من كان قد تناهى فى معرفة اللسان العربى ووقف على طرقها ومذاهبها فهو يعرف القدر الذى ينتهى إليه وسع المتكلم من الفصاحة ، ويعرف ما يخرج عن الوسع ، ويتجاوز حدود القدرة فليس يخفى عليه إعجاز القرآن كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر وكما يميز بين الشعر الجيد والردىء والفصيح والبديع والنادر والبارع والغريب (٢).

فمبلغ ما يصل إليه المتناهى فى الفصاحة أن يدرك أنه عاجز أمام القرآن وروعته.

وأخيرا يحدد المنهج الذى سيسير عليه للوصول إلى إثبات الاعجاز القرآنى ، وهو منهج مقارن ، استعرض فيه أولا نتاج الشعراء والكتاب والبلغاء والآراء المختلفة فيه ، وفرّق بين غثّه وسمينه ثم حدد مهمة الناقد ، وإنها لجليلة ، إذ تتلخص فى كشف الخصائص الذاتية للنتاج الأدبى مهما تشابه مع نتاج آخر فى النوع أو فى الخاصية ، وألقى على النقاد عبئا ثقيلا ، فهم الوحيدون الذين يدركون إعجاز المعجز عن طريق دراساتهم المستفيضة فى أسرار نتاج البشر ، وما نتاجهم بمعجز ، ولكن عن طريقه يدرك المعجز لذا ، يضع أمام الناقد أمثلة توضح له «الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية الطالع عن الإلهية» وبين الكلام البشرى ، شعرا ونثرا ، ليبين له وجه النقص فيه ويدله على انحطاط رتبته ووقوع أبواب الخلل فيه (٣).

وتطبيقا لهذا المبدأ المقارن ، قدم الباقلانى نموذجا لخطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكتب النبى إلى كسرى والنجاشى ولنسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية ،

__________________

(١) نفس المصدر ـ ١١٣.

(٢) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١١٣.

(٣) نفس المصدر ـ ١٢٦.

١١١

وفى النهاية ، يقرر النتيجة التى وصل إليها وهى «أن نظم القرآن من الأمر الإلهى ، وأن كلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر النبوى» (١).

أما إذا أراد هذا الدارس مزيدا من البيان فعليه أن يتأمل ما سينسخه له الباقلانى من خطب الخلفاء الراشدين والصحابة والخطباء البلغاء ليقع له «الفضل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين ، ويعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين» (٢).

وليس الأمر مقصورا على فن النثر فقط ، فالشعر كذلك «لا يمتنع أن يكون أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة» (٣).

وهنا أيضا يقارن ـ بين شعر أجود الشعراء وبين كلام رب العالمين ، واختار قصيدة شهيرة لشاعر معروف وهى (قفانبك) لامرئ القيس. ويقول الباقلانى «أنت لا تشكّ فى جودة شعر امرئ القيس ، ولا ترتاب فى براعته ولا تتوقف فى فصاحته ، وتعلم أنه قد أبرع فى طرق الشعر أمورا أتّبع فيها من ذكر الديار والوقوف عليها إلى ما يتصل بذلك من البديع الذى أبدعه التشبيه الذى أحدثه ... ونظم القرآن جنس متميز وأسلوب متخصص ، وقبيل عن النظير متخلص ، فإذا شئت أن تعرف عظيم شأنه فتأمل فى هذا الفصل لامرئ القيس فى أجود أشعاره وما نبين لك من عواره على التفصيل ، وذلك فى قوله (قفانبك) (٤).

ثم ينتقل إلى الوجه الآخر من المقارنة ، فيقول عن القرآن «فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه ، فإن العقول تتيه فى جهته ، وتحار فى بحره ، وتضل دون وصفه» (٥) ويحلل بعض الآيات الكريمة «ما رأيك فى قوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٣٦.

(٢) نفس المصدر ـ ١٥٣.

(٣) نفس المصدر ـ ١٥٥.

(٤) نفس المصدر ـ ١٥٨ و ١٥٩.

(٥) نفس المصدر ـ ١٨٣.

١١٢

نِساءَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ») [القصص ـ ٤] هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى ، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ، ورونقها على ما تعاين ، وفصاحتها على ما تعرف ، وهى تشتمل على جملة وتفصيل ، وجامعة وتفسير ، ذكر العلوّ فى الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبى النساء ، وإذا تحكّم فى هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم ، والقلوب لا تقرّ على هذا الجور (١).

وإذا قال قائل للباقلانى ، لما ذا تحاملت على امرئ القيس هكذا ، ورأيت أن شعره بين اللين والشراسة ، وبين اللطف والشكاسة ، والبحترى يسبق فى هذا الميدان ، ويفوت الغاية فى هذا الشأن ... وكذلك لأبى نواس من بهجة اللفظ ودقيق المعنى ما يتحير فيه أهل الفضل؟ يجيبه الباقلانى بدراسة أخرى للبحترى ـ ذلك الذى يفضّله الكتاب على أهل دهره ويقدمونه على من فى عصره ، ومنهم من يدعى له الإعجاز غلوا ـ يستدير إليه الباقلانى ، بعد أن يكمل هجماته على امرئ القيس بأخرى مثلها ، وبعدها ، يتعرض لأبى نواس ويذكر سقطه ، ثم لا يجد ابن الرومى وأبا تمام أهلا لدراسته ، لذا تركهم وتفرغ لقصيدة البحترى :

أهلا بذلكم الخيال المقبل

فعل الذى نهواه أم لم يفعل (٢)

لينتهى بعد تحليلها إلى النتيجة نفسها وهى «هيهات ، أن يكون المطموع فيه ، كالمأيوس منه ، وأن يكون الليل كالنهار ، والباطل كالحق ، وكلام رب العالمين ككلام البشر (٣)».

ثم يعرض الباقلانى لوصف وجوه من البلاغة ، قد ذكرها ـ على حد قوله ـ بعض أهل الأدب والكلام (٤) ـ ويقصد به معاصره المعتزلى أبا الحسن الرمانى صاحب «النكت فى إعجاز القرآن» ـ ويذكر الباقلانى أنها على عشرة أقسام

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٩٣.

(٢) نفس المصدر ـ

(٣) نفس المصدر ـ ٢١٩.

(٤) نفس المصدر ـ ٢٦٢.

١١٣

هى الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والمبالغة وحسن البيان.

ولا يرى الباقلانى رأى الرمانى فى أن البلاغة تصلح أن تكون وجها من وجوه الاعجاز ، لأن البديع ، يمكن الوقوع عليه والتعمل له ، ويدرك بالتعلم ، فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به ، وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات ، فذلك هو الذى يدل على إعجازه ، وهذا الفارق ـ الذى يفصل رأى الباقلانى عن رأى الرمانى ـ يشرحه الباقلانى قائلا «أننا إذا قلنا : ما وقع من التشبيه فى القرآن معجز ، عرض علينا من التشبيهات الجارية فى الأشعار ما لا يخفى عليك ، وأنت ترى فى شعر ابن المعتز من التشبيه الذى يشبه السحر ، وقد تتبّع فى هذا ما لم يتتبّع غيره ، واتّفق له ما لم يتّفق لغيره من الشعراء. وكذلك كثير من وجوه البلاغة ، قد بينا أن تعلمها يمكن ، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره ، فإن كان أنما يعنى هذا القائل ـ يقصد الرمانى ـ أنه «إذا أتى فى كل معنى» يتفق فى كلامه بالطبقة العالية ، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض ، وينتهى منه إلى متصرفاته ، على أتم البلاغة وأبرع البراعة ، فهذا مما لا نأباه ، بل نقول به ، إنما ننكر أن يقول قائل ، أن بعض هذه الوجوه بانفرادها ، قد حصل فيه الإعجاز ، من غير أن يقارنه بما يصل به من الكلام ، ويفضى إليه مثل ما يقول ، إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز ، وأن التشبيه معجز ، وأن التجنيس معجز ، والمطابقة بنفسها معجزة ، فأما الآية التى فيها ذكر التشبيه ، فإن ادّعى إعجازها ، لألفاظها ونظمها وتأليفها ، فإنى لا أدفع ذلك ، وأصححه ، ولكن لا أدعى إعجازها لموضوع التشبيه ، وصاحب المقالة التى حكيناها ـ أى الرمانى ـ أضاف ذلك إلى موضع التشبيه ، وما قرن به من الوجوه (١).

وأخيرا ، لا يظن ظان أن فى كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قدرا من الإعجاز ، إذ هو مثل كلام البلغاء ، والذى بينه وبين كلام الفصحاء ، كقدر ما بين شعر الشاعرين وكلام الخطيبين فى الفصاحة وذلك مما لا يقع به الإعجاز (٢).

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٧٥ و ٢٧٦.

(٢) نفس المصدر ـ ٢٩١.

١١٤

وبهذا يختتم الباقلانى مجهوده القيم فى كتابه «إعجاز القرآن» ويرى الدكتور شوقى ضيف فى الباقلانى أنه «أول من هاجم فى قوة إعجاز القرآن عن طريق تصوير ما فيه من وجوه البديع وأيضا ، وجوه البلاغة التى أحصاها الرمانى ، ومن هنا تأتى أهميته ، إذ أعد للبحث عن أسرار فى نظم القرآن من شأنها ـ حين توضح توضيحا دقيقا ـ أن تقف الناس على إعجازه ـ ثم يقول ـ وأن كنّا نلاحظ فى الوقت نفسه ، أنه لم يستطع أن يصور شيئا من هذه الأسرار ، إذ ظلت الفكرة عنده غامضة ، وظلت مستورة فى ضباب كثيف (١).

وهذا صحيح ، ولكن هناك وقفات طيبة للباقلانى فى بيان إعجاز القرآن التفت لها وفصّل القول فيها.

منها كلامه عن : التأثير النفسى للقرآن.

وعن : قوة التعبير القرآنى وصدقه لصدوره عن الله سبحانه.

وعن : الوحدة الفنية فى القرآن.

يقول الباقلانى «فالقرآن أعلى منازل البيان ، وأعلى مراتبه ، ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه : من تعديل النظم وسلامته وحسنه وبهجته .. ، وإذا علا الكلام فى نفسه ، كان له من الوقع فى القلوب والتمكن فى النفوس ما يذهل ويبهج ويقلق ، ويطمع ويؤيس ، ويضحك ويبكى ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجى ويطرب ، ويهز الأعطاف ، ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحية والعزة ، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ، ويرمى السامع من وراء رأيه بعيدا ، وله مسالك فى النفوس لطيفة (٢) ومداخل إلى القلوب دقيقة».

والجانب النفسى ، هو الجانب الذى يجب أن يأخذ مكانه فى دراسات إعجاز القرآن ، ويجب ألا يعتبر جزأ من جوانب ، لأنه قائم بذاته له حيز بعينه فى إعجاز القرآن.

__________________

(١) الدكتور شوقى ضيف ـ البلاغة تطور وتاريخ ـ ١١٤.

(٢) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٧٦ و ٢٧٧ وانظر القصة التى يتمثل بها على صدق الأثر النفسى ص ٢٧ و ٢٨.

١١٥

وأما عن قوة التعبير القرآنى وصدقه لصدوره عن الله سبحانه ، فنستطيع أن نتبينها إذا نظرنا إلى نتاج الشعراء أو الكتاب ، فنحن حين نقرأ لعنترة أو لأبى فراس أو للمتنبى شعرا فى الشجاعة والبطولة والحروب نجد لشعرهم صدقا ونبضا وحياة نابعة من طبيعتهم الشجاعة ومن ممارستهم للحروب ، والأمر يختلف لو قرأنا لابن الرومى شعرا فيه أنه جال وصال وفتك بالأعداء ، وكذا لأبى نواس ولحماد عجرد وغيرهم ممن لم يكن لهم فى الحرب باع.

أى أن هناك لونا من التعبير يصدق فيه الشاعر مع نفسه حين يتعرض له لأنه يتفق وطبيعته ، ويجد نفسه منطلقة فى سلاسة وسهولة بلا تصنع ولا كذب. يقول الباقلانى : ألا ترى أن الشعر فى التغزل إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن ، وإذا صدر عن متعمّل وحصل من متصنع نادى على نفسه بالمداجاة ، وأخبر عن خبيئه بالمراياة ، وأنت تجد لابن المعتز فى موقع شعره من القلب فى الفخر وغيره ما لا تجده لغيره إذا قال :

إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا

وسارت ورائى هاشم ونزار

وعم السّماء النّقع حتى كأنه

دخان وأطراف الريّاح شرار

تعلم أنه ملك الشعر ، وأنه يليق به من الفخر خاصة ، ثم يتبعه مما يتعاطاه ، ما لا يليق بغيره ، بل ينفر عن سواه ، وكما ترى فى قول أبى فراس الحمدانى فى نفسك اذا قال :

ولا أصبح الحىّ الخلوف بغارة

ولا الجيش ما لم تأته قبلى النّذر

والشيء إذا صدر من أهله ، وبدأ من أصله ، وانتسب إلى ذويه ، سلم فى نفسه ، وبانت فخامته ، وشواهد أثر الاستحقاق فيه ، وإذا صدر من متكلف ، وبدأ من متصنع ، بان أثر الغربة عليه وظهرت مخايل الاستيحاش فيه ، وعرف شمائل التحير منه (١).

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٧٧ إلى ٢٨٠.

١١٦

وهذه القوة النابعة من الصدق تنطبق انطباقا على النظم القرآنى ، وتعتبر سرا من أسرار إعجازه ، فهو أثر من نبع علوىّ ، وقطرة من فيض سماوى ، والحديث فيه غريب عجيب ، لأنه من مكمنه ، من مصدر المصادر ، ومبدع الخلائق ، ومكوّن الأكوان ، من الله ، تعالى جدّه ، وجلّت قدرته وتعظّم اسمه.

فجمع القرآن قوة لصدقه ، وقوة لصدق قائله ـ تعالى الله ـ وقوة لصدق مبلّغه صلوات الله عليه وسلامه ، وقوة لخلوده ودوامه ، مع احتفاظه بكل درجات الغرابة والعجب والإبداع ، بالرغم من توالى السنين بالمئين.

ومما يسترعى النظر فى دراسة الباقلانى لإعجاز القرآن ، اعتباره للوحدة الفنية فيه ، وإشادته بقيمتها وبقدرتها على الإبانة.

فهو يعتبر القرآن كلا متكاملا له خصائصه ، وكذلك يعتبر السورة منه ، فيقوم بتحليلها متدرّجا فيها ليظهر ما ينطوى عليه من خصائص فى النظم لا تقتصر على مجرد روعة استعارة وجمال تشبيه يرد فى الآية أو فى عبارة قصيرة ، بل ينصب إعجازه عليه جملة لا تفصيلا ، فالسورة ـ لا الآية ـ أصغر وحدة فنية فى القرآن ، ويمكن الحكم بها على إعجازه فى النظم ، لأنها فى حد ذاتها يمكن أن تتوافر لها شروط الإعجاز كاملة.

وبذلك يكون الباقلانى قد خرج على منهج السابقين وآرائهم ودراساتهم حين اعتبروا الآية أو العبارة أو بيت الشعر أو شطره أساسا لبحوثهم النقدية البلاغية ، ثم لأحكامهم فى بيان القرآن. ونستشهد فى ذلك بتحليله لسورة النحل (١) وسورة غافر (٢).

نموذج من تحليل الباقلانى للروعة فى آيات الذكر الحكيم :

يقول الباقلانى ، حينما يريد أن يضع أيدينا على أسرار الإعجاز فى القرآن أنه «ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبّق الأرض أنواره ، وجلل الآفاق ضياؤه ، ونفذ فى العالم حكمه ، وقبل فى الدنيا رسمه ، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٩١ إلى ١٩٤.

(٢) نفس المصدر ـ ١٩٧ إلى ٢٠٠.

١١٧

مضروب الرّواق ، ممدود الأطناب ، مبسوط الباع ، مرفوع العماد ، ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته ، أو يعبده حق عبادته ، أو يدين بعظمته ، أو يعلم علو جلالته ، أو يتفكر فى حكمته ، فكان كما وصفه الله تعالى ، جل ذكره من أنه نور ، فقال (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى ـ ٥٢] فانظر ـ إن شئت ـ إلى شريف هذا النظم ، وبديع هذا التأليف ، وعظيم هذا الرّصف ، كل كلمة من هذه الآية تامة ، وكل لفظ بديع واقع ، قوله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يدل على صدوره من الربوبية ، ويبين عن وروده عن الإلهية ، وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها ، كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير ، تميّز عن جميعه ، وكان واسطة عقده وفاتحة عقده ـ وغرّة شهره وعين دهره. وكذلك قوله (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ، فجعله روحا لأنه يحيى الخلق ، فله فضل الأرواح فى الأجساد ، وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس فى الآفاق ، ثم أضاف وقوع الهداية به. إلى مشيئته ، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته ويبين أنه لم يكن ليهتدى إليه لو لا توفيقه ، ولم يكن ليعلم ما فى الكتاب ولا الإيمان لو لا تعليمه ، وأنه لم يكن ليهتدى فكيف كان يهدى ـ لولاه ، فقد صار يهدى ولم يكن من قبل ذلك ليهتدى ، فقال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى ـ ٥٣] فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان ، وقوله (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) كلمة منفصلة مباينة للأولى ، فقد صيرها شريف النظم أسدّ ائتلافا من الكلام المؤالف ، وألطف انتظاما من الحديث المتلائم ، وبهذا يبين فضل الكلام وتظهر فصاحته وبلاغته ، والأمر أظهر ، والحمد لله ، والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف (١).

وهذا التحليل الذى قدمناه للباقلانى ، إذا عدنا الى خيوطه ، أحسب أنه قد أراد ما أراده الجرجانى بعده من فكرة النظم ولكنه وقع دونه. وهذا لا يقدح فى

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٨٦ و ١٨٧.

١١٨

الباقلانى ، وفى كونه قدّم جهدا جادا ، ومحاولة لها قيمتها وأثرها فى الإعجاز ، وما من محاولة إلا ولها وعليها.

وهو ـ متكلما أشعريا ، التقى بالمعتزلة ، فى نقطة خلاف ، التقى بالجاحظ فهاجمه ، والتقى بالرمانى فنقض رأيه فى الإعجاز.

الباقلانى والجاحظ والرمانى :

الملاحظ أن هناك أكثر من رابط يجمع الباقلانى بالجاحظ والرمانى ، فثلاثتهم متكلمون نافحوا عن حومة الاسلام ، وثلاثتهم تركوا مؤلفات فى إعجاز القرآن لها شأنها ، ثم ، الباقلانى أشعرى ، والآخران معتزليان ـ والأشاعرة كانوا معتزلة فى بدء أمرهم ـ بالإضافة إلى هذا ، أن الباقلانى كتب كتابا فى إعجاز القرآن ، نقد فيه الجاحظ ، كما نقد فيه الرمانى.

أولا : الباقلانى والجاحظ :

فى الصفحة السادسة من كتاب إعجاز القرآن. يقول الباقلانى وقد صنّف الجاحظ فى نظم القرآن كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله ، ولم يكشف عما يلتبس فى أكثر هذا المعنى».

والباقلانى يقصد بهذا كتاب الجاحظ الذى حدثنا عنه فى كتابه خلق القرآن قائلا : «اجتهدت فيه نفسى وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن ، والرد على كل طعّان ، فلم أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى ولا لحشوى ولا لكافر مباد ولا لمنافق مقموع ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ، ممن يزعمون أن القرآن خلق وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة» (١) وعن نفس الكتاب يقول الخياط «ولا يعرف كتاب فى الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه ، وأنه حجة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نبوته غير كتاب الجاحظ» (٢).

__________________

(١) الجاحظ ـ خلق القرآن ٣ / ٢٨٧ ط هارون.

(٢) الخياط ـ الانتصار ـ ١٥٤ و ١٥٥.

١١٩

ولا نستطيع أن ندفع قول الباقلانى بهذين النصين ، فقد يكونان من باب المبالغة فى التكريم ، ولو كان كتاب الجاحظ بين أيدينا لاستطعنا أن نعقد مقارنة بين ما ورد فى الكتابين.

ولنقرأ الآن وجهة الباقلانى فى نقده للجاحظ. يقول «وليس لقائل أن يقول. قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب ، ويبلغ أمره فى الفصاحة والنظم العجيب. ولا يبلغ عندكم حد المعجز ، فلم قضيتم به فى القرآن دون غيره من الكلام؟ ثم يأخذ الباقلانى فى الرد بأن كل الأعمال المشهورة للأدباء المعروفين ، إذا تأملناها سنجد أنها تحتوى على ضعف وخلل غير موجودين فى القرآن ، وهذا الجاحظ ، قد يزعم الزاعمون أن كلام الجاحظ من السّمت الذى لا يؤخذ فيه ، والباب الذى لا يذهب عنه ، وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ، ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا ، حتى يستعين بكلام غيره ، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه : من بيت سائر ومثل نادر وكلمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة ، وأما كلامه فى أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة ، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شىء يستعين به ـ فيخلط بقوله من قول غيره ـ كان كلاما ككلام غيره. فان أردت أن تحقق هذا فانظر فى كتبه ، فى «نظم القرآن» وفى «الرد على النصارى» وفى «خبر الواحد» وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى ، هل تجد فى ذلك كله ورقة واحدة تشتمل على نظم بديع أو كلام مليح؟ على أن متأخرى الكتاب قد نازعوه فى طريقته ، وجاذبوه على منهجه ، فمنهم من ساواه حين ساماه ، ومنهم من أبر عليه إذ باراه ، هذا «أبو الفضل ابن العميد» ، قد سلك مسلكه وأخذ طريقه ، فلم يقصّر عنه ، ولعله قد بان تقدمه عليه ، لأنه يأخذ فى الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ، ويكملها على شروط صنعته ولا يقتصر على أن يأتى بالأسطر من نحو كلامه ، كما ترى الجاحظ يفعله فى كتبه ، متى ذكر من كلامه سطرا ، أتبعه من كلام الناس أوراقا ، وإذا ذكر صفحة ، بنى عليه من قول غيره كتابا (١).

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٤٧ و ٢٤٨.

١٢٠