الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢)

من لزام الايمان بالله ذكر الله ، وكما الايمان ليس له حد او زمان او مكان او حالة خاصة ، كذلك ذكر الله على كل حال ، ف ـ «ما من شيء إلا وله حد ينتهي اليه إلا الذكر فليس له حد ينتهي اليه ، فرض الله عز وجل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن وشهر رمضان فمن صامه فهو حده ، والحج فمن حج فهو حده ، إلا الذكر فان الله عز وجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدا ينتهي اليه ..» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٨٤ ح ١٤٧ في اصول الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن جعفر بن محمد الاشعري عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ... ثم تلا آية الذكر فقال : لم يجعل الله له حدا ينتهي اليه قال : وكان أبي (عليه السلام) كثير الذكر لقد كنت امشي معه وانه ليذكر الله وآكل معه الطعام وانه ليذكر الله ولقد كان يحدث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله وكنت ارى لسانه لازقا بحنكه يقول : لا اله الا الله وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ويأمر ـ

١٦١

والذكر في الأصل حالة في القلب تظهر في مظاهر الأقوال والأفعال ، ولان اللسان يتأثر بالقلب في ذكره والقلب يؤثر فيه ، لذلك يسمى ذكره ذكرا وإلا فليس إلّا لقلقة البغبغاء ـ

و «لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ، ولكن ذكر الله عند ما أحل له وذكر الله عند ما حرم عليه» (١). فاشتغال اللسان بذكر الله والقلب لاه والعمل متخلف عن شرعة الله ، إنه ليس ذكرا ، بل هو مهانة واستهتار بالله ، فليسكت عن ذكر الله ، او ويذكر الله في حلاله وحرامه!

__________________

ـ بالقرائة من كان يقرأ منا ومن كان لا يقرء منا امره بالذكر ، والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب لأهل الأرض والبيت الذي لا يقرء فيه القرآن ولا يذكر الله تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الا أخبركم بخير اعمالكم ارفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من الدينار والدرهم وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتقتلوهم ويقتلوكم؟ فقالوا : بلى ، قال : ذكر الله عز وجل كثيرا ثم قال : جاء رجل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : من خير اهل المسجد؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أكثرهم لله ذكرا وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من اعطي لسانا ذاكرا فقد اعطي خير الدنيا والاخرة وقال : في قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال : لا تستكثر ما عملت من خير لله.

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٨٧ ح ١٥٦ في الخصال عن زيد الشحام قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من ثلاث خصال يحرمها ، قيل : وما هي؟ قال : المواساة في ذات يده والإنصاف من نفسه وذكر الله كثيرا اما اني لا أقول ...

١٦٢

ف ـ (ذِكْراً كَثِيراً) تعني كثرة في عدّة وكثرة في عدّة ، عدّة الجوارح؟؟؟ والجوانج وعدّتها ، كثرة العدد بعددها ، ولكل بكثرته ، وكثرة العدد بحق الذكر وحاقّه ، دون ان يترك باطن الذكر الى ظاهره ، او ظاهره الى باطنه ، او يترك عدّته او عدته أو عدّته الى عدته وليكن محافظا على باطن الذكر كمحور اصيل يتبنّاه طول حياته ، فذكره بالقلب هو قلب الذكر وسائر الذكر هو قالب الذكر!

ف ـ (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) بقلوبكم في عدد وعدد ، وبألسنتكم في عدد وعدد ، في حلكم وترحالكم ، وعلى كل أحوالكم ، حيث النسيان أيا كان وأيّان يخلّف قدره العصيان لا تقل إن أكثرت ذكر الله بلساني قيل إنه منافق ، ما دمت ذاكره بقلبك ولسانك ف ـ «اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراءون» (١) و «حتى يقولوا مجنون» (٢)! فانما المجنون من لا يذكر الله ، والمنافق من لا يوافق لسانه قلبه او قلبه لسانه!

ذكر الله من مخلقات الايمان على قدره ومستواه (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣ : ٢٨).

ولان في ذكر الله حالة ايجابية ذكرا لذاته تعالى وأفعاله وصفاته ، وقصورنا الذاتي عن ان ندركه سبحانه قد يوردنا موارد الخطأ عند ذكره ،

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٠٥ ـ اخرج الطبراني عن ابن عباس وعبد الله بن احمد في زوائد الزهد عن أبي الجوزاء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) المصدر اخرج احمد وابو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

١٦٣

فلنشفعه بتسبيحه : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، من بكرة إلى اصيل ومن أصيل الى بكرة كلما ذكرناه تسبيحا بحمده! ام في الوقتين الاصيلين : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، لكي يصفو ذكره عن كل كدر ، وكما في حديث قدسي. «اذكرني بعد الفجر وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما» (١).

فليكن المؤمن بتمام ذاته وتعلقاته ذكرا لله وتسبيحا ، أسوة برسول الله في تحقيق أمر الله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ...) (٦٥ : ١٠) فيصبح حينئذ من المفردين (٢) ولان الرسول هو بنفسه ذكر الله : (ذِكْراً رَسُولاً) فلا ينسى الله ، لذلك لا يشمله خطاب (الَّذِينَ آمَنُوا) وانما (اتَّقِ اللهَ) اتقاء عن زهوة القرب الى الله وعما سوى الله.

فاتصال القلب بالله والانشغال عن الله اشتغالا بالله في مراقبة دائبة ، يجعل العبد ذكرا لله وسبحان الله ثم الله يذكره اكثر من ذكره (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢ : ١٥٢) واين ذكر من ذكر؟ يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» (٣).

__________________

(١) المصدر اخرج احمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يذكر عن ربه تبارك وتعالى : اذكرني ... واخرج احمد عن أبي امامة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لان اقعد اذكر الله وأكبره واحمده وأسبحه وأهلله حتى تطلع الشمس أحب الي من ان أعتق رقبتين او اكثر من ولد إسماعيل ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس أحب الي من ان أعتق اربع رقاب من ولد إسماعيل.

(٢) المصدر اخرج احمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال : الذاكرون الله كثيرا

(٣) أخرجه البخاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال قال الله : ...

١٦٤

ولئن قلت إن بواعث النسيان كثيرة كموانع الذكر ، فكيف للعبد الضعيف ان يذكر الله كثيرا؟ فالجواب :

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣)

فصلوات الله عليكم هي إنزال رحمته وصلوات ملائكته هي استزادة فيها باستنزال رحمته ، رحمتان اثنتان من الله تخلفها المحاولة الدائبة لذكر الله كثيرا ، ف ـ (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً).

هنالك ظلمات تحول دونك والنور ، ولكنك بحولك في كل أحوالك بذكر الله ، وبحول الله وقوته ، سوف تخرج من ظلمات النسيان الى نور الذكر الايمان (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : فالنور واحد هو ذكر الله الواحد والظلمات عدة هي ذكر غير الله فنسيان الله ، وليس يخرج المؤمن من الظلمات الى النور إلّا بذكر الله كثيرا فصلوات الله عليه وملائكته إذ لا حول ولا قوة إلّا بالله!

ومن صلوات الملائكة للذاكرين الله استغفارهم : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) (٤٢ : ٥) كما ومنها استنزال رحمات اخرى كرفع درجات : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...)(٥٦).

نحن نصلي لله والله يصلي علينا وملائكته واين صلاة من صلاة؟ وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلت لجبريل (عليه السلام)

١٦٥

هل يصلي ربك؟ قال : نعم ـ قلت : وما صلاته؟ قال : سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي» (١).

وقد يجمع هذه الثلاث انعطاف برحمة إنزالا واستنزالا وعبودية. فانه صلة بين هذه الصلوات! وصلوات الله على عباده درجات أعلاها صلواته على رسوله ، وأدناها على أدنى المؤمنين وبينهما متوسطات.

فإذ يصلي ربنا علينا فهلا نصلي على عباده الصالحين تخلقا بأخلاق الله مهما كان خصوصها بخصوص المخلصين (٢).

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)(٤٤)

أتراه سلاما منهم على الله؟ ولا سلام على الله على أية حال لأنه هو بنفسه سلام فلا يحتاج الى سلام من عبيده الفقراء الى سلامه! ام سلاما من بعضهم على بعض؟ وهو سلام المؤمنين في النشأتين دون اختصاص ب ـ (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) مهما عمّت النشأتين للمخلصين والمخلصين ، حيث السلام يوم الدنيا يعم المؤمنين كما في يوم الدين!

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٠٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عطاء ابن أبي رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلت ...

(٢) اذكر انني كنت اصلي على آل محمد لما اصلي على محمد في المسجد الحرام فاعترض عليّ كيف تضيف الآل؟ قلت لان الرسول أمرنا ان نضيف اليه الآل ، فقيل لي : أحيانا تصلون على أولاد الآل ، قلت : ان الله يصلي علينا وبعضنا في ادنى مراتب الايمان ونحن نصلي على الصالحين من آل النبي وولدهم! قيل لي : فلما ذا لا تضيفون الصحب الى الآل؟ قلت تأسيا برسول الله إذ أضاف الآل اليه ولم يزد والصلوات درجات لا تجتمع في درجة واحدة لمن هم درجات ، فلنصل على النبي والآل لأنهم في درجة ثم نصلي على غيرهم من الصالحين كلا على حده!

١٦٦

إنه سلام من الله عليهم ، على من هم ملاقوا الله بالمعرفة القمة ، وهم السابقون والمقربون وأفضل اصحاب اليمين يوم الدنيا ويوم الدين ، وبالنسبة لسائر المؤمنين يخص بيوم الدين :

أترى ما هو الفرق بين صلوات الله علينا وسلامه حيث يختص سلامه بيوم يلقونه وصلواته تعمه ويوم الدنيا ام تخصها؟

ان سلام الله يوم الدنيا يختص بالمصطفين : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢٧ : ٥٩) ـ (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (٣٧ : ١٨١) (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٣٧ : ٧٩) (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١٣٠) وليحيى (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٩ : ١٥) وعيسى «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا (٣٣) سلام الله التام على هؤلاء في الاولى كما الاخرى إذ هم ملاقوا الله فيهما ، ف ـ (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) بالنسبة لهم ، ثم من يحذو محذاهم ، فهؤلاء مذكورون على نحو الخصوص ، وأولاء الأتباع تعمهم (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) على وجه العموم ، ثم من سواهم سلام الله عليهم يوم الاخرى فانه يوم لقاءهم التام لقاء دونما اختيار حيث تكشف الغطاء.

فالسلام في الآخرة يعمهم وكل اصحاب الجنة بعد ما سلموا من كل زين : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) كما هنا ، ذلك لأن سلام الله خالصا من اللّاسلام يخص المخلصين أهل السلام ، وأما الصلوات فلأنها أعم من هكذا سلام كما للرسول وذويه ، ومن سلام الغفران كما لمن يتأتى منه العصيان ، فهي ـ إذا ـ تعم من يصلح لرحمته يوم الدنيا ومن جراءها الأخرى وهي أحرى.

١٦٧

وهلّا يلقى الله أهل السلام يوم الدنيا حتى يختص سلامه ب ـ (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) في الأخرى؟

ان لقاءه تقربا معرفيا بتوفية الجزاء دونما شوب من سلطان سواه ، ذلك لا يتحقق إلا يوم الأخرى ، اللهم إلّا لمثل القائل : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» حيث الغطاء الدنيا لا تغطي عليه ربّه فهو ملاقي الله طول الحياة في الاولى والاخرى ، واما الأجر الكريم فهو من مختصات الاخرى : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)(٤٦)

ميزات خمس يحملها هذا النبي العظيم ما لها من سباق (١) وكل ذلك بإذن تكويني من الله وتشريعي ، لولاهما لم يسطع تلك الدعوة العالية النافذة ، فهو الداعي الضالين عن الله الى الله ، وهو السراج المنير الذي أسرجه الله لينير الدرب على السالكين الى الله ، وهو الشاهد من الله وعلى عباد الله ، نموذجا بالغا من رسالة الله ، وتلقيا اعمال عباد الله ، وإلقاء لها يوم لقاء الله! (٢) إنه ليست الدعوة الى الله فوضى وهرج مرج ، ابتداء وابتداعا او تطوعا ، فعلة وقالة وحالة من عنده نفسه ، انما هي «باذنه» كرسالته وشهادته وتبشيره وإنذاره وإنارته بسراجه!

__________________

(١) فسرنا الثلاث الاولى في الفتح ج ٢٦ الفرقان ص ١٦٦ ـ ١٦٧ فراجع

(٢) وفي الدر المنثور ٥ : ٢٠٦ ـ اخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : اني عبد الله وخاتم النبيين وأبي منجدل في طينة وأخبركم عن ذلك انا دعوه أبي ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا امي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين وان ام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأت حين وضعته نورا أضاءت لها قصور الشام ثم تلا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ...)

١٦٨

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤٧) فللمؤمنين البشارة والفضل ، زيادة على ما عملوا ، وعلى سواهم النذارة العدل ، كل كما يستحقه.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٤٨)

لا تطعهم حتى فيما يعدونك من قبول الايمان فلا خير منهم يرجى ، وما فيهم ومنهم إلّا شر ليس إلّا ، (وَدَعْ أَذاهُمْ) : اتركهم يؤذونك ما اسطاعوا حتى ياتي أمرنا ، ولا تؤذهم كما يؤذونك حتى ياتي أمرنا (١)(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فيما أمرت وصبرت (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حيث يكفيك بأسهم ما لا يكفي سواه ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله!

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)(٤٩)

آية وحيدة في سائر القرآن تحمل سلبا لعدة الطلاق عمن طلقت قبل مسّها ثم وإيجاب المتعة والسراح الجميل ، تخصص آية البقرة الموجبة لتربص القروء بالطلاق على الإطلاق مسّها (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢ : ٢٢٨) تخصصها بغير صورة المسّ.

وترى ماذا يعني هنا المسّ؟ أهو مطلق اللمسّ وإن لم يجامعها كما قد يروى (٢) ام هو ـ فقط ـ الوطء قبلا او دبرا حيث المسّ بالنسبة للنساء لم يأت

__________________

(١) «إذا هم» في الوجهين من اضافة المصدر الى الفاعل او المفعول.

(٢) كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يطلق امرأته وقد مس كل شيء منها الا انه لم يجامعها ألها عدة؟ فقال : ابتلي ابو جعفر ـ

١٦٩

في سائر القرآن إلا بمعنى الوحى! (١) قضية الأدب البارع في وحي القرآن ، ثم المسّ لغويا أبلغ من اللمس دلالة على الوطي و (لامَسْتُمُ النِّساءَ) الموجبة للجنابة ليست إلّا الجماع! ولئن أريد مطلق اللمس الشامل لغير الوطي لبدّلت المسّ باللّمس! ولئن شكّ في إيجاب غير الوطي من اللمس تربص القروء فالأصل هنا عدم القروء ، لا سيما وأن آية القروء مذيلة بما يلمح بالوطي : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) اضافة الى تظافر الروايات ان المس هو الوطي فقط دون سائر اللمّس.

ثم المسّ ليس ليختص بوطي القبل بحجة رعاية حكمة الحفاظ على المياه وليس منشأ الولادة إلّا في القبل! حيث العقيمة تتربص بوطيها ، القروء ، كما الولود ، بل يعم الوطي في الدبر ، وعلّ الحكمة الجامعة لموارد العدة بالطلاق غاية اللذة الحاصلة بالمس قبلا او دبرا ، وقضية اطلاق النص في عدم «المس» على أية حال ، اطلاق عدم الوطي على أية حال

ثم ترى هل تخص (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) احكام الآية بالمؤمنات المنكوحات بالعقد الدائم لمكان (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ)؟ فالعدة إذا ثابتة على

__________________

ـ (عليه السلام) بذلك فقال له أبوه علي بن الحسين (عليه السلام) إذا اغلق وارخى سترا وجب المهر والعدة ، أقول : «ابتلي ابو جعفر» هو ابتلاء بسؤاله فليكن موضع تقية والا فلا ابتلاء ، ثم «اغلق وارخى سترا» أعم من المس كما هو أعم من الوطء ، وهاتان امارتان لكون الجواب واردا مورد التقية ، او ان اغلق وارخى سترا كناية عن الوطي

(١) «قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» (٣ : ٤٧) و ١٩ : ٢٠) ولا ياتي الولد إلا بمس الوطي لا مطلق المس «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» (٥٨ : ٣ ـ ٤) «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» (٢ : ٢٣٧).

١٧٠

المنفصلات بغير طلاق كالمنقطعة التي توهب وقتها او ينتهي ، والامة المحررة ، والدائمة غير المؤمنة ، والمؤمنة الدائمة المنفصلة بغير طلاق ، فسخا من احد الزوجين بموجبه ، او انفساخا للعقد بسبب ، كالتي يتزوج زوجها بنتها من غيره قبل ان يدخل بها ، فانها تنفصل عنه بمجرد العقد عليها إذ تصبح إذا أما لزوجته. امّن هي من اللاتي لسن مؤمنات دائمات مطلقات قبل الدخول؟

ان قيد «المؤمنات» لا يقيد الحكم بهن ، إذ ليس يعني إلا تلميحا بان المؤمنين لا ينكحون إلّا المؤمنات ، دون المشركات : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (٢ : ٢٢١) ومهما سمحت آية المائدة نكاحهم بكتابيات (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فانه سماح هامشي على متن النكاح بشروطه ، ثم العدة ليست إلّا لحرمة الموت ولا موت هنا! ام للحفاظ على المياه ، ولا مياه هنا!

ام حرمة لقضاء غاية الشهوة الحاصلة بالدخول؟ ولم يدخل بها! وإذ لا حرمة لمؤمنة غير مدخول بها في عدة فباحرى غير المؤمنة ألّا تعتد ، وآية البقرة مهما عمّت المطلقات في فرض العدة ، ليست لتشمل غير المدخول بها قضية ذيلها ، وعند الشك فالقدر المتيقن هو المدخول بها ، واليائسة المدخول بها خارجة عن هذه الحكم كما الصغيرة فان وطئ اليائسة ليس في غاية الشهوة ، ام لان فرض العدة بين الموت كعلة تامة ، وبين وطئ فيه امكانية الحمل ، والثاني منفي فيمن لا عدة لها ، ان يائسة موطوءة ، ام غيرها البالغة غير الموطوءة ، وهذه ضابطة صارمة في العدّة ، والله اعلم بالحكم في كل عدّة وعدّة.

ثم وقيد الطلاق وارد مورد النكاح الدائم ، فليس ليقيّد الحكم بمورد الطلاق ، او نتوسع في معنى الطلاق انه الفراق عن النكاح أيا كان ولكنما

١٧١

المنقطعة التي تم وقتها ليست مطلقة على اية حال ، مهما كانت الموهوبة وقتها والمباعة نفسها داخلتين في مطلق الطلاق.

ثم (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) تستأصل أية عدة وان يوما او ساعة ، ثم وتستاهلها لزواج آخر فور طلاقها ، وتلمح أن عدة المطلقة حق لزوجها ، ولكنه مرتبط بحقه لزاما إذ لا يحق له التسامح عنه ، فهو من الحقوق التي لا تسقط بإسقاط صاحبها كحق الزوجية والابوة وأمثالها ، لأنها حقوق ثابتة مرتبطة بالله وبالمجتمع ، وفي زاوية ثالثة ترتبط بأصحابها ، و «يتربصن» في فرض العدة حكم صارم الهي ليس ليسقط بإسقاط ، فهو حق يحيط به حكم ، ليس حقا خالصا يصلح لإسقاط. فكما الحكم لا يسقط بإسقاط كذلك الحق الذي فيه الحكم ، ثم الحق الخالص الشخصي صالح للإسقاط إذا كان صالحا للإسقاط ، دون الحق الذي له بعد جماعي بعد الشخص فانه لا يسقط بإسقاط الشخص. ولان العدة «لكم عليهن» فهي ـ إذا ـ ليست إلّا لصالح الرجل ، بين الحفاظ على صالح النسل مؤكدا او محتملا ، والحفاظ على حق الرجوع كما في الرجعية ، واما البائنة غير المدخول بها فلا عدة لها ، كما لا عدة لليائسة المدخول بها حيث لا ماء لها ولا رجعة إليها ، وعدة الوفاة هي للزوج المتوفي حرمة له ، ف ـ «لكم عليهن» هي في مثلث المصالح للأزواج ، ولكنها مصالح تضم حقا جماعيا لا يقبل الإسقاط.

وحق القول في الحق الثابت بالشرع انه لا يسقط على اية حال إلّا بدليل كالحقوق المالية أما هيه ، أصلا أصيلا صارما قائما في الحقوق إلّا ما يستثنى ، كما في الأحكام ولكنها لا تستثنى.

وبصيغة اخرى : الحكم لا يسقط أيا كان ، والحق قد يسقط بإسقاط ام دونه وقد لا يسقط ، ولا حق إلّا ومعه حكم بضمنه يضمن تحقيقه ،

١٧٢

وهنالك احكام لا تضمن حقوقا بشرية واخرى تضمنها ، فهما ـ إذا ـ متباينان جزئيان عموما من وجه ، قد يجتمعان وقد يفترقان قضية الملازمة الأصلية ، والا فلا حق الا ومعه حكم فبينهما عموم مطلق.

ثم ترى أتفرض «فمتعوهن» على الأزواج متاعا زائدا على الفريضة؟ لأنها مطلقة تشمل اللاتي فرضتم لهن فريضة فتؤتى زيادة هي المتاع ، وليست الفريضة متعة كما ليس مهر المثل متعة ، وانما هي الزائدة على الفريضة ان فرضت لها؟ والزائدة على مثل الفريضة ان لم تفرض تحننا عليها وتعطفا؟

أو أن المتاع انما هو لمن لم يفرض لها فريضة إذ قوبلت في البقرة بمن فرضت لها فريضة : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ..) (٢ : ٢٢٧)؟ ف ـ (لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢ : ٢٤١) يعني الفريضة او مثلها ان دخل بها ، او نصف ذلك ان لم يدخل بها.

او ان متاعهن بالمعروف يعني «اجملوهن بما قدرتم عليه من معروف ، فإنهن يرجعن بكآبة ووحشة وهم عظيم وشماتة من أعدائهن ، فان الله كريم يستحي ويحب اهل الحياء ، إن أكرمكم أشدكم إكراما لحلائلهم» (١) وذلك الإجمال المتاع يعم مهر المثل والمسمّى وزيادة ان كانت لزام الإجمال

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٨٨ ح ١٦٣ في من لا يحضره الفقيه روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر في قول الله عز وجل (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ...) قال : متعوهن اي اجملوهن.

١٧٣

قدر المستطاع ، ام اجمالا في دفع الفريضة ، ولا يترك الاحتياط بدفع زيادة على المسمى لصدق المتاع ، وفيما لا يسمى على الموسع قدره وعلى المقر قدره ، واولى من غير المدخول بها هي المدخول بها (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٤ : ٢١).

ثم السراح الجميل ما لا عضل فيه ولا أذى ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة جديدة ، بل ومساعدة لها على ما تبغي من زواج وتعريفا بها عند من يريدها كيلا تبقى مرذولة منكوبة بقالة الناس! فكما النكاح توحيد للحياتين على حب ، كذلك الطلاق فراق على حب ومتاع! متاعا أخلاقيا وماليا أما ذا مما يمتعها ويذهب بكآبتها وتضيّقها ، معاملة معها في الفراق كما تعامل في النكاح الوفاق ، ويجب ذلك في كل شركة في معاملة أما ذا؟

هذا هو السراح الجميل بعد الطلاق حيث العادة الجاهلية كانت تعضلهن عن زواج آخر بعد الطلاق (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ..) (٢ : ٢٣٢)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥٠).

هذه واللتان بعدها تحمل احكاما خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في امر زواجه وأزواجه ، لا تعدوا الى الامة ، فانها من احكام الرسالة بمختلف حقولها ومتطلباتها الرسالية ، فردية او جماعية.

١٧٤

ف ـ (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ ...) تحلل له زواجا وأزواجا لا تعد ، بنكاح او ملك يمين (١) ثم حرم عليه الزواج الجديد او التبديل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ... إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ)! و «لك» هنا من ادلة اختصاصهن به فلا تحل أزواجه من بعده لغيره : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ولا ما ملكت يمينه فيئا وإن لم يطأهن ، فإنهن من زوجاته بمجرد ملك اليمين ، كما المعقودة دائما او منقطعا ، فتشمل إماءه ما تشمل سائر زوجاته ك ـ (أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) وقد يحل له تحليلهن لغيره قبل ان يطأهن ، حيث الأزواج قد لا تشمل غير الموطوءات من الإماء و (ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) إنما احلّت له دون نكاح إذا أراد. ولا من (وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) مهما طال او قصر تحقيق ارادته ، واما بنات عمه وعماته وبنات خاله وخالاته ، فهن حل لغيره قبل ان ينكحهن ، ف ـ «لك» فيهن ترجيح في زواجهن بالقرابة والهجرة ام فرض يخصه مهما نسخ القيد ان بعده ام لم ينسخ حيث (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قريبة مهاجرة ام غريبة غير مهاجرة.

وذلك الإحلال مرتبط بتلك النبوة السنامية ، زواجا سياسيا رساليا تحكم عرى دعوته وكما في حليلة زيد دعيّه امّن هي من نساء من مختلف الأقوام ، ومحترج الظروف ومعترك الآراء ، يقصد من خلالها مصاهرة مختلف القبائل ليربط بينهم لنفسه ، تعميقا لدعوته ، وبسطا لرسالته ، ودفعا لمكايدات منهم ، فلما قضى ما عليه حرمت عليه النساء من بعد حتى

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٩٠ ح ١٧٥ في الكافي بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن قول الله عز وجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ..) قلت : كم أحل له من النساء؟ قال : ما شاء الله من شيء ورواه مثله عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام).

١٧٥

ان متن او طلقهن كلهن وقوة الجنس بعد بحالها! (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ).

ترى ذلك الإحلال يخص اللاتي آتى أجورهن ومهورهن؟ فلا إحلال قبله؟ والمرأة تستحل بمجرد العقد عليها حتى وان لم توت مهرها لوقته أم على اية حال!.

إن أجورهن هي مهورهن المفروضة او أمثالها في غير المفروضة ، بالنسبة لمن تزوجت على مهر ، وقد يعني «آتيت» ماضيا ، ضرورة الإيتاء حسب القرار ، فان نوى ألا يؤتيها لم تحل له حتى ينوى او يؤتي ، فليس شرط الإحلال إلا أصل الإيتاء : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ...) (٥ : ٥) ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (٦٠ : ١٠) فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٤ : ٢٥) فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٤ : ٢٤).

فإيتاء الأجر او تصحيحه في وقته هو شرط الإحلال في اللاتي يتزوجن بأجور ، ومن الراجح الأكيد تقديم أجورهن قبل الدخول بهن حسب المستطاع.

ولان النبي أسوة يقال له (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) ولأنه كان قد آتاهن أجورهن ، عنوانا مشيرا الى حالة خاصة له (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهن ، لا أن ايتاءها لهن مسبقا شرط احلالهن! كما ويدل عليه سائر من ذكرت من المحللات من (بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ ..) إذ لسن كلهن كالتي وهبت نفسها للنبي دون اجر ، وقد احلهن له (صلى الله عليه وآله وسلم) دون ذكر أجر فضلا عن ايتاءه المسبق وقد يعني (آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) مورد

١٧٦

الإحلال المطلق حيث لا خيرة للزوجة في مطاوعة الجنس بعد الأجر فلها ان تمانع ما لم تأخذ المهر حتى تؤتى ، وليس للزوج حملها على الوطء قبل ايتاءها مهرها ، فتقع التي لم تأخذ مهرها أمام النبي بين محظوري وجوب مطاوعة النبي لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وجواز ترك المطاوعة قبل أخذ المهر ، ولكي لا يحمّل بالنبوة خلاف ما لها من حق ف ـ (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)! كما وان استيفاء حق الجنس بعد إيفاء حقها أحق وأحرى بالنبي واحلى للزوجة ، فهكذا يصبح النبي أسوة!

(اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) هن واحدة من السبع التي أحلت له (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم التحريم ، والثانية (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) وهن الإماء اللّاتي تأسّرن دونما حرب ومشقة ، حيث الفيء هو الغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة ، ف ـ (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) هنا هن الاسيرات الخاصة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) (٥٩ : ٦)

فهنا إحلال يخص الرسول من (ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) لا نصيب لسائر المسلمين فيهن وكما في سائر الفيء ، ومجرد الملك في الإماء يحلّل إلّا إذا زوجهن أو أباحهن لغيره.

وعلّ (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) ك ـ (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) ليس قيدا يخص الإحلال بمورده ، فإنهما القدر الواقع له من نساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) ام لم تحل له سواهن من الإماء اشتراء لهن او تحليلا له؟.

وكذلك الأربع الاخرى في قيدي القرابة والهجرة ، فإنهما ليستا من شروط الإحلال ، واختلاف العم والعمات والخال والخالات بالإفراد والجمع علّه إذ لم تكن له إلا بنات من عم أو بنات من خال ، وكانت له

١٧٧

بنات عمات وبنات خالات ، أو إذا كانت لآخرين بنت او بنات فهن حينئذ كن مزوجات ، وكانت له بنات عمات وبنات خالات.

احلّهن له الله كأفضل البنات وأحراهن لزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد هاجرن معه فأصبحن ذوات الاولوية في بعدي القرابة والهجرة ، مهما حلت له الغريبات غير القريبات والمهاجرات إن كن مسلمات.

ثم السابعة (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قريبة كانت او غريبة ، ممن هاجرن معه أم لم يهاجرن ، فانما الشرط هنا الايمان والوهبة ، فاقتسمت هذه السبع من حيث الأجر ودونه الى ثلاث ١ ـ (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) ـ ٢ : القريبات الأربع حيث لم يذكر لهن اجر اوتينه ام لا ، والأجر ثابت بعد لا مرد له ـ ٣ ـ «الواهبة نفسها دون اجر ، وفي حكم الثالثة السابعة (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) شرطان :» ـ ١ ـ ان وهبت نفسها للنبي» ـ ٢ ـ (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) فلولاهما أو أحدهما لعمت الخالصة لسائر من يريدونها.

ثم (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) تقطع عنه كل ولاية حتى التي لأبيها ، وتقطع عنها كل راغب إليها ، وتقطع عنها خيرتها ترك الهبة بعد ما وهبت نفسها ، اللهم إلّا إذا لم يردها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلها ولوليها والراغبين فيها الخيار.

وهل ان هذه الهبة تكفي عن صيغة النكاح ، كما كفت اذن الولي والمهر؟ علّها تكفي لمكان (خالِصَةً لَكَ) ام لا تكفي حيث لخالصة له لا تنافي شروط الإحلال ومن أهمها صيغة النكاح! ونطاق الهبة إنما هو السماح عن مهرها ، لا السماح عن صيغة النكاح وليس لها هكذا سماح لأنه

١٧٨

حكم شرعي ، ولكنما المهر حق لها شخصي ، فلها السماح فيما لها حقا ، وليس لها فيما عليها او عليهما حكما ، اللهم إلّا ولاية وليها إذ أسقطها الله ب ـ (خالِصَةً لَكَ).

فتلك الوهبة من امراة مؤمنة ، وارادة الاستنكاح من النبي ، هما تجعلانها (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مهما أرادوها وأرادتهم بعد الوهبة والإرادة ، فهي حلّ له (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحرمة على غيره (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهل تصح هكذا هبة لغير الرسول؟ آيات النكاح والطلاق تفرض الفريضة مسماة وسواها كحق ثابت في اي نكاح وقد تزيد متعته! وآية الخالصة تستخلص له هكذا هبة وهكذا موهوبة فهي إذا في أبعادها من اختصاصات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما

وردت بذلك الروايات المستفيضة (١) وقد وهبته (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فيمن وهبت ـ نفسها امراة من الأنصار فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها : انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ وفي تعرضك لمحبتي وسروري وسيأتيك امري إن شاء الله فانزل الله عز وجل : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ..) فاحل الله عز وجل هبة المرأة نفسها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يحل ذلك لغيره (٢) وقد وهبت نساء أنفسهن للنبي

__________________

(١) كما في نور الثقلين ٤ : ٢٩١ ح ١٧٧ عن أبي عبد الله (عليه السلام) و ١٧٨ عن أبي جعفر (عليه السلام) و ١٧٩ عن أبي عبد الله و ١٨٠ عن أبي جعفر وكذلك ١٨١ و ١٨٢ و ١٨٣ واللفظ المشترك بينها «لا تحل الهبة الا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما غيره فلا يصلح نكاح إلّا بمهر.

(٢) المصدر ٢٩٢ ح ١٨٤ علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : جاءت امرأة من الأنصار الى رسول ـ

١٧٩

(صلى الله عليه وآله وسلم) فقبل البعض وزوج بعضا غيره (صلى الله عليه وآله وسلم)(١).

__________________

ـ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلت عليه وهو في منزل حفصة والمرأة متلبسة متمشطة فدخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت يا رسول الله : ان المرأة لا تخطب الزوج وانا امرأة ايم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد فهل لك من حاجة فان تك فقد وهبت نفسي لك ان قبلتني فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا ودعا لها ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا اخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا فقد نصرني رجالكم ورغبت في نسائكم فقالت لها حفصة : ما اقل حياءك وأجرأك وانهمك للرجال؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفي عنها يا حفصة فانها خير منك رغبت في رسول الله فلمتيها وعبتيها ثم قال للمرأة : انصرفي ...

وفي نقل آخر عن علي بن ابراهيم فقالت لها عائشة قبحك الله ما انهمك للرجال فقال لها رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صه يا عائشة فانها رغبت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ زهدتن فيه ... وح ١٨٦ في كتاب الخصال عن أبي عبد الله في حديث كانت خولة بنت حكيم السلمى وفي المجمع قيل انها لما وهبت نفسها للنبي قالت عائشة ما بال النساء يبذلن انفسهن بلا مهر فنزلت الآية فقالت عائشة : ما ارى الله تعالى إلّا يسارع في هواك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : وانك ان أطعت الله سارع في هواك وفيه عن علي بن الحسين هي امرأة من بني اسد يقال لها شريك بنت جابر لك به حاجة قال : ما عندك تعطيها؟ قال : ما عندي الا ازاري ، قال : ان أعطيته إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا قال : ما أجد شيئا فقال : التمس ولو خاتما من حديد فلم يجد فقال : هل معك من القرآن شيء؟ قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال : قد زوجناكها بما معك من القرآن.

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٠٩ ـ اخرج مالك وعبد الرزاق واحمد والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن سهل بن سهل الساعدي ان امرأة جاءت الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوهبت نفسها له فصمت فقال رجل يا رسول وجنيها ان لم يكن واخرج في الدر المنثور اربع نساء وهبن انفسهن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هما ميمونة بنت الحرث وليلى بنت الحطيم.

١٨٠