أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]
المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
ومنهم : أبو الخير الأقطع ، وكان أوحد في طريقته في التوكل ، كان يأنس إليه السباع والهوام ، وكان حادّ الفراسة ، مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة.
قال أبو الخير (١) : دخلت مدينة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأنا بفاقة ، فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا (٢) ، فتقدمت إلى القبر ، وسلّمت على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعلى أبي بكر وعمر ـ رضياللهعنهما ـ وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله ، وتنحّيت ، ونمت خلف المنبر ، فرأيت في المنام النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأبو بكر عن يمينه ، وعمر عن يساره (٣) ، وعلي بن أبي طالب بين يديه. فحركني عليّ ، وقال لي : قم ، قد جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : فقمت إليه ، وقبّلت بين عينيه ، فدفع إلي رغيفا ، فأكلت نصفه ، فانتبهت (٤) ، فإذا في يدي نصف رغيف.
وقال أبو الخير : لن يصفو قلبك إلّا بتصحيح النيّة لله تعالى ، ولن يصفو بدنك (٥) إلّا بخدمة أولياء الله تعالى.
وقال أبو الخير (٦) : ما بلغ أحد إلى حالة شريفة (٧) إلّا بملازمة الموافقة ، ومعانقة الأدب ، وأداء الفرائض ، وصحبة الصالحين ، وخدمة الفقراء الصادقين.
وقال : حرام على قلب مأسور بحب الدنيا أن يسبح في روح الغيوب.
وقال (٨) : القلوب ظروف ، فقلب مملوء إيمانا ، فعلامته الشفقة على جميع المسلمين ، والاهتمام بما يهمهم ، ومعاونتهم على ما يعود صلاحه إليهم (٩). وقلب مملوء نفاقا ، فعلامته (١٠) الحقد ، والغلّ ، والغشّ ، والحسد.
وقال (١١) : الدعوى رعونة لا يحتمل القلب إمساكها ، فيلقيها (١٢) إلى اللسان ، فتنطق
__________________
(١) الخبر في طبقات الصوفية للسلمي ٣٨٢ والطبقات الكبرى للشعراني ١ / ١٠٩ وصفة الصفوة ٤ / ٢٨٣.
(٢) الذواق : طعم الشيء ، أي أنه لم يذق شيئا من طعام أو شراب.
(٣) في صفة الصفوة وطبقات الصوفية : شماله.
(٤) في صفة الصفوة وطبقات الصوفية : وانتبهت.
(٥) في مختصر أبي شامة : و «وأن يصفو بذلك» والتصويب عن طبقات الصوفية للسلمي.
(٦) الخبر في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٤ وحلية الأولياء ١٠ / ٣٧٨.
(٧) في مختصر أبي شامة : «شهية» تصحيف ، والصواب عن الحلية وصفة الصفوة.
(٨) الخبر في حلية الأولياء ١٠ / ٣٧٨.
(٩) في الحلية : ومعاونتهم على مصالحهم.
(١٠) في الحلية : وعلامته.
(١١) رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٣.
(١٢) في صفة الصفوة : فليقها إلى اللسان.
بها ألسنة الحمقى (١) ، ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقباحه.
قال أبو القاسم القشيري (٢) :
ومنهم أبو الخير الأقطع. مغربي الأصل. سكن تينات ، وله كرامات ، وفراسة حادّة. كان كبير الشأن.
قال أبو الحسين القيرواني (٣) :
زرت أبا الخير التّيناتي ، فلما ودعته خرج معي إلى باب المسجد ، فقال : يا أبا الحسين (٤) ، أنا أعلم أنّك لا تحمل معك معلوما ، ولكن احمل هاتين التفاحتين. فأخذتهما ، ووضعتهما في جيبي وسرت. فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أيام ، فأخرجت واحدة منهما ، فأكلتها ، ثم أردت أن أخرج الثانية فإذا هما في جيبي ، فكنت آكل منهما ، وتعودان ، إلى باب الموصل ؛ فقلت في نفسي : إنهما تفسدان علي حال توكلي إذا صارتا معلوما لي ، فأخرجتهما من جيبي بمرة ، فنظرت ، فإذا فقير (٥) ملفوف في عباءة يقول : أشتهي تفاحة ، فناولتهما إياه ، فلما عبرت وقع لي أن الشيخ إنما بعث بهما إليه ، وكنت في رفقة في الطريق ، فانصرفت إلى الفقير ، فلم أجده.
قال أبو نعيم الأصبهاني (٦) :
سمعت غير واحد ممن لقي أبا الخير يقول : إن سبب قطع يده أنه كان عاهد الله ألّا يتناول بشهوة نفسه شيئا مشتهيا (٧) ، فرأى يوما بجبل لكّام (٨) شجرة زعرور ، فاستحسنها ، فقطع منها غصنا ، فتناول منها شيئا من الزعرور ، فذكر عهده ، فتركه (٩). ثم كان يقول : قطعت غصنا فقطع مني عضو.
__________________
(١) إلى هنا الخبر في صفة الصفوة.
(٢) رواه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية ص ٣٩٤.
(٣) الخبر في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٥.
(٤) في صفة الصفوة أنه رجل فقير يعرف بالأنصاري.
(٥) في صفة الصفوة : فإذا بعليل ينادي من الخراب.
(٦) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٢٧٨.
(٧) في مختصر أبي شامة : مشتها ، والمثبت عن حلية الأولياء.
(٨) جبل اللكام : بالضم وتشديد الكاف ، ويروى بتخفيفها : الحبل المشرف على أنطاكية (معجم البلدان).
(٩) في الحلية : وتركه.
قال أبو ذر الهروي :
سمعت عيسى بن أبي الخير التّيناتي بمصر ـ وكان رجلا صالحا ـ وقلت له : لم كان أبوك أقطع؟ قال : ذكر لي أنّه كان عبدا أسود. قال : فضاق صدري في الملك ، فدعوت الله ، فأعتقت ، فكنت أجيء إلى الإسكندرية ، فاحتطب ، وأتقوت بثمنه ، وكنت أدخل المسجد أقف على الحلق ، وأعلم أنهم لا يعلّموني شيئا ، لأني عبد أسود ، فكنت أقف عليهم ، فيسهل الله على لسانهم ما كنت أريد أن أسأل عنه ، فأحفظه ، وأستعمل ذلك.
سمعت (١) مرة حكاية يحيى بن زكريا وما عملوا به ، فقلت في نفسي : إن الله ابتلاني بشيء في بدني صبرت. ثم خرجت إلى الثغر بطرسوس (٢) ، وكنت آكل المباحات ، ومعي حجفة (٣) وسيف. وكنت أقاتل (٤) العدو مع الناس ، فآواني الليل إلى غار هناك ، فقلت في نفسي : إني أزاحم الطير في أكل المباحات ، فنويت ألا آكل فمررت بعد ذلك بشجرة ، فقطعت منها شيئا ، فلما أردت [أن](٥) آكله ذكرت ، فرميته ، ثم دخلت المغارة بالليل ، فإذا هناك ... (٦) قطعوا الطريق ، ودخلوا إلى الغار قبلي ولم أعلم ، فلما دخلت إلى هناك ، فإذا نحن بصاحب الشرطة يطلبهم ، فدخل الغار ، فأخذهم ، وأخذني معهم ، فقدموا جميعا ، فقطعوا. فلما قدّمت قالت اللصوص : لم يكن هذا الأسود معنا ، وكان أهل الثغر يعرفونني ، فغطى الله عنهم حتى قطعوا يدي ، فلما مدّوا رجلي قلت : يا رب ، هذه يدي قطعت لعقد عقدته ، فما بال رجلي؟! فكأنه كشف عنهم ، وعرفوني ، وقالوا : هذا أبو الخير! واغتمّوا (٧). فلما أرادوا أن يغمسوا يدي في الزيت امتنعت ، وخرجت ، ودخلت الغار ، وبت ليلة عظيمة ، فأخذني النوم ، فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في النوم ، فقلت : يا رسول الله ، فعلوا بي وفعلوا ، فأخذ يدي المقطوعة ، فقبّلها ، فأصبحت ولا أجد ألم الجرح ، وقد عوفيت.
وقال ابن جهضم : حدّثني بكر بن محمّد قال :
__________________
(١) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي مختصر ابن منظور : ذكرت.
(٢) طرسوس : مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم (معجم البلدان).
(٣) الحجفة : الترس ، جمعها الحجف.
(٤) في مختصر ابن منظور : أغزو.
(٥) زيادة للإيضاح.
(٦) كلمة غير واضحة في مختصر أبي شامة.
(٧) الطبقات الكبرى للشعراني ١ / ١٠٩ باختلاف الرواية.
كنت عند الشيخ أبي الخير بالتينات ، فبسط محادثته لي إلى أن هجمت عليه ، فسألته عن سبب قطع يده ، وما كان منه ، فقال : يد جنت فقطعت. فظننت أنه كانت له صبوة في حداثته في قطع طريق أو نحوه مما أوجب ذلك ، فأمسكت. ثم اجتمعت معه بعد ذلك بسنين مع جماعة من الشيوخ ، فتذاكروا مواهب الله لأوليائه ، وأكثروا كرامات الله لهم ، إلى أن ذكروا طيّ المسافات ، فتبرم الشيخ بذلك ، فقال : لم يقولون : فلان مشى إلى مكة في ليلة ، [وفلان](١) مشى في يوم؟ أنا أعرف عبدا من عبيد الله حبشيا كان جالسا في جامع أطرابلس ، ورأسه في جيب مرقّعته ، فخطر له طيبة الحرم ، فقال في سرّه : يا ليتني كنت بالحرم ، ثم أمسك عن الكلام.
فتغامز الجماعة ، وأجمعوا على أنه ذلك الرجل.
وقال أبو القاسم بكر بن محمّد :
كنت عند أبي الخير التيناتي وجماعة اجتمعوا على أن يسألوه (٢) عن سبب قطع يده ، فقال : يد جنت ، فقطعت. فقيل : قد سمعنا منك هذا مرارا كثيرة ، أخبرنا كيف سببه؟ فقال : نعم.
أنتم تعلمون أني من أهل المغرب ، فوقعت في مطالبة السفر ، فسرت حتى بلغت إسكندرية ، فأقمت بها اثنتي عشرة سنة ، ثم سرت منها إلى أن صرت بين شطا (٣) ودمياط (٤) ، فأقمت أيضا اثنتي عشرة سنة. فقيل له : مكانك ، إلى هاهنا انتهينا ، الإسكندرية بلد عامر ، أمكن أن تقيم بها ، بين شطا ودمياط لا زرع ولا ضرع ، أي شيء كان قوتك اثنتي عشرة سنة؟ فقال : نعم ، كان في الناس خير في ذلك الزمان ، وان يخرج من مصر خلق كثير يرابطون بدمياط ، وكنت قد بنيت كوخا على شط الخليج ، فكنت أجيء من الليل إلى الليل إلى تحت السور ، فإذا أفطر المرابطون نفضوا سفرهم (٥) خارج السور ، فأزاحم الكلاب على قمامة السّفر ، فآخذ كفايتي ، فكان هذا قوتي في الصيف. فقالوا : ففي الشتاء؟ قال : نعم ، كان ينبت
__________________
(١) استدركت على هامش مختصر أبي شامة.
(٢) في مختصر أبي شامة : يسألونه.
(٣) شطا : بالفتح والقصر ، وقيل : شطاة : بليدة بمصر (معجم البلدان).
(٤) دمياط : مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم ونهر النيل (معجم البلدان).
(٥) سفرهم : السفرة بالضم ، طعام المسافر ، المعدّ للسفر ، والسفرة ما يوضع فيه الأديم. والسفرة التي يؤكل عليها ، وسميت لأنها تبسط إذا أكل عليها (تاج العروس).
حول الكوخ من هذا البردي (١) الجافي ، فيخصب في الشتاء ، فأقلعه ، فما كان منه في التراب يخرج غضا أبيض ، فآكله ، وأرمي بالأخضر الجافي. فكان هذا قوتي إلى أن نوديت (٢) في سري : يا أبا الخير ، تزعم أنك لا تزاحم الخلق في أقواتهم ، وتشير إلى التوكل ، وأنت في وسط المعلوم جالس؟ فقلت : إلهي وسيدي ومولاي ، وعزّتك لا مددت يدي إلى شيء مما تنبت الأرض حتى تكون أنت الموصلي إليّ رزقي من حيث لا أكون أنا أتولى فيه. فأقمت اثني عشر يوما أصلي الفرض وأتنفّل (٣) ، ثم عجزت عن النافلة ، فأقمت اثني عشر يوما أصلي الفرض لا غير ، ثم عجزت عن القيام ، فأقمت اثني عشر يوما أصلي جالسا ، ثم عجزت عن الجلوس ، فرأيت إن طرحت نفسي ذهب فرضي. فلجأت إلى الله بسري ، وقلت : إلهي وسيدي ومولاي افترضت علي فرضا تسألني عنه ، وضمنت لي رزقا فتفضل علي برزقي ، ولا تؤاخذني بما اعتقدته معك ، فوعزتك لأجتهدن ألا (٤) أخالف عقدي الذي عقدته معك. فإذا بين يدي رغيفان ـ وربما قال : قرصان ـ بينهما شيء ـ ولم يذكر الشيء ـ فكنت آخذه على دوار وقتي من الليل إلى الليل. ثم طولبت بالمسير إلى الثغر ، فسرت حتى دخلت مصر ، وكان ذلك يوم جمعة ، فوجدت في صحن الجامع قاصّا يقصّ على الناس ، وحوله حلقة ، فوقفت بينهم أسمع ما يقول ـ فذكر قصة زكريا والمنشار ـ وما كان من خطاب الله له حين هرب منهم ، فنادته الشجرة : إليّ يا زكريا ، فانفرجت له ، فدخلها ، ثم أطبقت عليه ، ولحقه العدو ، فتعلّق بطرف عبائه ، وناداهم : إليّ ، فهذا زكريا! ثم أخرج لهم حيلة المنشار ، فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار رأس زكريا ، فأنّ منه أنّة ، أوحى الله تعالى : يا زكريا ، لئن صعدت منك إليّ أنّة ثانية لأمحونّك من ديوان النبوة. فعضّ زكريا على الصّير (٥) حتى قطع بشطرين ، فقلت في نفسي : لقد كان زكريا صابرا ، إلهي وسيدي ومولاي لئن ابتليتني لأصبرنّ. ثم سرت حتى دخلت أنطاكية ، فرآني بعض إخواني ، وعلم أني أريد الثغر فدفع إليّ سيفا وترسا وحربة للسبيل ، فدخلت الثغر ، وكنت حينئذ أحتشم من الله أن أرى وراء سور خيفة العدوّ ، فجعلت مقامي بالنهار في غابة أكون فيها ، وأخرج بالليل إلى شط البحر ، فأغرز الحربة على
__________________
(١) البردي بالفتح نبات معروف واحدته بردية. (تاج العروس).
(٢) في مختصر أبي شامة : توفرت ، تصحيف ، وأثبتنا ما جاء في مختصر ابن منظور.
(٣) تنفل فلان : صلى النوافل ، والنافلة : ما تفعله مما لم يجب عليك ، ومنه نافلة الصلاة (تاج العروس : نفل).
(٤) في مختصر أبي شامة : أن لا أخالف.
(٥) الصير : الشقّ.
الساحل ، وأشد الترس إليها محرابا ، وأتقلد سيفي ، وأصلي إلى الغداة ، فإذا صليت الصبح غدوت إلى الغابة ، فكنت فيها نهاري أجمع. فبدرت في بعض الأيام ، فبصرت بشجرة بطم قد بلغ بعضه أخضر ، وبعضه أحمر ، قد وقع عليه الندى ، وهو يبرق ، فاستحسنته ، وأنسيت عقدي مع الله ، وقسمي به أني لا أمدّ يدي إلى شيء مما تنبت الأرض ، فرددت يدي إلى الشجرة ، فقطعت منها عنقودا ، وجعلت بعضه في فمي ألوكه ، فذكرت العقد ، فرميت ما في يدي ، وبزقت ما في فمي ، وقلت : حلّت المحنة ، ورميت الترس والحربة ، وجلست موضعي يدي ، على رأسي. فما استقر جلوسي حتى دار بي فرسان ، وقالوا لي : قم. فساقوني إلى أن أخرجوني إلى الساحل ، وإذا أمير بناس ... (١) جماعة على خيول ، ورجاله كثير وبين أيديهم جماعة سودان كانوا يقطعون الطريق قبل ذلك اليوم في ذلك المكان ، فأسرى إليهم أمير بناس في موضع الأكواخ فكبسهم في السجن وأخذ من كان منهم في الأكواخ وافترقت الخيل تطلب من هرب منهم في الغابة ، فوجدوني أسود معه سيف وترس وحربة فساقوني ، فلما قدّمت إلى الأمير ، وكان رجلا تركيا ، قال لي : أيش أنت ويلك؟ قلت : عبد من عبيد الله ، فقال للسودان : تعرفونه؟ قالوا : لا ، قال : بلى ، هو رئيسكم ، وإنما تفدونه بنفوسكم ، لاقطّعن أيديكم وأرجلكم. فقدّموهم ، فلم يزل يقدم رجلا رجلا يقطع أيديهم حتى انتهى إليّ آخرهم ، فقال لي : تقدم ، مدّ يدك ، فمددتها ، فقطعت ، ثم قال لي : مدّ رجلك ، فمددتها ، فرفعت سري (٢) إلى السماء وقلت : إلهي وسيدي ومولاي ، يدي جنت ، رجلي أيش عملت؟! فإذا بفارس قد أقبل وقف على الحلقة ، ورمى نفسه إلى الأرض ، وصاح : أيش تعملون ، تريدون أن تنطبق الخضراء على الغبراء؟ هذا رجل صالح يعرف بأبي الخير المناجي ـ وكنت حينئذ أعرف بالمناجي ـ فرمى الأمير نفسه عن فرسه ، وأخذ يدي المقطوعة من الأرض يقبّلها ، وتعلّق بي يقبّل صدري ، ويشهق ، ويبكي ، ويقول : ما علمت ، سألتك بالله اجعلني في حلّ. فقلت : جعلتك في حلّ من أول ما قطعتها ، هذه يد جنت فقطعت (٣).
فقال أبو الخير : ـ وهو يبكي ـ وأي مصيبة أعظم من مصيبتي هذه. يعني قطعت يدي وانقطع عني ... (٤).
__________________
(١) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.
(٢) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي الطبقات الكبرى للشعراني : ثم رفعت رأسي.
(٣) انظر الحكاية باختلاف في الطبقات الكبرى للشعراني ١ / ١٠٩ ـ ١١٠.
(٤) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.
وقال أبو الخير (١) : جاورت بمكة سنة من السنين ، ومرّ عليّ بها شدائد ، وهمت نفسي بالسؤال ، فهتف بي هاتف : أما يستحي الوجه الذي تسجد لي به أن تبذله لغيري؟! فجلست.
وقال أبو الخير : من أنس بالله لم يستوحش من شيء.
قال أبو سعد إسماعيل بن علي الواعظ : سمعت جماعة من مشايخنا :
أن يوما صلّوا خلف أبي الخير الأقطع ، فلما سلّم قال رجل : لحن الشيخ. ففي نصف الليل خرج إلى البراز ، فرأى أسدا والشيخ يطعمه ، فغشي على الرجل ، فقال الشيخ : منهم من يكون لحنه في قلبه ، ومنهم من يكون يلحن بلسانه.
قال السّلمي (٢) : سمعت جدي إسماعيل بن نجيد (٣) يقول :
دخل على أبي (٤) الخير الأقطع بعض البغداديين ، وقعدوا يتكلمون بين يديه ، وضاق صدره ، فخرج ، فلمّا خرج جاء السبع ، ودخل البيت ، فسكتوا ، وانضمّ بعضهم إلى بعض ، وتغيّرت ألوانهم ، فدخل عليهم أبو الخير وقال : يا سادتي ، أي تلك الدعاوى؟
قال أبو القاسم القشيري :
وأبو الخير التّيناتي مشهور بالكرامات. حكي [عن](٥) إبراهيم الرقي (٦) أنّه قال : قصدته مسلّما ، فصلى صلاة المغرب ، فلم يقرأ الفاتحة مستويا ، فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي. فلمّا سلمت خرجت للطهارة ، فقصدني السّبع ، فعدت إليه فقلت : إن الأسد قصدني ، فخرج ، وصاح على الأسد. وقال : ألم أقل لك لا تتعرّض لضيفاني؟ فتنحى. وتطهّرت ، فلما رجعت قال : اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد ، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.
قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ :
بكرت يوما إلى أبي عثمان المغربي (٧) ، فقعدت معه إلى أن أذنوا لصلاة الظهر ، ثم
__________________
(١) الخبر رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٣.
(٢) الخبر من طريقه رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٣٣٧.
(٣) هو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف ، أبو عمرو النيسابوري ، ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٢ / ٢٨١ ت ٣٣٠٢) ط دار الفكر.
(٤) في مختصر أبي شامة «أبو» خطأ ، والصواب عن حلية الأولياء.
(٥) زيادة اقتضاها السياق.
(٦) هو إبراهيم بن داود الرقي ، أبو إسحاق ، من كبار مشايخ الشام ، انظر أخباره في الرسالة القشيرية ص ٤١٥.
(٧) اسمه سعيد بن سلام المغربي ، أبو عثمان ، واحد زمانه لم يوصف قبله مثله ، توفي بنيسابور سنة ٣٧٣ ، أخباره في الرسالة القشيرية ص ٤٣٤.
قلت : آذيت الشيخ. قال : ثم أقبل علي فقال : أنا لا أعرف الناس ، قد كان رجل بمكة يحمل إليّ الطعام ثلاث سنين وأنا لا أعرف اسمه ، ولكن أجدني قد أنست إليك ، فاعلم أن طريق السالكين أحكم من طريق أهل الروايات ؛ هذا الأسود الذي كان بالشام ـ يعني أبا الخير الأقطع ـ خرج إليه إبراهيم بن المولد (١) من العراق ، فوصل إليه عند المساء ، فنزل ، وتطهر ، وصلّى معه صلاة العتمة ، فازدرى به لقراءته ، ففطن أبو الخير لذلك ، فلما جن عليه الليل أخذ إبراهيم ركوته ، وذهب يجدد [وضوءا](٢) ، فبينا هو على ذلك إذ جاء سبع ، فوقف عليه ، فترك إبراهيم ركوته وعدا إلى المسجد ، فأدركه أبو الخير ، فقال : ما لك؟ قال : سبع! فخرج أبو الخير ، وأخذ بأذن السبع. وقال : يا أبا الحارث ، ألم أقل لك لا تؤذ الناس! وأخذ ركوة إبراهيم وردّها إليه.
قال أبو القاسم بكر بن محمّد :
ورد على أبي الخير رجل فقيه من العراق ، فلمّا وجبت صلاة العشاء خرج إلى المسجد وضيفه معه ، فتقدم الشيخ ، فصلّى بهم ، وكان في لسانه عجمة الحبش ، فلما فرغ من الصلاة قام الفقيه فأعاد صلاته التي صلّاها خلفه ، فلما كان من غد قدم الشيخ ضيفه فقال : تقدم ، صلّ بنا الصبح ، فإنك تحقّق القراءة أكثر منّي ، فتقدّم الرجل ، وصلّى بالشيخ ولجماعة ، ثم خرج الرجل بين الآجام (٣) ، فإذا به يصرخ ، فخرج الشيخ فدخل الأجمة ، فإذا بالرجل ملقى على ظهره ، والسبع على صدره ، فتقدم الشيخ إلى السبع ، فأخذ أذنه وقال : ويحك تخيف ضيفي!؟ ونحاه عن صدره ، فأقام الرجل مغشيا عليه ساعة ، وحمل إلى المسجد ، فلما أفاق قال له الشيخ : يا هذا ، لو حقّقت يقينك كما حققت قراءتك لكنت أحد رجال الله ، ففطن الرجل وقال : أيها الشيخ التوبة ، فقال : يا هذا ، لا يعرج إلى السماء إلّا كما نزل منها محقّقا ، ولي اجتهادي (٤) ، فصوب يقينك كما صوبت قراءتك ، ارفع سوء الظن عن عباد الله. فقال : سمعا لك وطاعة.
قال أبو ذرّ الهروي : سألت عيسى بن أبي الخير :
كيف كان حديث السبع معك؟ قال : كان أبي يخرج خارج الحصن ، وعنده آجام
__________________
(١) هو إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو الحسن الزاهد الصوفي ، انظر أخباره في حلية الأولياء ١٠ / ٣٦٤.
(٢) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.
(٣) الآجام واحدتها أجمة بالتحريك ، الشجر الكثير الملتف (القاموس).
(٤) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي مختصر ابن منظور : اجتهادك.
كثيرة ، وسباع ، وكان أبي يضرب السبع ويقول : لا تؤذ أصحابي. فلما كان ذات يوم قال : ادخل القرية فأتني بعيش (١) ، فتركت ما أمرني واشتغلت ألعب مع الصبيان بجفنة (٢) العشاء ، فغضب عليّ ، فقال : لأحملنك وأبيتنك في الأجمة ، فأخذني تحت إبطه وحملني إلى أجمة بعيدة لا أهتدي للطريق منها ، ورماني هناك ورجع ، فلم أزل أبكي وأصيح ، ثم أخذني النوم ، فانتبهت قريب السحر ، فإذا أنا بالسبع إلى جنبي ، وأبي قائم يصلي ، فلما فرغ قال له : قم فإن رزقك على الساحل. فقام السبع ومضى ، ثم نمت ، فلما أصبحت انتبهت وأبي قد ذهب ، فخرجت من الأجمة ، وعرفت الطريق ، وجئت إلى أبي.
قال أبو الحسن بن زيد :
ما كنا ندخل على أبي الخير وفي قلبنا سؤال إلّا تكلم علينا من ذلك الموضع من غير أن نسأله.
قال حمزة بن عبد الله العلوي :
دخلت على أبي الخير التيناتي ، وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاما. فلما خرجت من عنده ومشيت إذا به خلفي ، وقد حمل طبقا عليه طعام ، فقال : يا فتى ، كل هذا فقد خرجت الساعة من اعتقادك.
قال أبو الحسن علي بن محمود الزّوزني الصوفي :
كان أبو الخير التيناتي صاحب مشاهدة ، وكان يسميني : غلام الله ، وكنت أنبسط إليه. فقلت : يا سيدي ، بأيش وصلت إلى هذه الحال؟ فقال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في النوم ، فقبّل صدري ، فأنا أرى من خلفي كما أرى من قدامي.
قال : وسمعت العراقي يحكي :
إني كنت ماضيا إلى التينات أزور الشيخ ، فالتقيت بإنسان بغدادي ، فقال لي : إلى أين تمضي؟ فقلت : إلى التينات أزور الشيخ ، فقال : إن نقم بزيارة إليه الساعة ، ندخل عليه ويقدم (٣) لنا الخبز واللبن ، وأنا لا أتمكن من أكله فإني صفراوي. فدخلنا على الشيخ ، فقام
__________________
(١) العبش : الطعام.
(٢) إعجامها مضطرب في مختصر أبي شامة ، ورسمها : بجبنة.
(٣) العبارة في مختصر أبي شامة : «فقال : أنا هم بنية الزيارة الساعة فدخل عليه وتقدم» صوبنا العبارة عن مختصر ابن منظور.
ودخل إلى بيته ، وجاء على يده قصعة فيها لبن وخبز ، وقال : كل أنت هذا ، وفي يده الأخرى رمان حلو وحامض ، فتركه بين يدي البغدادي ، فقال : كل أنت هذا ، ثم قال لي : من أين صحبت هذا فإنه بدعيّ (١)؟ وما كنت سمعت منه شيئا. فلما كان بعد عشر سنين رأيته بتنّيس (٢) وهو تاجر ، وإذا به معتزلي محض.
قال عبد العزيز البحراني ـ وكان يمشي حافيا في أسفاره ـ قال :
خرجت من البصرة حافيا ونعلي بيدي ، إذا وصلت إلى بلد تحظّيت فيهما ، وإذا خرجت حملتهما بيدي إلى أن دخلت الثغر ، فلما عدت من الغزو ، وأردت الخروج من الثغر أحببت أن ألقى أبا الخير التيناتي ، فعدلت إلى التينات ، فسألت صبيا على باب الزقاق : كيف الطريق إلى مسجد الشيخ؟ فقال : ما أكثركم! قد آذيتم هذا الشيخ الزّمن (٣) ، كم تأكلون خبز هذا الضعيف؟ فوقع في قلبي من قوله ، فاعتقدت ألا آكل (٤) طعاما ما دمت بتينات. وأتيته ، فبت عنده ليلتين ما قدّم لي شيئا ، ولا عرض عليّ [شيئا](٥). فلما خرجت ، وصرت بين الزيتون إذا به يصيح خلفي : قف. فالتفتّ ، فإذا به ، فقلت : أنا أرجع إليك ، فاستقبلته ، فدفع إليّ ثلاثة أرغفة ملطوخة بلبن (٦) ، وقال لي : كل هذه فقد خرجت من عقدك ، ثم قال : أما سمعت قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الضيف إذا نزل نزل برزقه»؟ فقلت : بلى ، قال : فلم شغلت قلبي بقول صبي؟ فاعتذرت إليه ، وسرت [١٣٣٣٨].
وقال أبو الحسن العراقي :
قدم أبو الخير تنّيس ، فقال لي : قم نصعد السور نكبّر ، فصعدت معه ، ثم قلت في نفسي ونحن على السور : هذا عبد أسود قد نال ما هو فيه ، فالتفت إليّ وقال : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)(٧) ، فلمّا سمعت ذلك فزعت ، وغشي علي ، فمرّ وتركني ، فلما أفقت
__________________
(١) بدعي يعني أنه صاحب بدعة ، والبدعة بالكسر : الحدث في الدين بعد الإكمال ، أو هي ما استحدث بعد النبي صلىاللهعليهوسلم من الأهواء والأعمال. وقال ابن الأثير : البدعة : بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال. (انظر تاج العروس : بدع).
(٢) تنيس : بكسرتين وتشديد النون : جزيرة في بحر مصر قريبة من البر ، ما بين الفرما ودمياط (معجم البلدان).
(٣) الزمن : الزمانة : العاهة ، زمن زمنا فهو زمن وزمين وأزمن الله فلانا : جعله زمنا أي مقعدا ، أو ذا عاهة (تاج العروس : زمن).
(٤) في مختصر أبي شامة : أن لا آكل.
(٥) ليست في مختصر أبي شامة ، زيادة للإيضاح.
(٦) في مختصر أبي شامة : بين.
(٧) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٥.
جعلت أذمّ نفسي ، وأستغفر مما جرى في نفسي ، فجاءني ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)(١). فقمت معه.
قال أبو ذر الهروي : وسمعت عيسى بن أبي الخير ، سمعت أبي يقول :
الآن يدخل رجل عليه ثياب ـ ذكرها ـ فلما كان بعد ساعة قال أبي : بين يديه ظلمة نعوذ بالله. فلما دخل سلّم عليه أبي وقال : من أين أتيت؟ قال : من الجبل الفلاني ، قال : وما تعمل هناك؟ قال : أتزهّد وأتعبد ، قال : وأيش هذه الظلمة بين يديك؟ فقال الرجل : ليس إلّا خير. فسكت ، ثم رفع رأسه فقال : أعوذ بالله! أرى في عنقك رأسا ، ما هذا؟ فبكى الرجل ، ولطم نفسه ، وقال : اعلم أنّي بليت في شبابي بقتل ، وقد تبت من ذلك من سنين ، فما الحيلة؟ قال : ارجع إلى الجبل ، وأخلص النية لله ، فلعله يقبل توبتك.
وقال أبو الخير : كنت واقفا أركع ، فإذا أنا بإبليس اللعين قد جاء في صورة حية عظيمة ، فتطوق بين يدي سجودي ، فنفضته وقلت : يا لعين ، لو لا أنّك نجس لسجدت على ظهرك.
وقال : كنت بأطرابلس الشام بعد عشاء الآخرة ، وقد مضى من الليل وقت ، فذكرت الحرم وطيبة (٢) ، فاشتد شوقي إليه ، فقلت : أيش أعمل الساعة؟ فسجدت ، ورفعت رأسي ، فإذا أنا في المسجد الحرام.
وقال : أشرفت على .... (٣) فرأيت أكثر أهلها أصحاب .... (٤) والمرقعات. قال : فسمعت بعد ذلك عن بعض الفقراء أنّه قال : ما استوجبوا ذلك إلّا بقلة .... (٥).
قال بكر بن محمّد : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله ـ ويعرف بابن أم راغب ـ قال :
دخلت على الشيخ أبي الخير التيناتي في مسجده ، فإذا هو مع شخص يحدثه ، فقال
__________________
(١) سورة الشورى ، الآية : ٢٥.
(٢) طيبة : المدينة النبوية ، وطيبة بالكسر : اسم بئر زمزم (تاج العروس).
(٣) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.
(٤) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.
(٥) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.
لي : يا إبراهيم ، اخرج وردّ الباب ، فخرجت ، وجلست بالباب طويلا ، وكانت بي حاجة إليه ، فقلت في نفسي : إن كانا في سرّ فقد فرغا. ففتحت الباب ، ودخلت ، وإذا به جالس وحده ، فقلت : حبيبي ، أين الرجل الذي كان معك ، فإنه لم يخرج؟ فقال : يا بني ، هو لا يخرج من الباب ، فقلت : من هو؟ قال : هو الخضر ، فبكيت ، فقال : لم تبكي؟ قلت : لو عرفت لسألته الدعاء. ثم مضت مديدة ، ففتح على الشيخ نقود تركية ، فقال : يا بني ، لو حملت إلى الأذنة فبعته ، وابتعت به حوائج ـ ذكرها ـ. فانحدرت ، فاشتريت الحوائج ، وحملتها في كساء على ظهري ، فلقيت رجلا في الطريق ، فسلم علي ، وقد بقي إلى التينات ستة أميال ، فقال : يا أخي قد تعبت ، فناولني أحمل عنك ، فناولته ، فحملها ، وجعل يحادثني بأخبار الصالحين حتى بلغنا التينات ، فدفعها ، وودعني ، وقال : تقرأ على الشيخ منّي السّلام ، فقلت : حبيبي ، أقول من؟ قال : هو يعرف. فلما دخلت على الشيخ قال لي : يا إبراهيم ، ما استحييت ، حمّلته ستة أميال؟ ما حسدتك ، وحسدتني على كلامه إياي؟ فبكيت ، وقلت : هو هو؟ قال : هو هو ولا حيلة ، تبكي إذا لم تلقه ، وتبكي إذا لقيته!.
قال أبو الحسن جعفر بن هارون السيرواني :
أنفذ أبو علي للمستولي إلى أبي الخير الأقطع صرّة دنانير مع أبي عوانة ، فأخذ الصرّة ، فقسمها وجعلها قسمين ، ثم أخذ قسما وقال : هذا يصلح لنا ، وذاك لا يصلح لنا. فرد ما ردّه من الدنانير إلى أبي علي ، فدعا بوكلائه وقال : من أين حملت هذه الدنانير؟ قالوا : وقفت على بغلة فبعناها على بعض الأخشادية ، فقال أبو علي : من هاهنا أتينا.
قال أبو ذرّ : سمعت عيسى يقول :
كان خيثمة بن سليمان يبعث كلّ سنة لي شيئا. فلمّا كان بعض السنين بعث لي ذلك مع رجل ، فإذا بين الدراهم التي بتينات وبين الذي معه صرف ، فباع ما معه بدراهم تينات ، وأخذ الزيادة لنفسه ، ثم جاء اليّ ، وأعطاني ، فخرج أبو الخير إلى الطرابلس من يومه ، فإذا بخيثمة قد خرج إلى الصحراء لبعض شأنه ، فلما رآه عرفه. وترجّل له. وقبّل رأسه ، وقال له : ما الذي أقدمك؟ فقال : كنت تبعث لنا في كل سنة بشيء طيب ، وهذا ليس بطيّب ، والذنب للرسول ، ولكن لا تعاقبه ، ولا تستعمله أبدا. وترك تلك الدراهم عنده ورجع ، فرجع الرسول بعد أيام ـ قال خيثمة : وكنت كتبت اليوم الذي رأيت فيه أبا الخير ـ فقال : قدمت تينات وسلمت إليه ما أمرتني في يوم كذا وكذا. قال : وهو اليوم الذي جاءني أبو الخير ، وبين تينات وبين
طرابلس مسيرة أيّام فوق العشرة ، فأخرجت إلى الرسول الصرّة ، .... (١) وفزع. فقلت لو لا أنّه قال : أن لا أعاقبك لعاقبتك (٢) ، ولكن مرّ ، فليس تصلح لخدمتي.
قال أبو الخير (٣) : من أحب أن يطلع النّاس على عمله فهو مراء ، ومن أحب ألّا يطلع الناس على حاله فهو مدّع كذّاب.
قال أبو القاسم بكر بن محمّد المنذري :
سألني أبو حفص عمر بن عبد الله الأسواني (٤) عن أبي الخير التيناتي فقلت : قد نحل جسمه ، فقال : قربت وفاته ، قلت : من أين قلت؟ قال : ما هو بمريد فتنحله الرياضة ، ولا بخائف تذيبه الهموم ، وما هو إلّا يصفيه حتى يقبضه إليه. قال : فوصل الخبر بعد مديدة بوفاته ـ رحمهالله ـ.
قال أبو القاسم : وسمعت أبا الخير التيناتي يقول :
بعثت إلى الثغور ، فبكيت ، فقيل لي : هي محروسة ما عشت ، وفلان ، وفلان ، وفلان ـ طائفة من الأخيار ـ ما بقي منهم غيري ، كلهم ماتوا.
قال السلمي : سمعت أبا الأزهر يقول :
عاش أبو الخير التيناتي مائة وعشرين سنة ، ومات سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ، أو قريبا منه (٥).
حرف الدال
٨٤٩٤ ـ أبو دوس الأشعري
حدّث عن معاوية.
روى عنه : يزيد بن سنان الأشعري.
__________________
(١) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.
(٢) من قوله : فأخرجت إلى هنا ، سقط من مختصر ابن منظور.
(٣) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٣٧٧.
(٤) الأسواني بفتح الألف وسكون السين المهملة ، نسبة إلى أسوان ، وهي بلدة بصعيد مصر. (الأنساب ١ / ١٥٨).
(٥) جاء في الرسالة القشيرية أنه مات سنة ٣٤٠ ه (ص ٣٩٤) وقال الشعراني في الطبقات الكبرى ١ / ١٠٩ : مات بمصر سنة نيف وأربعين وثلاثمائه ودفن بجنب منارة الديلمية بالقرافة الصغرى. وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٥ وتوفي بعد الأربعين وثلاثمائة.
[حرف (١) الذال]
٨٤٩٥ ـ أبو ذرّ الغفاري (٢)
صاحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
اختلف في اسمه اختلافا كبيرا ، والأظهر أنّه جندب بن جنادة. وهو من أعيان الصحابة. قديم الإسلام. أسلم بمكة قبل الهجرة ، ورجع إلى بلاد قومه ، ولم يشهد مع النبي صلىاللهعليهوسلم بدرا.
وحدّث عنه بأحاديث كثيرة.
روى عنه : أبو سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأنس ، ومعاوية بن حديج ، ويزيد بن وهب ، والمعرور بن سويد ، وعبد الله بن الصامت ، ويزيد بن شريك ، وجبير بن نفير ، وأبو مسلم الخولاني وأبو إدريس الخولاني ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله ، وأبو الأسود الدولي ، وخرشة بن الحر ، وربعي بن حراش ، وزر بن حبيش ، وأبو الشعثاء ، وأبو السليل ضريب بن نفير ، وغيرهم.
وشهد فتح بيت المقدس ، والجابية مع عمر بن الخطّاب ، وقدم دمشق ، ورآه بها الأحنف بن قيس ، وقيل : ببيت المقدس ، وقيل : بحمص.
وذكر أبو بكر البلاذري قال (٣) :
بنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال له أبو ذرّ : إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف. فسكت معاوية.
وقال محمّد بن سعد (٤) : أخبرنا محمّد بن عمر ، حدّثنا خالد بن حيان قال :
كان أبو ذر وأبو الدرداء في مظلتين من شعر بدمشق.
__________________
(١) سقط القسم الكبير من ترجمة أبي ذر الغفاري ، نستدرك القسم الساقط من مختصر أبي شامة ، ووضعنا القسم المأخوذ عنه بين معكوفتين ، وسنشير إلى نهايته في موضعه.
(٢) ترجمته في تهذيب الكمال ٢١ / ٢١٣ وتهذيب التهذيب وتقريبه : ١٠ / والإصابة ٤ / ٦٢ والاستيعاب ٤ / ٦١ (هامش الإصابة) وأسد الغابة ٥ / ٩٩ وطبقات ابن سعد ٤ / ٢١٩ والتاريخ الكبير ٢ / ٢٢١ وحلية الأولياء ١ / ١٥٦ وسير الأعلام : (٣ / ٣٧٨ ت ١٠٦) ط دار الفكر وأنساب الأشراف ٦ / ١٦٦.
(٣) الخبر في أنساب الأشراف ٦ / ١٦٧ طبعة دار الفكر.
(٤) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢٣٦ وعن ابن سعد رواه الذهبي في سير الأعلام (٣ / ٣٨٠) ط دار الفكر.
وقال الأحنف بن قيس :
دخلت مسجد دمشق فإذا رجل يكثر الركوع والسجود. قلت : لا أخرج حتى أنظر أعلى شفع يدري هذا ينصرف أم على وتر ، فلما فرغ قلت : يا أبا عبد الله أعلى شفع تدري انصرفت أم على وتر؟ فقال : إلّا أدر فإنّ الله يدري ؛ إني سمعت خليلي أبا القاسم صلىاللهعليهوسلم ـ ثم بكى ، ثم قال : سمعت خليلي أبا القاسم صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «ما من عبد يسجد لله سجدة إلّا رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة» ، قلت : من أنت ، رحمك الله؟ قال : أنا أبو ذر. قال الأحنف : فتقاصرت إليّ نفسي ممّا وقع في نفسي عليه.
وقال أبو ذر :
قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اتق الله حيثما كنت ، واتبع السنة الحسنة ... (١) وخالق الناس بخلق حسن».
قال أبو زرعة :
وممن نزل الشام من مصر أبو ذرّ جندب بن جنادة الغفاري ، نزل بيت المقدس يوم ارتحله عثمان إلى المدينة.
قال ابن سعد في الطبقة الثانية (٢) :
وأبو ذرّ ، واسمه جندب بن جنادة ـ وساق نسبه إلى غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار ـ.
قال : وكان خامسا في الإسلام ، ولكنه رجع إلى بلاد قومه ، فأقام بها حتى قدم على النبي صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك ، وتوفي لأربع سنين بقيت من خلافة عثمان ، وصلّى عليه عبد الله بن مسعود بالرّبذة ـ زاد غيره : سنة اثنتين وثلاثين ـ.
ووقع في طبقات ابن سميع أنه بدريّ ، وهو وهم ؛ فإن أبا ذرّ لم يشهد بدرا.
وقال البخاري (٣) :
هاجر إلى النبي صلىاللهعليهوسلم. حجازي. ومات بالرّبذة في زمن عثمان.
__________________
(١) كلمة غير واضحة في مختصر أبي شامة.
(٢) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢١٩ و ٢٢٤ و ٢٢٦.
(٣) التاريخ الكبير للبخاري ٢ / ٢٢١.
قال أبو أحمد الحاكم :
أبو ذر جندب بن جنادة ـ ويقال : برير بن جندب ، ويقال : برير بن جنادة ، ويقال : جندب بن عبد الله ، ويقال : جندب بن السكن. والمشهور : جندب بن جنادة ـ الحجازي.
له صحبة. وأمّه : رملة بنت الوقيعة (١) ، من بني غفار أيضا.
قال ابن يونس :
شهد فتح مصر ، واختط بها ، حدّث عنه من أهل مصر عمرو بن العاص وأبو بصرة الغفاري ومعاوية بن حديج (٢) ، وذكر غيرهم.
قال ابن مندة :
ويقال : إن اسم أبي ذر جنادة بن السكن ، روى عنه عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة.
قال أبو نعيم :
اختلف في اسمه ونسبه ، وكان يتعبد قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم بثلاث (٣) سنين ، يقوم بالليل مصليا ، حتى إذا كان آخر الليل سقط كأنّه خرقة ، ثم أسلم بمكة في أول الدعوة ، وهو رابع الإسلام ، وهو أول من حيّا النبي صلىاللهعليهوسلم بتحية الإسلام ، وبايع النبي صلىاللهعليهوسلم على ألّا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم كان يشبه بعيسى بن مريم عبادة ونسكا ، لم يتلوث بشيء من فضول الدنيا حتى فارقها. ثبت على العهد الذي بايع عليه النبي صلىاللهعليهوسلم من التخلي عن فضول الدنيا ، والتبري منها ؛ كان يرى إقبالها محنة وهوانا ، وإدبارها نعمة وامتنانا. حافظ على وصيّة الرسول صلىاللهعليهوسلم له في محبّة المساكين ومجالستهم ، ومباينة المكثرين في مفارقتهم. كان يخدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فإذا فرغ منه أوى إلى مسجده ، واستوطنه. سيّد من آثر العزلة والوحدة ، وأوّل من تكلم في علم الفناء والبقاء. وكان وعاء مليء علما فربط عليه.
كان رجلا آدم طويلا أبيض الرأس واللحية ، توفي بالرّبذة ، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه عبد الله بن مسعود في نفر كان منهم حجر بن الأدبر ، سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بها.
__________________
(١) في مختصر أبي شامة : «الرقيعة» والمثبت عن الإصابة وأسد الغابة.
(٢) في مختصر أبي شامة : خديج.
(٣) في مختصر أبي شامة : ثلاث.
وكان يؤاخي سلمان الفارسي. لم تقلّ الغبراء ، ولم تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق منه (١).
قال أحمد بن حنبل (٢) ، حدّثنا إسماعيل ، حدّثنا أيوب عن أبي قلابة ، عن رجل من بني عامر قال :
كنت كافرا فهداني الله إلى الإسلام ، وكنت أعزب عن الماء ، ومعي أهلي ، فتصيبني الجنابة ، فوقع ذلك في نفسي ، وقد نعت لي أبو ذرّ ، فحججت ، فدخلت مسجد منى ، فعرفته ، بالنعت (٣) ، فإذا شيخ معروق (٤) آدم عليه [حلة](٥) قطريّ (٦).
وقال الأحنف بن قيس (٧) :
قدمت المدينة ، فدخلت مسجدها ، فبينما أنا أصلي إذ دخل رجل آدم طوال أبيض الرأس واللحية محلوق ، يشبه بعضه بعضا. قال : فخرج ، فاتّبعته ، فقلت : من هذا؟ قالوا : أبو ذرّ.
وفي صحيح مسلم (٨) : حدّثنا هدّاب بن خالد الأزدي [وقال محمّد بن سعد (٩) : أخبرنا هاشم بن القاسم الكناني أبو النضر قالا :](١٠) حدّثنا سليمان بن المغيرة (١١) ، أخبرنا حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذرّ :
خرجنا من قومنا غفار ، وكانوا يحلّون الشهر الحرام ، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمّنا ، فنزلنا على خال لنا ، فأكرمنا خالنا ، وأحسن إلينا ، فحسدنا قومه ، فقالوا : إنّك إذا خرجت عن
__________________
(١) في الاستيعاب ٤ / ٦٤ (هامش الإصابة) روى بسنده إلى أبي الدرداء أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر.
(٢) رواه أحمد بن حنبل في المسند ٨ / ٦٨ رقم ٢١٣٦٢ طبعة دار الفكر والإصابة ٤ / ٦٣.
(٣) رسمها في مختصر أبي شامة : «مالنعب» وفي مختصر ابن منظور : «فالتفت» والمثبت عن مسند أحمد.
(٤) تحرفت في مسند أحمد إلى : «معروف» ومعروق : قليل اللحم.
(٥) زيادة عن المسند.
(٦) قطري : بكسر القاف وسكون الطاء : ضرب من البرود ، في حمرة.
(٧) رواه الذهبي في سير الأعلام ٢ / ٥٠.
(٨) صحيح مسلم (٤٤) كتاب فضائل الصحابة (٢٨) باب رقم ٢٤٧٣ (ج ٤ / ١٩١٩).
(٩) ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢١٩.
(١٠) ما بين معكوفتين استدرك عن هامش مختصر أبي شامة.
(١١) ومن طريقه رواه الذهبي في سير الأعلام (٣ / ٣٨٠) ط دار الفكر.
أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا ، فثنا (١) علينا الذي قيل له ، فقلت : أمّا ما مضى من معروفك فقد كدّرته ، ولا جماع لك (٢) فيما بعد. فقرّبنا (٣) صرمتنا (٤) ، فاحتملنا عليها ، وتغطّى خالنا بثوبه فجعل يبكي. فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة ، فنافر (٥) أنيس عن صرمتنا وعن مثلها ، فأتيا الكاهن ، فخيّر أنيسا ، فأتانا (٦) أنيس بصرمتنا ومثلها معها.
قال : وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بثلاث سنين ، قلت : لمن؟ قال : لله ، قلت : فأين توجّه؟ قال : أتوجه حيث يوجهني ربي ، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأنّي خفاء (٧) حتى تعلوني الشمس. فقال أنيس : إنّ لي حاجة بمكة ، فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة ، فراث عليّ (٨) ، ثم جاء ، فقلت : ما صنعت؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك ، يزعم أن الله أرسله. قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعت [قوله](٩) على أقراء الشعر (١٠) فما يلتئم على لسان أحد يعدو أنه (١١) شعر ، والله إنه لصادق ، وإنهم لكاذبون.
قال : قلت : فاكفني حتى أذهب فأنظر ـ زاد في رواية أخرى : قال : نعم ، وكن على حذر من أهل مكة ، فإنهم قد شنفوا (١٢) له ، وتجهّموا (١٣) ـ.
قال : فأتيت مكة ، فتضعّفت (١٤) رجلا منهم ، فقلت : أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟
__________________
(١) فثنا علينا الذي قيل له : أي أشاعه وأفشاه.
(٢) في مختصر أبي شامة : «لي» والمثبت عن صحيح مسلم.
(٣) في سير الأعلام : فقدمنا.
(٤) الصرمة : القطعة من الإبل.
(٥) نافر : حاكم ، يقال : نافرت الرجل منافرة إذا قاضيته ، والمنافرة : المفاخرة والمحاكمة ، فيفخر كل واحد من الرجلين على الآخر.
(٦) في مختصر أبي شامة : «فأبى» والمثبت عن صحيح مسلم.
(٧) الخفاء : الكساء ، وجمعه أخفية.
(٨) أي أبطأ.
(٩) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.
(١٠) واحدها قرء ، وأقراء الشعر : طرقه وأنواعه.
(١١) في صحيح مسلم : «بعدي أنه شعر» وفي طبقات ابن سعد : «بعيد أنه شعر».
(١٢) بدون إعجام في مختصر أبي شامة ، والمثبت عن صحيح مسلم ٤ / ١٩٢٣ وفي طبقات ابن سعد : شنعوا.
(١٣) يعني قابلوه بوجوه غليظة وكريهة.
(١٤) في ابن سعد : «فاستضعفت» وتضعفت رجلا منهم : أي نظرت إلى أضعفهم.
فأشار إليّ ، فقال : هذا الصابئ ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب (١) أحمر ، فأتيت زمزم ، فغسلت عني الدماء ، وشربت من مائها ، ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم ، ما كان لي طعام إلّا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، وما وجدت على كبدي سخفة (٢) جوع.
قال : فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان (٣) إذ ضرب الله على أسمختهم (٤) ، فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين ، فأتتا عليّ وهما يدعوان إسافا ونائلة ، فقلت : هن مثل الخشبة ـ غير أني لا أكني ـ فانطلقتا تولولان ، وتقولان : لو كان هاهنا أحد من أنفارنا! فاستقبلهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر وهما هابطان (٥) ، قال : «ما لكما»؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها ، قال : «ما قال لكما»؟ قالتا : إنّه قال لنا كلمة تملأ الفم (٦). وجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتّى استلم الحجر ، وطاف بالبيت هو وصاحبه ، ثم صلّى ، فلما قضى صلاته كنت أوّل من حيّاه بتحية الإسلام ، فقال : «وعليك ورحمة الله ، ممن أنت»؟ قلت : من غفار ، فأهوى بيده ، فوضع أصابعه على جبهته ، فقلت في نفسي : كره أن انتميت إلى غفار ، فذهبت آخذ بيده ، فقدعني (٧) صاحبه ، وكان أعلم به مني ، فرفع رأسه ثم قال : «متى كنت هاهنا»؟ قلت : منذ ثلاثين بين ليلة ويوم ، قال : «فمن كان يطعمك؟» قلت : ما كان لي طعام إلّا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسّرت عكن بطني ، فما وجدت على كبدي سخفة جوع. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنها مباركة ، إنها طعام طعم» (٨).
فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ائذن لي في إطعامه الليلة ، فانطلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأبو بكر ، وانطلقت معهما ، ففتح أبو بكر بابا ، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف ، فكان ذلك أوّل طعام أكلته بها ، ثم غبرت ما غبرت (٩) ، ثم أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «إنه قد وجهت لي
__________________
(١) النصب : الحجر أو الصنم ، وقد كانوا ينصبونه في الجاهلية ويذبحون عليه ، فيحمر بالدم ، أراد أنهم ضربوه حتى أدموه.
(٢) سخفة الجوع : رقته وضعفه وهزاله.
(٣) ليلة إضحيان أي مضيئة ومنورة.
(٤) أسمختهم جمع سماخ وهو الخرق الذي في الأذن ويفضي إلى الرأس ، والمراد هنا : آذانهم.
(٥) في مختصر ابن منظور وسير الأعلام : هابطتان.
(٦) أي كلمة كبيرة عظيمة لا شيء أقبح منها.
(٧) قدعني صاحبه : أي كفني ومنعني.
(٨) طعام طعم : أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.
(٩) أي بقيت ما بقيت.
أرض ذات نخل ، لا أراها إلّا يثرب ، فهل أنت مبلّغ عني قومك ، عسى الله أن ينفعهم بك ، ويأجرك فيهم» [١٣٣٣٩].
فأتيت أنيسا ، فقال : ما صنعت؟ فقلت : صنعت أنّي أسلمت ، وصدّقت ، قال : ما لي (١) رغبة عن دينك ، فإنّي قد أسلمت وصدّقت. فأتينا أمّنا ، فقالت : ما لي (٢) رغبة عن دينكما ، فإنّي قد أسلمت ، وصدّقت. فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا ، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة [فقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة](٣) ، فأسلم نصفهم الباقي. وجاءت أسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إخوتنا ، نسلم على الذي أسلموا عليه ، فأسلموا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله».
رواه ابن عون (٤) ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذرّ قال :
صليت قبل أن يبعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم بسنتين ، قلت : أين كنت توجّه؟ قال : حيث وجّهني الله ، كنت أصلي حتى إذا كان نصف الليل سقطت كأني خرقة ـ فذكر الحديث نحو ما مضى إلى أن قال : ـ فانطلق أخي أنيس ، فأتى مكة ، فلمّا قدم قال : أتيت رجلا تسميه الناس الصابئ ، هو أشبه الناس بك.
قال أبو ذرّ :
فأتيت مكة ، فرأيت ، رجلا هو أضعف القوم في عيني ، فقلت : أين الرجل الذي تسميه الناس الصابئ؟ فرفع صوته عليّ ، وقال : صابئ ، صابئ. فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر ، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها ، فكنت فيها خمس عشرة من بين يوم وليلة ـ فذكر الحديث في اجتماعه بالنبي صلىاللهعليهوسلم نحو ما مضى ـ وقال : قال صاحبه : يا رسول الله ، أتحفني (٥) بضيافته الليلة.
رواه مسلم في الصحيح مختصرا ، ثم قال (٦) : وحدّثني إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، ومحمّد بن حاتم قالا : أخبرنا عبد الرّحمن بن مهدي ، حدّثنا المثنى بن سعيد ، عن أبي
__________________
(١) في صحيح مسلم : ما بي.
(٢) الزيادة بين معكوفتين عن صحيح مسلم ، للإيضاح.
(٣) الزيادة بين معكوفتين عن صحيح مسلم ، للإيضاح.
(٤) راجع صحيح مسلم ٤ / ١٩٢٣.
(٥) أتحفني بضيافته : أي خصني بها وأكرمني بذلك.
(٦) صحيح مسلم (٤٤) كتاب فضائل الصحابة (٢٨) باب ، رقم ٢٤٧٤ ج ٤ / ١٩٢٣ ـ ١٩٢٤ وأسد الغابة ٥ / ١٠٠ ـ ١٠١ وابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.