رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

التي تعيش على الساحل ، وتحمل قطعان ماشيتها على الفلك. وقد كانت حين لجأنا إليها مقفرة ، ولكننا نرى فيها أكواخا بناها الرعاة ، ثم تركوها حتى موسم الرعي القادم. إن لهؤلاء البدو ، شأنهم شأن بدو الساحل كلهم ، سمعة سيئة لدى البحارة ، لأنهم يعدونهم لصوصا من ذوي الجرأة ، يسطون في أغلب الأوقات على المراكب ، أو إنهم يأخذون منها جعالة على الأقل : لذلك يحرص البحارة على تجنب الاقتراب منهم ، ويظلون بمراكبهم على مسافة آمنة من المناطق المشبوهة.

وينبغي أن أشير هنا إلى أن الريس قدّم لبحارته ولنا القهوة إكراما لأحد أولياء الله المسلمين المدفون في جزيرة مجاورة ، واسمه الشيخ حسن المرابط (١) (بكسر الميم) ويلفظه البحارة / ١٠٥ / مرابط (بضم الميم) ، وهو اسم تحول في الجزائر إلى مربوط (مارابوMarabout) ، والمرابط هو الذي نذر نفسه للدفاع عن الدين. وإن الولي المذكور هو سيّد هذه الأنحاء التي يلقى

__________________

ـ غربي أم لجّ تغيب عليه الشمس ، فيه أشجار وليس به سكان إلّا من ينجعه من بعض الناس إذا أعشب ، وقد قرأت لمن كتبه حسّاني بياء النسبة ، وهو خطأ ، وهذا الجبل يكوّن جزيرة تتبعها أخريات صغار. انظر : معجم جبال الجزيرة ، عبد الله بن خميس ، الرياض ، ط ١ ، ١٤١٠ ـ ١٩٩٠ ، ج ٢ ص ٢١٠ ؛ وانظر معجم معالم الحجاز ، البلادي ، ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٩ م ، ج ٣ ، ص ٦ ؛ وانظر جزر البحر الأحمر (الملف العلمي) ، مجموعة من المؤلفين ، الجمعية العلمية الملكية الأردنية ، ١٩٨٩ ، ص ٧٠٩ حيث سميت جزيرة الحساني ، وقيل إنها جزيرة ذات سطح جبلي ، ويبلغ أعلى منسوب بها ١٤٦ م عن سطح البحر ... ويوجد إلى الجنوب منها ممر ملاحي ضيق يؤدي إلى ميناء أم لج. وقال فيلبي في : أرض الأنبياء مدائن صالح ، موثق سابقا ، ص ٣٤٠ ، «... وقد جرى الحديث (في أم لج) في يوم من الأيام حول الاستفادة من مخزون (سماد الطيور) في الجزر القريبة من الشاطىء ، تلك الجزر التي تعتبر أكبرها جزيرة (حساني) ، وتبعد مسافة ليست كبيرة عن الشاطىء ، ولا يسكنها إلا أسراب كبيرة من الطيور البحرية». وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٧٨ ، ١٨٠.

(١) انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٧٨.

١٢١

فيها تبجيلا عظيما. لا تمر سفينة بجوار ضريحه دون أن تطلب عونه ، ودون أن ترسل إلى ضريحه الذي تحرسه أسرة عربية ، أعطية من الطحين أو القمح (١).

إن البحارة المحليين مفرطون في التطيّر ، فناهيك عن تبجيلهم الأولياء وإخلاصهم لهم ، فهم يعتقدون أن قاع البحر مسكون بالجن ، وأن منهم الأخيار ، ومنهم الأشرار ، وقد سبق لنا أن تأكدنا من ذلك عند بركة فرعون ؛ إنهم ينسبون للجن الأخيار الإبحار الموفق ، ويتهمون الأشرار بأنهم يهيجون الأمواج ، ويعصفون الرياح ، ويجذبون السفن إلى وسط المهالك. لذلك لا يفوت البحارة أبدا أن يخطبوا ودهم بأن يرموا لهم في البحر ما تحتويه وجباتهم ، بعض حبات من التمر ، وقبضة من الطحين ، وفي بعض الأحيان رغيف خبز كامل لكي يكون للأرواح الشريرة نصيبها أيضا (٢).

لم نكن نرى اليابسة في يومي ٤ و ٥ فبراير (شباط) ، ولكنها عادت إلى الظهور ، ورأيت عند الظهور الشمس ، في الأفق مدرجات جبلية رائعة يتلو بعضها بعضا ، وهي مقسمة بمهارة عجيبة ، وإن أقرب سلسلة تسمى نبط (٣) ، وأبعدها / ١٠٦ / أبو غريرAbou Gharir. وتعلو قمة جبل المهر المخروطية على كل القمم الأخرى. وتمتد تلك الجبال نحو الجنوب ؛ وخلف هذه الجبال تقبع المدينة المنورة ، ووراءها باتجاه الشمال الشرقي صحراء نجد الشاسعة التي يفصلها عن بغداد جبل شمر ، ويوجد في تلك الصحراء أكثر جياد الجزيرة

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٩١ ، وقارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨.

(٢) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٣) كتبها ديدييه Nabt وهو مكان معروف. أما جبل المهر فقد كتبها ديدييه Mahar ، وجاء في : معجم معالم الحجاز ، للبلادي ، ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م ، ج ٨ ، ص ٣٠١ ـ ٣٠٢ : أن المهر جبل بطرف حرّة عويرض من الشمال ، أسود طويل لبني عطية ، تدعه سكة حديد الحجاز إلى المدينة يمينها ، يصب ماؤه في سهل المعظم. ولم أجد : أبو غرير فتركته كما كتبه المؤلف. وانظر : الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥١.

١٢٢

العربية قيمة. وبعد أن تجاوزنا من مسافة بعيدة جدا رأس بريدي Baridi ، توقفنا للمرة الثالثة في عرض البحر ، بعيدا عن التيارات البحرية العميقة المحملة بالصخور ، يساعدنا في ذلك استمرار الطقس الرائع. وأجد نفسي عاجزا عن وصف ذلك الجمال ، الذي يستعصي على الوصف لتلك الأمسيات التي قضيناها في عرض البحر ؛ روعة غروب الشمس التي كانت تتكرر في كل يوم ، ولكنها كانت تختلف على الدوام. أما في هذا اليوم ، فقد كان المشهد أكثر تألقا أيضا من اليوم السابق ، لو كان بالإمكان ذلك ، كانت ألوان السماء والبحر أكثر توهجا ، والطبيعة كلها أكثر روعة وأكثر هدوءا. لم يكن في البحر موجة واحدة ، ولم يكن في السماء أية سحابة. وكانت قمة جبل رضوى التي كنا نراها من موقعنا الذي رسونا فيه ، مضاءة وكأنها منارة ضخمة ، وكانت ما تزال تلتمع ، مع أن الشمس اختفت خلف البحر. ومع أن نجم سهيل كان يتبعها عن قرب ، ويسبح في فلكها المتوهج فإنه كان يلتمع على حافة الأفق لمعانا فريدا. وكانت النجوم الطالعة شاحبة حوله ، ولا تبدأ بالالتماع إلّا عند ما تبدو هي نفسها تسبح في المدى الرحيب. / ١٠٧ /

قريبا سيظهر القمر ، وسيتلو السنا الذي انطفأ منذ قليل ظلام غير كثيف ، أو بعبارة أدق ، ضوء خفيف تراه في ليلة من الليالي الرائعة في آسيا ، التي هي أكثر ألقا من أيام طقسنا السديمي (يقصد في أوروبا). كان السنبوك ، وهو مستقر في مرساه ، يلفه الصمت والصلام ، وكان الجميع على متن السنبوك يغطون في نوم عميق ، إلّا أنا ؛ إذ لا يستطيع النوم أن يسلبني ميزة التمتع بهذه الأمسية الجميلة.

كان ذلك مظهرا من مظاهر التهاون واللامبالاة لدى الملاحين العرب ، الذين لم يكن أي منهم يقوم بنوبة الحراسة! لقد تركوا المركب طوال الليل في حراسة الله. كانت الأمسية الهادئة والليلة الجميلة تنبئان أن البحر سيكون هادئا في اليوم التالي ، وقد حصل ذلك بالفعل إبّان فترة الصباح كلها.

أمّا البحارة الذين لم يكن لديهم منذ غادرنا السويس ما يفعلونه تقريبا ، فقد بدؤوا بالتجديف الذي كان يترافق لشحذ الهمم بغناء رتيب وحزين ، لم

١٢٣

أحفظ منه إلا الكلمة الأولى ، يا سيدي ، لأنها كانت تتردد كثيرا ، وعلى الدوام بالتنغيم نفسه. يقوم البحارة ، شأنهم شأن العرب كلهم ، بكل أعمالهم على وقع الغناء ، فهم ، سواء كانوا ينشرون الأشرعة أم يطوونها ، وسواء كانوا يلقون المرساة أم يرفعونها ، يغنون معا لزيادة السرعة وللعمل بتوافق ، وإن لكل مناورة نصها الغنائي الخاص ، ولكن ذلك لم يكن ليمنع من تنفيذ المناورة بكثير من الاضطراب والبطء (١). لكن الهدوء لم يستمر على كل الأحوال طويلا ؛ إذ هبّ بعد عدة ساعات هواء الشمال ، الذي يهب لمدة تسعة أشهر في السنة على البحر الأحمر ، والذي يسهم في سرعة الإبحار ، مما جعلنا نصل عند الظهيرة إلى ينبع(٢).

إن ينبع ميناء المدينة المنورة ، تبعد عنها مسيرة خمسة أيام إلى الشرق : وميناؤها واسع ، وآمن جدا ، لأنه محمي بجزيرة العباسي (٣) ، ويغشاه الناس كثيرا. إن السفن التي تذهب من السويس إلى جدة ومن جدة ، إلى السويس تلقي مراسيها كلها فيه ، وهناك رحلات تكاد تكون يومية مع القصير ؛ وهي مدينة بحرية صغيرة تقع في الأراضي المصرية ، وتصل البحر الأحمر بالنيل عن طريق قنا (٤).

ينبع مدينة ذات أهمية ضئيلة ، سيئة العمار ، تكاد تكون مقفرة ، ومشبعة

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) انظر : بلاد ينبع ، لمحات تاريخية جغرافية وانطباعات خاصة ، حمد الجاسر ، دار اليمامة ، الرياض ، ١٩٦٦ م. وانظر كتاب التراث الشعبي في أدب الرحلات ، د.

أحمد عبد الرحيم نصر ، الدوحة ، ١٩٩٥ ، ص ٦٤ ـ ٦٥.

(٣) العباسي كتبها ديدييه Al ـ Abbari ولعله خطأ مطبعي إذ الصواب العباسي ، انظر كتاب بلاد ينبع للشيخ حمد الجاسر ، موثق سابقا ، ص ١١٦. وقد كتبت في الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٢Al ـ Abhari وهو خطأ أيضا.

(٤) هذا طريق تجارة داخلية يمتد من القصير إلى الغرب عبر قنا ويمثل خط الاتصال بين الصعيد والبحر الأحمر به طرق للقوافل تستغرق أربعة أيام من قنا إلى القصير. انظر كتاب : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٥ ، ٣٦٤.

١٢٤

بتلك الرائحة المقززة الخاصة بالمدن العربية ، والتي وجدتها نفسها في المغرب وفي طرابلس الغرب وفي مصر وسوريا. وينبع محاطة بسور مهدم في كثير من المواضع ، يوشك أن يسقط في كل أجزائه ، ومحصن بأبراج هي في حالة تشبه حالة السور سوءا. ويقسم خور الخليج المدينة إلى قسمين غير متساوين ، ويشكل أصغر القسمين ما يشبه الربض (الضاحية) تسمى القعد ويسكنها البحارة (١). وإن سوق ينبع كثير السلع ، ويباع فيها التمر ذو النوعية الجيدة ؛ وإن تمور المدينة مشتهرة بأنها أفضل تمور العالم. والتمر هو الغذاء المفضل لدى البدو ، وهم يطعمونه / ١٠٩ / أحصنتهم أيضا. لقد باركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، ويتكرر ذكره في آلاف المواضع في كتب الشرق المقدسة أو غيرها. ويؤدي دورا رئيسيا في الروايات الشفوية في الصحراء.

لقد قمت بجولة طويلة عبر شوارعها ، ولكنني لم أستفد من ذلك شيئا ذا بال. رأيت عددا من البيوت الخربة التي لا يكلف الناس أنفسهم ، كما هي العادة في البلاد الإسلامية ، عناء إصلاحها أو إزالة أنقاضها التي تضفي على تلك المدن المهدمة هيئة كئيبة.

كان فوق بعض الأبواب نقوش محفورة في الحائط ، ومخصصة لدفع شر العين الشريرة (٣) ، وهذا معتقد عالمي نجده في الشرق والغرب معا. وبينما كنت مشغولا بالنظر إلى أحد تلك النقوش الخرافية محاولا تفسيره ، أطلت إحدى العجائز برأسها ، وبدا أنها تظن أنني لم آت إلى هنا إلّا بقصد إصابة

__________________

(١) أما القسم الكبير فيسمّى : ينبع. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٣.

(٢) ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الشأن هو حديث عائشة رضي‌الله‌عنها من قولها : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر» ، وحديث آخر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة! بيت لا تمر فيه ، جياع أهله ، يا عائشة! بيت لا تمر فيه ، جياع أهله ـ أو جاع أهله ـ» قالها مرتين أو ثلاثا ، انظر : صحيح مسلم ، ج ٣ ، كتاب الأشربة ، حديث رقم ١٥٢ ، وحديث رقم ١٥٣.

(٣) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥.

١٢٥

منزلها بالعين ؛ لذلك نظرت إليّ نظرة ملؤها الحقد والخوف والرعب ، حتى إنني كنت سأصعق لو كانت النية تكفي لذلك. في الشرق لا نحدق في الأشياء أيا كان نوعها ، بيتا أم حيوانا ، أم شخصا ، أو حتى شجرة ، دون أن يصبح من يحدق مشكوكا فيه ، ويتّهم بأنه عائن.

كان حمالة القاهرة ينزعجون عند ما كنت أتوقف أمام البيوت التي كانت أبوابها أو شرفاتها تلفت نظري ، وقد جرّ علي فضولي الكثير من لعناتهم. / ١١٠ / أما في ينبع فقد رأيت مشهدا معاكسا لذلك المشهد الصامت مع العجوز ، كان هناك فريق من الأولاد ، وكانوا عراة ، وأكبرهم لا يتجاوز الرابعة من عمره ، وكانوا يقيمون حفلة صاخبة لم يقطعها وجودي بينهم. كان أحد الأولاد يقرع بضربات مزدوجة على دربوكة أكبر منه ، وكان الآخرون يرقصون وقد تحلقوا وسط الغبار. ولو أنني كنت بارعا في الرسم براعة ديكام (١) Decamp ، لكان باستطاعتي أن أرسم هنا لوحة تكون نظيرة لوحته المسماة : لحظة الانصراف من المدرسة العربيةLa Sortie d\'e ? cole arabe.

إن الدربوكة المستخدمة في مثل هذه الحفلات هي عبارة عن صحيفة مجوفة ، بيضوية الشكل أكثر منها دائرية ، مصنوعة من الطين الخشن الذي مدوا فوقه رقعة من الجلد. وإن هذه الآلة البدائية هي المرافق الذي لا يمكن الاستغناء عنه ، ووجودها أساسي في كل الحفلات العربية : نسمع صوتها في كل مكان ، لقد سبق لي أن سمعتها في أثناء اليوم على متن مركب محلي عائد من القصير ، وقد خرج أقارب القادمين الجدد وأصدقاؤهم للاحتفال بعودتهم احتفالا عامرا يستمر طوال النهار (٢).

__________________

(١) ألكسندر ـ غابرييل ديكام Alexandre ـ Gabriel Decamp رسام فرنسي ولد في باريس عام ١٨٠٣ م ، ومات في فونتين بلو (قرب باريس) عام ١٨٦٠ م ، قام برحلة إلى الشرق تركت آثارها في إنتاجه الفني ، وجعلته يتأثر بأطواء الشرق وألوانه وقسماته المميزة حتى أصبح يعد بين الرومانسيين ، وتناول موضوعات شرقية مثل المدرسة والسوق والجبال ، ويدين للشرق بأجمل لوحاته ومنها : لحظة الخروج من المدرسة.

(٢) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩.

١٢٦

لقد ابتليت ينبع بأعداد هائلة من الذباب ، يغزو كل شيء ، أماكن البيع ، والبيوت والمساجد ، ويصل إلى المراكب التي ترسو في الميناء ، ويكثر في السوق على وجه الخصوص ، حتى إن السوق يكتسي باللون الأسود ، يهجم على الطعام والشراب والأشخاص. إنه كارثة يمكن مقارنتها بكوارث مصر السبع (١). ويكثر الذباب في البلاد التي تنتج التمر ؛ لأن كل ما هو حلو المذاق يجذبه ، ولكن / ١١١ / أشجار النخيل بعيدة عن المدينة ، ولا يمكن القول : إنها سبب مثل هذا الغزو ؛ وينبغي البحث عن سبب آخر : وإن سألت السكان الأصليين فإنهم يجيبونك جادين ، وهم يعتقدون ذلك ، أن ملك الذباب وملكته يسكنان في ينبع ، وأن الذباب يأتي من كل أنحاء العالم ليؤدي لهما فروض

__________________

(١) جاء في الكتاب المقدس (العهد القديم ، سفر الخروج ، الإصحاح ٧ ، ١٢) أن فرعون رفض السماح لبني إسرائيل بمغادرة «أرض العبودية» للذهاب نحو الأرض الموعودة. وأخذ موسى عليه‌السلام على عاتقه بأمر ربه أن يخالف رغبة فرعون ، وأن يحاول ثنيه عن ذلك ودعا ربه فسلط على فرعون وشعبه كوارث هي حسب العهد القديم عشر : تغير ماء النيل إلى دماء وأصبح غير قابل للشرب خلال عدة أيام ، الثانية والثالثة والرابعة تعرض مصر لغزو الضفادغ والبعوض والذباب ثلاث مرات. وخامسا حل بالمواشي مرض جعلها تموت بأعداد كبيرة ، وحل بالناس سادسا مرض غامض جعلهم يصابون بالقرحة ، وهبت سابعا عاصفة شديدة أتلفت قسما كبيرا من المواسم. وأتلفت سحابات الجراد ما بقي منها ثامنا ، وخيم ظلام دامس على مصر تاسعا ، وأصبح المواليد الجدد يموتون جميعا عاشرا ، ويظن الباحثون أن ذلك حدث في عهد منفتاح الأول Mnephtah خليفة رعمسيس الثاني حوالي سنة ١٢٣٠ ق. م.

وقد تحدث القرآن الكريم بالقول الحق في ذلك ، إذ قال تعالى : سورة الأعراف ، الآيات من ١٣٠ ـ ١٣٤(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٣٤)

١٢٧

الطاعة (١). ليس في المدينة إلا بئر واحدة ، ماؤها أجاج ، والناس مجبرون للحصول على مياه الشرب على حفظ ماء المطر وسيول الشتاء في خزانات تم بناؤها لهذه الغاية ، وعند ما ينقصهم الماء ، فإن عليهم الذهاب بعيدا جدا للبحث عنه في آبار عسيليّة مما يجعل ثمنه مرتفعا جدا. وليس في داخل المدينة إلّا شجرة أو شجرتان من النخيل منفردتان أمام المسجد ، وليس هناك أكثر من ذلك خارجها. وقد خرجت من باب المدينة المنورة للقيام بجولة في الريف فلم أر شجرة واحدة ، ولم أكتشف إلّا الصحراء العقيمة التي تمتد قاحلة وعارية من البحر إلى الجبال. ولا نجد بعض المزروعات والمساحات الخضراء إلّا على بعد ست أو سبع ساعات من المسير ، وذلك في ينبع النخل ؛ وهي تقع في واد كبير مزروع بنخيل التمر والقمح ، ويملك فيها السكان الأغنياء حدائق ومنازل ريفية ، يذهبون إليها على الحمير لأنه ليس فيها إلا عدد قليل من الخيول ، ويقضون فيها شهرا في السنة إبان موسم التمر. إن في ذلك الوادي الواقع في أسفل الجبال عددا / ١١٢ / من القرى يقارب اثنتي عشرة قرية ، بيوتها مبنية من الحجارة ، وهي ، إن صح التعبير ، أحسن بناء من بيوت المدينة نفسها ، ولكن ليس بدرجة كبيرة ، ويسكن في إحدى تلك القرى كبير مشايخ قبيلة جهينة الكبيرة ، التي ينتمي إليها سكان ينبع (٢). لقد ظلت قبيلة جهينة

__________________

(١) يقول بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٨ : «وتعد ينبع أرخص مدن الحجاز من حيث أسعار المؤن. ولأن ينبع فيها ماء طيب وتتبوأ موقعا يبدو أكثر ملاءمة من الناحية الصحية ، من موقع جدة ، لذا فقد كان المقام بها محتملا لو لا أسراب الذباب الهائلة التي تتخذ لها من هذا الساحل مأوى ، فلا أحد يخرج من بيته دون أن يحمل مروحة من الخوص في يده ليذب عن نفسه هذه الحشرات. ومن المحال أن يتناول إنسان طعامه دون أن يبتلع بعضا من هذه الحشرات التي تندفع إلى فمه لحظة فتحه. وتشاهد سحب منها تحوم فوق المدينة ، وهي تتخذ من السفن التي ترسو خارج الميناء مأوى لها ، وتظل على السفينة طوال الرحلة».

(٢) قال بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥ : «... وأهل ينبع أقل تحضرا من أهل مكة المكرمة وجدة ، وفي طباعهم خشونة ، ويسلكون بعض الأحياء سلوكا فظا ، إلا أنهم من ناحية أخرى أكثر انضباطا وأقل ممارسة للرذائل. وهم ـ

١٢٨

متمسكة بالبداوة ، مع أنها كانت تسكن المدينة ، لقد حافظت على زي جيرانها في الصحراء ، مع أنها أصبحت مستقرة ، ويتكوّن زي الصحراء : من ثوب من الكتان ، أو الحرير ، حسب الحالة المادية لصاحبه ، مشدود إلى الخصر بحزام من الجلد ، وفوق الثوب عباءة بيضاء فضفاضة على الجسد قصيرة الأكمام. وأما الرأس فهو مغطى بكفّيّة ؛ وهي منديل من القطن المصبوغ باللون الأحمر ، أطرافه موشاة بالحرير الأصفر ، وتسقط أطرافها المزدانة بالأهداب على الكتفين ، ويمسكها على الرأس حبل من صوف الإبل يسمى : عقال ، وهو ملفوف عدة لفات حول الرأس.

ويحمل الرجال أسلحة مخفية ، وفي أيديهم عوضا عن الخيزرانة هراوة تكفي ضربة واحدة منها لأن تصرع ثورا (١). وما دمنا في صدد الحديث عن اللباس ، فإنني أقول : إنني في هذا اليوم ، وللمرة الأولى استبدلت بالقبعة الأوروبية التي يمقتها المسلمون طربوشا تجويفه أحمر اللون ، وطرفه أزرق ، ولم أخلعه إلّا عند ما عدت إلى القاهرة ، وقد وضعت مع الطربوش كفية كانت / ١١٣ / ذات فائدة جلّى إبّان رحلتي إلى السودان ، وحصلت بعد ذلك على عباءة لم تكن فائدتها بأقل من فائدة الكفية.

إن سكان ينبع بدو في ملابسهم ، وهم بدو في عاداتهم الخاصة أيضا ،

__________________

ـ يحظون بشكل عام في الحجاز ، بسمعة طيبة. ورغم أن ينبع لا تضم أفرادا ذوي ثروات كبيرة ، إلا أن كل فرد فيها يبدو مطمئن البال وثريا أكثر من أهل مكة المكرمة. ومعظم الأسر المحترمة في ينبع تمتلك منازل ريفية في واد مثمر يقال له ينبع النخل ، أو قرى ينبع (قرايا ينبع) أو ينبع البر ، وهي تبتعد عن ينبع بحوالي ست ساعات أو سبع ، عند سفوح الجبال صوب الشمال الشرقي. إن ينبع النخل مشابهة لأودية الجديدة والصفراء ، حيث ينمو النخيل وتزرع الحقول ، وتمتد ينبع النخل مسيرة سبع ساعات طولا ، وتشتمل على اثنتي عشرة قرية صغيرة متناثرة على جانب الجبل ، وأكبر هذه القرى سويقة ؛ وهي مكان عقد السوق ، حيث يقيم كبير مشايخ جهينة ، ويعترف بسلطته بدو جهينة وأهل ينبع على حد سواء».

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٤.

١٢٩

باستثناء أنهم يعملون مختارين بالتجارة والملاحة ، وهم يذهبون يوميا لهذا الغرض إلى القصير والسويس. إنهم مهربون بارعون ، وبطريقة علنية غالبا ، وهم في نزاع دائم مع رجال الجمارك الأتراك. لقد انتشر صيتهم في الحجاز كله بحسن الأخلاق ، مما يميزهم من سكان المدن المقدسة ، التي انحدرت فيها القيم الأخلاقية وخصوصا في مكة المكرمة. إنهم يحتقرون أي عمل يدوي ، وأي وظيفة خدمية ، ولا يرضى أحد منهم أن يكون خادما ، ولكنهم في مقابل ذلك اشتهروا بخشونة طباعهم ، وأنهم يسلكون في بعض الأحيان سلوكا فظا. إن كل ما أستطيع قوله عبر تجربتي : إنني وجدت حظهم من المدنية قليل ، ولكنني لم أتعرض لأي إهانة منهم. وإذا حكمنا عليهم من خلال عاداتهم فيمكن القول : إنهم كثيرو التطير : فقد كانوا عند ما بلغ انتشار الطاعون ذروته في ينبع ، يطوفون أحياء المدينة ، وهم يقودون جملا ، لكي يحمّلون الوباء كله ويركزونه عليه ، ثم يذبحونه في مكان مخصص ، وهم يتخيلون أنهم بقتله إنما يقتلون في الوقت نفسه انتشار الوباء (١). / ١١٤ / وبعد أن جبت المدينة في كل الاتجاهات ، ولما كنت لا أود الإبحار ثانية إلّا عند غروب الشمس فإنني بانتظار حلول موعد الإبحار استقر بي المطاف على باب أحد المقاهي الواقعة في أكثر شوارع المدينة سكانا ، وبالقرب من المسجد ، وقد سنحت لي بذلك الفرصة لأرى أمام عيني ، خلال عدة ساعات ، مرور كل السكان الذكور ؛ ولم أر أية امرأة.

__________________

(١) جاء في : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٢ ـ ٣٨٣ : «... وسوف أذكر هنا عادة خاصة بالعرب فعند ما بلغ انتشار الطاعون ذروته في ينبع ، قاد السكان العرب ناقة في موكب عبر البلدة وقد غطّوها بكل أنواع الزينة والريش والأجراس وما إلى ذلك ، وعند ما وصلوا إلى المقابر ؛ قاموا بذبحها ونثروا لحمها للنسور والكلاب ، آملين بذلك أن ينقشع الطاعون المنتشر في البلدة (ينبع) متخذا من بدن الناقة ملجأ ، وأنهم بذبح الناقة سوف يتخلصون من المرض في الحال ، إلّا أن كثيرين من العرب الأكثر تعقلا سخروا من ذلك ، لكن هذه العادة حتى الآن ـ لها بعض الفائدة إذ إنها ترفع الروح المعنوية لدى الطبقات الدنيا» ، قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨.

١٣٠

في البدء ها هم المؤمنون يذهبون إلى صلاة العصر في المسجد المجاور ، ثم يأتي بعد ذلك الغواصون الذين طالما ألحوا عليّ ، وبأدب جم ، لأزور أماكن غوصهم. وكان يمر أمامي أيضا جيئة وذهابا ، وبأنفة ، عدد من الباشي بوزوق (١) الأرناؤط والأكراد الذين يشكلون حامية تحتفظ بها الدولة العثمانية هنا ، والذي كانوا يصطنعون هيئة الشجاعة للتأثير فيّ ، وهم مسلحون بغدّاراتهم الطويلة ، متلفعون ببرانسهم البيضاء.

ثم جاء دور الحاكم ليمرّ بعدهم ، وهو لم يأت إلّا بدافع الفضول ، ولكي يلتمس زيارتي ، ولكنه لمّا كان مجرّد أفندي ، فإنه لم يكن له ما يؤهله لكي أمنّ عليه بهذا التمييز : ولما كنت أوروبيا وفرنسيا ومسافرا مميزا ، وطبقا للعرف ، وكما ينبغي أن يكون أي شخص يسافر لمتعته ولتثقيف نفسه ، فإنه لم يكن عليّ أن أخصه بأي مجاملة.

وربما أدهش بعض الناس رؤيتي أتحدث غير مرة عن موضوع آداب العشرة ، وأتخذ منه موقفا متصلبا ؛ / ١١٥ / ولكن ذلك ضروري في الشرق ، حيث لكل شيء قواعده ، وحيث تطبق الرسميات بصرامة شديدة : وإن احترام

__________________

(١) جاء في معجم المصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥ : «باشي بوزوق : لفظ تركي أطلق في العصر العثماني على القوات غير النظامية «الجيش الشعبي أو المليشيات» كانت معروفة في مصر أيام محمد على باشا ومن جاء بعده ، بلغ عدد أفرادها في عصر إسماعيل ٥٠٠٠ مقاتل ، وهم من الأتراك والعرب ، مهمتهم المحافظة على الأمن في الداخل ، والواحات ومرافقة محمل الحج ، ناهيك عن جباية الضرائب. كانت أرادي «معسكرات» الباشي بوزوق ترتبط بديوان مستقل عن ديوان الجهادية يعرف بديوان «السرجشمة» وكان هذا الديوان يتولى إدارة جنود الباشي بوزوق من حيث التجهيز والتسليح وتطبيق النظم العسكرية ، غير أن هذا الديوان ألغي فيما بعد ، وألحق الباشي بوزوق بديوان الجهادية ، كان لباس الجندي من هؤلاء مصنوعا من الزرد ، وسلاحه سيف مستقيم كأسياف الصليبيين ويتدرع بطراز معروف من الدروع ، وعلى رأس الواحد منهم خوذة لها حامية للأنف على نمط خوذ المماليك». وانظر المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ٥٦.

١٣١

الأوروبيين مرتبط بمدى التزامهم بهذه الأمور البسيطة ، إن أي مخالفة للعادات المتمكنة ، تنقلب حتما ضد المخالف ؛ وإن أي تساهل أو أي مبادرة مهما كانت بسيطة تعد خضوعا وليس تسامحا ، وتعد اعترافا شخصيا بالدونية ، وبتفوق الآخر. ولما وجد الشرقيون ، والأتراك خصوصا ، أنهم مضطرون للتنازل للأوروبيين عن كل الأشياء المهمة ، فإنهم استعادوا تميزهم بذكاء ملفت في مسائل حق التصدر ، وفي العلاقات اليومية ، ينبغي في معاملتهم الانطلاق على الدوام من مبدأ أن كل ما يخصهم مهم ، وأنه لا شيء مما يخص الآخرين مهم في نظرهم.

إن ديوان الحاكم الذي لم أذهب إليه ، يقع في منزل ذي مظهر جميل ، إنه أجمل بيت في المدينة ، أقيم قرب البحر في مكان متميز ، وبينما كنت أمر أمامه لأعود إلى الميناء ، عرتني الدهشة ، عند ما رأيت على مقربة منه تحت سقيفة ، ستة مدافع متروكة هناك منذ ما يقارب ثلاثين سنة ، تركها محمد علي أو ابنه إبراهيم باشا بعد حرب الوهابيين ، وهي في حالة جيدة ، ولم يكن وجودها نشازا في أي رحبة مدفعية أوروبية. / ١١٦ / وفي اليوم التالي نشر السنبوك قلوعه عند ما نادى المؤذن الذي كان من أعلى المنارة يدعو المؤمنين لأداء أولى الصلوات الخمس في اليوم ، وتقابل صلاة السحر عند الكاثوليك ، وتسمّى أذان الفجر. وعند ما طلعت الشمس كنا قد قطعنا عددا من الأميال. لقد كانت أيام ٧ و ٨ و ٩ فبراير (شباط) تشبه أيام ٣ و ٤ و : هواء مؤات ، بحر هادىء ، إبحار سريع ، الحالة التأملية نفسها ، غروب متألق ، وتوقفات ليلية في عرض البحر. ولما لم يعد على فريق البحارة أن يجدفوا ، فإنهم عادوا إلى سيرتهم الأولى في التكاسل ، يقضون النهار بالتدخين والنوم ، إنها حياة الكسالى المثلى ، ولا يعني ذلك أن هذه الأنحاء غير خطرة ، حتى في أكثر الأجواء مناسبة ، وذلك بسبب الأرصفة الصخرية ، والعثرات الموجودة تحت سطح الماء التي لا تزال المنطقة تعج بها.

ولكن الممارسة الطويلة للقباطنة ، جعلتهم يتغلبون على هذه الصعوبات بسهولة ، وقد كنت معجبا بمهارة قبطاننا ، وهو يتجاوز كل تلك العقبات ، غير

١٣٢

عابىء بوجودها. إن هؤلاء الرجال الذين يفرطون في الفزع خلال المد ، تجدهم هنا وقد ملئوا حزما يكاد يصل حد التهور ؛ إنها أمكنتهم المفضلة ، وإن العادة (الروتين) توجههم توجيها أدق من أي خارطة.

لقد أصيب الريس عشية وصولنا إلى ينبع بحمى مقلعة لم يستطع التخلص منها ، وظلت تقض مضجعه حتى جدة. / ١١٧ / كان عند ما تحل به نوبة الحمى يظل مستلقيا على سجادته مرتعشا ، مرسلا تأوهات محزنة ، وعند ما كانت تمضي النوبة ، كان يتناول من جديد شيشته وأعماله. وكان هذا التوالي يحدث عدة مرات في اليوم. لقد حاول رفيق رحلتي ، الذي كان يحمل معه صيدلية تجانسية (١) Homopatique أن يجرب عليه موهبته الطبية البسيطة ، ولكنه لم ينجح في التخفيف عنه ، وظلت الحمى تفعل فعلها.

كان اسم الريس خليل سلام ، وكان رجلا محببا جدا ، مفضالا ، ومؤدبا ، كما ثبت لنا خلال الفترة الماضية ، وكان على الدوام يسعى لإرضائنا ، كان كوستا المتبصر قد وضع في العقد شرطا ينص على أن الرحلة ينبغي ، مهما كانت الظروف ، أن تكون ممتعة لنا ، وأن على القبطان أن يجعلها كذلك لنا. ولم أر أبدا أن أحدا استطاع الوفاء بالتزامه كما حصل هنا ، لقد تم تنفيذ العهد بدقة من جميع جوانبه ، وهذا شيء نادر الحدوث في أوروبا. لم يكن لدي أدنى ملاحظة يمكن توجيهها ، وأقل من ذلك أيضا المآخذ التي يمكن أن آخذها على خليل سلام إبان كل الفترة التي قضيتها على متن السفينة. وأشك أن يكون هناك في أي ميناء غربي كثير من القباطنة يتمتعون بمثل هذه الدقة ولين الجانب. لم يكن يرتدي في البحر ، شأنه شأن بقية البحارة ، إلا قميصا من القطن ، ولكنه عند النزول إلى اليابسة ، كان يلبس ثيابا جميلة من الحرير ، وكان له حينئذ حقيقة هيئة الوجهاء. / ١١٨ / كان الساحل لا يزال محاطا بجبال عالية ، وكان أكثرها ظهورا لنا (٢) صبح ،

__________________

(١) نسبة إلى الطب التجانسي الذي يقوم على مداواة الداء بالداء. (عن المنهل).

(٢) كذا في الأصل Loubeh ولعل صوابهاSoubeh صبح (جبل) وهو منطقة قبيلة صبح القوية المتفرعة من قبيلة حرب. قال بوركهارت : ... وتوجد هنا بشكل رئيسي ـ

١٣٣

والنّباع (١) ، وجبل بني أيوب ، وكلما تقدمنا نحو الجنوب تكاد الجبال جميعا تأخذ شكلا هرميا ، وأكثر تلك المخروطيات العالية ظهورا هو مخروط كليّة ، وإذا تقدمنا أكثر نحو الجنوب ، فإن الجبال تنخفض انخفاضا قليلا ، وكلما اقتربنا من جدة يصبح الساحل سهليا. تنتشر بين تلك الجبال الواقعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة أشجار البلسم المكي الذي يتمتع بسمعة طيبة في الشرق ، بل في الغرب أيضا ، ويجنى من تلك الجبال عسل ذو مذاق لذيذ ، لونه أبيض برّاق. وهنا أيضا تتكاثر أشجار الأراك (٢) التي يتخذ منها العرب مساويك لأسنانهم. وتسكن في المناطق العالية نسور جريئة ، حتى إنها تهوي على القوافل ، وتختطف ما في صحون طعام الحجاج. وقد أكد ذلك بوركهارت ، وكان هو نفسه أحد ضحايا هذا الاختطاف الفظ (٣). أما المناطق المنخفضة فيسكنها أعراب زبيديون من قبيلة حرب الكبيرة ، وينظر إليهم الأعراب الآخرون نظرة ازدراء لأنهم حضريون ويعملون في الصيد. لقد قابلنا في عرض البحر واحدا من أولئك الصيادين المهرة ، كان رجلا رائعا ، ممشوق القوام ، عاريا تماما حتى لتحسبه إله الموج مصنوعا من البرونز / ١١٩ / الفلورنسي. كان منتصبا بإباء على مركبه ، وجاء يعرض علينا السمك الذي

__________________

ـ شجار البلسم المكي ، وسنا مكة المكرمة أو السّنا العربي الذي تصدره قافلة الحجيج السوري ولا يجمع إلّا من هذه المنطقة. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢٨٢. وانظر : ص ٢٨٥ أيضا ففيها حديث مفصل عن البلسم المكي.

(١) في الأصل : Napa.

(٢) في الأصل : Un arbuste dont les Arabes font leurs brosses dents والترجمة الحرفية هي : وشجرة الأراك جنبة (وهي كل شجرة علوها متران إلى سبعة أمتار تظل صغيرة وإن شاخت) يتخذ منها العرب مساويك لأسنانهم.

(٣) قال بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٣٧٢ : «... ويوجد في الجبال المجاورة أعداد هائلة من النسور (الرخم) إذ كانت المئات منها تحوم حولنا ، وبعضها كان ينقضّ ـ بالفعل ـ ويخطف اللحم من صحوننا». انظر تعليق المترجمين رقم (٣) في الصفحة نفسها.

١٣٤

اصطاده ، ولكننا لم نستطع الشراء منه ، لأنه كان يرفض نقودنا ، ويطلب ثمنا لبضاعته قمحا أو تبغا : ولم يكن لدينا على ظهر السفينة لا هذا ولا ذاك.

هناك عدد من المدن والقرى على ذلك الساحل ، من بينها الجار التي لم نستطع تبين ملامحها عند مرورنا ، إلا بمساعدة المنظار. وفي منطقة أعلى ، وإلى الداخل قليلا هناك مستورة ؛ وهي إحدى محطات قافلة الحج المصرية ، وإلى أقصى الجنوب هناك رابغ التي يلفظها بحارتناRabr والتي قضينا ليلة ٨ في موازاتها ، ولكن في عرض البحر بعيدا عنها ، أما الليلة السابقة فقد قضيناها على خط الاستواء وقد واجهنا في يوم ٩ كثيرا من الصخور المفتتة والشعاب المرجانية ، ولكل واحد منها اسم خاص : وأخطرها يسمّى ، إن لم يخني سمعي ، أم الحبلين (١). وكانت جزيرة غواط (٢) Ghaouat غير بعيدة عنا. ثم يأتي بعد ذلك رأس حطيبة. وبعد وقت قليل من تجاوزنا ذلك الرأس ، قابلنا سنبوكا على متنه جماعة من الدراويش العائدين من مكة المكرمة ، وكانوا يرفعون علما أخضر ، وهذا هو اللون المحبب لدى المسلمين ، والذي كان لون شعار محاكم التفتيش في إسبانيا. وعلى الرغم من خصوصيته الدينية ، وعلى الرغم من كوننا من غير المسلمين ، فإنهم حيّونا بصوت عال عند ما مروا بقربنا ، وكانت صيحاتهم تختلط بالموسيقي والأغاني التي كان يتردد صداها على سطح الماء / ١٢٠ / واستمر يتردد طوال الوقت الذي كنا فيه نسمعهم.

لم نلتق بكثير من المسافرين خلال الرحلة ، ومع أننا أبحرنا في بعض الأحيان مع سفن أخرى تمضي في الوجهة نفسها ، فإن سنبوكنا كان سريعا كل السرعة مما جعلنا نسبقهم دائما. كان هذا اليوم الأخير رائعا : أبحرنا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، وقطعنا ما يقارب ٧٠ ميلا حتى الساعة الثامنة مساء ؛ وهي الساعة التي دخلنا فيها ميناء جدة. لم يحدث من قبل أن تم

__________________

(١) كتبها ديدييه Om el Hableijn وترجمها إلى الفرنسيةmer des deux Cordes أم الحبليين.

(٢) كتبت في الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٨Ghawat غواط.

١٣٥

العبور بهذه السرعة ؛ لأننا إذا استثنينا فترات التوقف الإرادية ، ورحلة سيناء ، فإن الرحلة من السويس إلى جدة لم تستغرق إلّا أحد عشر يوما ، ممّا يعني أننا كنا نبحر بسرعة ممتازة ، خصوصا إذا أخذنا في الحسبان أننا كنا نتوقف الليل كله. لا أود مغادرة البحر الأحمر ، دون الإشارة إلى أنه غني جدا بالأصداف التي تحتوي على أحجار كريمة ، وأننا نجد فيه ، وخصوصا في مياه جدة ، كثيرا من السمك الطيار الذي يسميه العرب : جراد البحر.

خالف الريس أنظمة الشرطة المحلية ، عند ما دخل ميناء جدة في الليل ، وهو لم يلجأ إلى هذه المخالفة إلّا لكي ننزل إلى اليابسة مبكرين. وقد عوقب على ذلك بالسجن ، وربما كان سيظل هناك عددا من الأيام ، لو لا أنني تدخلت لدى السلطات لإطلاق سراحه بعد توقيفه ببضع ساعات ، وقد كنت أشعر / ١٢١ / بالسعادة ، لأنني استطعت بهذه الخدمة البسيطة أن أرد إليه بعض سالف خدماته خلال الرحلة. وقد وزعنا بخشيشا مجزيا على أفراد الطاقم كلهم ، وعلى الريس أيضا ، مسددين بذلك ما لهم من دين في ذمتنا. قضينا تلك الليلة على متن السفينة أيضا ، وكان علينا في اليوم التالي أن ننتظر ساعة المد والجزر المناسبة لكي نغادر السنبوك. إن ميناء جدة مملوء بالأرصفة الرملية ، ومياهه ضحلة حتى إنه ينبغي على السفن أن ترسو على بعد ٢ إلى ٣ أميال عن الشاطىء ، وقد كانت هناك في قنوات الملاحة سفينة ذات ثلاث صوار جانحة ، تقبع هناك شاهدا يثير القلق ، ويدل على الأخطار التي يتعرض لها من يخاطرون بدخول الميناء. جاء مركب مسطح ليحملنا من السنبوك إلى اليابسة ، وكان هذا المركب نفسه مجبرا على القيام بالتفافات كبيرة حتى لا يغوص في الرمال ، ومع ذلك فإنه اصطدم غير مرة بقاع البحر. ولكننا ، على الرغم من ذلك ، وصلنا أصحاء سالمين ، ولكن في الساعة التاسعة ، إلى رصيف الجمارك الواقع غير بعيد عن حصن ، هو في حالة سيئة ، ولكنه يثير الإعجاب ، ويحتل موقعا متقدما في البحر.

١٣٦

الفصل السادس

جدّة (*)

أخبروني في القاهرة أن جدة ليست إلّا حيا صغيرا ، وقد تكرر ذلك على مسامعي حتى إنني / ١٢٢ / لم أكن أنتظر رؤيتها على ما هي عليه. كم كانت دهشتي كبيرة عند ما وجدتها على العكس مدينة جميلة ، مكينة البناء ، جيدة التأسيس ، تعج بالسكان ، نابضة بالحياة ، ومزدحمة ، وجديرة على كل المستويات أن تحمل الاسم الذي تعرف به ، ميناء مكة المكرمة ، وليست بأقل جدارة لحمل اسمها الذي يعني بالعربية الغنية (١). ناهيك عن مياه مينائها الضحلة وأرصفتها الرملية فهي محمية من ناحية البحر بحصن وبسرية مدفعية بينها مدفع ضخم من عيار خمسمائة مليمتر يزرع الرعب في قلوب البدو.

__________________

(*) انظر ما أورده بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٢٠ ـ ٥٧ ويبدو أن ديدييه ينقل عنه بتصرف في كثير من المواضع. وانظر في الحديث عن جدة قديما وحديثا وعن الخلاف في ضبط اسمها ومعناه كتاب : موسوعة جدة ، تأليف عبد القدوس الأنصاري ، القاهرة ، ١٩٨٢ م. وانظر : ما ترجمه د. أحمد عبد الرحيم نصر في كتابه : التراث الشعبي في أدب الرحلات ، موثق سابقا ، ص ٦٤ ـ ٦٩ ، من رحلة ديدييه عن زي رجال جدة ونسائها وعن وصف بيوتها ورواشينها. وقد ترجم من هذا الفصل الأستاذ سمير عطا الله في كتابه : قافلة الحبر ، موثق سابقا ، ص ١٥٣ ـ ١٦٩.

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢٧ ، وفيه : «اسمها العربي يعني (غنية) ينطبق عليها تماما». وجاء في لسان العرب «جدد» أن الجد بفتح الجيم ـ الحظ والسعادة والغنى.

١٣٧

والمدينة محاطة من الجهة الأخرى بسور سميك ، مرتفع بما يكفي ، مصان صيانة جيدة ، مسبوق بحفرة عميقة ، وعليه أبراج في حالة جيدة. إن هذا المعقل لا يصمد ساعة أمام قصف المدفعية الأوروبية ، ولكنه على الدوام كان كافيا إبّان الحروب التي تدور في البلد ، وخصوصا إبّان حرب الوهابيين ، لحماية المدينة ولفرض هيبتها لذلك اشتهرت بأنها مدينة مستعصية على الاحتلال ، وبأنها أكثر الأمكنة تحصينا في الحجاز. يوجد في هذا السور ثلاثة أبواب ، باب اليمن من الجنوب ، وباب المدينة المنورة في الشمال ، وأخيرا باب مكة المكرمة في الشرق ، وهو أجملها ، ويقوم على حراسته برجان منخفضان منحوتان بمهارة فائقة في الذروة. تبتعد جدة عن مكة المكرمة مدة ١٥ أو ١٦ ساعة ، ويبلغ عدد سكانها من ١٥ إلى ٢٠ ألف نسمة. وتنقسم إلى قسمين كبيرين ، حي اليمن ، وحي الشام ، وهما مسميان بذلك بسبب وضعهما الجغرافي : فحي الشام يقع في الشمال على الطريق إلى سوريا ؛ وحي اليمن في الجنوب / ١٢٣ / على الطريق إلى اليمن أحد أقاليم الجزيرة العربية الذي يعطي اسمه الحي المذكور. هناك أقسام أخرى صغيرة تسكنها جماعات من السكان متمايزة ، يقع بينها غالبا من حي إلى آخر شجارات عنيفة ، شوارعها عريضة ، نظيفة نظافة مقبولة ، تبدأ عادة بساحات واسعة جيدة التهوية تشكل رئتي المدينة. أما بيوتها فهي متينة البنيان ، وتتألف من عدة طوابق ، وأبوابها على شكل أقواس ، وهي مبنية من الحجر ، ولها مظهر جميل ، ونوافذ واسعة تطل على الخارج ، وهذا شيء نادر في البلاد الإسلامية لأن الحياة المنزلية تتم على الدوام داخل البيت الذي يبنى بطريقة لا تدع شيئا يتسلل إلى الداخل ؛ لا ضوء النهار ، ولا الهواء ، ولا الضوضاء ، ولا الأنظار الفضولية. ليس لتلك النوافذ زجاج ، بل إن كل فتحاتها مغطاة بشبك من الخشب المفترض بمهارة عجيبة ، ليسمح بالرؤية من الداخل دون أن يتمكن من في الخارج من رؤية من في الداخل. إن تلك النوافذ المتقنة الصنع ، البارزة والمقوسة ، كأنها مشربيات القاهرة أو شرفاتها ، مطلية بألوان زاهية تتباين مع اللون الأبيض للجدران. وإن كثيرا من السطوح محاطة بحواجز مفرغة محفور فيها بأناقة

١٣٨

زخارف تمثل نفليات (١). وبعضها بما في ذلك المنزل الذي كان يسكنه في حياته آخر أشراف مكة المستقلين ، أقيم عليها مظلات خشبية منجورة كالنوافذ ، تصعد إليها النساء لاستنشاق الهواء الطلق فيها دون أن يراهن أحد. ويقضي أهل جدة وقتا طويلا على السطوح لأن / ١٢٤ / نسيم البحر يخفف من وطأة الحر الذي لا يكاد يحتمل في الصيف. يمتد السوق على طول المدينة ، ويسير موازيا للبحر ، ويتصل به بوساطة شارعين جانبيين. يضم سوق جدة كل أنواع البضائع ، أكثرها أجنبي ، وكذلك مواد غذائية محلية أو مستوردة : ونجد أن دمشق وبغداد وفارس ومصر والهند خصوصا موجودة في هذا السوق عبر منتجاتها الطبيعية أو المصنعة. وتسود فيه في كل الأوقات حركة غير عادية ، وليس بالسهل أن يشق المرء طريقه بين أكداس البضائع ، والجمال والحمّالين ، ناهيك عن الكلاب الضالة ، والمسالمة التي تبحث عن رزقها في هذه الضوضاء. أما العمال الذين يقومون بالأعمال الشاقة في السوق والميناء فهم يكادون جميعا يكونون من النوبيين أو من سكان الجبال ، ويسمون الحضارمة إنهم عموما رجال في غاية الوسامة ، مفتولو العضلات ، ذوو بأس ، ويكادون يكونون عراة ، ولون بشرتهم الناعمة واللامعة أسمر شديد الدكنة. ونرى أيضا بعض السود الأقحاح القادمين من البلاد القريبة من خط الاستواء ، ولكنهم عبيد ، في حين أن الآخرين أحرار ، ويحصلون على أجور غالية لقاء خدماتهم. وإن هذا السوق الذي يقع في الوسط بين إفريقيا وآسيا ، مهم لتنوع نماذج البشر الذين نلقاهم فيه ؛ فأنت تلقى فيه السود الذين لم يؤتوا من الجمال شيئا ، وتلقى فيه النماذج الجميلة / ١٢٥ / من الأجناس القوقازية المتميزة ، وليس تنوع اللغات والعادات بأقل إثارة : عرب المدن والصحراء ، تجار مسقط والبصرة ، أتراك ، سوريون ، يونانيون ، مصريون ، بربر ، وهنود بأعداد كبيرة ، وماليزيون وبانيانيون (٢) ، وكل من أولئك يلبس زيه الوطني ، وكلّ يتكلم بلهجته

__________________

(١) النفلية في فن العمارة هي : زخرف على شكل وريقات النفل الثلاث. (عن المنهل).

(٢) Banians ، جاء في رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢٦ : «... وفي فترة الرياح الموسمية يقوم بعض البانيانيين Banians بزيارة جدة على متن السفن الهندية ، ـ.

١٣٩

الخاصة ، يتسابقون ، يتقابلون ، يتدافعون بأكتافهم ، أو إنهم يستقرون في المقاهي لمعالجة قضاياهم. إن بعض سكان جدة يقطعون أحجارا يزعمون أنها ثمينة ، مع أنها ذات قيمة ضيئلة ، منها من بين أخريات تلك التي يسمونها : حجر مكة ، وتسمى في الحجاز «العقيق» والتي ليست ، كما أعتقد ، إلّا ما يسمى العقيق الأحمر ؛ ويصنعون منها خواتم مطلية بطبقة من الفضة ، ليست متقنة الصنع ، ويصنعون منها أيضا سبحات تلقى رواجا كبيرا لدى الحجاج. ويصنعون أيضا سبحات من «اليسر» المتوافر بكثرة في البحر الأحمر ، والذي تستخرج أجود أنواعه قساوة ولمعانا من جنوب جدة.

تشتهر جدة بأنها مدينة مقدسة شأنها شأن مكة المكرمة والمدينة المنورة (١) ، وكل الذكور المولودين في أحضان جدة ، يحملون على وجوههم وشما يسمى «المشالي» (٢) ؛ وهي عبارة عن جروح عميقة تحدث في وجوه الأطفال عند ما يبلغون أربعين يوما ، وهي ثلاثة على كل وجنة ، واثنان على كل صدغ ، لتظل هذه المشالي مدى الحياة موجودة على وجوههم ، ولتكون لهم علامة توقير / ١٢٦ / لدى المؤمنين. إن هذه الندب المقدسة في العادات الإسلامية تجعل أولئك الذين يحملونها يحوزون بحملها قمة الشرف (٣).

__________________

ـ لكنهم دائما يعودون عليها ولا يستقر أحد منهم هنا». جاء في الحاشية : «البانيان : تعني في غرب الهند التجار أو الوكلاء الذين يشتغلون بالتجارة في البحر الأحمر أو الخليج العربي ، انظر : A glossary Judicial and Revemue Terms P. ٤٩ : Wilson

(١) هذا غير صحيح فجدة ليست مدينة مقدسة.

(٢) رسمها ديدييه M eschal ، ورسمها بوركهارت ، Meshale ، وكتبها مترجما رحلة بوركهارت «المشعلة» ، وكتبها د. نصر «عادة المشالي». انظر رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٧٠ وكتاب الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر ، موثق سابقا ، ص ٦٧.

(٣) انظر هذه الفقرة مترجمة في كتاب التراث الشعبي في أدب الرحلات ، موثق سابقا ، ص ٦٧ وقد ترجم من رحلات ديدييه فقرات لها علاقة بالتراث الشعبي في الحجاز ، ولكنه ترجم عن النص الإنكليزي الذي هو ترجمة لرحلة ديدييه ، وسنشير إلى الفقرات المترجمة في أماكنها من الرحلة ، قارن ترجمته بالأصل ـ

١٤٠