صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٨
الجزء ١ الجزء ٢

في الفتاوى ببعض أشياء أنها مكفرة فلا يعول عليها (١) ، نعم إن جميع الشعائر الظاهرة هي من الدين أيضا ومنها حفظ النفس.

وقد علمنا من الشرع تقديمها على كل ما سواها إلا الإعتقاد ، ولهذا يجوز إتلافها في القتال على الدين وهكذا على شعائره ، فإنهم صرحوا بأن من تركوا جميعا الآذان يقاتلون حفظا للدين وتقديما له على النفس ، لكن ذلك إذا كان منبئا عن الإستخفاف الراجع للإعتقاد ، أما إذا تبين التأويل أو العذر المنبىء عن صحة الإعتقاد فلا يقاتلوا حينئذ ولهذا لم نؤمر بقتال تاركي الجمعة بتأول وجوب الإمام المعصوم مع أنها من شعائر الدين.

وبما تقدم يعلم جواز تلقيح الجدري من الحيوان أو الإنسان ، لأنه قد ثبت بالتجربة المفيدة للقطع أنه حافظ من الهلاك أو مما يقرب منه ، ومن هذا الباب تجويزهم للكتابة بالدم مع أنه فيه استخفاف بالحروف التي مرجعها الدين ، وبيانه أن الإستخفاف فعل القلب والأعمال الظاهرية دالة عليه وأقيمت مقام الحرمة بسبب دلالتها لا لذاتها ، فهلاك النفس تعارض مع ما يدل على الإستخفاف فقدم دفع الهلاك للتيقن بسلامة الإعتقاد ، وغلب ذلك الدلالة لارتكاب أخفّ الضررين.

فإن قيل : كيف يكون أخف الضررين مع أن الآخر مرجعه للدين وهو مقدم على النفس؟

فالجواب : إن الدين قد علمت أنه سالم وهو الإعتقاد ولم يبق إلا الدلالة في مقابلة

__________________

ـ الصريح لا يؤول كما نص عليه العلماء ومنهم : تقي الدين الشبلي والشيخ ابن حجر والقاضي عياض وإمام الحرمين وغيرهم كثير.

فينبغي أن يستحضر طالب الحق هذه القاعدة : «إن الصريح لا يؤول» : فلا يلقها من يده فإنها تنفعه وتمنعه من التسليم لما يراه في الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي من العبارات التي هي صريحة في الكفر.

فاعلم أنها موسوسة عليه لأمرين :

أحدها : أن الشعراني قال إنه اطلع على النسخة الأصلية فوجدها خالية من هذه الكفريات. وأن صاحب «المعروضات المزبورة» أحد الفقهاء المشهورين في أهل المذهب الحنفي قال : تيقنا أن اليهود دسوا عليه في نصوص الحكم.

الثاني : أن الحافظ ابن حجر قال في لسان الميزان في ترجمة ابن عربي إعتدّ به حفاظ عصره كابن النجار ، وابن الدبيثّي.

ويؤيد ذلك أن في الفتوحات المكية عبارات صريحة في إبطال القول بعقيدة الحلول والإتحاد ، وفيها التنزيه الصريح لله تعالى عما ينزهه أهل الحق ، ففيها الكثير من هذا والكثير من ذاك. فالحذر الحذر مما يخالف القاعدة المقررة أن التأويل في اللفظ الصريح لا يقبل. ا ه.

(١) انظر كتاب روضة الطالبين للنووي ١٠ / ٦٤ وكتاب الشفا للقاضي عياض ٢ / ٢١٠ وما بعدها والفتاوى الخانية ورسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات طبعة أولى سنة ١٩٩١ صادر عن مؤسسة نادر بيروت.

١٦١

النفس التي هي محل الإعتقاد ، والقيام بجميع التكاليف فغلب ترجيحها كما صرحوا به في جواز التيمم لخوف المرض ، في أن ذلك ليس تقديما للنفس على الدين بل من باب تقديم أغلب الدين على بعضه ، لأن الإنسان إذا سلم أقام الطهر والصلوات الكثيرة وغيرها من التكاليف ، بخلاف ما إذا هلك فتسقط بموته جميع التكاليف المتعلقة بذاته فلا يسوغ له أن يسعى في إبطاله تكاليف كثيرة لإقامة عبادة واحدة ، فهو حينئذ من باب أخف الضررين كما تقدم.

واعلم أن للعبد توقفا شديدا في دعوى جواز مسألة الكتابة بالدم لحفظ النفس من الرعاف الخ ، وبيانه أن صاحب «الفصول العمادية» (١) وغيره ممن نقل عنهم الشيخ بيرم الثاني في كتابه «حسن النبا في جواز التحصن من الوبا» ، قد صرحوا بأن تعلق الأسباب بمسبباتها على ثلاث مراتب.

أحدها : التعلق القطعي ، وهو ما لا يتخلف فيه المسبب عن السبب إلّا على وجه خرق العادة كالشبع للأكل والريّ للشرب.

وثانيها : الظنيّ ، وهو ما يكثر فيه ارتباط المسبب بالسبب وقد يتخلف نادرا ، ومثلوا له بالأدوية مع الأمراض.

وثالثها : الوهمي ، وهو ما لا يرتبط فيه المسبب بالسبب إلا نادرا ومثلوا له بالكي والرقي مجمعين على ذلك.

وغاية ما اختلفوا فيه هو أن تعاطي القسم الثالث هل هو مخالف للتوكل أم لا؟ واحتج صاحب «حسن النبأ» لكونه غير مخالف للتوكل رادا على صاحب الفصول بثبوت الرقيا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك الكي. فليراجع ما أطال به هناك ، فأنت ترى أطباقهم على جعل الرقيا من الموهوم وما تقدم من الكتابة بالدم للراعف ليست هي إلا رقيا ، فكيف ينطبق عليها شرط جواز استعمال المحرم وهو تعينه للشفاء؟ وأين التعين من الوهم؟ وكيف يقدم على أمر محرم بإجماع لأمر موهوم؟

فعلى الآخذ للأحكام الشرعية التثبت وعدم الإغترار ، ولهذا صعبت درجة المفتي لكي لا يضل ويضل بغير علم ولا ينفعه مجرد وجود المسائل في كتب بعض المتأخرين ، إذ كثيرا ما زلقت الأقدام من بعضهم فينقلها عنه غيره كأنها المذهب الذي عنه لا يذهب ، والله يحفظ المسلمين من مزالق الشبهات.

وكان منشأ ذلك القول هو ما قاله صاحب «النهاية» في مبحث «جواز التداوي بالمحرم إذا تيقن فيه الشفاء» وساق لذلك مثالا ، وهو : جواز كتابة الفاتحة بالدم للراعف على جبينه وأنفه ، لكنه قيد ذلك بحصول العلم الذي هو اليقين وذلك على معرض التمثيل بدليل عطفه

__________________

(١) هو جمال الدين بن عماد الدين الحنفي. انظر كشف الظنون ٢ / ١٢٧٠.

١٦٢

البول ، حيث قال : وبالبول أيضا ، أي إذا حصل العلم (١).

ومن المعلوم أن الفقهاء يصوّرون المسائل ولو المستحيلة تقريرا لحكمها لما عسى أن يطرأ في زمن لا يقدر فيه على استنباط الأحكام ، فليس كلامه دليلا على الجواز في تلك المسألة لأنه مقيد بالعلم ، وقد علمت أنها من قبيلة الرقيا والرقيا من الموهوم فلا يجوز الإستناد إلى كلامه مع الغفلة عن قيده الذي هو العلم ، ولم نر في كلامهم من يسوغ إطلاق العلم على الوهم ، وغاية ما قالوه في المسألة : إن بعضهم جعل كلام حذاق الأطباء مما يحصل به العلم ، وقال العلامة السيد ابن عابدين (٢) في حواشي الدرّ : «إنه لعله من التوسع في إطلاق العلم على الظن». أقول : وذلك لأن مسائل علم الطب على قسمين :

أحدهما : ما يرجع إلى علم التشريح ، وكيفية تركيب الأبدان وهي يقينية.

والثاني : ما يرجع إلى الدواء ومسائله ظنية كما تقدم.

ثم اعلم أن تعاطي الأسباب بأقسامها الثلاثة التي تقدمت في صدر هذا المبحث ، هو من أعمال الكاملين في الدين ولا ينافي التوكل على الله ، وقد بسط المسألة بيرم الثاني في كتابه «حسن النبأ» المشار إليه ، وحققناها فيما كتبناه على باب : «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» (٣). من البخاري.

وخلاصة الكلام أن العمل بالأسباب مع التوكل على الله في نجاحها هو المشروع ، ومخالفة ذلك سوء أدب مع الخالق جل وعلا ، فيعصي الإنسان من حيث يظن أنه يطيع ، وقد صرح بمثل ذلك العارف الشعراني (٤) في «المواثيق والعهود» ، حيث قال : «إن التوكل

__________________

(١) قال ابن عابدين «إلقاء المصحف في القاذورات من الكفر الفعلي ولو لم يقصد الإستخفاف لأن فعله يدل على الاستخفاف أو أوراق العلوم الشرعية أو أي ورقة عليها إسم من أسماء الله تعالى مع العلم بوجود الإسم فيها».

فليعلم أنه لا يجوز كتابة شيء من القرآن الكريم بالدم أو بالبول ولو كان بحسب قوله على معنى التشفي لأن هذا الفعل فيه إستخفاف بشعائر الدين. وكتب العلماء طافحة في الرد على زعم هذا القول الخطير.

(٢) هو محمد علاء الدين بن محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الحسيني الدمشقي. (١٢٤٤ ـ ١٣٠٦ ه‍) فقيه حنفي من علماء دمشق. وفيها توفي. الاعلام ٦ / ٢٧٠.

(٣) الحديث أيضا في سنن ابن ماجه برقم (٣٩٨٢ ـ ٣٩٨٣) وفي سنن أبي داود برقم (٤٨٦٢) وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل ٢ / ١١٥.

وفي المعجم الكبير للطبراني ١٢ / ٢٧٨ وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٨ / ٩٠ وفي مشكل الآثار للطحاوي ٢ / ١٩٧ وفي الشفا ١ / ١٧٧ وفي حلية الأولياء ٦ / ١٢٧ وفي الدرر المنتثرة للسيوطي (١٧٨) وفي كنز العمال للمتقي الهندي (٨٣٠).

(٤) هو عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنفي نسبة إلى محمد ابن الحنفية الشعراني أبو محمد (٨٩٨ ـ ٩٧٣ ه‍) متصوف ولد في قلقشندة وتوفي في القاهرة. له «البحر المورود في المواثيق والعهود» الاعلام ٤ / ١٨٠ شذرات الذهب ٨ / ٣٧٢ معجم المطبوعات (١١٢٩ ـ ١١٣٤).

١٦٣

لا يشرع إلا مع الأسباب أو عند فقدها أما مع إمكانها فهو كالعاصي». وبكلامه رضي‌الله‌عنه يتبين الوجه في الفرق بين حالي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع صاحبه الصديق ، رضي الله تعالى عنه ، فإنه عليه الصلاة والسلام : لما هاجر إلى المدينة عند اجتماع قريش على أذيته لم يكن له عليه الصلاة والسلام من الأسباب الحامية منهم مع كثرتهم وشدة عداوتهم واتفاقهم إلا الإعتماد على أمر الله له بالهجرة ووعده له بإبلاغه إلى المأمن وانتصار الدين وظهوره ، فلما سافر واختفى في الغار مع صاحبه الصديق رضي‌الله‌عنه ، وخرجت قريش في تطلبهم ووصلوا إلى الغار ولم يكن لهم مانع ما عن تفتيشه والدخول إليه مع شدة حرصهم على ذلك ، كان سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه خائفا فزعا يدعو الله ، والرسول عليه الصلاة والسلام مطمئن يقول له ما أخبر الله به (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠]. وفي غزوة بدر لما أعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم العدة والعدد وهيأ أسباب القتال والتقى الجمعان للطعان ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله بإلحاح حتى قال : «لأن تهلك هاته العصابة فلن تعبد بعدها في الأرض» (١) أو كما قال ، وكان الصديق رضي‌الله‌عنه يقول له : لا تحزن إن الله منجز لك ما وعدك من النصر ، ولا شك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل حالا من جميع الخلق ، فكيف اختلف حاله في الواقعتين مع أن ظاهر الأمر فيهما مع صديقه رضي‌الله‌عنه فالوجه يتبين مما قرره الشعراني في القاعدة المار ذكرها ، «وهو أن حال الغار ليس فيه مجال للأسباب لفقدانها فليس هناك إلا التوكل البحت». ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطمئنا لأنه أكمل توكلا ، وأما حالة الغزوة فهي حالة الأخذ في الأسباب ثم التوكل معها ولا يسوغ التوكل البحت ، ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجتهدا في الدعاء لتكون الأسباب ناجحة.

وليس للأمة إلا اتباع الرسول فالعمل بالأسباب عند وجودها مع التوكل على الله في نجاحها هو المشروع ، ولا يشكل على هذا ما ينقل عن كثير من الصالحين من تركهم للأسباب وخرق العادة إليهم ، لأنه مندفع بما قرره أبو إسحاق الشاطبي (٢) في الموافقات : «من أن هؤلاء وإن خرقت لهم العادة لكنهم لم يخرجوا عن الأسباب لأن خرق العادة من الأسباب الخفية» ، واستشهد لذلك بأدلة تشفي الغليل ، ويبينه ما وقع من العارف الرباني الإمام في علم الباطن والظاهر سيدي عبد العزيز المهدوي ، شيخ مظهر العلم سيدي محيي الدين ابن العربي الحاتمي الذي ألف لأجله الفتوحات المكية ، ويخاطبه في رسائله بقوله يا وليّ ، فإنه قذ ذكر عنده أن أحد الصالحين كان مارا بطريق فوقع في جب فمرّ بعض السابلة على ذلك الطريق ورأوا الجب ، فقالوا : إن هذا الجب يضر بالسابلة لوقوعه في الطريق

__________________

(١) الحديث في صحيح مسلم كتاب الجهاد رقم (٥٨) وفي المسند للإمام أحمد بن حنبل ١ / ٣٠ و ٣٢ وفي دلائل النبوة للبيهقي ٢ / ٣٥٤ وفي المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ١٨١ وفي الدر المنثور للسيوطي ٣ / ١٦٩.

(٢) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي ، حافظ من أئمة المالكية. توفي سنة (٧٩٠ ه‍) الأعلام ١ / ٧٥. معجم المطبوعات ١٠٩٠ ونيل الإبتهاج ٤٦.

١٦٤

فلندفع أذاه بوضع هذا الصخر العظيم على فمه ونسدمه ، ففعلوا من غير أن يعلموا بالصالح الواقع فيه ، وخطر هو بباله أن يعلمهم ثم قال : لا التجىء إلى مخلوق والله أعلم بحالي ، وبعد ما مر السابلة جاء سبع وحفر فرجة من فم البئر وأدلى ذنبه إلى الرجل الصالح ، فقال : إن هذا إذن من الله بنجاتي ، فتمسك بذيل السبع وأخرجه السبع من البئر وذهب إلى حال سبيله ، وسمع مناديا يقول قد نجيت من الهلاك بالهلاك.

وسئل الشيخ سيدي عبد العزيز كيف يصح هذا العمل من هذا الرجل الصالح والحال أنه مخالف للشريعة لأن الله يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وعدم إعلامه هو للسابلة من باب الإلقاء باليد ، فأجاب سيدي عبد العزيز رضي‌الله‌عنه بأن التكاليف الشرعية العملية هي ثاني رتبة من التكاليف الاعتقادية ، وذاك الرجل الصالح علم من نفسه ركونها للأسباب وعدم صحة توكلها فقهرها حتى يثبت صحة الإعتقاد الذي هو الدرجة الأولى ، فلهذا كان الرجل قد عمل بالشريعة بوضع درجات التكليف مواضعها ، هذا محصل كلامه رضي‌الله‌عنه. وبه يعلم أن كل من ارتكب منهم مخالفة الأسباب لا بد أن يكون له حامل خاص ، وإلّا فهم رضي‌الله‌عنهم أشد محافظة على الشريعة ، فلا يغتر أحد بأن أعمالهم مخالفة لمشروعية الأسباب بل يحمل كل منهم على أمر خاص يليق بحاله ، وفقنا الله للإهتداء بهداهم.

١٦٥

الباب الثاني

في قطر تونس

لما كان مسقط الرأس في هاته البلاد وهي منبت الآباء ومستقر الأجداد ، ونحن بصدد التعريف والكلام على ما شاهدناه في الأقطار على حسب مشاهدتنا لها في التواريخ ، لزم بالضرورة تقديم الكلام على الوطن النابت حبه في القلب النبات الحسن.

فصل في التعريف بالقطر التونسي

اعلم أن موقعه على شواطىء أفريقية الشرقية الشمالية على البحر الأبيض ، ويحده البحر المذكور شمالا وشرقا وطرابلس الغرب في بعض الحد الشرقي والصحراء الكبيرة جنوبا والجزائر غربا ويبتدىء شمالا من عرض سبع وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة وعشرين ثانية ، هذا عند أعظم المراسي هناك وهي مدينة «بن زرت» ، ويمتد من هناك إلى الجنوب إلى أن يدخل في الصحراء الكبيرة من غير تعين للحد ، وإنما أشهر المدن جهة الحد الجنوبي هي مدينة توزر ، وهي واقعة في عرض أربع وثلاثين درجة وإحدى عشرة ثانية وعشرين دقيقة ، وهذا القطر طوله من الشمال إلى الجنوب أكثر من عرضه من الشرق إلى الغرب ، ممتد على ساحل البحر فيبتدىء من عرض درجة ٣٧ ودقيقة ١٩ وينتهي معموره إلى درجة ٣٣ ودقيقة ١٠ ، ويبتدىء في الطول المؤسس على باريس من طول درجة ٩ ودقيقة ٢٢ إلى نحو درجة ٥ ودقيقة ٥٠ ، وبه رأس داخل في البحر يسمى رأس «أدار» وهو أطول رأس في البحر الأبيض ، ويتصل ببقية القارة بالمكان المسمى دخلة المعاوين ، كما أن بالقطر رؤوس أخر وهي : الرأس الأبيض ، ورأس الزبيب ، الإثنان حول بن زرت. ورأس سيدي علي المكي (١) ، ورأس جبل المنار ، ورأس المهدية ، ورأس كبودية ، ورأس الغدامسى ، ويتبع هذا القطر عدة جزر صغيرة أعظمها جزيرة جهة الحدود الجنوبية ، ثم قرقنه وهي أمام صفاقس ، ثم جزيرة الكلاب والجوامير وجالطه وغيرها ، وبه خمسة أجوان كبيرة أحدها جون سيدي أبي سعيد ، وهو بقرب الحاضرة ، وجون قابس جهة الجنوب ، وجون الحمامات ، وجون بن زرت ، وجون رواد ، وبه ثلاث

__________________

(١) هو علي بن أحمد بن مكي الرازي ، أبو الحسن حسام الدين. فقيه حنفي توفي في دمشق سنة (٥٩٨ ه‍) الأعلام ٤ / ٢٥٦ وكشف الظنون ٩٩٩ و ١٦٣٢.

١٦٦

بحيرات. أولها : بحيرة الحاضرة ، وثانيها : بحيرة المزوقة عند بن زرت ، وثالثها : بحيرة الكلبية بين القيروان والساحل.

وأما الأنهر : فليس به إلّا نهر واحد وهو مجرده ومنبعه من ولاية قسنطينة التابعة للجزائر ، وينحدر من هناك مشرقا مع زيادة تعاظمه بالجداول التي تصب فيه إلى أن يخترق القطر التونسي مارا من الغرب إلى الشرق في الجهة الشمالية من القطر ، وتزداد مياهه أيضا بما يصب فيه من الجداول إلى أن يصب في البحر في جون رواد من شماليه قرب غار الملح ، وهذا النهر وإن لم يكن سواه في هذا القطر فهو لا يحمل إلا القوارب الصغيرة في الصيف وأما في الشتاء فيمكن أنه يحمل القوارب الكبيرة لا السفن ، وإذا تكاثرت الأمطار فإنه يفيض ويطفو على أراضي وسيعة وربما حصلت منه بعض أضرار.

وأما الجداول : فهي ليست بكثيرة جدا ولكنها خارقة لأغلب الجهات ، ومنها ما يجري دواما ومنها ما يجري عند هطول الأمطار ومن أشهر هاته الجداول واد ملأن ومنبعه من جبال برقو من الجهة الجنوبية ، ويخترق وطن رياح ثم ينحدر إلى أن يصب في البحر في رادس يبعد عن الحاضرة عشرة أميال ، وكثيرا ما يمنع المارة عن عبوره عند كثرة الأمطار ، وتارة يفيض لكن لا يحصل منه ضرر لمن يجاوره غير أنه يضر بمن يكون فيه من الرعاة والمارين ، حيث أن فيضانه يأتي دفعيا وجريان مائه سريعا لكثرة انحداره.

وأما العيون : فليست كثيرة في عموم القطر ، لكنها تكثر جدا في الجهة الشمالية في جبال ماطر وجبال طبرقة وجبال باجة ، وفي الكاف عين عظيمة جدا كثرة ماء وعذوبة وبرودة ، حتى تقع المخاطرة في الصيف لمن يقتدر أن يرفع شيئا من قعر الماء الجاري عند منبعه ، ثم تنحدر من الجبل وتسيح في البساط مهملة ، وكذلك في إسبيطله عين عظيمة وفي زغوان وجقارعيون كثيرة ، وبعضها وهو أكبرها مجلوب إلى تونس الآن في قنوات من حديد مع آثار القنوات القديمة التي كان جلب فيها الرومان الماء من هناك إلى قرطاجنة ، وكذلك في الجريد عيون غزيرة عذبة الماء وحارة ، كما يوجد بالقطر مياه كثيرة معدنية أشهرها ماء حمام الأنف النابع من جبل أبي قرنين وهو ماء حار عليه عدة حمامات ، والماء نابع من عدة عيون أحسنها عين حمام العريان ، ثم عين الحمام الكبير وله نفع عظيم لعدة أمراض قد أفردت منافعه وكيفية استعماله برسالة خاصة للحكيم الكبير وترجمها ونقحها العلامة بيرم الأول قدس ثراه ، وهذا الحمام يبعد عن الحاضرة خمسة عشر ميلا جهة الجنوب الشرقي مطل على شاطىء البحر جامع للنزهة والنفع والتأنس ، حيث كان على الطريق العام الموصل إلى الساحل وغيره من أكبر جهات القطر ودرجة حرارة مائه

١٦٧

من ٤٨ إلى ٤٩ من توروميتر صانتي غرام الذي هو ميزان للحرارة الذي سفره من الجمد ، والمائة درجة هي درجة غليان الماء وكل ليتره منه تزن ألف غرام وعشرة غرمات وسبعة صانتي غرام ، ومعتاد الماء المطلق المقطر يزن ألف غرام والغرام هو نوع من مقادير الموازين كل ثلاثين غراما بأوقية ، وتفصيل الأجزاء التي في هذا الماء من المعادن هو ما يأتي بيانه :

صنتي غرام

غرام

٠٠

٠٢٨

ففي كل ألف غرام من الماء المذكور حامض فحم الجير

٠٠

٠١٢

حامض المانيزيا

٠٠

٠٠٠

حامض الحديد قليل

٥٢

٠٠١

الجبس

١١

٠٠٠

ملح ديسود

١١

٠٠٠

ملح بوتاس

٧٥

٠٠٩

مانيزيا كلولورد يسوديوم

٩٠

٠٠١

كلولورد كالسيوم

٥٥

٠٠٠

كلولورد يمانيزيوم

٠٧

٠٠٠

كلولورد يبدتاسيوم

٠٧

٠٠٠

آسيد سيلسيك أي طين البلور

وفي كل كيلو (٢٢٠) صانتي ميتر ومربع من الحامض الفحمي ، وفيه ٢ ميلغرام من برومور ومانيزيا ، وإصطلاح هاته الأعداد معلوم في الحساب ، وكذلك يوجد فيه حمام قربص البعيد عن الحمام السابق نحو أربعين ميلا في الجهة الشرقية الجنوبية منه ، وهو أكثر عيونا وأشد حرارة وله نفع عظيم في كثير من الأمراض العصبية وأمراض المواد الطيرية ، ومن غريب خواصه : أنه إذا وضعت دجاجة في مجرى الماء قرب منبعه نحو بضع دقائق يزول ريشها بتمامه ، بل أن بعضا من الأهالي يضع قدرة للطعام هناك فيطبخ اللحم أحسن طبخ وهكذا غيره إلّا بيض الدجاج ، فمع شدة تلك الحرارة ومع سهولة طبخ البيض فإنه لا ينضج ولو أبقي هناك يوما تاما ، هكذا يروى عن كثير وأجزاؤه تقرب من أجزاء ماء حمام الأنف.

وكذلك يوجد قرب رأس الجبل من وطن بن زرت حمام معدني غير أنه لا يستعمل إلا عند بعض البوادي ، وأهل القرى هناك ، ولا شهرة له مع أنه كثير المنافع. وكذلك يوجد

١٦٨

في النفيضة مياه معدنية نافعة للشرب والإستحمام وهي مهجورة كغيرها من منابع الثروة والتقدم.

وأما جبال هذا القطر فتتصل به سلسلة جبال أطلس التي تبتدىء من عرض ٢٨ درجة وتنتهي في عرض ٣٧ في مملكة المغرب ، وأعلى رؤوسها بين فاس ومراكش وارتفاعه على سطح البحر ثلاثة عشر ألف قدم ومائة قدم ، وفي اختراقها للقطر التونسي عدة فروع أشهرها : جبال مطماطه ، وجبل طبرقة ، وجبل الرقبة ، وجبل زغوان وهو أعلاها ، وجبل الرصاص ، وجبل أبي قرنين ، ومناخ هاته الجبال هي الجهة الشمالية والغربية الشمالية ثم لا تزال تنخفض وتضيق عند توجهها للجنوب مارة بقرب سواحل البحر إلى أن تتصل بجبال الودارنه من عمل الأعراض ، وعدا هاته لا يوجد جهة الجنوب إلّا ربىّ لا اعتبار لها وليس منها جبل بلكاني إلا جبل أبي قرنين ، فإن الآثار دالة على أنه كان في الأصل بلكان حيث يوجد في قمته العليا فوهة مسدومة الآن ، مع منابع الماء الحار المتدفقة منه ومع الإنفجار البليغ الكائن في أحد رؤوسه التي بقرب البحر في الجهة الشمالية منه ، المعروفة بضربة السيف الحادث ذلك الإنفجار الهائل بسبب الزلزال الشديد الذي هو من علايق البلكانية.

وقد علمنا مما مر أن في الحد الجنوبي الصحراء الكبيرة ، وقد قال قوم : إنها كانت بحرا متصلة بالبحر الأبيض بخليج من شطوط قابس ، ومما يستدلون به الأرض السواخة التي بين الشاطىء المذكور والصحراء ، ورام «فرديناند ديلسبس» الرجل الشهير بأعمال خليج السويس أن يحفر خليج قابس لكي يصير البحر في وسط أفريقية ، وحققوا أن سطح البحر أعلى من سطح الصحراء بما يحمل السفن الكبيرة وأن البحر يمد هناك إلى طول نحو ثلاثمائة ميل ، ورأى قوم امتناع ذلك.

ولكن المريد اشتغل الآن بخليج بنما في أمريكا فترك الكلام والعمل في بحر الصحراء.

وأما معادن هذا القطر فهي لم تزل في حجب الترك ولا شك أنها غنية نافعة ، والمحقق منها الآن المعروف هو الرصاص والفضة في كل من جبل الرصاص ودجبة.

وأولها : كان مستعملا بكثرة وآثار خدمة الرومان له العظيمة لا زالت إلى الآن ، واستخراج المعدن منه لا يحتاج لكبير معالجة ، حتى أن الاعراب تأخذ منه ما تريد ولهذا صار إسم المعدن عنوانا على الجبل ، وقد منح في وزارة «مصطفى خزنه دار» إلى أحد الطليان ثم انتقلت منحته إلى لجنة طليانية ولم تزل بأيديهم إلى الآن من غير حصول فائدة لهم ولا للبلاد.

١٦٩

ـ وثانيها : الآن بيد لجنة فرنساوية هي صاحبة امتياز طريق الحديد ، والظاهر من أعمالها السريعة المجدة أنها تستخدمه عن قرب وإن كانت إلى الآن لم تحدث فيه شيئا ، كما يوجد المعدنان المذكوران في جهات أخر من جبل الرقبة وكذلك قرب اسبيطله ، كما يوجد قرب هاته معدن من الذهب ، وفي وطن أولاد عون يوجد القزدير والزئبق ويوجد الحديد في الجبل الأحمر قرب «باردو» وفي دجبة ، وهو غني سهل الإستخراج في كليهما كما يوجد السيمان في الجبل الأحمر وهو غني سهل ويوجد فيه الفحم الحجري أيضا ، كما يوجد معدن المرمر الرفيع الأحمر والأخضر الذي كانت تستعمله الرومان والقرطاجنيز في هياكلهم الشهيرة ، وهو قرب طبرية. وآثار استخراج الأقدمين موجودة تعدها البوادي غير أن تأوي إليها ، كما يوجد الرخام الأسود في جبل أشكل من وطن ماطر ، ويوجد الكذال الرفيع الصلب في جبل أبي قرنين وهو مستعمل إلى الآن ويسمى محله مقطع الحجر ، وكذلك في الجبل الأحمر الجبس كما يوجد الملح في سباخ عديدة ، أشهرها : سبخة سكره ، قرب الحاضرة. وفي عشرة الثمانين والمائتين وألف أرسلت دولة فرنسا أحد علماء الطبيعات بطلب من الحكومة التونسية وطاف في جميع القطر بتدقيق ، وكتب ما يشتمل عليه من المعادن ومقدار درجتها وأماكنها لكن بعض تلك التقارير لم تصل للحكومة التونسية إلى الآن.

وأما أراضي هذا القطر فهي خصبة جدا تبعا لماء السماء وكأنها لكثرة خصبها واشتمالها على أكمل الصفات الحميدة خصت بإسم أفريقية من باب إطلاق العام على الخاص لمزية فيه ، حتى صار كأنه هو الجميع أو أن أصل الإسم خاص بهذا القطر ، ثم سمي به جميع ما اتصل به من القارة ، ويؤيده تسمية الجهة الأكثر خصبا منه بخصوص هذا الإسم ، وهي الجهة الشمالية الشاملة لماطروباجة وما بينهما ، فإنها إلى الآن تسمى على لسان العام والخاص بأفريقية غير أنهم يبدلون القاف كافا مفخمة ، وينقسم القطر إلى ثلاثة أقسام باعتبار الخصب.

فالجهة الشمالية التي هي أكثر جبالا هي الأكثر خصبا على مرور السنين ، فالمزارعون هناك لا تكاد تجد سنة لا يربحون فيها من مزروعاتهم ، ولا أقل أنهم لا يخسرون شيئا. وعلى الخصوص في هذا جهة جبال ماطر كما أن الخصب في هاته الجهات لا يتجاوز الحدود المتعارفة في الربح.

وأما القسم الثاني : فهو الجهة الوسطى من القطر والجهة الشرقية من الجنوب على قرب من البحر ، وذلك كالساحل والقيروان والأعراض وصفاقس وخصب هذا القسم باعتبار السنين وما فيها من المطر قلة وكثرة ، وحيث كان نزول المطر في تلك الجهات قليلا فكذلك الخصب قليل ، ففي العشر سنين مثلا يحصل عندهم الخصب مرة أو مرتين لكنه خصب خارق للعادة ، ويكاد السامع أن لا يصدق به أولا

١٧٠

ما شهد به العيان وتواتر النقل فيه حتى بلغ حد القطع ، فإن رجلا زرع في أراضي الساحل التابعة لبلد سوسه ربع قفيز قمحا فحصل مائة قفيز وخمسة عشر قفيزا ، وبلوغ هاته الدرجة قليل والكثير أن من يزرع قفيزا يأخذ من الستة عشر قفيزا إلى الخمسة والثلاثين قفيزا ، وقد حكى الوزير أبو محمد خير الدين باشا ، عندما كان وزيرا بتونس إلى نائب إحدى الدول ما يحصل بتلك الجهة من عظم الخصب ، وأن الأمير أحمد باشا كان أتى في أحد أسفاره بجذر من شعيرة واحدة أنبتت ستمائة سنبلة وأزيد ، فظهر على وجه النائب استبعاد الحقيقة وسكت الوزير إذ ذاك ثم أرسل إلى عامل القيروان وجلاص بأن يبحث عند استواء الزرع على أعظم جذر وأكثره سنابل ، فأرسل إليه صندوقين عظيمين بكل واحد منهما جذر واحد فاستدعى الوزير ذلك النائب ومعه طائفة من الأعيان وأراهم الجذور فاعتنوا بأنفسهم بالبحث عن المنبت ووجدوا أصله شعيرة واحدة ، وعدوا كم تفرع في أحدها فتجاوزوا في العد الأربعمائة والخمسين وبقي نحو الثلث بلا عد ، وقالوا يكفي الذي تحمل منه هذا العدد فله أن يتجاوز حتى الألف ، ويعظم طول السنبل أيضا حتى يحجب الفارس بفرسه إذا مر فيه ، والعادة عند فلاحة تلك الجهات أن يزرعوا حبات الشعير كزرع الشجر ، أعني يتركون بين الشعيرة والشعيرة مسافة وسيعة وأما بقية السنين فأما أن يخسروا رأس المال أو بعضه أو يحصل لهم ربح يسير ، وذلك لقلة نزول الأمطار بتلك الجهات لخلوها عن الجبال المرتفعة والأشجار الطويلة ، وأراضي هذا القسم يلزمها البذر القليل بالنسبة للقسم الأول ، فالمقدار من الأرض الذي يبذر فيه قفيز في القسم الأول يبذر فيه في هذا القسم الربع وأقل.

وأما القسم الثالث : فهو غير صالح لزرع الحبوب بالمرة ، وهو الجهة الجنوبية المسماة بالجريد لأنها أراضي متسعة من الرمل وقريبة إلى الصحراء الكبيرة ولا تصب فيها المطر إلا نادرا ، وإذا صبت أضرت بأهلها لأن نباتهم أكثره النخيل والمطر تضر بثمره العجيب وأما نبات هذا القطر فأغلب زراعة أهله في القسم الشمالي والأوسط هي الحبوب من القمح والشعير ، وأقل منها الذرة والفول والدرع والجلجلان والحبة الحلوى والكروية والبسباس والتابل والحبة السوداء والكتان والقطن واللوبياء والبطاطس والحمص والعدس ، ولكثرة خصب هاته الأشياء كان هذا القطر يسمى بمخزن حبوب روما ، ويزرعون من البقول الطماطم والبصل والصلق والكرنب والبروكلو والقناوية أي الباميا والملوخية والفلفل الأخضر والأحمر والمعدنوس والسنباخ والكرضون والدبا بأنواعها ، والحمقاء والشبت والثوم والخس والسكوريا والبراصا والفجل والسماق والكلافس والفراولو والبطيخ الأحمر والأخضر والقثاء واللفت والكسبرا وبوخريش والإسطفلينا ، وفيه أنواع برية عجيبة الرائحة والمنظر لا يحيط بها إلا خالقها ، ومنها : القيحوان والبابونج والأتاي

١٧١

وهو غير مستعمل ، وفيه من الأزهار المستنبتة زهر البنفسج وينبت بنفسه أيضا في زغوان وغيره من أماكن المياه الكثيرة ، وهكذا الورد والياسمين بأنواعهما والفل والقرنفل على أنواع شتى وغير ذلك من الزهور الطيبة الزكية ، بحيث تكون جبال هذا القطر وأوديته وبساتينه أيام الربيع وأواخر الشتاء وأوائل الصيف روضة نضرة بألوان النبات المخضرة به الأرض وأنواع الزهور والنور المختلف الأشكال والروائح.

ومما ينبت بنفسه القرنين الخارج من الخرشف الذي يقال أنه الجزر والسكوم ، وينبت فيه جميع النباتات من الكلأ البري ومن أحسنه لغذاء الحيوانات النجم وفي الجهات الشمالية آجام وغياض وغابات عظيمة غنية ، وأشهرها : غابة طبرقة ، يستخرج منها الأخشاب لبناء السفن والخفاف وأعواد السقوف من الطرفا وغيرها ، مع المتانة والدوام ، والعجب أنها مع كثرتها فتجارة الأخشاب المجلوبة من أوروبا رائجة في أغلب حواضر القطر ، ولتلك الغابات أشجار عظيمة جدا ، ذكر لي ثقة : «أنه رأى في غابة طبرقة شجرة من الزيتون أحاط بساقها ستة عشر رجلا ، كل منهم فاتح يديه للغاية ليمسك صاحبه». وأشجار تلك الغابات هي الذرو والصفصاف والبلوط والبندق والقسطل والزان والفرنان ، ومنه يستخرج الخفاف وقشره لدبغ الجلود ، وفيه تجارة رائجة وشجر النشم والدردار والعرعار وغيرها من غير ذات الثمر.

كما يوجد فيها ذات الثمر نحو الجوز ، ولأخشابه سوق نافعة كما لعروقه أيضا ، فإنهم يأخذون قشرها ويستعملونه للصبغ وغيره ، وأكثر هذا في جبل زغوان وكل تلك الأشجار والغابات نابتة بنفسها من غير حراسة إلا لحفظ طبرقة من جهة البحر ، لأن للحكومة معلوما على الخفاف وهي مختصة بأخشاب السفن ، كما لها معلوم على نوع من قشر الفرنان المستعمل للدبغ وبقية المنافع مكنوزة أو ضائعة.

ويستنبت في جميع جهات القطر شجرة الزيتون المباركة إلا في الجهة الضاربة للجنوب وكيفية غراسته على أنواع.

فمنها : أن يؤخذ قطعة من الفروع الغضة بأوراقها وفروعها فتغرس وتبقى الفروع ظاهرة ويسمى الشطبة وهو أردؤها.

ومنها : أن يقطع من فروع الشجرة ما بلغ ولم يجف ويقطع في طول ذراع ثم يحفر إليه عمق ذراعين في طولهما وعرضهما ، وتلقى تلك القطعة المسماة بالقنوط هناك ممتدة مع خلط التراب الذي تردم به بالسرقين وهو المسمى عندهم بالغبار.

ومنها : ما يؤخذ من قاعدة الشجرة الجافة عند بدو اللقاح منها ويقطع بآلة من حديد مكركبا ، حيث أن أصل خلقته في القاعدة كذلك إلى أن يبقى ماسكا للأصل

١٧٢

شيء قليل فيجذب باليد لكي ينسلخ من القشر سلخا ، ويغرس على النحو السابق ويسمى السلعة.

ومنها : أن يزرع النوى وبعد كبر شجرها تلقح من شجرة الزيتون ، لأن النابت من النوى يخرج ثمره رديئا لا زيت فيه ، وهو المسمى بالجبوز ويوجد من هذا النوع غابات كثيرة مهملة في الجبال وغيرها وأعظمها ما بين إسبيطله والقيروان.

ومنها : ما يزرع من القنوط المذكور لكن ليس كل شجرة منفردة من أول الأمر بل يزرع عدد كثير منها في مكان مخصوص متقارب لبعضه ويسمى بالمشتلة ، وبعد ثلاث سنين من نباته تنقل كل شجرة لمحلها ، وهذا الصنف هو الأكثر استعمالا وللأهالي اعتناء بإتقانه وتنميته وسقيه ، والأغلب في هاته الشجرة أن تستنبت من غير سقي إلا في السنين الأولى ، فإذا ثبتت عروقها ترك سقيها إلا بما يأتيها من ماء المطر ، ولثمرها أنواع كثيرة مختلفة في الطعم والزيت كثرة وقلة والأغلب هو النوع الأسود الصغير الحجم وهو العام ، ويختلف زيته بالنظر للكثرة والحسن على حسب الأرض التي يزرع بها ، فما يزرع في الجبال والأراضي الكثيرة الحجارة يكون أكثر زيتا وأحسن زيوت هذا القطر زيت زيتون بلد قفصة وبلد توزر فإنه ألذ طعما وأنقى لونا كأنه ماء لا يكاد يبدوا من الزجاجة إذا وضع فيها ، ومن أنواع الزيتون الحسنة الطعم النوع المسمى بالمرسلين ، وهو أخضر متوسط الحجم مائل إلى الطول دقيق النوى ، ويتقن صنعه أهل زغوان بالنارنج وأهل الحاضرة بذلك أيضا وبالليمون والفلفل الأحمر والأخضر ، ومثله النوع المسمى بالطازلا ، الكبير الحجم جدا الأسود اللون ، ومن أنواعه الحسان المسمى بالمسكى وهو مكركب مائل إلى البياض بخضرة ، وبقية أنواع الأشجار المستنبتة فمنها البرد قال أي النارنج الغير المرّ وفيه أنواع وهي : الطرابلسي ، والمالطي ، والجبالي ، وأغرب نوع لم أره في غير هذا القطر مع البحث عنه البرد قال المسكي ، وهي لا حموضة فيه أصلا بل فيه حلاوة زائدة كأنه مخلوط بسكر أو عسل ، ومنها النارنج والليم الحلو والليمون الحامض وفيه أنواع.

منها : ما يبقى في جميع الفصول الأربعة والكمثري وفيها أنواع لكل زمن من فصول السنة نوع وقد نقل من أوروبا أنواع تعظم كثيرا وعني بتربيتها بعضهم فأنتجت في السنين الأولى ثم أخذت في التراجع ، والتفاح مثل ذلك والمشمس ومنه نوع يسمى بالشاشي ، صغير مبيض منقط بحمرة أو سواد لم أر مثله فيما رأيت من الأقاليم طعما ونكهة ، والإجاص بأنواع كثيرة منه الأحمر والأسود والأبيض والأخضر والمكركب والمستطيل والصغير والكبير ، ويسمى بالعوينة ، وأحسنه المسكي وهو صغير مستطيل ، واللوز والعنب والتين والخوخ والهندي أي التين الهندي ، وهو نوع يخرج من شجرة لها شوك كثير ولا ساق لها ، وورقها مثل أظلاف الإبل ، له شوك كثير ويسمى في المشرق بالصبارة ، ويستعمل

١٧٣

بكثرة سياجا على البساتين وهو مرغوب فيه في هذا القطر لتمعش أقوام مثل جلاص وتفكه الآخرين ولو من أهل المدن ، لطيب نكهته وطعمه مع قلة ضرره إلا إذا أكثر أكله على جوع فإنه قابض جدّا ربما قتل بذلك ، ومن طبيعته أنه يكثر في سنين الجدب أي في العام الذي تقل فيه الأمطار ، ولذلك صار الهندي أهم النبات النافع للفقراء.

كما يستنبت في هذا الإقليم التبغ أي ورق التدخين والنشوق ، فأما ورق التدخين : ففيه الجيد ولكنه لا يبلغ إلى أعلى نوع منه ، وأما ورق النشوق : فإنه أعلى من جميع أنواع ما يزرع منه في غير هذا القطر ، سيما ما يزرع منه في جهة باجة وتبرسق وقربة ، وعادة دقه في هذا القطر أنه يدق ناعما للغاية وقد كانت فيه أرباح للقطر بكثرة خروجه منه ، والآن صار يجلب إليه كثير من الخارج لتحجير الحكومة زرعه بإطلاق ، حيث كان لها عليه آداء وافر ، وينبت أيضا الجوز والسفرجل والعناب والزعرور والرمان وبوصاع والموز والنخيل ، غير أنه في غير الجريد لا يتمر إلا ثلاثة أنواع وهي : البسر الأخضر والأصفر والرطب ، وأما في الجريد فله أنواع عدها بعضهم ثمانين نوعا ، واختص على جميع ما علمنا من الأقاليم رؤية وسماعا بالنوع المسمى بالدقلة الذي لا نظير له حلاوة ولذة طعم ، ويحمل منه لسائر المعمور رغبة فيه إلى غير ذلك من سائر نباتات الأقاليم المعتدلة ، لا سيما الجبال الشمالية الكثيرة المياه فإنها يوجد بها حتى بعض نباتات الأقاليم الباردة ، وهي على ممر الأيام نضرة خضرة بما كساها الله من جمال النبات والخصب.

وأما هواء هذا القطر فهو معتدل الأغلب ، والجهة الجنوبية يغلب فيها الحرّ وإذا هب الريح الجنوبي على أي جهة وفي أي وقت يحصل منه الحرّ لا سيما في الصيف فإنه يؤذي بحره حتى بعض الثمار والأشجار ، وفي غير ذلك الإعتدال هو الغالب ويشتد البرد في الشتاء لكن لا يصل إلى إنجماد الماء أو نزول الثلج إلا نادرا ، نعم في جبال الشمال المرتفعة يحصل الجمد في كل سنة بل يبقى الثلج في بعضها ولو في الصيف لكنه قليل ، وأغلب جهات القطر سليمة الهواء موافقة للصحة وفيه جهات حسنة الهواء جدا نافعة للمرضى ولو بمرض السلّ الذي أحسن علاجاته الهواء لأن مجلسه الرئة ، فمن هاته الجهات الحسنة المشهورة ، المكان المعروف برأس الجبل ، وهو جهة الشمال من القطر بقرب شاطىء البحر تبعد القرية التي هي مركزه على البحر نحو أربعة أميال ، والبحر من شماليها وهو على سفح جبل منخفض مرمل تحف بها بساتين ناضرة إلى البحر تسقى بآبار ذات ماء حلو جيد نقي ، وعلى شاطىء البحر عين عذبة ضعيفة الجريان لكنها نابعة من الصخر حلوة جدا نقية مسرعة للهضم كثيرا بحيث يصير الشارب منها يأكل أكثر من عادته ، وكذلك من الأماكن الشهيرة بحسن الماء والهواء بلدنا بل التي هي قاعدة الوطن القبلى ، وهي على مبتدىء الرأس الطويل رأس أدار عند اتصاله بالقارة ، تبعد على البحر نحو ميل وهو من شرقيها الجنوبي ، وهي في وهاد مرمل وراءها جبل وأمامها بحر وتحدق بها البساتين والجنان بأنواع الليمون والبرد قال وغيرهما من الفواكه.

١٧٤

وأحسن من هذين المكانين هواء الجبل المعروف بالأنصارين يبعد على الحاضرة نحو ستين ميلا جهة الشمال مع بعده عن البحر فإن هواءه لارتفاعه يغلب عليه البرد ، وفي أعاليه مسارح ومزارع متسعة وعيون دافقة وأجام وغياض نضرة لا يركد فيها الماء بل ينحدر إلى أسفل والشاهد على أن هذا المكان أحسن هواء من جميع جهات القطر ، أن أهله لم يصبهم كثير من الأمراض الوبائية مع أن كل تلك الأمراض عمت القطر التونسي عدة مرار ، ولم يعلم أن أحدا من أهل ذلك المكان أصيب بشيء من ذلك ، بل إن الوافد إليه يسلم عند الحلول به وسبحان من خص ما شاء بما شاء. غير أن هذا المكان به عاهة صعباء هي كثرة الحيات المؤذية به والله لطيف ، كما يوجد بالقطر جهات وخمة رديئة الهواء ، فأولها : نفزة من عمل الجريد ، وثانيها : باجة قاعدة العمل المسمى بها ، فيغلب على أهاليها الأمراض وترى وجوههم صفرا والوافدون عليهم في أقل زمن يمرضون ، لا سيما في الصيف ، وأما غير ما تقدم فالهواء معتدل سليم.

وأما حيوانات هذا القطر ففيه أغلب حيوانات أقاليم الاعتدال أنيسة ووحشية ، فمن الوحشية الأسد وأغلبه في الجهة الغربية ويضرب المثل بجرأة أسد عرار من أقسام تلك الجهة ، والنمر في كل الأجام القليلة العمران ، والضبع والذئب والثعلب والفهد والنمس وهو النسناس والخنزير وبقر الوحش والغزال والأرنب والذربال والقنفذ والوعل والورل والجرذ على أنواع ، والبقر الجاموس كان جلب وسرح في جبال ماطر وجبل أشكل الذي تحيط به بحيرة أشكل وهي حلوى ، فتناسل هناك وتكاثر وهو على ملك الحكومة وتوحش بحيث صار إذا احتيج إلى شيء منه يلزم صيده حيا ، وقد تأخذ منه الحكومة أو بعض رجالها لجر الأثقال واللبن وقد قل في هاته المدة لكثرة صيد الولاة وعدم حراسته حقيقة.

ويوجد في القطر من الحشرات : الثعبان ولا سيما في جبال الودارنه فإنه يعظم جدا ، لكنه غير مضر هناك بحيث يكون مساكنهم كأنه من الحيوانات الأليفة كالقط وأشباهه ، وهم لا يؤذونه وهو لا يضر ولا ينضر منهم ويبلغ طول الواحد إلى ثمانية أذرع وغلظه أزيد من شبرين ، وأما في جهات الجريد والصحراء فهناك أنواع من الثعبان مضرة ، ومنه نوع يسمى «بالزريق» رقيق قوي جدا إذا قصد شيئا يطفر عليه فيخرقه كالسهم ، وكذلك الحيات القتالة وتوجد بكثرة في الشبيكا وتامغزا من الجريد والعقارب في الجهات ، غير أن كثرتها الفادحة في الجريد. وهي مؤذية ولا سيما في القيروان وفي بعض الجهات لا أذية منها كما في بارود مقر الأمراء بل لا تكاد توجد هناك ، وفي جبل المنار توجد بكثرة صغيرة الجرم لا أذية منها ، وكذلك يوجد العنكبوت وتارة يعظم إلى أن يصير في حجم العصفور الصغير وهو قليل الأذية ، وكذلك يوجد النمل على أنواع شتى وكثيرا ما يضر بالزرع من القمح والشعير ، وكذلك الجراد يأتي في بعض السنين ويضر بالنبات جميعا إذا كان كثيرا ، والخنفس على أنواع شتى ، والوزغ والحرباء وغير ذلك مما هو قليل الوجود في هذا القطر.

١٧٥

وأما الحيوانات الأنيسة فيوجد منها الخيل ومنها الجياد العتيقة العراب ، وأكثر ألوانها الزرق أي الشهب المشوبة بالسواد وبقية الألوان ، كالحمر والكميت والدهم ، والشهب موجودة أيضا بكثرة غير أنها أقل من الأول ، ويوجد بقلة البلق والصفر ، وهذا الجنس يستعمل للركوب وجر العجلات بأنواعها والحرث ، ومثله البغال ، وأما الحمير فهي موجودة بكثرة لكنها لا تستعمل لركوب أهالي المدن وأعيان القبائل بل عادتهم الإستحياء من ركوبها ، وإنما تركب من عامة الاعراب والسوقة وتستعمل للحمل ومثل ذلك الإبل فلا تركب إلا كما تقدم في الحمير ، وكذلك يوجد البقر والضأن والمعز والكلاب على أنواع ، ومنها : السلوقية والقط.

وأما الطيور في هذا القطر فمنها الأنيسة وهي الدجاج على أنواع والأوز والبط والدجاج الهندي وهذا النوع اختلفت أسماؤه فترى كل إقليم ينسبه إلى جهة ، ففي تونس قد رأيت نسبته وفي غيرها بعض يقول رومي وآخرون فارسي وآخرون صيني الخ ، وكذلك يوجد الحمام على أنواع شتى ، وغير هذه الأجناس يجلب بقلة مشغلة للترف ، وأما الوحشية فمنها المقيم ومنها الرحالة.

فأما المقيم فمنه : البزويش أي عصفور البيوت وهذا النوع لا تكاد تخلو منه بلاد وإن اختلفت بشدة الحرّ والبرد ، فقد رأيته في لندره كما رأيته في مكة المشرفة لا فرق بين ذا وذا سوى تأثير في اللون ، ففي البلاد الباردة يميل لونه إلى السواد وفي البلاد الحارة يميل لونه إلى البياض ، ومنه القنابر والزريص والحمام والحجل والمقنين والشبروش ودجاج الحرث والغر والنسر والعقاب والفاس والبرني والعصفور الكانالو غير أنه يربى والزراعة وبورأس والغراب وغراب الزرع والفاخت وخادم الحجل والطوطو والمرل.

وأما الرحالة فمنها : الإوز والبط والغرنوق والكركي والدراج والسمان والبلبل والمنيار والبيبط والزرزور والابابيل والخطاف والهدهد.

وأما مدن هذا القطر فقاعدته تونس ، وهي في عرض ست وثلاثين درجة وست وأربعين دقيقة وثمان وأربعين ثانية شمالا ، وطول تسع درجات شرقا من باريس بقرب من ساحل البحر الأبيض على جون سيدي أبي سعيد على تسعة أميال منه ، يفصل بينهما بحيرة ملحة لها منفذان إلى البحر تمر بهما القوارب ، أحدهما : يمر في حلق الوادي. والثاني : بينه وبين رادس.

والبحيرة قليلة العمق بها جزيرة تسمى شكلى بها حصن قديم وعلى شاطئها على حافة البلاد مرسى للقوارب الحاملة للبضائع والركاب ، بين القاعدة ومرسى حلق الوادي ، ويتصل بهاته المرسى أي مرسى البحيرة بالحاضرة فرع من طريق الحديد الغربية ، ويقال إنه عقدت مع لجنة فرنساوية تسمى لجنة بون كالمه وهي صاحبة امتياز طريق الحديد الغربية شروط في جعل تلك المرسى مؤتمنا للسفن ،

١٧٦

ويلزم لذلك حفر البحيرة وغير ذلك من الأعمال.

وهاته القاعدة هي أكثر طولا من الشمال إلى الجنوب من العرض ، ويحيط بها سور إلّا من جهة الشرق فإن حدها هناك هو البحيرة المذكورة ، كما أن السور ابتدىء فيه من جهة الجنوب ولم يتم ما بين باب الفلة وباب القرجاني ، وفي السور تسعة أبواب.

أولها : في قرب نهاية السور عند اتصاله بالبحيرة من جهة الشرق الشمالي ويفتح الباب إلى الشمال ويسمى باب الخضراء ، ثم يليه باب ابن عبد السلام ، ثم باب سعدون ، ثم باب حومة العلوج ، ثم باب سيدي عبد الله ، ثم باب سيدي قاسم ، ثم باب القرجاني ، ثم باب الفلة ، ثم باب عليوه ، وهو في نهاية السور من جهة الجنوب الشرقي عند اتصاله بالبحيرة أيضا. ولهاته القاعدة حصون على كل باب إلا باب حومة العلوج ، وفي خلال السور حصون أخرى كحصن القصبة وهو أكبرها وموقعه على أعلى ربوة في البلاد ، لأن البلاد جاءت في سفح ربوتين متصاعدة فيهما ، إحداهما : ربوة القصبة ، والثانية : ربوة القرجاني.

ومن الحصون حصن درب بن عسال ، وحصن سيدي يحيى ، وخارجها أيضا بقرب منها حصون ، فمنها : حصن الجلاز على أعلى رأس في جبل الجلاز من جهة الجنوب للحاضرة ، ومنها : حصن الرابط في الجهة الشمالية الغربية في الجبل الأخضر ، وبقربه : حصن فليفل ، وحصن : زوارة. وأمام حصن القصبة داخل المدينة بطحاء عظيمة وفي جهتها الجنوبية سراية المملكة التي بناها حموده باشا ولا زالت معتنى بها إلى الآن ، وهي مقر الحكومة والوالي عند وفوده للحاضرة.

وفي جهتي الشرق والشمال من البطحاء سوق ذو حوانيت وأمامها مظلات مرفوعة على أعمدة من الرخام. وفي جهتها الغربية الحصن وبوسطها جنية وفوارة للماء من ماء زغوان ، ويحيط بالمدينة فاصلا بينها وبين الربضين طريق متسع وأشهر الأماكن الرحيبة بالحاضرة بطحاء رمضان باي ، وبقربها مركز الضابطية ، وبطحاء الممر بربض باب الجزيرة ، وكذلك بطحاء المركاض أمام القشلة الحسينية ، وبطحاء الحلفاوين بربض باب السويق ، وبه أيضا بطحاء التبانين ، وبين الربضين بطحاء باب البحر وهي أنزه وأرحب الأماكن وحولها بناءات أنيقة ، وبوسطها جنينة وفوارة ويمر منها طريق عظيم متسع إلى مرسى البحيرة ، وذلك المكان هو منتزه الأهالي في عشايا الصيف لأن حول الطريق العريض أشجار وقهاوي وملاهي ، وحول باب البحر وبقربه حارات الإفرنج ويتصل بها حارات اليهود.

وماء زغوان مخترق لأغلب جهات البلد في قنوات من حديد ، وأغلب الأسواق متصل بعضه ببعض ، وقد كانت كل صناعة لها سوق مخصوص لكن الآن وقع بعض تداخل ، ومناخ هاته الأسواق هو الجهة الغربية من المدينة حول جامع الزيتونة الذي هو بقرب القصبة المار ذكرها ، وجامع الزيتونة هو أول جامع بني بالحاضرة وكان تمامه سنة

١٧٧

١٤١ حسبما كتب ذلك على أقواس بيت الصلاة بالقوس المواجه لمحل المصحف فنقش عليه تاريخه ، لفظ : «اعلم».

وهذا الجامع هو أعظم جامع بالحاضرة وهو بركة أهلها ولا يخلو من رجل صالح ، وهو مناخ العلوم ونتجت فيه فحول عظام قديما وحديثا ، وإن كان أقدم منه في البناء جامع القصر لأنه كان كنيسة قبل الفتح فصار جامعا ، وتشتمل الحاضرة على سبعة جوامع خطب للحنفية وأعظمها جامع محمد باي تجاه زاوية سيد محرز بن خلف (١) ، وبقية الجوامع والمساجد البالغة نحو ثلاثمائة كلها مالكية وأعظمها جامع الزيتونة ، وفي الحاضرة زوايا كثيرة منها ما به ضريح سادات من الصالحين كزاوية سيدي محرز بن خلف عماد البلدة رضي‌الله‌عنه ، وزاوية سيدي علي بن زياد (٢) من كبار أصحاب مالك بن أنس (٣) ، وزاوية سيدي أحمد بن عروس (٤) ، وزاوية سيدي منصور ، وغيرهم رضي‌الله‌عنهم وتبلغ أزيد من مائتي زاوية.

وسكان الحاضرة تقريب عددهم نحو مائة وخمسين ألف نسمة منهم نصارى ، وآفدون اتباع الدول الأجنبية نحو عشرين ألفا ، ويهود نحو أربعين ألفا ، والمسلمون ما بين أهالي أو جزائريين نحو تسعين ألفا ، وبقرب الحاضرة على نحو ثلاثة أميال من الغرب الشمالي بلدة باردو التي هي مقر الحكومة ، وتشتمل على قصور للإدارة ومساكن الوالي وقرابته وعلى جامع واحد وحمام ، ولها قاض خاص. وحول الحاضرة إلى مسيرة تسعة أميال وأقل بساتين وعمران وأحسنها المكان المسمى منوبة ، لاشتماله على قصور جميلة في بساتين أنيقة ، وبها قرية حول زاوية الولية الصالحة السيدة عائشة المنوبية ، وهي في الجهة الغربية من الحاضرة على مسيرة تسعة أميال ، وفي الجهة الشمالية بساتين أريانة تضاهي السابقة مع حسن هوائها ، ثم في الجهة الشرقية بساتين مرسى قرطاجنة التي هي أنزه وأبهى مكان حول الحاضرة تبعد عنها نحو سبعة عشر ميلا على شاطىء البحر الذي مجدت محاسنه شعراء

__________________

(١) هو محرز بن خلف بن رزين البكري من نسل أبي بكر الصديق (٣٤٠ ـ ٤١٣ ه‍) زاهد من الكبار.

تونسي وفيها توفي. الاعلام ٥ / ٢٨٤.

(٢) هو علي بن زياد العبسي التونسي أول من أدخل موطأ الإمام مالك للمغرب فقيه مالكي لم يكن في عصره أفقه منه توفي في تونس سنة (١٨٣ ه‍) وقبره معروف إلى الآن. الاعلام ٤ / ٢٨٩ إتحاف أهل الزمان ١ / ٩٩.

(٣) هو مالك بن أنس أبو عبد الله (٩٣ ـ ١٧٩ ه‍) أحد الأئمة الأربعة وإليه تنسب المالكية. مولده ووفاته في المدينة. الاعلام ٥ / ٢٥٧ الديباج المذهب (١٧ ـ ٣٠) وفيات الأعيان ١ / ٤٣٩ تهذيب التهذيب ١٠ / ٥ معجم المطبوعات (١٦٠٩).

(٤) هو أحمد (أبو الطراير) بن عمروس متصوف تونسي توفي في تونس سنة (٨٦٨ ه‍). الاعلام ١ / ١٦٩ شذرات الذهب ٧ / ٣١١ معجم سركيس (١٨١ و ٦٨٨) والضوء اللامع ٢ / ٢٥٩ رقم الترجمة (٧٥٧).

١٧٨

القطر ، وقال أبو عبد الله الباجي المسعودي (١) فيه عدة موشحات منها قوله :

يا شاطىء المرسة السلام

عليك يا نزهة العيون

وأشهر أماكنها العبدلية المشتملة على سوق وقصور أنيقة لولي العهد في الولاية الأمير علي باي ، وفي الجنوب الشرقي من الحاضرة على بعد تسعة أميال مستقيما مرسى حلق الوادي التي هي أكبر مراسي القطر ، ويكثر سكانها صيفا حيث ينتقل الوالي والحكومة إليها وكثير من اليهود للتنزه بها ويبلغ سكانها إذ ذاك إلى نحو ثلاثين ألفا ، وقد أحدث خارج سورها بناآت كثيرة نحو بلدة جديدة في شرقيها على ترتيب هندسي ، وبينها وبين مرسى قرطاجنة المتقدمة بلدة جبل المنار هي أقرب إلى الثانية ، وهي مقرّ انتزاه أهل الحاضرة في الصيف ، تشتمل على أزيد من أربعمائة دار أغلبها أنيق متقن مطلة على البحر بحيث يراها القادم في البحر على أحسن منظر لتصاعدها في الجبل مع تزويق الأبنية ، وإن كانت طرقها وسخة وقد التفتوا في المدة الأخيرة إلى شيء من نظافتها. وتشتمل على ضريح الوالي الصالح سيدي أبي سعيد الباجي ، وغيره من الأولياء رضي‌الله‌عنهم ، وتنسب البلدة إلى سيدي أبي سعيد.

كما أنه بين هاته البلدة وبلدة حلق الوادي عدة قرى في مكان مدينة قرطاجنة العتيقة التي هي الآن خراب ولم يبق منها قائما إلا مواجل الماء ، وقد كانت مسدومة بالتراب ، ثم في هاته المدة الأخيرة فرغت منه ووجدت حيطانها وطليها أحسن مما يبنى جديدا ، وهي نحو إحدى عشرة ماجلا متصلة ببعضها بمنافذ ولا تحتاج إلا لشيء يسير من الإصلاح ، وهي من المباني العجيبة التي تقصدها السواح لرؤيتها ، كما أن خرائب قرطاجنة لا زال يستخرج منها الصخور الضخمة والاسطوانات المرمر ، وكثير من الإفرنج يبحث فيها على الأشياء العتيقة ويستخرج منها تصاوير وأصنام وصناديق من رخام عليها كتابات عتيقة ، وهي قبور لقدمائهم وتارة يستخرج بعض فصوص منقوش عليها تصاوير في غاية الإتقان ، فمنها : فص قدر الظفر منقوش به عجلة وأربعة من الخيل ، ومن اتقان النقش أن صفائح الخيل تظهر مساميرها ولا يستبين عجبها إلا بالمرآة المكبرة ، كما يستخرج أحيانا قطع من السكة ذهبا أو غيره.

والحاصل أن هاتيك الجهات وما حولها إلى الجبل الخاوي لا زالت تشتمل على عجائب من آثار الأقدمين ، ومن القرى الواقعة هناك الآن أشبه شيء بالخراب المعلقة ودوار الشط ثم بينهما وبين حلق الوادي بساتين قرطاجنة على الشط ، وهي جميلة ذات قصور أنيقة. وفي الجهة الشمالية الشرقية من الحاضر بساتين سكرة ، وسميت بذلك لأنها كان

__________________

(١) هو محمد الباجي ابن أبي بكر عبد الله بن محمد المسعودي البكري التبرسقي ثم التونسي أبو عبد الله (١٢٢٦ ـ ١٢٩٧ ه‍). مؤرخ كاتب أديب شاعر مولده ووفاته في تونس. الاعلام ٦ / ٤٧ شجرة النور ١ / ٣٩٥.

١٧٩

يزرع بها قصب السكر بكثرة ، وتسقى من عين عظيمة عذبة مارّة تحت الأرض لا يعلم منبعها وإنما هي آتية من الشمال الغربي ذاهبة إلى الشرق الجنوبي في قناة من البناء المتقن ، والآن عليها آبار كثيرة ولكن من التقهقر صارت تلك الجهة كأنها خلاء وليس بها قصبة واحدة سكرية ، إذ صار هواؤها رديئا من السبخة التي هي في شماليها الشرقي بينها وبين بساتين قرت التي هي قرب شاطىء البحر شمالي الجبل الخاوي ، وفيها جبال عظيمة من الرمل المنتقل أهلكت أغلب بساتين تلك الجهة وهي آتية من الشمال محاذية للشاطىء ذاهبة إلى الجنوب وكأنها من الرمال التي يقذفها البحر بعد التصفية مما يأتي به نهر مجردة.

والمدينة الثانية في القطر هي : القيروان ، وهي اختطتها الصحابة رضوان الله عليهم عند الفتح في مكان صالح بمعيشة حيواناتهم ، وقريب من طبيعة أرض الحجاز لتأنسهم بها ، وبعيدة عن البحر حذرا من هجمات المحاربين قبل التمكن ، وهي في الجنوب الغربي من الحاضرة في طول ٤٥ ثانية و ٣ دقائق ، وعرض ٤١ ثانية و ٣٥ دقيقة. وبها الجامع الكبير الذي بنته الصحابة ثم جدده بنو الأغلب عندما كانت تلك البلدة هي قاعدة القطر ، ولا زال بعض سقوف الجامع مما صنعه الأغالبة إلى الآن ، كما أنها فيها ضريح السيد الصحابي سيدنا أبي زمعة الأنصاري (١) رضي‌الله‌عنه ، وعليه بناآت ضخمة ومدارس للعلوم وأوقاف كثيرة.

ولتلك البلدة سور وضريح السيد خارج السور ، وفي السور منافذ ضيقة معرجة للخروج منه راجلا عند غلق الأبواب ، وعلى السور عدة حصون وهي الآن ليست على ما كانت من العمران ، وسكانها الآن نحو عشرين ألفا كلهم مسلمون ، ولا يدخل البلد غير مسلم ، وهم قائمون بجميع ما يحتاجون إليه من صنائع وتجارة ، ولا زال العلم في أهلها وبالجامع الأعظم وبمدارس السيد عدة دروس في علوم شتى.

ثم إن القطر التونسي ينقسم إلى عدة أعمال بالنظر إلى السياسة.

(١) فالحاضرة وما حولها إلى نحو عشرين ميلا من كل جهة عمل.

(٢) ويليه من الجهة الشرقية الجنوبية عمل الوطن القبلي وهو ينقسم إلى الجزيرة مما يلي الحاضرة ، وقاعدتها بلد سليمان وسكانها نحو أربعة آلاف نسمة ، وإلى الوطن وقاعدته بلد نابل وسكانها نحو خمسة عشر ألف نسمة ، وفي الجميع أزيد من ستين قرية فمما يتبع الأولى المنزل وبني خلاد والصمعة وأقليبية التي هي حصن على رأس إدار ، ومما يتبع الثاني بنى خيار وقربة والحمامات وهي حصن في الجون المعروف بها ، وفي ذلك الرأس الطويل مقرّ السادات المعاويين الثابتي الشرف رضي‌الله‌عنهم.

__________________

(١) هو أبو زمعة البلوي ، صحابي. توفي بمعركة (جلولا) بعد سنة (٣٤ ه‍). الاعلام ٣ / ٤٩ والإصابة ٧ / ٧٤ رقم الترجمة (٤٤٧).

١٨٠