السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤١٦
تقرير درس الشيخ ـ في تحليل الوضع ، يصرّح بأن الوضع عبارة عن نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض (١) ، وأيضاً ، يصرّح بأنّ الإضافة نسبة ، لكن ليس كلّ نسبة إضافة ، فالإضافة نسبة متكرّرة (٢). ولا دلالة في كلامه على تحقّق هيئة للمتضايفين من النسبة المتكرّرة.
ثم إنه بما ذكرنا ـ من صحّة وضع الحروف للنسب ـ ينهدم أساس ما ذهب إليه المحقق الخوئي من أن المعنى الموضوع له الحرف هو التضييق في المعنى الاسمي ، لأنّ النسبة وجود رابط ، واللّفظ لا يمكن وضعه للوجود. فقد عرفت أنّ الصحيح هو الوضع للنسب ، على أنّ التضييق في المعاني الاسميّة بواسطة الحروف مسلَّم ، لكنّ كون ذلك هو المعنى الموضوع له الحرف أوّل الكلام ، فما ذكره خلط بين اللازم والملزوم.
هذا تمام الكلام في معاني الحروف (الجهة الاولى).
__________________
(١) كتاب التحصيل : ٣٣.
(٢) كتاب التحصيل : ٤٠٩.
الجهة الثّانية :
في كيفية وضع الحروف
وذلك يتفرّع على الأنظار في الجهة الأولى.
فأمّا على مبنى المحقق الخراساني في المعنى الحرفي ، من أنه الطبيعي ، فلا ريب في كون الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً كذلك.
وأمّا على مبنى المحقّق الأصفهاني ، فالموضوع له عبارة عن الخصوصيّات ، فالموضوع له خاص والوضع عام.
لكنْ يرد عليه : أنّ المنسبق من «في» في «زيد في الدار» هو نفس المعنى المنسبق منه في «الكتاب في المدرسة» فلا مغايرة بين الخصوصيّة في هذه النسبة عن تلك ، حتى يكون الموضوع له نفس الخصوصيّة ، وإنما يكون الفرق بين الجملتين باختلاف الطرفين ، وكذلك الحال في المعنى الاسمي.
فإذن ، ليس الموضوع له في الحروف تلك الخصوصيّة ، بل إنّ تلك الجهة المشتركة بين الموارد هي المعنى الموضوع له ، ولذا يكون الموضوع له عامّاً كالوضع.
ومن هنا ، فإنّ الميرزا ـ مع قوله بإيجاديّة الحروف ، وتقوّمها بالطرفين ، المستلزم لأنْ يكون معنى الحرف في كلّ مرّةٍ من استعماله غير معناه في المرّة الاخرى ـ يذهب إلى أن الموضوع له عام وليس بخاص ، وذلك ، لأنه يرى بأنّ
المعنى الحرفي وإن كان متقوّماً بالطرفين ، إلاّ أن هذا التقوّم خارج عن ذات المعنى ، وكذا الطرفان ، وإذا كان التقوّم والطرفان خارجةً عن ذات المعنى لم تبق خصوصيّة في المعنى ، بل إن تلك الوحدة السنخيّة الموجودة في جميع موارد استعمال الحرف هي الموضوع له ذلك الحرف ، فيكون عاماً لا خاصّاً.
والحاكم بما ذكرناه ـ من خروج التقيّد والطرفين عن ذات المعنى ، وإن كان التقوّم بهما ضروريّاً بحسب الوجود ، فيكون المعنى هو القدر المشترك والوحدة السنخيّة ـ هو الارتكاز ، إذ مفهوم «الظرفيّة» واحد في جميع موارد استعمال «في» وكذا غيره من الحروف ، وعليه ، فيكون الموضوع له عامّاً.
والمحقق العراقي القائل بأن المعنى الحرفي غير مستقل وجوداً ومفهوماً ، يرى أنّ الموضوع له عام.
وكذا المحقق الحائري ، فهو يقول بذلك مع قوله بآليّة المعنى الحرفي.
وهؤلاء الأعلام لم يمكنهم تصوّر أنّ معنى «في» ومدلولها في «زيد في الدار» يختلف عنه في «الكتاب في المدرسة» ، وعليه يكون الموضوع له تلك الجهة المشتركة والوحدة السنخيّة ، وهذا هو الحق ، ومن الواضح أن تلك الوحدة لا تحتاج إلى الطرفين ، وإنما المحتاج إليهما هو الحرف عند تفرّده.
وتلخص :
إن الحروف مداليلها هي النسب ، والواحد بالسنخ والقدر المشترك بينها هو الموضوع له ، فالوضع عام ، والموضوع له عام ، والمستعمل فيه عام.
ثمرة البَحث
وأمّا ثمرة البحث عن المعنى الحرفي وكيفيّة الوضع في الحروف :
فالثمرة الاولى :
تقوّم مفهوم الشرط بكليّة المعنى في مفاد الهيئات والحروف.
وتوضيح ذلك : إن مفهوم الشرط أهم المفاهيم المعتمدة في الفقه ، وإنما يتحقق هذا المفهوم ـ كما سيجيء في محلّه ـ بانتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط ، لأن الذي يتوقف على الجعل هو انتفاء سنخ الحكم ، وأمّا شخص الحكم فانتفاؤه بانتفاء موضوعه غير محتاجٍ إلى الجعل.
فإن قلنا بكون معاني الحروف جزئيةً وشخصيّة ، كان معنى الهيئة في «أكرمه» شخصيّاً ، وانتفاء هذا الشخص بانتفاء «مجيء زيد» عقلي. وإنْ قلنا بأن معاني الحروف ـ وكذا الهيئات ـ كليّة ، وإنْ كان لها وحدة سنخيّة ، تحقّق المفهوم للجملة الشرطيّة.
والثمرة الثانية :
في رجوع القيد إلى المادّة أو الهيئة؟
إنه إن كان المعنى الحرفي هو الطبيعي كما قاله صاحب (الكفاية) ، فالأمر في باب رجوع القيد إلى الهيئة سهل ، لأنّ المعنى الحرفي حينئذٍ يقبل الإطلاق والتقييد ، فيرجع القيد في الواجب المشروط إلى مفاد الهيئة.
وأمّا بناءً على جزئية المعنى الحرفي وشخصيّته ، فيشكل الأمر ، لأن الجزئي غير قابل للتقييد ، ومع عدم حلّ هذه المشكلة لا مناص من الالتزام
برجوع القيد في الواجب المشروط إلى المادة والواجب ، فلا يبقى «مفهوم الشرط» بل تكون تلك الجمل من مفهوم الوصف والقيد.
والثمرة الثالثة :
هل معاني الحروف تقبل الإطلاق والتقييد؟
قالوا : إن قلنا بأن معاني الحروف معاني استقلالية ، فهي قابلة للإطلاق والتقييد ، وإنْ قلنا بأنها آليّة ، فلا تقبل ذلك ، إذ المتكلِّم يجرّد المعنى عن القيد ، فإنْ أخذه لا بشرط بالنسبة إليه فقد جعله مطلقاً ، وإنْ أخذه فيه فقد جعله مقيّداً.
وبعد :
فعلى ما اخترناه في المعنى الحرفي وكيفية وضع الحروف ، فإنّ مفهوم الشرط متحقق ، وتوجه التقييد إلى مدلول الهيئة في الجملة الشرطية لا غبار عليه ، والله العالم.
الإنشاء والإخبار
هل يوجد فرق جوهري بين الجملة الإنشائيّة والجملة الإخباريّة ، أو لا؟
فيه قولان ، قال صاحب (الكفاية) بالثاني.
رأي المحقق الخراساني
قال : لا يبعد أن يكون الاختلاف بين الخبر والإنشاء من قبيل الاختلاف بين الاسم والحرف ، فكما أن الموضوع له والمستعمل فيه في الاسم والحرف واحد ، والتفاوت هو بكيفية الاستعمال من جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي ، كذلك الإنشاء والإخبار ، وقد قيّد الواضع واشترط على المستعمل أنه متى كان الداعي للاستعمال هو الحكاية ، فيأتي بالجملة الخبرية ، ومتى كان الداعي للاستعمال هو الإنشاء ، فإنه يستعمل الجملة الإنشائية ، فلا اختلاف جوهري ، بل الاختلاف هو باختلاف دواعي الاستعمال.
توضيحه :
إنه لا يخفى أنّ الجملة على ثلاث أقسام ، فمنها : الجملة المتمحّضة في الخبرية ، كقولك : قمتُ. ومنها : الجملة المتمحّضة بالإنشائية ، كقولك : قم ، لا تقم ، ومنها : الجملة المشتركة بينهما ، كصيغ العقود والإيقاعات ، مثل : أنت حر ، وبعت ، وكذا مثل : أطلب منك القيام ، فإنّ هذه الجملة تصلح لأن تكون إخباراً ، ولأنْ تكون إنشاءً.
والمفاهيم تنقسم إلى قسمين ، فمنها : مفاهيم توجد بأسبابها ولا دخل للجعل والاعتبار فيها ، لا في وجودها ولا في عدمها ، وهي الجواهر والأعراض ، ومنها : المفاهيم التي يتوقف وجودها على الجعل والاعتبار ، كالملكية والزوجيّة وأمثالهما. فهذا تقسيم.
وتقسيم آخر للمفاهيم هو : إن من المفاهيم ما ليس له إلاّ سنخ واحد من المصاديق ، كالكتابة مثلاً ، ومنها ما له سنخان من المصاديق ، مصداق من سنخ التكوين ، ومصداق من سنخ الاعتبار ، كالبعث ، فله فرد خارجي وفرد اعتباري يتحقق بهيئة صلّ مثلاً.
ولا يخفى أيضاً : أن النسب على أقسام : النسبة التحقّقية مثل ضَرَبَ ، والتلبسيّة مثل ضارب ، والإيجادية مثل : ضربتُ ، والتوقّعية مثل : يضربُ ، والبعثية مثل : اضرب.
يقول المحقق الخراساني : إنّ الإخبارية والإنشائية من دواعي الاستعمال لا من أجزاء وقيود المعنى المستعمل فيه ، فالموضوع له والمستعمل فيه في مثل «بعت» شيء واحد ، ففي هذه الصيغة توجد مادّة هي البيع ، وضمير المتكلّم : التاء ، وهيئة وردت على المادة تربطها بالمتكلّم وتفيد نسبة المادة ـ أي البيع ـ إلى المتكلّم نسبةً إيجادية ، فإن أراد تفهيم وقوع البيع منه ووجوده منه من قبل ، كان خبراً ، وإنْ أراد تفهيم وقوع البيع منه وإيجاده بنفس هذا الاستعمال ، في وعاء الاعتبار ، كان إنشاءً.
إذن ، حصل الاختلاف من ناحية القصد والداعي لاستعمال الجملة ، وإلاّ فمدلول الجملة والمعنى المستعملة فيه لهما واحد ، إذ المستعمل فيه نفس النسبة فقط ، لكن تارةً بهذا القصد واخرى بذاك القصد ، من غير دخلٍ للقصد
والداعي على الاستعمال في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.
هذا تمام الكلام في توضيح مبنى صاحب (الكفاية).
رأي المشهور
وقال جمهور الاصوليين بتعدّد مدلول الجملتين ، فمدلول هيئة الجملة الخبريّة ثبوت النسبة خارجاً ، مثل ضربتُ ، حيث يحكى عن تحقّق النسبة في الخارج ، أو ذهناً حيث يحكى عن ثبوتها في عالم الذهن ، أو عن ثبوتها في وعاء الاعتبار عند ما يقال بعتُ. ومدلول الجملة الإنشائية هو عبارة عن الإيجاد بواسطة الهيئة ، وهو على نحوين ، فتارةً : توجد المادّة بواسطة الهيئة كما في ألفاظ العقود والإيقاعات ، فلمّا تقول : بعت ، فإنك توجد مادّة البيع بهذه الهيئة ، وتتحقق المبادلة بين المالين. واخرى : توجد النسبة البعثيّة ، كما في قم واضرب ... فليس مدلول الهيئة في الإنشاء ثبوت النسبة بل إيجادها ، وهو إمّا إيجاد النسبة كهيئة قم ، وإما إيجاد المادّة كهيئة بعت.
فالتقابل بين مدلولي الجملتين تقابل الثبوت والإثبات ، والإيجاد داخل في ضمن المعنى وجزء له في الإنشاء ، كما أن ثبوت النسبة كذلك في الخبر.
وهنا مركز الاختلاف بين قول الكفاية وقول المشهور ، فالمدلول على الأول هو النسبة وحدها ، والثبوت والإثبات خارجان عن المعنى الموضوع له ، أما على الثاني فهما داخلان في ذات المعنى والمدلول ، فثبوت النسبة مدلول الخبر ، والإنشاء هو إثبات النسبة وإيجادها ، تارةً بإيجاد المادّة كما في «هي طالق» مثلاً ، واخرى بإيجاد النسبة كما في اضرب مثلاً ، إذْ توجد النسبة بين الضرب والمخاطَب.
رأي بعض المحققين على ضوء قول المشهور
وللمحقّقين الأصفهاني والخوئي أنظار في قول المشهور في حقيقة معنى الجملة الخبريّة ومعنى الجملة الإنشائية ، ومن خلالها يظهر مختارهما في معنى الجملتين.
رأي المحقق الأصفهاني
وذهب المحقق الأصفهاني إلى أن حقيقة الإنشاء والإخبار هو إيجاد الأمر النسبي بالوجود اللّفظي ، فإن كان له ما وراء وقصد الحكاية عنه باللّفظ فهو خبر ، وإنْ لم يكن له ما وراء حتى يكون اللّفظ حاكياً عنه فهو إنشاء.
فالفرق بين قوله وقول المشهور هو : إنهم يقولون : في الإنشاء نوجد المعنى باللّفظ ، فاللّفظ علّة لوجوده ، فهيئة «بعت» موجدة للبيع والملكية في عالم الاعتبار ، وهو يقول : إنه يكون للمعنى وجود مجازي باللّفظ ، لا أن المعنى يوجد بسبب اللّفظ ، فإن كان هذا الموجود المجازي الجعلي له ما وراء قصد الحكاية عنه فهو خبر ، وإلاّ فهو إنشاء. وبهذا يظهر الفرق بين «بعت» إنشاءً وإخباراً ، وأن التقابل بين الإنشاء والإيجاد تقابل العدم والملكة أو السلب والإيجاب.
وهذا رأيه الذي اختاره فقهاً واصولاً ، تعرّض له في باب الطلب والإرادة (١) ، وفي (تعليقة المكاسب) (٢).
وعمدة الكلام هو في حقيقة الإنشاء ، وإليك توضيح مذهبه فيه :
إن ما ذهب إليه المشهور في حقيقة الإنشاء مردود بأنّ الوجود إمّا
__________________
(١) رسالة الطب والإرادة (بحوث في الاصول) : ١٤. ط جامعة المدرّسين.
(٢) حاشية المكاسب ١ / ٧٦ ـ ٧٧ الطبعة الحديثة المحقّقة.
تكويني وامّا اعتباري ، والتكويني إما خارجي وإما ذهني ، فالاعتباري الجعلي يتبع الجعل والاعتبار كما هو واضح ، والتكويني يتحقق على أثر علله الواقعيّة ، والاعتباري على قسمين : الوجود الكتبي والوجود اللّفظي.
مثلاً : قولنا : «اكتب» يشتمل على نسبةٍ ، توجد هذه النسبة تارةً في الخارج بتحريك العبد نحو الكتابة ، فتكون النسبة خارجيةً بين الكاتب والكتابة ، وقد توجد هذه النسبة في الذهن فتكون وجوداً ذهنيّاً ، وقد تلفظ الجملة فتأخذ النسبة وجوداً لفظيّاً ، فإن كتبت كان وجودها وجوداً كتبيّاً.
إذا عرفت هذا ، فمن الواضح أن الألفاظ ليست من مقدّمات الوجود التكويني لشيء من الأشياء ، بل الوجودات التكوينيّة تابعة لعللها كما ذكرنا ، فإنْ اريد من إيجاد اللّفظ للمعنى الوجود والإيجاد تكويناً ، فهذا باطل ، وإنْ كان المراد منه هو الإيجاد الاعتباري ، أي إيجاد المعنى في عالم الاعتبار ، فإنّ الاعتبار نفسه كاف لتحقق الوجود الاعتباري للشيء ، ولا حاجة إلى توسيط اللّفظ والهيئة ، فالزوجية والملكية ونحوهما امور اعتبارية موجودة بالاعتبار ، ولا عليّة لقولنا : أنكحت ، وزوّجت ، وملّكت ، لوجود الزوجيّة والملكيّة وغيرها في عالم الاعتبار.
فظهر أنْ لا سببيّة للّفظ في تحقّق المعنى ووجوده ، لا إيجاداً تكوينياً ولا إيجاداً اعتبارياً مطلقاً ، فما ذكره المشهور باطل.
نعم ، الذي يمكن تعقّله هو أنّ المعنى يوجد بواسطة اللّفظ بوجودٍ جعلي عرضي ، والجملتان الإخبارية والإنشائية مشتركتان في هذه الجهة ، أي إيجاد المعنى بالوجود العرضي الجعلي ، فإذا قلنا : زيد قائم ، أوجدنا النسبة بين القيام وزيد ، لكن بالوجود العرضي لا بالوجود الخارجي الحقيقي ، فإنّه
يتبع علله التكوينيّة المعيّنة ، ففي كلتا الجملتين يتحقق إيجادٌ للمعنى بوجود اللّفظ لا بسببيّة اللّفظ ، فوجود اللّفظ وجود جعلي عرضي للمعنى.
وتختلف الإخبارية عن الإنشائية في إضافة جهة الحكاية في الاولى دون الثانية ، فإذا وجد المعنى بالوجود اللّفظي ـ من غير تسبّب للّفظ ـ ولم يكن في البين حكاية فهو إنشاء ، وإنْ كان هناك حكاية فهو إخبار ، ويكون التقابل بينهما تارةً : تقابل العدم والملكة ، كما في هيئة «بعت» فإنّها قابلة لأن تكون إخباراً فإنْ لم تكن فهي إنشاء. واخرى : تقابل السلب والإيجاب مثل «اضرب» و «أطلب منك الضرب» خبراً ، حيث أنّ «اضرب» غير قابلة لإفادة معنى «أطلب منك الضرب» إخباراً ، لكنّ هذه الجملة تفيد مفاد «اضرب» إن قصد بها الإنشاء.
فبطل قول المشهور في حقيقة الإنشاء من أنه إيجاد للمعنى بسبب اللّفظ ، وأنه لا بدّ عند إجراء صيغة النكاح مثلاً من قصد إيجاد علقة الزوجيّة ، وذلك : لأن هذه العلقة ليست معلولة للّفظ ، بل تتحقّق بالاعتبار فقط.
وبطل قول المحقق الخراساني من أن للطلب وجوداً إنشائياً يتحقق بصيغة افعل مثلاً. وذلك : لأن اللّفظ لا عليّة له لوجود المعنى ، في أيّ وعاءٍ وعالم من العوالم.
مناقشة الاستاذ
وأورد عليه شيخنا الاستاذ دام بقاه في كلتا الدورتين :
أولاً : إن هذا الذي ذكره يتناسب مع مبنى أهل المعقول في حقيقة الوضع ، وهو : كون الألفاظ وجودات للمعاني ، ولا يناسب مبنى المحقق الأصفهاني من أن حقيقة الوضع هو جعل اللّفظ على المعنى ووضعه عليه في
عالم الاعتبار.
وثانياً : إنا لو سلّمنا أن الوضع كون اللّفظ وجوداً جعليّاً للمعنى ، فإن إيجاد المعنى بالوجود الجعلي ليس إلاّ الاستعمال ، فلا محالة يكون الإنشاء نفس الاستعمال ، وإذا كان كذلك ، فإن الاستعمال إنما هو بداعي تفهيم المعنى للمخاطب ، وهذا هو حكمة الوضع ، فالوضع يكون مقدّمة للاستعمال ، والاستعمال مقدّمة لإحضار المعنى في ذهن المخاطب ، وإذا لم يكن وراء الإيجاد الجعلي ـ الذي هو عين الاستعمال ـ معنىً للّفظ ، فأيّ فائدة لهذا الاستعمال الذي لا يفيد المخاطب شيئاً؟
وبعبارة اخرى ملخّصة : إنا في مقام الاستعمال نستخدم اللّفظ لإفهام المعنى ، وليس اللّفظ موجداً للمعنى ، وإذا لم يكن هناك إلاّ الاستعمال ، فأين المعنى المقصود إفهامه؟
وبعبارة ثالثة : إذا كان الفرق بين الجملتين مجرّد الحكاية وعدمها ، لزم كون الإنشاء مجرّد التلفّظ ، وهذا ما لا يلتزم به أحد!
رأي السيد الخوئي
وذهب المحقق الخوئي إلى أن الجملة الخبرية مبرزة ، والجملة الإنشائية مبرزة كذلك ، وكلّ واحدة تبرز أمراً نفسانيّاً ، فالجملة الخبرية مبرزة لقصد الحكاية ، وهو أمر نفساني ، والجملة الإنشائية مبرزة للاعتبار ـ أي اعتبار لابديّة الفعل في ذمّة المكلّف ـ وهو أمر نفساني كذلك ، ولمّا كان مدلول الجملة الخبريّة هو الحكاية ، وهي أمر يقبل الصّدق والكذب ، كانت الجملة الخبريّة متّصفة بأحد الوصفين ، وأمّا الدالّ وهو الخبر فلا يقبل الصّدق والكذب ، وكذا الاعتبار فإنه لا يقبل شيئاً من ذلك ، فلذا لا يحتمل الصّدق
والكذب في الجملة الإنشائية.
وتفصيل الكلام هنا :
أمّا في الجملة الإخبارية ، فإن قول المشهور بأن الجملة الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة أو لنفيها ، باطل ، لأنه لو كان الموضوع له في هذه الجملة هو ثبوت النسبة أو نفيها ، فلا ريب في أن مدلول الجملة الخبريّة تصديقي وليس بتصوّري ، فالثبوت في مثل «بعت داري» مثلاً ليس تصوّرياً ، بل المدلول هو المعنى التصديقي ، إذن ، لا بدّ أن يحصل للمخاطب بمجرَّد إخباره بذلك تصديق بثبوته ولو ظنّاً ، والحال أنه لا يحصل له ذلك ، فليست الجملة الخبريّة بكاشفة عن التصديق ، فهي غير موضوعة لذلك.
وأيضاً ، فقد تقدَّم أن حقيقة الوضع هو التعهّد والالتزام ، وثبوت النسبة أو نفيها ليس بأمرٍ اختياري كي يلتزم به المتكلّم.
فلهذا وذاك ، فإنّ الجملة الخبرية قد وضعت للدلالة على قصد الحكاية ، فكلّما قصد المتكلّم الحكاية عن معنىً ما فإنّه متعهّد بأنْ يأتي بجملة خبرية ، ولم توضع هذه الجملة لثبوت النسبة أو عدمه كما عن المشهور.
مضافاً إلى أنه يرد على المشهور : إن هناك موارد يوجد فيها إخبار ولا توجد نسبة ، كقولنا : «شريك الباري ممتنع» والاستعمال في هذه الموارد يكشف عن عدم كون ثبوت النسبة هو الموضوع له الجملة الخبريّة.
هذا تمام كلامه في الجملة الخبرية ، نفياً لمذهب المشهور وإثباتاً لمختاره.
مناقشة الاستاذ
وقد تكلّم شيخنا الاستاذ على ما أفاده السيّد الخوئي في (تعليقة أجود
التقريرات) وفي (المحاضرات) ، في هذه المسألة ، بالتفصيل ، وكان العمدة في إفاداته دام ظلّه هو النظر في رأيه ، والتحقيق في رأي المشهور.
أمّا رأي المشهور ، فالمنسوب إليهم هو أنّ الجملة الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة أو نفيها ، وهذا موجود في كلمات بعضهم ، لكنّ الذي نسبه إليهم المحقق الأصفهاني في كتاب (الاصول على النهج الحديث) هو أنّ مدلول الجملة هو الحكاية ، ولم ينسب إليهم كونه النسبة ، وقال الشريف الجرجاني في بعض (حواشيه) (١) في باب النسبة الإنشائية والإخبارية : إن النسب الكلاميّة حاكية عن النسب الذهنيّة ، فيظهر من كلامه إن هناك نسبة ذهنيّة ونسبة خارجيّة ، وهو لا يقول بأن الجملة موضوعة لثبوت النسبة خارجاً.
على أن المحققين يصرّحون بأنّ الوضع هو للانتقال ، أي : الألفاظ موضوعة لانتقال المعاني بها إلى الذهن ، والثبوت لا يقبل الدخول في الذهن.
فما نسب إلى المشهور في المقام مسامحة ، بل الألفاظ موضوعة للصّور الذهنيّة ، سواء الجمل أو المفردات ، وأمّا متن الخارج الذي هو ظرف الثبوت والوجود فلم يوضع له اللّفظ ، ولا قائل بذلك.
إنّ الألفاظ موضوعة ـ بتعبير المحقق العراقي ـ للصور التي يراها الإنسان خارجاً ، أو بتعبير بعضهم : للصّورة الفانية في الخارج ، وبتعبير ثالث : للصور الموجودة بالوجود التقديري.
وتلخّص : إن الموضوع له الجملة ليس هو ثبوت النسبة ، بل النسبة المتّصفة بالثبوت والعدم ، فإن ثبوت النسبة ونفيها أمر ، والنسبة التي تتّصف
__________________
(١) الحاشية على شرح المطول : ٤٣ ط تركيا.
بالثبوت في الجملة الموجبة وبالنفي في السّالبة أمر آخر ، وقد وقع الخلط بينهما وهو منشأ الإشكال.
وتحقيق رأي المشهور هنا هو : إنه عندنا حكايتان ، إحداهما : الحكاية الذاتيّة ، والأخرى هي الحكاية الجعليّة ، فالحكاية الذاتيّة تكون في حكاية الصّور الذهنيّة عمّا هو في الخارج ، فالحاكي عن الوجود هو مفهوم الوجود ، والحاكي عن الماهيّات هو نفس الماهيّة الموجودة بالوجود الذهني ، فحكاية مفهوم الوجود عن واقع الوجود حكاية العنوان عن المعنون ، وهي حكاية ذاتيّة ، وحكاية مفهوم الإنسان عن ماهيّة الإنسان الموجود بالوجود الخارجي حكاية ذاتيّة ، سواء قلنا إن نسبة الصّور الذهنيّة إلى الخارج نسبة التمثال والصورة عن ذي الصورة ، أو قلنا بأن الأشياء بذواتها تدخل إلى الذهن لا بصورها وأشباحها ، كما هو مسلك المتأخرين القائلين بأن للأشياء كونين : كون عند الأذهان وكون في الأعيان.
وبالجملة ، فحكاية الصّور الذهنيّة عمّا في الخارج حكاية ذاتيّة ، ثم لمّا نقول : زيد في الدار ، يكون في الذهن نفس ما في الخارج ، أو صورة مطابقةٌ لما في الخارج ، وما في الذهن انعكاس لما في الخارج ، وألفاظ هذه الجملة موضوعة لنقل هذا الذي في ذهن المتكلّم إلى ذهن المخاطب ، وهذا هو التفهيم والتفاهم بواسطة الألفاظ ، الذي هو الحكمة من الوضع.
وعليه ، فكما أنّ مدلول لفظ «زيد» هو ذات الشخص ، ومدلول لفظ «الدار» هو ذاتها ، ومدلول «في» هو النسبة بينهما ، فإن مدلول الجملة عبارة عن الوجود المفهومي المتحقق في مورد هذه القضية ، وليس المدلول هو الوجود الخارجي ، لما تقدّم من أنه لا يقبل الدخول إلى الذهن.
دفع الإشكال عن رأي المشهور
هذا ، وإذا كان المدلول في الهيئة عبارة عن ثبوت النسبة ، فإنّه يتوجّه الإشكال الأول ، وهو : إنه لا بدّ حينئذٍ من حصول التصديق بتلك النسبة ولو ظنّاً ، والحال أنه ليس كذلك.
فأجاب شيخنا عن ذلك : بأنّ النسبة الذهنيّة التي ينقلها المتكلّم إلى ذهن السامع بواسطة الهيئة ، هي نسبة تصديقيّة ، ولكن بمعنى القابليّة للتّصديق لا فعليّة التصديق ـ في مقابل ما لا دلالة له إلاّ الدلالة التصوريّة ، وهو مداليل المفردات اللفظيّة ، أو هيئات النسب الناقصة ـ فإن الألفاظ ذوات النسب التامّة دوالّ جعليّة ، ووظيفتها نقل المعاني إلى الأذهان ، فقد يصدَّق بها وقد لا يصدَّق ، وأمّا فعليّة التصديق ، فليس من وظيفة اللّفظ ، بل ذلك يتبع تحقّق الواسطة في الإثبات وعدم تحقّقه.
فمنشأ الإشكال هو : الخلط بين الحكاية الذاتيّة ، وهي حكاية الصّورة عن ذي الصّورة ، وبين الحكاية الجعلية للألفاظ عن المعاني ، والخلط بين التصديق وبين القابليّة للتصديق ، فإن الإنسان لمّا يرى شيئاً بعينه ، ينطبع صورة من ذلك الشيء في ذهنه ، فيكون ما في ذهنه حاكياً عن الشيء الخارجي الذي رآه ، وهذه هي الحكاية الذاتيّة ، التي لا دور للّفظ فيها ، ثم إذا أراد نقل هذه الصورة التي في ذهنه إلى ذهن شخصٍ آخر ، احتاج إلى اللّفظ ، فيستعمِله لنقله ، وهذه هي الحكاية الجعليّة ، والمخاطب لمّا يسمع الخبر فقد يصدّق به وقد لا يصدّق ، غير أنّ اللّفظ له القابليّة لأنْ يصدَّق به ، وهذا هو مذهب المشهور على التحقيق.
وحاصل مذهبهم : إن الجملة الخبريّة موضوعة للنسب الذهنيّة الفانية في
الخارج ، لا النسب الخارجية ، وهي موضوعة لما يكون قابلاً للتصديق ، لا لما يوجب التصديق.
فالإشكال الأول مندفع.
وأمّا الإشكال الثاني ، وهو النقض بموارد وجود الإخبار مع عدم وجود النسبة ، كما في قولنا : شريك الباري ممتنع ، فقد أجاب عنه شيخنا :
أوّلاً : إنه إن كان المراد عدم وجود النسبة مطلقاً ، فهو يرد على مبناه أيضاً من أن حقيقة الجملة الخبرية هو قصد الحكاية ، لأن متعلق الحكاية هو النسبة ، وإذا لم تكن نسبة فلا حكاية.
وثانياً : إنه ليس مراد القائلين بأن مدلول الجملة الخبرية وجود النسبة بين الموضوع والمحمول في الخارج ، بل المراد هو النسبة في ما وراء الكلام ، سواء في الخارج أو الذهن. فالإشكال مندفع.
ولعلّه قد التفت أخيراً إلى اندفاعه ، فلم يتعرّض له في (المحاضرات) ، وإنما هو مذكور في (تعليقة أجود التقريرات).
وأمّا ما ذكره ثالثاً : من أن ثبوت النسبة ونفيها خارج عن الاختيار ، والحال أن حقيقة الوضع هو التعهّد والالتزام ، ولا يعقل التعهّد بما هو خارج عن الاختيار.
ففيه : إن مبنى التعهّد في حقيقة الوضع قد ظهر بطلانه في محلّه.
وتلخّص : تماميّة رأي المشهور على التحقيق المزبور ، وعدم ورود شيء من الإيرادات المذكورة عليه.
فما ذهبوا إليه هو الحق المختار في مدلول الجملة الخبرية ، وهو الموافق للارتكاز.