ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-388-X
الصفحات: ٢٨٩
الجزء ١ الجزء ٢

من هذه السلع. عند ما وصلت المدينة المنورة ، أول مرة ، لم يكن فى السوق أى شىء من الزبد ، وكان سعر القمح أعلى بنسبة خمسين فى المائة عنه فى ينبع ، ثم يختفى القمح بعد ذلك تماما من السوق ، وفى مرة أخرى اختفى الملح من السوق ، ثم حدث الشىء نفسه مع الفحم النباتى ، واختل نظام سوق التموينات اختلالا كبيرا. فى بعض المدن الشرقية الأخرى ، التى من قبيل مكة وجدة ، يجرى تعيين موظف عام ، يسمونه المحتسب ومهمته مراقبة عملية بيع التموينات ؛ مهمة هذا المحتسب تتمثل فى منع ارتفاع أسعار المواد الغذائية ، وإلزام التجار بحدود قصوى لا يتعدونها ، وبذلك يحصلون على ربح معقول وليس ربحا مبالغا فيه. لكن هذا ليس هو الحال السائد فى المدينة المنورة ، نظرا لأن المحتسب لا سلطة له فى هذه المدينة. لذا فإن القمح على سبيل المثال يباع فى بعض ضواحى المدينة المنورة بسعر أعلى عشرين فى المائة عنه فى الضواحى الأخرى ، وهذا الشىء نفسه ينطبق على كثير من السلع الأخرى ، الأمر الذى يتسبب فى معاناة الكثيرين جراء عدم معرفتهم لطبيعة الأمور فى المدينة المنورة ، طوال مقامى فى المدينة المنورة كان الاتصال بينها وبين ينبع عن طريق قافلة قوامها حوالى مائة وخمسين جملا ، كانت تصل إلى المدينة المنورة كل أسبوعين ، كما كانت هناك جماعات صغيرة من التجار البدو ، قوام الواحدة منها يتردد بين خمسة جمال وعشرة جمال ، كانت تصل إلى المدينة المنورة كل خمسة أيام أو ستة. كان القسم الأكبر من حمولة تلك القافلة خاصا بجيش طوسون باشا ، أما القسم الآخر فكان مخصصا للتجارة والسلع التموينية ، التى لم تكن كافية لتلبية احتياجات المدينة كلها. وقد أبلغنى شخص مطلع ، أن استهلاك المدينة المنورة من القمح فى اليوم الواحد يتردد بين ثلاثين إردبا وأربعين إردبا ، أى ما يعادل حمولة ما يتردد بين خمسة وعشرين جملا حجازيا وخمسة وثلاثين. ويقال إن إنتاج الحقول المحيطة بالمدينة المنورة ، من القمح لا يكفى سوى استهلاك أربعة أشهر ، أما الجزء المتبقى فيمكن الحصول عليه من ينبع أو عن طريق الاستيراد من مصر. يتوفر القمح فى زمن السلم ، لكن بعد تمركز الجيش التركى مؤخرا فى هذه المنطقة ، بدأ البدو يتخوفون من وضع زمام إبلهم فى أيدى الأتراك ، الأمر الذى أدى إلى انخفاض التوريد إلى أدنى مستوياته.

١٦١

وهنا بدأ سكان المدينة المنورة يتضايقون بسبب هذه المسألة ، الأمر الذى جعلهم يقللون من استهلاكهم للقمح إلى أدنى المستويات ، مما جعلهم يستهلكون ما لديهم من مخزونات. كان طوسون باشا قد استولى عنوة على عدد كبير من إبل البدو ، واضطرهم إلى مرافقة جيشه الذى أخافهم ، إلى حد أنه قبل وصول محمد على باشا ، كانت المجاعة على وشك الحدوث بسبب الافتقار الشديد إلى الإبل اللازمة للنقل. حاول الباشا أن يستعيد ثقة الناس به ، ولذلك بدأ بعض البدو يعودون إلى ديارهم ومعهم إبلهم. فى زمن السلم تصل قوافل القمح قادمة أيضا من نجد ، وبخاصة المنطقة التى يسمونها القصيم ، لكن هذه القوافل كلها كان يجرى وقفها وتعطيلها ، وقد بلغنى أن تجارة نقل التموينات من ينبع كانت قد توقفت سنوات عدة عقب دخول الوهابيين للمدينة المنورة ، التى أراد رئيسها سعود ، محاباة رعاياه من أهل نجد ، كما أن المدينة المنورة ، فى ذات الوقت ، كانت تحصل على بعض تمويناتها من نجد من ناحية والبعض الآخر من حقولها الخاصة. كانت السلع التموينية فى ذلك الوقت شحيحة وغالية تماما : الأمر الذى حدا بالطبقات الفقيرة إلى الاعتماد فى حياتهم على التمر بصفة رئيسية ، وعلى نوع من الخبز الشعبى الذى يصنعونه من دقيق الشعير ، قلة قليلة من الناس هم الذين كانوا يستطيعون الحصول على شىء من الزبد ، والقليل جدا من اللحم. وهذه هى ثمار اللوتس أو بالأحرى ثمار شجرة النبق بعد أن نضجت فى بداية شهر مارس ، أغرت أهل المدينة المنورة بالتخلى عن التمر ، والاعتماد عليها غذاء وحيدا طوال أشهر عدة ؛ فقد شاهدت أكواما كبيرة من النبق فى السوق ، وباستطاعة أى فرد الحصول على ما يسد رمقه نظير ما ثمنه بنس واحد من القمح ، يقبله الناس بدلا عن النقود ، وبخاصة البدو الذين يجلبون ثمار النبق إلى السوق. يضاف إلى ذلك أن الخضراوات التى يزرعها الناس فى البساتين مخصصة لاستعمال الأجانب فقط ، ونكهتها مختلفة تماما ، كما أن العرب لا يستسيغونها ؛ إذ لا يستخدمها سوى أولئك الذين اعتادوا على ذلك المذاق وتلك النكهة فى البلدان الأجنبية ، والبصل والكراث وكذلك الثوم هى الخضراوات الوحيدة التى يغرم بها العرب.

١٦٢

التمور هى السلعة الغذائية الوحيدة الرئيسية فى المدينة المنورة ، كما سبق أن أوضحت. طوال فترة جنى محصول التمر التى قد تستمر شهرين أو ثلاثة أشهر (إذ إن لكل نوع من التمور موسمه الخاص) ، أو بالأحرى من شهر يوليو إلى شهر سبتمبر ، تعيش الطبقات الفقيرة على التمر ولا تأكل أى شىء سواه ، وطوال بقية العام ، تظل التمور المجففة الطعام الرئيسى لهؤلاء السكان. محصول التمر هنا له الأهمية نفسها التى فى أوروبا ، وفشل محصول التمر هنا يتسبب فى كارثة وبلاء كبير للناس. والبدوى عند ما يلاقى إنسانا على الطريق يبادره بالسؤال التالى : «ما هى أسعار التمر فى مكة أو المدينة المنورة؟» يجرى إحضار كمية كبيرة من هذه التمور إلى المدينة المنورة من مناطق بعيدة ، وبخاصة من الفراع ، والفراع هذا عبارة عن واد خصيب من ممتلكات قبيلة بنى عامر ، وهذا الفراع عامر ببيارات النخيل المتعددة ، وهو يبعد عن المدينة المنورة رحلة مقدارها مسير أربعة أيام ، كما يبعد مسافة كبيرة عن رابغ فى وسط الجبال. ويجرى إحضار التمور فى أوعية كبيرة يجرى طحن التمور فيها على شكل معجون ، كما سبق أن أوضحت. وعلى الرغم من شيوع المعاملات التجارية ، فإن قلة قليلة من الناس هم الذين يعملون بها. السواد الأعظم من السكان عبارة عن زرّاع ، أو ملاك للأرض فى الطبقات الراقية ، وخدم فى المسجد النبوى. والناس هنا يقبلون على تملك الأراضى والبساتين ، ومسألة أن يصبح الإنسان هنا من ملاك الأرض ، ينظر الناس إليها باعتبارها شيئا من الشرف ، يزاد على ذلك أن إيجار الحقول يصل إلى مبالغ كبيرة فى حال جودة محصول التمر. وإذا جاز لى أن أحكم من واقع مثالين سمعت عنهما ، فإن الحقول يجرى بيعها بطريقة ، تعطى مالك الأرض فى السنوات المعتادة ، دخلا يتردد بين اثنى عشر بالمائة وستة عشر بالمائة علاوة على رأس المال ، بعد أن يتنازل ـ كما هى العادة ـ عن نصف المحصول للزراع الفعليين. ومع ذلك ، كشفت الحسابات فى العام الماضى أن أموالهم عادت عليهم بأرباح مقدارها أربعين فى المائة. الطبقات الضعيفة لا تستطيع استثمار رؤوس أموالها الصغيرة فى البساتين ، نظرا لأنهم يرون أن ستة عشر فى المائة أو عشرين فى المائة لا يعد عائدا مناسبا لهم ، وفى الحجاز لا يرضى أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة

١٦٣

بفائدة تقل عن خمسين بالمائة سنويا ، وهم يحاولون جعل الأجانب والأغراب يضاعفون رؤوس أموالهم عن طريق الغش والخداع ، ومن هنا يمكن القول إن هؤلاء فقط هم الذين يمتلكون الأرض عن طريق التجارة ، أو عن طريق الدخل الذى يأتيهم من المسجد النبوى ، أو من الحجاج ، الأمر الذى جعلهم يجمعون ثروات كبيرة.

يأتى الدعم الأكبر الذى تحصل عليه المدينة المنورة من المسجد النبوى أولا ثم من الحجاج. وسبق أن تحدثنا عن الفراشين ، أو خدم المسجد النبوى والأرباح التى يجنوها من هذه الخدمة ، وهنا يتعين علينا أن نضيف إلى هؤلاء الفراشين عددا كبيرا من البشر الملحقين على المسجد النبوى ، الذين لهم وظائف اسمية لكنهم يحصلون على نصيب من دخل الحرم ، هناك أيضا رهط كبير من المرشدين ، ويضاف إليهم أيضا كل أصحاب المنازل الذين يؤجرون منازلهم للحجاج. وعلاوة على الحصة التى يحصل الفراشون عليها من دخل الحرم ، فإنهم على اختلاف طوائفهم ومراتبهم يحصلون على صرّة ، أو إن شئت فقل : سنويّة يجرى إحضارها سنويا من إسطنبول والقاهرة ، يزاد على ذلك أن السكان جميعهم يحصلون على هدايا سنوية ، تندرج هى الأخرى تحت اسم الصرّة. صحيح أن هذه العوائد لا يجرى توزيعها بصورة منتظمة ، كما أن الكثيرين من الأسر الفقيرة والطبقات المعدمة التى جاءت من أجلها هذه العوائد لا تحصل على أى شىء منها ، ومع ذلك ، تصل هذه المبالغ إلى المدينة ، ويجرى تداولها. (*) وبذلك يمكن دعم كثير من الأسر دعما كاملا عن طريق المبالغ التى تأتى على شكل صرر من إسطنبول ، والتى تتردد قيمة الصرة الواحدة منها بين مائة جنيه إسترلينى ومائتى جنيه فى العام ، دون أن تؤدى أية خدمة من الخدمات. يقول أهل المدينة المنورة ، إنه فى غياب هذه الصرر ، سوف يهجر الناس المدينة لملاك الأرض والزراع. هذا الاعتبار كان الدافع الرئيسى وراء إنشاء فكرة ملاك الأرض والزراع ،

__________________

(*) بعد أن أعاد قايتباى ، سلطان مصر ، بناء المسجد النبوى فى العام ١٨٨١ الهجرى ، خصص الرجل دخلا سنويا مقداره سبعة آلاف وخمسمائة إردب من القمح لسكان المدينة المنورة ، على أن يتم إرسال هذا القمح من مصر ، كما أمر السلطان سليمان بن سليم بخمسة آلاف إردب للغرض نفسه. (راجع قطب الدين والسمهودى)

١٦٤

فضلا عن الأوقاف المتعددة ، أو المؤسسات الخيرية ، التى تتبع البلدان والمساجد فى سائر أنحاء الإمبراطورية التركية. الصرّة يساء استعمالها فى الوقت الراهن ، ولا تستخدم إلا فى إطعام مجموعة البشر العاطلين تماما ، فى حين يظل الفقراء على فقرهم المدقع ، فضلا عن عدم تشجيع الصناعة بأى شكل من الأشكال. فيما يتعلق بالافتقار إلى الصناعة نجد أن المدينة المنورة هى الأكثر افتقارا إليها عن مكة. المدينة المنورة بحاجة ماسة إلى الحاجيات الميكانيكية التى لا غنى عنها ، يزاد على ذلك أن القلة القليلة التى تعيش هنا كلها من الأجانب ، وهى تقيم فى المدينة المنورة لآجال محددة. المدينة المنورة كلها ليس فيها سوى منجد واحد ، وعامل مفاتيح واحد ، والنجارون والبناءون شحيحون تماما ، الأمر الذى يضطر الناس إلى إحضار بنائين ونجارين من ينبع إذا ما أرادوا ترميم منزل من المنازل. والمسجد النبوى إذا ما احتاج بعض العمال ، فيجرى إحضارهم من مصر (القاهرة) ، بل ومن إسطنبول فى بعض الأحيان ، وهذا فى ضوء ذلك الذى شاهدته طوال مقامى فى المدينة ، وذلك عند ما جرى إحضار بناء من إسطنبول لإصلاح سقف المبنى. يزاد على ذلك ، أن مصر هى التى تزود المدينة المنورة بكل احتياجاتها بما فى ذلك السلع التافهة أيضا. عند ما كنت فى المدينة المنورة لم يكن بالإمكان عمل جرار الماء التى تصنع من الفخار. منذ سنوات قليلة قام مواطن دمشقى بإنشاء صناعة لإنتاج الأوانى الفخارية التى لا غنى عنها ، لكن هذا الدمشقى ترك المدينة المنورة ، الأمر الذى اضطر سكان المدينة إلى شرب الماء من جرار مكسورة ، خلفها ذلك الدمشقى وراءه ، أو عن طريق جلب تلك الأوانى من مكة بتكاليف كبيرة. لم يكن فى المدينة المنورة صناعة صباغة ، أو مصنوعات صوفية ، أو أنوال نسيج ، أو مدابغ للجلود ، أو أعمال جلدية ، أو مشغولات حديدية من أى نوع كان ، يزاد على ذلك ، أن المسامير وحدوات الخيول يجرى جلبها من كل من مصر وينبع. فى روايتى عن مكة ، عزوت عزوف أهل الحجاز عن الحرف اليدوية إلى كراهيتهم واستيائهم من العمل اليدوى بكل أشكاله ، لكن هذه الملاحظة لا تنطبق على المدينة المنورة ، حيث الناس أكثر جدية ـ على الرغم من تكاسلهم عن إصلاح أراضيهم ـ واستعدادهم للقيام ببعض الحرف والأعمال اليدوية ، دون بذل جهد بدنى أكبر من الجهد

١٦٥

الذى يبذلونه فى حقولهم. وأنا أميل إلى القول : إن افتقار المدينة المنورة إلى الحرف اليدوية ، يعزى إلى تقليل أهل الجزيرة العربية من شأن هذه الحرف اليدوية والحط من قيمتها ، وسبب ذلك أن فخر أهل الجزيرة العربية وتباهيهم أقوى بكثير من جشعهم وحبهم للمال ، وهذا الفخر والتباهى هو الذى يمنع الآباء من تعليم أبنائهم أية حرفة من هذا القبيل. هذا العزوف يرثه أهل المدينة المنورة عن السكان القدامى ، البدو بصفة خاصة ؛ نظرا لأن هؤلاء البدو ، كما سبق أن قلت ، يستبعدون ، وإلى يومنا هذا ، الحرف اليدوية كلها من قبائلهم التى ينتمون إليها ، فضلا عن نظرة هؤلاء البدو إلى أولئك الذين يستقرون فى مخيمهم ، باعتبارهم من سلالة أو عرق متدن ، الأمر الذى يمنع هؤلاء البدو من الاختلاط بهؤلاء الناس أو حتى الزواج منهم. مثل هؤلاء الناس يقيّمهم البعض فى مناطق أخرى من الشرق تقييما مختلفا ، وبخاصة فى سوريا ، وفى مصر اللتين يجرى فيهما تقدير هذه الحرف تقديرا كبيرا ، واحترامها مثلما كان الحال عليه فى كل من فرنسا وألمانيا خلال العصور الوسيطة. فى هذه البلاد تجد الأسطى فى حرفة من الحرف مساويا من حيث المرتبة والاحترام لتاجر من تجار الطبقة الثانية ، هذا يعنى أن هذا الحرفى بوسعه الزواج من بنات الأسر المحترمة فى المدينة ، وعادة ما يكون صاحب نفوذ فى المنطقة التى يقيم فيها ، عن تاجر تكون ثروته ثلاثة أضعاف ما يملكه ذلك الحرفى نفسه. بذل الأباطرة الأتراك قصارى جهودهم للعناية بالصناعة والفنون ، وقبل خمسين عاما كانوا لا يزالون منتعشين فى كل من سوريا ومصر ؛ الحرفيون فى سوريا الآن على وشك الانقراض ، اللهم باستثناء دمشق ، وفى مصر تدنى حال هؤلاء الحرفيين إلى أدنى المستويات ؛ والسبب فى ذلك أنه على الرغم من أن محمد على باشا يستعمل بعض الإنجليز والإيطاليين فى تسيير وإنجاز الخدمات فإن هؤلاء العمال الإنجليز والإيطاليين يعملون لحساب محمد على ، الأمر الذى لا يجعل أحدا منهم يشعر بالرواج ، يضاف إلى ذلك أن محمد على باشا يجبر الصناعة الوطنية ، عن طريق الاحتكار (احتكار المنتج) من ناحية ، واستخدام القسم الأكبر من العمالة لحسابه من الناحية الأخرى على ما يجعلهم يتقاضون عائدا يقل بنسبة ثلاثين فى المائة عما ينبغى أن يتقاضوه ، إذا ما سمح لهم بالعمل لحسابهم ، أو فى القطاع الخاص.

١٦٦

الأشخاص المجدون هنا فى المدينة المنورة هم أولئك الحجاج المعدمون ، وبخاصة السوريون منهم ، الذين يكثر وجودهم هنا فى مدينة الرسول ، والذين يحاولون عن طريق العمل الدءوب ، طوال أشهر قلائل ، جمع مبلغ من المال يفى بنفقات عودتهم إلى بلادهم. هؤلاء الحجاج المعدمين يعملون فترات متقطعة فقط ، وإذا ما غادروا المدينة المنورة أو رحلوا عنها ، خلت من الحرفيين فترة طويلة من الزمن. أثناء مقامى فى المدينة المنورة ، لم يكن فيها سوى رجل واحد هو الذى كان يناقش المشكلات العائلية ؛ وعند ما ترك ذلك الرجل المدينة المنورة ، على حد تعبير نساء الجزيرة العربية ، تعين على الحجاج الأجانب مناقشة مشاكلهم بأنفسهم. ومع مثل هذه الظروف يتعذر على الرجال العثور على أبسط سبل الراحة ، بل إن النقود نفسها لا يمكن لها هنا أن تلبى احتياجات الإنسان. ومع ذلك ، هنا طائفة من الرجال سبقت الإشارة إليها وأنا أتناول مكة بالوصف ، هؤلاء الرجال على استعداد لتقديم الخدمات للآخرين. هؤلاء الرجال هم الحجاج الذين يأتون من إفريقيا ؛ إنهم قلة قليلة من الزنوج ، أو أن شئت فقل التكارنة على حد تسمية الناس لهم ، والذين يأتون إلى مكة ، دون أن يزوروا المدينة المنورة التى هى فى نظرهم أكثر وقارا وتقديرا عن مكة المكرمة. المذهب المالكى الذى يعتنقه هؤلاء الزنوج ، يضع احترام (سيدنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى منزلة أسمى من المنزلة التى تضعه فيها المذاهب الثلاثة الأخرى ، هؤلاء الزنوج يقتربون من قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضمائر مرتاعة وخائفة ، وبمشاعر تختلف عن المشاعر التى تعتريهم عند ما يزورون الكعبة ، وهم مقتنعون تماما ، أن الدعاء الذى يرددونه أمام شباك الحجرة لا بد أن يستجاب إن آجلا أم عاجلا. سألنى أحد هؤلاء الزنوج ذات مرة ، بعد حوار قصير دار بينى وبينه ، عما إذا كنت أعرف ذلك الدعاء الذى إذا ما دعا به المسلم ، رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام ، لأنه كان يود أن يسأله سؤالا واحدا ، وعند ما أعربت له عن جهلى بهذا الموضوع قال لى : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر لعدد كبير من أهل بلده. هؤلاء الزنوج هم الذين يزودون المدينة المنورة بالحطب الذى يجمعونه من الجبال المجاورة للمدينة ، ويبيعونه بمبالغ لا بأس بها ، وإذا ما غاب هؤلاء الزنوج عن المدينة المنورة ، أو إذا ما قل عددهم فى المدينة ، عجز الناس عن الحصول على الحطب حتى إن

١٦٧

توفرت النقود. هؤلاء الزنوج يعملون هنا حمّالين أو شيالين ، والضعاف منهم الذين لا يقوون على العمل الشاق ، يصنعون الحصير والقفف من سعف النخيل ، وهم عادة ما يعيشون مع بعضهم البعض فى بعض أكواخ ذلك المكان العام الذين يطلقون عليه اسم المناخ ، ويبقون فى المدينة المنورة إلى أن يجمعوا المبلغ الذى يفى بنفقات عودتهم إلى بلادهم. قلة قليلة من هؤلاء الزنوج هم الذين يمتهنون التسول ؛ من الأربعين زنجيا أو الخمسين الذين شاهدتهم هنا لم يكن بينهم سوى اثنين أو ثلاثة فقط هم الذين كانوا يمتهنون الشحاذة ؛ نظرا لأنهم لم يكونوا يصلحون لأى عمل آخر. وبشكل عام ، فإن عدد الشحاذين فى المدينة المنورة أقل منه فى مكة (المكرمة). والسواد الأعظم من الشحاذين فى مكة وفى المدينة المنورة هم من الهنود. قلة قليلة من الحجاج هم الذين يأتون إلى المدينة المنورة بلا مال ، من باب ثقتهم بأنهم سيكسبون عيشهم عن طريق العمل ، المسافة التى تبعدها المدينة عن البحر أكبر من المسافة بين مكة والمدينة المنورة عبر الصحراء ، وهذه المسافة يخشاها ويخافها الفقراء البائسون. وهنا يمكن القول إن ثلث الحجاج الذين يذهبون إلى مكة هم فقط الذين يزورون المدينة المنورة أيضا. يزاد على ذلك أن قافلة الحج المصرية يندر أن تمر على المدينة المنورة. (*) الزائرون يوجدون فى المدينة المنورة على مدار العام ، وليس هناك وقت محدد لزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعادة ما يبقى الزائرون هنا حوالى أسبوعين أو شهرا فى المدينة المنورة ، ويزداد عددهم فى المدينة المنورة بعد الانتهاء من مناسك الحج فى مكة ، كما يزداد عددهم أكثر فى شهر ربيع الثانى ، الذى ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى اليوم الثانى عشر منه ، كما أن ذلك التاريخ هو الذى يجرى فيه الاحتفال بمولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

لقد استعاض أهل المدينة المنورة ندرة الشحاذين فى المدينة بأن ذهبوا هم أنفسهم يستجدون الناس ويشحذون فى مناطق أخرى. درج سكان المدينة المنورة

__________________

(*) فى كل مرة تمر فيها قافلة الحج على المدينة المنورة ، فإنها تكون فى طريق عودتها من مكة ، ومن ثم فهى مثل القافلة السورية لا تبقى فى المدينة المنورة سوى ثلاثة أيام. أثناء السفر من القاهرة إلى مكة ، لا تزور القافلة المصرية المدينة المنورة مطلقا.

١٦٨

الذين حصلوا على شىء من التعليم ، ويستطيعون القراءة والكتابة ، على القيام فى حيواتهم برحلة شحاذة أو استجداء مرة أو مرتين إلى تركيا. هذه النوعية من الشحاذين عادة ما تذهب إلى إسطنبول ، التى يحصلون فيها من الحجاج الأتراك ، الذين سبق لهم التعرف عليهم عند ما كانوا فى المدينة المنورة ، وبعضهم حمل رسائل تزكية تقدم هؤلاء الشحاذين إلى أعيان إسطنبول ، وتبرر فقرهم ، حتى يحصلوا على هدايا ضخمة وعطايا كبيرة من المال والثياب ، وذلك من باب تقدير هذه النوعية من البشر باعتبارهم من مواطنى المدينة المنورة وسكانها ومن المجاورين لقبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بعض هؤلاء الشحاذين يعملون أئمة فى منازل الأعيان. بعد إقامة عامين ، يستثمر هؤلاء الصدقات التى جمعوها فى التجارة ، وبذلك يعودون إلى المدينة المنورة وكل واحد منهم يحمل رأسمال كبيرا. لقد شاهدت عددا كبيرا من هؤلاء الشحاذين فى القاهرة ، وهم يقيمون فى مساكن قريبة من مساكن أولئك الذين كانت تجمعهم بهم معرفة طفيفة فى المدينة المنورة ، الأمر الذى جعلهم منفرين ومكروهين من الناس بسبب إلحاحهم المستمر. هناك بعض المدن القليلة جدا فى كل من سوريا ، والأناضول ، وتركيا الأوروبية ، التى لا تعرف هذه النوعية من الشحاذين ولا وجود لهم فيها. هذه النوعية من الشحاذين يتعلمون شيئا من اللغة التركية لكى يفيدوا منه فى أسفارهم من ناحية والقيام بأعمالهم كمرافقين لمن يزورون المسجد النبوى ؛ هذه النوعية من الشحاذين يفخرون بأنهم قادرون على إقناع الحجاج الأتراك ، بأنهم من الأتراك وليسوا عربا من الجزيرة العربية ، بغض النظر عن مدى حبهم للأتراك.

أهل المدينة المنورة ليسوا أقل بشرا وتهللا من المكيين. وهم يكشفون عن قدر كبير من القسوة والوقار فى سلوكياتهم ، لكنهم فى هذا الشأن أقل من أتراك الشمال. وأتراك الشمال من الناحية المظهرية يبدون أكثر تدينا من جيرانهم الجنوبيين. وهم أكثر تشددا فى الالتزام بالطقوس الدينية والآداب العامة وهم فى المدينة المنورة أكثر منها فى مكة ، ومع ذلك فإن أخلاقيات السكان فى المدينة المنورة تبدو كأنها فى مستوى واحد مع أخلاقيات أهل مكة (المكرمة) وسلوكياتهم ، ولا يتورع أهل المدينة المنورة عن اللجوء إلى الحيل وكل الوسائل لخداع الحجاج وغشهم. يزاد على ذلك أن الرذائل

١٦٩

التى تسىء إلى سمعة المكيين تشيع هنا أيضا فى المدينة المنورة ، يزاد على ذلك أن تشدد أهل المدينة الدينى لم يمنعهم من تعاطى المسكرات ، التى يصنعها الزنوج ، كما يصنعون أيضا نبيذ التمر ، الذى يصنعونه عن طريق سكب الماء على التمر ثم تركه يتخمر. وأنا أرى أن أهل المدينة شأنهم شأن أهل مكة ، عديمو القيمة ، ومع ذلك ، يحاول أهل المدينة المنورة التمسح فى الشخصية التركية الشمالية ؛ ولذلك ، يتنازل أهل المدينة عن تلك المناقب الطيبة القليلة جدا فى شخصيتهم ، فى الوقت الذى يبقى فيه المكيون على هذه المناقب. وأنا عند ما أقدم هذه الشخصية العامة لأهل المدينة المنورة ، لا أبنى تفاصيل هذه الصورة أو الشخصية على الخبرة القصيرة التى اكتسبتها من مقامى معهم فى المدينة ، وإنما أسستها على معلومات حصلت عليها من كثير من الأفراد ، هم من مواطنى المدينة المنورة ، التقيتهم فى كل منطقة من مناطق الحجاز. أهل المدينة المنورة يبدون مسرفين تماما مثل أهل مكة. ذاع فى المدينة المنورة أن فيها اثنين أو ثلاثة تقدر ثروة كل منهم بما يتردد بين عشرة آلاف جنيه إسترلينى واثنى عشر ألف جنيه ، يستعمل الواحد منهم نصفها فى الثروة العقارية والنصف الآخر فى التجارة. ويقال إن أسرة عبد الشكور هى أغنى أسر المدينة المنورة. التجار الآخرون لهم رءوس أموال أقل بكثير من رءوس أموال هؤلاء الثلاثة ، إذ يتراوح رأسمال الواحد منهم بين أربعمائة جنيه إسترلينى وخمسمائة جنيه فقط ، ولكن السواد الأعظم من السكان ملحق على المسجد النبوى ، أو من بين أولئك الذين يكسبون عيشهم من الحوافز والصدقات ، ومن الحجاج ، وهم ينفقون دخلهم السنوى إلى آخر مليم. هؤلاء الناس يبدون من الناحية المظهرية أغنى وأثرى من المكيين ، نظرا لأنهم أفضل من المكيين من حيث الملبس ، ومع ذلك لا يمكن مقارنة حجم الثروة هنا بحجم الثروة فى مكة.

يقال إن أهل المدينة المنورة يعيشون فى منازلهم عيشة فقيرة فيما يتعلق بالطعام ، ومع ذلك فإن بيوتهم مؤثثة تأثيثا طيبا ، وإنهم ينفقون مبالغ كبيرة على ملبسهم. العبيد لا ينتشرون فى المدينة المنورة كما هو الحال فى مكة ، ومع ذلك هناك عدد كبير من الأحباش يعيشون هنا فى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يضاف إلى ذلك ، عدد من النساء

١٧٠

اللاتى يقمن هنا باعتبارهن زوجات ؛ زوجات الزراع ، وزوجات سكان الضواحى ، يخدمن العائلات الحضرية ، من باب أنهن خادمات فى المنازل ، يعملن بصورة أساسية فى طحن القمح فى الطواحين اليدوية ، أو إن شئت فقل : الرحى. نساء المدينة المنورة ، يتصرفن بأدب جم ، ويتمتعن بسمعة الفضيلة الطيبة أكثر من نساء مكة وجدة.

العائلات صاحبة البساتين والحدائق تبالغ مبالغة كبيرة فى احتفائها بأصدقائها ، مرارا فى منازلها الريفية ، التى يجتمع فيها أعضاء العائلات المدعوة كلها رجالا ونساء ، ويقال إن هذه العادة تنتشر على نطاق واسع فى فصل الربيع ، ويقال أيضا : إن أهل المدينة المنورة يتبارون فى ذلك مع بعضهم البعض ، الأمر الذى وصل إلى حد التقول : بأن فلانا وعلانا أكثر أو قلل من جيرانه فى حفلات الاستقبال التى أقامها خلال الموسم. قلة قليلة من العائلات هى التى تمضى العام كله فى بساتينها أو حدائقها ؛ ومن بين هؤلاء أسرة رجل صالح ، كانت تقيم فى بستان جميل يقع فى الجزء الجنوبى من المدينة المنورة. هذا الرجل الصالح شهير جدا بنقائه وطهارته ، إلى حد أن طوسون باشا قبّل يديه فى مرة من المرات. زرت هذا الرجل الصالح ، شأنى فى ذلك شأن الزوار الكثيرين الآخرين ، وقد حدثت تلك الزيارة فى الأيام الأولى عقب وصولى إلى المدينة المنورة ، ووجدت الرجل جالسا فى محراب مجاور للمنزل لا يتحرك منه مطلقا. كان الرجل أكثر أدبا من أى قديس من القديسين الذين شاهدتهم أو التقيتهم فى حياتى ، ولم يكن الرجل ميالا إلى الكلام فى شئون الدنيا. بلغنى أن هذا الرجل كان بحوزته بعض الكتب التاريخية وأنه كان على استعداد لبيعها ، لكنى عند ما تحريت الأمر ، عرفت منه أنه لم يشغل نفسه إلا بالشريعة ، والقرآن ، واللغة العربية. قدم الرجل لى نرجيلة كى أدخن ، كما قدم لى أيضا طبقا من التمر ، الذى يأتيه من بستانه ، وبعد أن وضعت ، عند ما هممت بالانصراف ، دولارا تحت السجادة التى كنت أجلس عليها (فقد قيل لى إن هذا أمر عادى فى مثل هذه الظروف) ، صحبنى الرجل إلى باب البستان ، ورجانى أن أزوره مرة ثانية.

١٧١

يشيع هنا فى المدينة المنورة ، كما هو الحال فى مكة تدخين النرجيلة ، أو إن شئت فقل : الغليون الفارسى. الغلايين شائعة هنا فى المدينة المنورة ، أكثر انتشارا عنها فى الأماكن الأخرى من الحجاز ، نظرا لبرودة الطقس. يزاد على ذلك أن شرب القهوة هنا مبالغ فيه وغير عادى بالمرة. فى البساتين يشترى الناس البن بالفواكه وبالنقود أيضا ، وولع الناس بشرب الشاى فى كل من إنجلترا وهولندا لا يرقى أبدا إلى ولع الناس بشرب القهوة فى المدينة المنورة.

أهل المدينة المنورة لا يربون الخيول. ويستثنى من ذلك أفراد عائلة شيخ الحرم ، وقلة قليلة من أفراد حاشيته ، وأنا لا أظن أن أحدا يربى خيولا فى المدينة. على العموم ، هذه المناطق من الجزيرة العربية تفتقر إلى الخيول ، نظرا لعدم توفر المراعى اللازمة لذلك ، يزاد على ذلك أن البدو الذين فى شمال المدينة المنورة وشرقها ، فى الصحراء ، لديهم على العكس من ذلك ، عدد كبير من السلالات. هذا يعنى أن بساتين المدينة المنورة يمكن أن تحل محل المراعى ، وقبل ذلك ، وعند ما كان هناك بعض المحاربين فى المدينة ، كانوا يقومون بتربية الخيول ، وكانوا يقومون بغزو البدو الذين تصادف نشوب القتال فيما بينهم. فى الوقت الراهن تميل روح أهل المدينة المنورة إلى المسالمة والمهادنة ؛ وتأسيسا على ذلك ، عقب استيلاء الوهابيين على المدينة ، قام أصحاب الخيول القليلة ببيع خيولهم على وجه السرعة ، هربا من التجنيد العسكرى الذى يخضع له الخيالة فى الأراضى الوهابية ، واحتفظت بعض الأسر الثرية بالبغال ، وبالإبل أيضا. والحمير من الحيوانات الشائعة فى المدينة المنورة ، وبخاصة بين الزراع ، الذين يستعملونها فى جلب منتجاتهم الحقلية إلى منازلهم ، وحمير المدينة المنورة من سلالة أصغر من سلالة الحمير التى فى كل من مكة والحجاز بصفة عامة ، وقد أدى احتياج الجيش التركى إلى الإبل إلى نقص عدد الإبل التى كان الزراع يربونها ، والذين اضطروا إلى بيع هذه الإبل مخافة أن يصادرها الجيش التركى : بدو الصحراء الشرقية ، التى تبعد عن المدينة المنورة مسير ثلاثة أيام أو أربعة ، لديهم أعداد كبيرة من الإبل ، حدث أن قامت دورية من دوريات طوسون باشا ـ أثناء مقامى فى المدينة المنورة ـ بالاستيلاء على حوالى سبعمائة جمل ، تم الاستيلاء عليها من مخيم واحد من مخيمات قبيلة بنى الحطيم.

١٧٢

جدير بنا هنا أن نلاحظ أن المدينة المنورة ـ على حد علمى ـ هى المدينة الوحيدة من بين مدن الشرق التى لا يوجد فيها أى نوع من الكلاب ؛ الناس هنا لا يسمحون مطلقا للكلاب بالمرور من البوابة إلى داخل المنزل ، وبذلك يتحتم أن تبقى هذه الكلاب فى الضواحى بعيدا عن المدينة نفسها ، وقد قيل لى إن الخفر فى مختلف أحياء المدينة المنورة يجتمعون مرة واحدة كل عام لطرد الكلاب التى يحتمل أن تكون قد تسللت إلى داخل المدينة المنورة دون أن يلاحظها أحد. ربما كان الخوف من دخول أحد الكلاب إلى المسجد النبوى ومن ثم ينجسه ، هو الدافع الرئيسى وراء استئصال الكلاب من المدينة ، هذه الكلاب يطيقها الناس ويتحملونها فى مكة (المكرمة).

من بين الأغنام الموجودة فى المنطقة المجاورة للمدينة المنورة ، نوع صغير الحجم شهير بلونه الممتزج باللونين الأبيض والبنى ؛ هذا النوع من الأغنام معروف أيضا فى المناطق المحيطة بمكة (المكرمة). حجم هذا النوع من الغنم صغير ، والأجانب يربون هذه النوعية من الأغنام ويصطحبونها معهم إلى أوطانهم باعتبارها من الأشياء النادرة فى الأرض المقدسة. فى القاهرة يربى الناس هذا النوع من الغنم فى حدائق المنازل ، ويدهنونها باللون الأحمر ، باستعمال الحناء ، ويعلقون فى أعناقها باقة فيها أجراس صغيرة ، ويجعلون الأطفال يلهون ويتسلون بها.

وأنا أعتقد أن أهل المدينة المنورة ليس عندهم من مظاهر التسلية العامة سوى أيام الأعياد المعتادة ، وذلك باستثناء مولد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذى يصادف اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الثانى ، وهو يعد عيدا وطنيا أو قوميا ، وأصحاب المحلات يغلقون دكاكينهم بهذه المناسبة ، وفيها يرتدى الناس أبهى ملابسهم ، فى الصباح الباكر يجتمع العلماء ومعهم عدد من وجهاء الناس ، فى المسجد النبوى ، حيث يقوم أحد الخطباء بعد إلقاء خطبة قصيرة ، بقراءة شىء من سيرة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدءا من مولده إلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد ذلك يجرى تقديم الليمونادة ، أو الماء المعطر بماء الورد إلى كبار الحاضرين. والمولعون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمضون الليلة السابقة لذلك الاحتفال فى الصلاة والدعاء. كانت زوجة محمد على باشا بعد أن أنهت مناسك الحج

١٧٣

فى مكة ، قد حضرت إلى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمقابلة ولدها طوسون باشا ، وأمضت القسم الأكبر من الليل فى التعبد فى المسجد النبوى ، وعند ما عادت إلى المنزل الذى استأجرته لذلك الغرض ، بالقرب من بوابة المسجد النبوى ، زارها ولدها طوسون زيارة قصيرة ، ثم تركها ترتاح ، فى حين أمر هو بإحضار سجادة وفرشها فى منتصف الشارع ونام عليها ، أمام عتبة المنزل الذى تنزل فيه أمه ؛ مدللا بذلك على احترام وتواضع يعد شرفا وتكريما له باعتباره ابنا بارا ، ويعد ذلك تشريفا للأم نفسها لأنها أوحت للابن بمثل هذه المشاعر. زوجة محمد على باشا ، امرأة تحظى باحترام كبير ، وهى خيرة أيضا دونما تظاهر أو تباه. وأنا أرى أن ولدها طوسون هو الوحيد فى الأسرة كلها الذى لديه قلب عامر بالمشاعر الطيبة ، أما بقية أفراد العائلة فهم فاسقون بفعل الرذائل الكثيرة التى ترافق الأعيان من الأتراك ، لكن طوسون كشف فى كثير من الأحيان عن كثير من المشاعر السامية ، بل إن أعداء طوسون لا يمكن أن ينكروا شجاعته ، أو كرمه ، وحبه العائلى ، وطبعه الجميل. وأنا أجدنى هنا آسف لأن قدراته الذهنية والفكرية كانت أقل من قدرات أبيه محمد على ، وأخيه إبراهيم باشا ، لكن طوسون أسمى منهما خلقا وأخلاقا. ظهرت والدة طوسون هنا ، فى المدينة المنورة ، فى أبهة وعظمة ملكة من ملوك الشرق ، ومن خلال تبرعاتها للمسجد ، وعطاياها للناس ، لذا يعدونها ملاكا أرسلته إليهم السماء. لقد أحضرت أم طوسون لولدها هدايا تقدر بحوالى خمسة وعشرين ألف جنيه إسترلينى ، من بينها اثنتى عشرة بدلة كاملة ، بدءا بالشال الكشمير الفاخر وانتهاء بالنعال ، كما أحضرت أيضا عقدا من الماس قيمته خمسة آلاف جنيه إنجليزى ، كما أحضرت أيضا أمتين جورجيتين ، وكان ضمن حاشيتها أيضا أمة جورجية رائعة الجمال ، ورائعة الملامح ، كان محمد على باشا قد تزوجها مؤخرا فى مكة ، لكنها نظرا لعدم إنجابها ، كانت فى منزلة أدنى من منزلة أم طوسون باشا ، التى أنجبت ثلاثة باشوات صغار (*).

__________________

(*) إسماعيل باشا هو الشقيق الأصغر لكل من إبراهيم وطوسون ، ويقال إن إبراهيم باشا لم يكن ولدا من أبناء محمد على ، لكنه تبناه عند ما تزوج أمه ، التى كانت فى ذلك الوقت أرملة لأغا قولة ، فى Hellespont ، المقر الحالى لباشا مصر.

١٧٤

هذه الأمة رائعة الجمال كانت من إماء قاضى مكة الذى سبق أن جلبها من إسطنبول. وهنا نجد أن محمد على باشا بعد أن استمع إلى نسائه وهن يمتدحن جمال وقسمات تلك المرأة الجميلة ، أجبر القاضى ـ على غير رغبة منه ـ على تطليق هذه الأمة (المرأة) نظير مبلغ خمسين ألف قرش ، ثم عقد عليها بعد ذلك مباشرة.

أنا لا أستطيع قول أى شىء عن العادات والتقاليد الخاصة بأهل المدينة المنورة ، نظرا لأن اختلاطى بهؤلاء الناس كان جد قليل. ومع ذلك ، يمكننى القول : إن أهل المدينة المنورة ، لا يراعون فى تكريمهم للموتى القواعد السائدة فى سائر أنحاء الشرق ، وأنا على ثقة أن المدينة المنورة هى المدينة الوحيدة التى لا تولول نساؤها أو يصحن إذا ما مات أحد أفراد الأسرة. نستطيع القول بعكس ذلك تماما ؛ هذا يعنى أنه فى أجزاء أخرى من الليفانت ، هناك فئة معينة من النساء اللاتى يجرى جلبهن لمثل هذه المناسبات ، ويتمثل دورهن الوحيد فى العواء والعويل على الميت ، مستخدمات فى ذلك أشد العبارات التى تفطر القلوب ، وذلك نظير مبلغ صغير يدفع لهن بالساعة. المدينة المنورة خلو من هذه الندّابات (على الرغم من اشتهار هؤلاء الندّابات فى أجزاء أخرى من الحجاز) ، يزاد على ذلك أن الناس ينظرون إلى الندب والندّابات باعتبارهما من الأعمال والأشياء المشينة. توفى رب الأسرة فى المنزل الذى كان مجاورا للمنزل الذى أقيم فيه ، وكان المنزلان على اتصال ببعضهما البعض. توفى رب الأسرة هذا عند منتصف الليل ، وراح ولده ينفجر فى البكاء ، بفعل مشاعره الطبيعية ، وسمعت أم هذا الصبى وهى تقول : «بالله عليك لا تصح ؛ يا للعار! ستكشفنا أمام الجيران كلهم» وبعد شىء من الوقت راحت الأم تهدئ ابنها. هناك عادة وطنية أخرى تتعلق بالجنازات : عند ما يخرج النعش من منزل الميت يكون محمولا على أكتاف بعض أقارب المتوفى أو أصدقائه ، فى حين يسير بقية الأفراد والأصدقاء خلف النعش ، لكن عند ما يصل موكب الجنازة إلى الشارع ، نجد أن كل الواقفين أو المنتظرين يسارعون إلى الانضمام إلى موكب الجنازة ، ويبادرون إلى تناوب حمل النعش للحظات قصار ؛

١٧٥

بحيث يحل بعضهم محل البعض الآخر ، نظرا لأن الجميع يودون المشاركة فى هذه المهمة ، التى يجرى تنفيذها دون توقف ، وبذلك نجد النعش ينتقل دوما من رجل إلى آخر ، إلى أن يجرى وضع النعش فى النهاية بالقرب من القبر. وإذا ما سلمنا للحظة واحدة ، بأن هذه العادة البسيطة المؤثرة ، نابعة من إحساس صادق وحقيقى ، فإن ذلك يثبت لنا فيضا دافقا من الأحاسيس التى تختلف عما نفعله نحن الأوروبيون فى أبهة جنازاتنا ، تلك الأبهة التى نحيط بها جنازة الميت إلى أن يصل إلى القبر. فى الشرق يجرى كل شىء طبقا للعادات القديمة الراسخة ؛ هذه العادة الطيبة نشأت ، بلا شك ، بناء على دفق المشاعر ، أو إحساس بالورع والتقوى فى قلوب أولئك الذين استنوا هذه العادة ، لكن هذه العادة أصبحت اليوم مجرد شكل من الشكليات.

نساء المدينة المنورة لا يلبس مطلقا ملابس الحداد ، وهن يختلفن ، من هذه الناحية ، عن نساء مصر. تردد فى كثير من الأحيان على ألسنة بعض الرحالة ، أن أهل الشرق لا يعرفون ملابس الحداد ، ولكن هذا قول خاطئ ، فيما يتعلق بكل من مصر على الأقل وبعض أجزاء من سوريا. صحيح أن رجال الشرق لا يقبلون على هذا العمل ، الذى تحرمه روح الشرع ونصوصه ، لكن النساء داخل المنازل ، يلبسن ملابس الحداد فى سائر أنحاء مصر كلها ، والنساء فى بداية الحداد يصبغن أيديهن باللون الأزرق ، أو إن شئت فقل : بصبغ النيلة ؛ وهن فى الحداد يرتدين براقع سوداء ، بل وقمصان داخلية سوداء أيضا ، وهن يواصلن ارتداء زى الحداد مدة سبعة أيام ، أو خمسة عشر يوما ، أو أربعين يوما فى بعض الأحيان.

فيما يتصل بالتعليم يتعين علىّ القول : إن أهل المدينة المنورة أكثر علما من أهل مكة ، وذلك على الرغم من ـ كما سبق أن أوضحت ـ وجود قلة قليلة من المدارس العامة ، إن لم يكن هناك شىء منها على الإطلاق. هناك أفراد يدرسون العلوم الإسلامية فى كل من دمشق والقاهرة ، اللتان يوجد فيهما مؤسسات دينية لهذا الغرض ، وكما هو الحال فى مكة ، لا يوجد سوق عامة للكتب فى المدينة المنورة ، والكتب الوحيدة التى

١٧٦

رأيتها معروضة للبيع ، كانت فى بعض محلات بيع الأقمشة بالتجزئة بالقرب من باب السلام. يقال إن هناك بعض المكتبات الخاصة القيمة ، وقد شاهدت واحدة من تلك المكتبات فى منزل شيخ من الشيوخ ، حيث كان فيها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مجلد ، لكنى لم أتمكن من تصفح بعض هذه الكتب أو حتى كلها. وكما هو الحال فى الشرق كله فإن المكتبات التى من هذا القبيل تكون على سبيل الأوقاف ، هذا يعنى أن هذه المكتبات جرى إهداؤها لمسجد من المساجد من قبل صاحبها أو مالكها إن صح التعبير ، أو قد تكون قد أعطيت لعائلة من العائلات حتى لا يجرى التفريط فى الكتب. يقال إن الوهابيين نقلوا أحمالا كثيرة من الكتب بعد أن غزوا المدينة المنورة ، هذا يعنى أنهم تصرفوا فى تلك الكتب بطريقتهم الخاصة.

وعلى الرغم من تحرياتى المتكررة هنا ، فى المدينة المنورة ، وفى مكة المكرمة ، لم أسمع مطلقا عن شخص واحد ألف كتابا واحدا من الكتب ، أو حتى دوّن ملاحظات مقتضبة عن كتاب من الكتب ، أو تاريخ الفترة التى عاشها ، أو حتى عن الوهابيين. وقد ظهر لى أن الأدب ازدهر ازدهارا قليلا فى المدينة المنورة ، شأنها فى ذلك شأن بقية مناطق الحجاز الأخرى ، وظهر لى أيضا أن الهم الرئيسى لكل الناس هنا هو جمع المال ، وإنفاقه على الإشباعات الحسية.

لغة أهل المدينة المنورة ليست فصيحة مثل لغة أهل مكة ؛ فهى تكاد تقترب تماما من لغة مصر ، يزاد على ذلك أن السوريين المقيمين فى المدينة المنورة تمر عليهم أجيال متعددة قبل أن يسمعوا رنينا للغتهم الوطنية. يشيع فى المدينة المنورة أن يسمع الناس أناسا آخرين وهم يتكلمون لغاتهم الوطنية ، أو وهم يرددون بعض الكلمات التركية فى أضعف الأحوال ، والأعيان ورجال الاقتصاد الذين يعيشون فى ضواحى المدينة المنورة لديهم لهجة خاصة بهم ولديهم أيضا بعض العبارات الخاصة بهم أيضا ، لكن هذه اللهجة وتلك العبارات تكون مثارا لانتقاد أهل المدينة لها وسخريتهم منها.

١٧٧

حكومة المدينة المنورة

كانت المدينة المنورة ، منذ بدء الإسلام ، بلدية مستقلة ، وعند ما خضع الحجاز لحكم الخلفاء ، كانت المدينة المنورة تحكم بأشخاص يعينون من قبل الخلفاء ، وكانت مستقلة عن حكام مكة ، وعند ما ضعفت سلطة الخلفاء ، استقل شيوخ (رؤساء) المدينة المنورة بأنفسهم ، ومارسوا النفوذ نفسه فى شمالى الحجاز ، بالطريقة نفسها التى كان أهل مكة يفعلونها فى الجنوب. فى بعض الأحيان كان حكام مكة ينجحون فى مد سلطتهم بصورة مؤقتة إلى المدينة المنورة ، وفى القرنين الخامس عشر والسادس عشر ظهر أن تلك السلطة كانت ثابتة ومستقرة ، لكن هذه السلطة كانت تعتمد على مدى قوة سلاطين مصر ، عند ما تكون لهم السيادة على مكة. عند ما وصلت عائلة عثمان إلى العرش التركى ، فكر الإمبراطور سليم الأول ، وولده سليمان (اللذان أعطيا المزيد من الاهتمام للحجاز أكثر من أولئك الذين سبقوهما) أنه من الضرورى أن يكون لهما سلطة ونفوذ أقوى على المدينة المنورة ، التى تعد مفتاحا للحجاز ، والتى أصبحت لها أهمية كبيرة لقوافل الحج الكبيرة. أرسل الإمبراطور سليم وولده سليمان إلى المدينة المنورة حامية من الجنود الأتراك مكونة من الجنود الانكشارية والسباهى ، تحت قيادة أغا من الأغاوات ، الذى تقرر له أن يكون حاكما على المدينة ، وفى الوقت نفسه كان الحكم المدنى بيد شيخ الحرم ، أو إن شئت فقل أغا الحرم ، المسئول عن المسجد ، والمسئول عن الاتصال المباشر بالعاصمة ، وكان يحمل لقب باشا شأنه شأن الباشوات فى البلدان الأخرى ، وإذا ما استثنينا فترة قصيرة من أواخر القرن السابع عشر ، بعد أن أصبحت المدينة المنورة خاضعة لحكم شريف مكة ، نجد أن هذا الأسلوب من أساليب الحكم استمر إلى أن استولى الوهابيون على المدينة المنورة. فى ذلك الوقت كان هناك فى قلعة من القلاع الصغيرة أغا واحد ومعه مجموعة قليلة من الجنود ، وكان أغا الحرم هو وحاشيته الصغيرة من الجنود ، بمثابة الرئيس الأعلى للمدينة المنورة. ولكن على امتداد القرن الماضى انتشرت وسادت وعمت إساءات ومخالفات كبيرة ؛ منها أن الحاكم العسكرى لم يعد يجرى اختياره بواسطة

١٧٨

السلاطين ، وإنما الذى يختاره هم أهله وناسه ، ولم يعد هناك وجود للجنود الأتراك ، وإنما كان هناك خلف أولئك السلف الذين سبق أن جاءوا إلى المدينة المنورة ، والذين تزوجوا من المواطنات من أهل البلد ، وأصبح الأغا هو سيد المدينة الفعلى ، وجرى نشر جماعة الأغا على العائلات الأولى فقط ، ولم يكن لدى الأغا أية جنود أخرى غير حراس المدينة نفسها ، وكان يجرى اختيار الأغا عن طريق الضباط فى حامية المدينة المنورة ، الذين احتفظ خلفهم بمناصبهم ، بحكم إقامتهم فى المدينة المنورة منذ زمن بعيد ، على الرغم من أن السواد الأعظم منهم كانوا قد هجروا الخدمة العسكرية. هذه القبيلة من الجنود ، التى يطلق الناس عليها اسم المرابطين ، جرى توسيعها وزيادة عددها لتقوية جماعة الأغا ، الأمر الذى أدى إلى تمديد امتياز هذه الجماعة ليشمل عددا كبيرا آخر من سكان المدينة من ناحية ، ويشمل أيضا الأجانب المقيمين فى المدينة من ناحية ثانية. وأصبح من حق أفراد جماعة الأغا المشاركة فى الرواتب السنوية التى كانت تحدد من قبل السلطان ، لدفع رواتب الحامية ، التى كانت تصل من إسطنبول بصورة منتظمة ، كما اغتصبت تلك الجماعة لنفسها أيضا نصيبا من الصرّة ، أو إن شئت فقل الحوافز المالية التى كانت ترسل للمسجد النبوى من ناحية والمدينة ككل من الناحية الأخرى.

تحول أغا الحرم ، والقاضى الذى كان يرسل عادة من إسطنبول إلى المدينة المنورة للإشراف على سير العدالة ، تحولا فى ظل الظروف السابقة ، إلى مجرد حكم شكلى ليس إلا. كان الأغا من الطواشية الذين لا يعرفون شيئا عن اللغة العربية ، وقد حصل على وظيفة الأغا هذه من قبيل نفيه عن البلاد وليس مكافأة له على كفايته. بسبب تواضع الدخل الذى كان يحصل عليه ذلك الأغا من إسطنبول ، فإنه لم يستطع بفضله الاحتفاظ بحرس عسكرى مساو لحرس غريمه أو منافسه أغا المدينة المنورة ، وسرعان ما وجد نفسه وحده مكلفا بحراسة المسجد النبوى ، وتولّى قيادة الطواشية والفراشين. ومع ذلك ، لم يكن أغا المدينة المنورة صاحب سلطة أو سيادة كاملة على الحرم ؛ كان العديد من رؤساء الأحياء أصحاب سلطة واسعة ، كان للأشراف المقيمين فى المدينة المنورة شيخهم (رئيسهم) الخاص بهم ، وكان يدعى الشيخ السادات ،

١٧٩

كان صاحب سلطة واسعة ؛ الأمر الذى أسفر عن كثير من الفوضى وانعدام النظام. كان أهل المدينة ، وسكان الضواحى فى صراع دائم فيما بينهم طوال أشهر عدة ؛ فى داخل المدينة نفسها كانت هناك معارك طاحنة فيما بين سكان مختلف الضواحى ؛ فى هذه المعارك ، كان السكان يقيمون المتاريس فى الشوارع ، كما راحوا يطلقون النار على بعضهم البعض من فوق أسطح منازلهم ؛ هناك أمثلة يرويها الناس عن أناس فتحوا نيران بنادقهم على أعدائهم عند ما كانوا فى المسجد النبوى يؤدون الصلاة.

فى غضون العشرين عاما الماضية جرى تعيين رجل يدعى حسّان أغا للقلعة ، الأمر الذى أكسبه لقبا وأصبح يدعى حسّان القلعى. ونظرا لمولد هذا الحسان وسط أناس من السفلة ، فقد أدى مكره ومهارته ، وتصميمه إلى الحصول على هذا المنصب. كان ذلك الحسّان قصير القامة ، ويعانى من شىء قليل من العرج ، ومع ذلك كان صاحب قوة بدنية كبيرة ، يزاد على ذلك ، أن صوت هذا الرجل أثناء غضبه كان يصيب أشجع الشجعان بالرعب والفزع. بعد سنوات عدة من الكفاح الصعب ، تمكن ذلك الرجل من أن يصبح سيدا كاملا ومستبدا كاملا أيضا على المدينة المنورة ؛ كان لذلك الرجل حرس من أهل المدينة ، ومن البدو ، ومن المغربين ، وكان الجميع فى خدمة ذلك الرجل ، كما كانت الحشود كلها فى جانب ذلك الحسّان. كان ذلك الرجل متهما بأبشع الخروقات والمظالم ، كما اشتهر أيضا بالجور على الحجاج ، وابتزاز الأموال منهم ، ومصادرة ممتلكاتهم ، فضلا عن مصادرة ممتلكات الأجانب الذين توافيهم المنية فى المدينة المنورة ، وكان يحتجز لنفسه الصرّة التى كانت تأتى من إسطنبول بواسطة قافلة الحج ؛ كان الرجل يحتجز هذه الصرة لنفسه ويحرم منها هؤلاء الذين هم بحاجة إليها ، وبذلك كدّس الرجل لنفسه ثروة كبيرة. هناك بعض الأمثلة على استبداد ذلك الرجل ووحشيته ؛ هناك حادثة تروى عن امرأة أرملة مسنة وثرية وصلت إلى المدينة المنورة ومعها ابنتها ، جاءتا من إسطنبول لزيارة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن هذا الحسّان ألقى القبض على هذه المرأة وأجبرها على الزواج منه ، وبعد ذلك بيومين ، عثر على هذه السيدة ميتة ، واستولى ذلك الحسان على ثروتها ، وبعد ذلك بفترة قصيرة أجبر ذلك الحسان ابنة تلك السيدة على الاستسلام لأحضانه ، ووصلت إسطنبول شكاوى

١٨٠