صفي الدين الحلّي
المحقق: الدكتور رشيد عبد الرحمن العبيدي
الموضوع : الشعر والأدب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦
بيض دعاهنّ الغبي كواعبا |
|
ولو استبان الرشد قال كواكبا |
حتّى قال في مخلصها (١) :
عاتبته فتضرجت وجناته |
|
وأزور ألحاظا وقطب حاجبا |
فأراني الخد الكريم فطرفه |
|
(ذو النون) إذ ذهب الغداة مغاضبا |
وأراد بذي النون : الحاجب تشبيها له بالقوس ، لأن النون مقوسة (ن) ، وذو النون : يونس بن متى ، وإشارته في الشطر الثاني إلى الآية : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى ....) وكثيرا ما كان أهله وأخوته يلحون عليه أن لا يترك قبيلته وأقرانه ، إلّا أنه كان شديد الرغبة في الاستقرار والدّعة ، والعيش السليم ، ويبدو أنه وجد ضالته في ملازمته سلاطين ماردين ، والنزول عندهم ، ويبدو من رسائله الشعرية التي كان يراسل بها أخوته وأصدقاءه أنه تبرّم بالحياة القاسية في العراق ، وأنه لن يرجع إلى تلك الحال التي وجد قومه عليها ، ومن ذلك قصديته :
قليل إلى غير اكتساب العلى نهضي |
|
ومستبعد في غير نيل التقى ركضي |
يرسلها إلى أحد أقاربه من ماردين ، ويعرض فيها بمدح سلطانها الملك المنصور (٢) وكتب بثانية إلى أحد بني عمه من ماردين ـ أيضا ـ يقول فيها :
كل الذين غشوا الوقيعة قتّلوا |
|
ما فاز منهم سالما إلّا أنا |
__________________
(١) الفوات : ١ / ٥٨١ ـ ٥٨٢.
(٢) الديوان : ٢٠.
ليس الفرار عليّ عارا بعد ما |
|
شهدوا ببأسي يوم مشتبك القنا |
إن كنت أول من نأى عن أرضهم |
|
قد كنت يوم الحرب أول من دنا |
أبعدت عن أرض العراق ركائبي |
|
علما بأن الحزم نعم المقتنى |
جبت البلاد ولست متخذا بها |
|
سكنا ولم أرض الثريا مسكنا |
حتّى أنخت بماردين مطيتي |
|
فهناك قال لي الزمان لي ألهنا |
في ظل ملك مذ حللت بربعه |
|
أمسى لسان الدهر عني الكنا (١) |
فالشاعر من خلال هذه الأبيات صريح بأنه ترك العراق فرارا من الأوضاع الشاذة التي تعيشها قبيلته ، بعد أن أبلى مع أعدائه البلاء الحسن ، وبعد أن أضمر له أعداؤه سوء النية لو ظفروا به. فلا بد له من أن يعيش بمنأى عن يد أعدائه ، سالما من أذاهم. ولقد قنع بأن قلعة ماردين هي حصن له ، ولأنفاسه الشاعرية يزجيها لسلاطين (الأراتقة).
وبذلك استطاع الشاعر (الحلي) أن يضع فيهم بثلاثة شهور ديوانا كاملا في تسعة وعشرين حرفا ببناء تسع وعشرين قصيدة أرتقية ، أسماها (الأرتقيات) نسبة إليهم. وهذه الأرتقيات بناها على حرف من حروف المعجم يبتدئ البيت به ، وينهي قافية القصيدة به ، ومن ذلك قوله في قصيدته ـ على قافية الجيم ـ التي أشار إليها ابن حجة في خزانته ، وهو يتحدث عن المطالع ، وينتقده عليه.
وكذلك مطلع الشيخ صفي الدين الحلي في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات ، التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين :
__________________
(١) الديوان : ٢١.
جاءت لتنظر ما أبقت من المهج |
|
فعطرت سائر الأرجاء بالأرج |
فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول ، فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل (١).
لقد أنعم المصريون على الشاعر كثيرا ، وشملوه بإنعامهم وبرهم ، ولكن إصراره على التغرب ، وهجر الوطن كان رائده دائما ، ولقد عاد مرة من مصر وهو مشمول بالأنعام فكتب إلى أخيه جواب عن نهيه إياه في التغرب (٢).
فقل لمسفّه في البعد رأيي |
|
وكنت به أصح الناس رايا |
عذرتك لم تذق للعز طعما |
|
ولا أبدى الزمان لك الخفايا |
فما حر يسيغ الضيم حرا |
|
ولو أصمت عزائمه الرمايا |
لذلك مذ علا في النّاس ذكري |
|
رميت بلاد قومي بالنسايا |
ولست مسفها قومي بقولي |
|
ولكن الرجال لها مزايا |
إن مقام الشاعر في ماردين ، جعله ، ينتهز المناسبات فيضعف فيهم المدح ، ويتدخل في تحريضهم على قتال العدو ويستخدمهم على تحقيق مطاليبه .. وغير ذلك مما كانت تدعو إليه الحال ، وهذه صور من المواقف التي استقيناها من ديوانه. فله قصيدة يحرض السلطان الملك المنصور نجم الدين غازي بن أرتق الذي وضع فيه الأرتقيات ... صاحب ماردين على
__________________
(١) الخزانة : ٧.
(٢) الديوان : ٢٧ ـ ٢٨.
حضوره حصار قلعة أربل حين أرسل الجيوش ، ولم يحضرها سنة (٧٠٢ ه) : [من الرجز] :
أبد سنا وجهك من حجابه |
|
فالسيف لا يقطع في قرابه |
فارم ذرى قلعتهم بقلعة |
|
تقلع أسّ الطود من ترابه |
وهي طويلة تقع في ثلاثة وخمسين بيتا (١) ، وكانت النتيجة هي فتح أربل وقال يحرض السلطان الملك الصالح شمس الدين أبا المكارم بن السلطان الملك المنصور على خلاص ماله من لصوص نقبوا داره ، وأخذوا ما بها ، واحتموا بنائب له فحماهم ، واستخدمهم لديه (٢).
خطب لسان الحال فيه أبكم |
|
وهوى طريق الحقّ فيه مظلم |
وقضية صمت القضاة ترفعا |
|
عن فصلها والخصم فيها يحكم |
وقال من أخرى يحرض السلطان الملك الصالح على التحرر من المغول ومنافستهم ، عند اختلافهم واضطراب أحوالهم ، ويهنئه بعيد النحر (٣) :
لا يمتطي المجد من لا يركب الخطرا |
|
ولا ينال العلا من قدم الحذرا |
ولا ينال العلا إلّا فتى شرفت |
|
خلاله فأطاع الدهر ما أمرا |
كالصالح الملك المرهوب سطوته |
|
فلو توعد قلب الدهر لانفطرا |
من آل أرتق المشهور ذكرهم |
|
إذ كان كالمسك إن أخفيته ظهرا |
فاسعد بعيدك ذا الأضحى وضح به |
|
وصل صلّ لرب العرش مؤتمرا |
وانحر عداك فبالأنعام ما انصلحوا |
|
إن كان غيرك للأنعام قد نحرا |
__________________
(١) الديوان : ٣٧ ـ ٣٩.
(٢) نفسه : ٤١.
(٣) نفسه : ٤٣ ـ ٤٥.
ولست أريد أن أستقصي في هذا المجال موقع الشاعر من الأرتقيين وإن جاء مديحه لهم ، وتحريضه على قتال أعدائهم ، ولعل ما لقي عندهم من البر والإكرام وحياة النعيم والسّلام ، هو الذي جعله يلتصق بهم هذا الالتصاق ، على الرغم من أنهم لم يكونوا عربا ، بل كانوا من بقايا الأتراك السلاجقة الذين حكموا العراق حقبة من الزمن.
لقد اتصل الشاعر خلال هذه الحقبة من حياته بالجم الغفير من الأفاضل والأدباء ، والأعيان ، فاجتمع بابن سيد الناس ، وأبي حيان والصدر شمس الدين عبد اللطيف الذي كان يعتقد أنه ما نظم الشعر أحد مثله مطلقا. كما اجتمع هو والفيروزآبادي (٨١٧ ه) سنة (٧٤٧ ه) فقال فيه (١) : «اجتمعت سنة سبع وأربعين وسبعمائة بالأديب الشاعر ، صفي الدين بن سرايا الحلي ـ رحمهالله ـ بمدينة بغداد فرأيته شيخا كبيرا له قدرة تامة على النظم والنثر وخبرة بعلوم العربية ، والشعر ، فغزله أرق من النسيم ، وأدقّ من المحيا الوسيم ..».
وكانت هذه الصفة ، أعني شاعريته المميزة مثار إعجاب كل الذين عاصروه ، أو من جاء بعده ، يقول الكتبي فيه (٢) : الإمام العلامة القدوة الناظم الناثر ، شاعر عصره على الإطلاق ، أصبح راجح الحلي دونه ناقصا.
وراجح الحلي هذا أقدم من صفي الحلي كان من مداح الدولة الأيوبية بمصر توفي سنة (٦٢٧ ه) (٣).
__________________
(١) البلغة : ٦٠.
(٢) الفوات : ١ / ٥٨٠.
(٣) تاريخ مصر : ابن إياس : ١ / ٨٠ والنجوم الزاهرة : ٦ / ٢٧٥ وشذرات الذهب : ٥ / ١٢٣.
كان الراجح هذا ذا قدم راسخة في نظم الشعر ، مشهورا في عصره ، فحين برز الصفي بزّه وأخذ مكانه ، يقول الكتبي ـ أيضا ـ وكان ـ يعني الحلي راجحا ـ سابقا فعاد على كعبه ناكصا ، أجاد القصائد المطولة والمقاطع وأتى بما أخجل زهر النجوم في السماء ، كما قد أزرى بزهر الربيع ، تطربك ألفاظه المصقولة ، ومعانيه المعسولة ، ومقاصده التي كأنها سهام راشقة وسيوف مسلولة (١).
رحل الحلي ـ شاعرنا ـ إلى العراق في غضون عام ٧١٢ ه.
وحصل للأراتقة ـ وهو بعيد منهم ـ أن توفي الملك المنصور ، وقام بعده الملك العادل بعد أبيه ، ولكنه لم يلبث إلّا قليلا فتوفي بعد سبعة عشر يوما من سلطنته ، فتقلد آمر السلطنة بعده أخوه شمس الدين أبو المكارم الذي نظم فيه القصائد (الصالحيات) .. ولم يصل الخبر بوفاة المنصور صاحب ماردين إلّا بعد مرور مدة غير قليلة. فقصد ماردين ، للتعزية ، فوجد أنّ الآمر قد انتهى وأن أمورا قد حصلت دون أن يعلم شيئا عنها ، فقدم قصيدة في مدح السلطان الملك المنصور الصالح شمس الدين أبي المكارم ، وكان قد ولي بعد وفاة أخيه الملك العادل يقول فيها :
دبت عقارب صدغه في خده |
|
وسعى على الأرداف أرقم جعده |
قرن يخاف قرينه من قربه |
|
أضعاف خوف محبة من بعده |
أرمي الحصى من حافريه بمثله |
|
وأروع ضوء الصبح منه بضده |
__________________
(١) الفوات : ١ / ٥٨٠.
وأظل في جوب البلاد كأنني |
|
سيف ابن أرتق لا يقر بغمده |
الصالح الملك الذي صلحت به |
|
رتب العلاء ولاح طالع سعده |
ثم يشير إلى أنه إنما تولى السلطنة بعد أخيه لشد أزره :
وإليك كان الملك يطمح بعده |
|
يبغي جوابا لو سمحت برده |
وشددت أزر أخيك يا هارونه |
|
لما توقع منك شدّة عضده |
حتّى أحاط بنو الممالك كلها |
|
علما بأنك قد فيت بعهده |
.. ثم يقول :
مدح لمجدك عن وداد خالص |
|
وسواي يضمر صابه في شهده |
لا كالذي جعل القريض بضاعة |
|
متوقعا كسب الغنى من كده |
وفي قصيدته الرائية التي مدحه بها وهنأه بالملك بعد أخيه ، يعتذر له عن الانقطاع عنهم مدة ، وكان قد نظمها مهنئا بعيد الفطر المبارك ، يقول في مطلعها (١) :
من نفحة الصّور أم من نفخة الصوّر |
|
أحييت يا ريح ميتا غير مقبور |
وهي طويلة من قصائده (الصالحيات) يقول في تخلصها إلى مدح الملك الصالح :
وقائل إذ رأى الجنات عالية |
|
والحور مقصورة بين المقاصير |
__________________
(١) انظرها في الديوان : ٩٣ ـ ٩٧.
لمن ترى الملك بعد الله قلت له : |
|
مقال منبسط الآمال مسرور |
للصاحب التاج والقصر المشيد من |
|
أتى بعدل برحب الأرض منشور |
فقال : تعني به كسرى ، فقلت له : |
|
كسرى بن أرتق لا كسرى بن سابور |
الصالح الملك المشكور نائله |
|
ورب نائل ملك غير مشكور |
وحين يصل إلى الاعتذار يوجه أبياتا غاية في الرقة والدماثة ، فيقول :
أدعوك دعوة عبد وامق بكم |
|
يا واحد العصر فاسمع غير مأمور |
لا أدّعي العذر عن تأخير قصدكم |
|
ليس المحب على بعد بمعذور |
بل إن غدا طول بعدي عن جنابكم |
|
ذنبي العظيم فهذا المدح تكفيري |
رقت لتعرب عن رقي لمجدكم |
|
حبّا. وطالت لتمحو ذنب تقصيري |
ويبدو لي أن الحلي لم يمل عن الأرتقيين حبا في مفارقتهم ، ولكنه كان يتطلع إلى توسيع دائرة صلاته بسلاطين العصر وأمرائه ، ولذلك كان يسافر إلى مصر ، ويخرج إلى الشام ، ويرحل إلى العراق ، ثم يعود إلى الأراتقة ، وفي جميع حالاته هذه يرسل بقصائده إليهم ، في التهنئة ، والمديح ، واستغلال المناسبات المفرحة ، ليزج بشعره إليهم فيها ، وفي عام (٧١٩ ه) ترد وفي الديوان قصيدة يمدح بها الملك الصالح وكان قد اقترح عليه (الصالح) الوزن والروي ، يشكو فيها الحلي أمرا جرى له يقول فيها (١) :
يا نسمة لأحاديث الحمى شرحت |
|
كم من صدور لأرباب الهوى شرحت |
يقول خلالها ، وهو يعرض محنته :
يا باذل الخيل عفوا بعد عزتها |
|
وما جنت في الوغى ذنبا ولا اجترحت |
__________________
(١) الديوان : ٩٩ ـ ١٠١.
ودعتكم وثنائي لا يودعكم |
|
وسرت لا بعدت داري ولا نزحت |
أشدو بمدحكم حبا وبي محن |
|
لو أن أيسرها بالورق ما صدحت |
ما أن أفوه بشرح في المقال لها |
|
لكنها بلسان الحال قد شرحت |
لا أذمم الدهر في أمر رميت به |
|
ولا أقول حصاة الحظ ما رشحت |
لئن نأت عنكم يوما جوانحنا |
|
فإن أرواحنا في ربعكم جنحت |
وكلّ يوم مقالي عند ذكركم |
|
يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت |
ظلت هذه العلاقة وثيقة بين الشاعر والأرتقيين ، يذكر هم أنى سافر ، وأينما حل ، وفي سنة (٧٢٠ ه) دخل الشام وبعث إلى السلطان الصالح بقصيدة يمدحه فيها (١) :
نمّ بسر الروض خفق الجناح |
|
واقتدح الشرق زناد الصباح |
وحين وصل الصالح إلى الحجاز عام (٧٢٣ ه) كان الشاعر في مصر ، فبعث إليه بقصيدة مطلعها (٢) :
أني ليطربني العذول فأنثني |
|
فيظن أني عن هواكم أنثني |
__________________
(١) الديوان : ١٠٧.
(٢) نفسه : ١٠٨.
وفي سنة (٧٢٦ ه) دخل مصر ، واجتمع بالقاضي علاء الدين بن الأثير ، كاتب السر (١) ، ومدحه كما مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة وازى بها قصيدة المتنبي التي أولها :
بأبي الشموس الجانحات غواربا |
|
اللابسات من الحرير جلاببا (٢) |
ومطلعها :
أسبلن من فوق النهود ذوائبا |
|
فتركن حبات القلوب ذوائبا |
يقول فيها :
وغربن في كلل فقلت لصاحبي : |
|
(بأبي الشموس الجانحات غواربا) |
وهي قصيدة من أجمل شعره المدحي ، ولكنه يظل مرتبطا بالصالح فيكتب إليه بأبيات :
أجرّد كي أجرد سيف مدحي |
|
فينبو عن سواك به لساني |
وأنظم مدح غيرك والقوافي |
|
تعض عليّ أطراف البنان |
فأظهر حيرة في بسط عذري |
|
وأخفي ما يحن لكم جناني |
__________________
(١) الوافي للكتبي : ١ / ٥٨٠.
(٢) ديوان المتنبي : (دار صادر) : ١٠٩ وقصيدة الحلي في الديوان : ص ٥٩.
فإن أفعل تألمت المعالي |
|
وإن أنكل تظلمت المعاني (١) |
وفي الأبيات ما يدل على أنه لا يريد أن ينقطع عن الأراتقة ، وأنه يأمل دائما في الرجوع إليهم ، وإن طوحت به الأيام ، وفي الديوان مقطعات قصيدة يبعثها إليه ، يتضح من خلالها شدة ميله إليهم ، وارتباطه بهم (٢).
وحين أحس الشاعر بهذا البعد والانقطاع عنه زج إليه قصيدة طويلة يمتدحه فيها ويعتذر عن الانقطاع عنه ، مطلعها (٣) :
ليالي الحمى ما كنت إلّا لآليا |
|
وحيد سروري بانتظامك حاليا |
يقول فيها :
ومالي لا أسعى بمالي ومهجتي |
|
إلى من به استدركت روحي وماليا |
إلى ملك يخفي الملوك إذا بدا |
|
كما أخفت الشمس النجوم الدراريا |
ولكنه دفع بقصائد رائعة في مدح (قلاوون) في مصر ، فضلا عن قصيدته التي عارض بها المتنبي ، ومن ذلك قصيدته التي يمدحه فيها عند كسر الخليج :
خلع الربيع على غصون البان |
|
حللا فواضلها على الكثبان |
ونمت فروع الدوح حتّى صافحت |
|
كفل الكثيب ذوائب الأغصان |
__________________
(١) ديوان الحلي : ١١٤.
(٢) انظر الديوان : ص ١١٤ ـ ١١٨.
(٣) الديوان : ١١٨ ـ ١٢١.
يقول فيها :
حتّى إذا كسر الخليج وقسمت |
|
أمواه لجته على الخلجان |
ساوى البلاد كما تساوى في الندى |
|
بين الأنام مواهب السلطان |
الناصر الملك الذي في عصره |
|
شكرا لظباء صنيعة السرحان |
ملك إذا اكتمل الملوك بنوره |
|
خروا لهيبته إلى الأذقان (١) |
ولم يقف شعره على الناصر قلاوون بل مدح معه ثلاثة سلاطين ذكرهم في خطبة ديوان (الناصريات) وفي الديوان قصائد ومقطعات في مدحهم.
و (الناصريات) قصائد مصرية ، ولكن (المنصوريات) قصائد أرتقية ، بدأها كما سبقت الإشارة بمدح الملك المنصور السلطان نجم الدين أبي الفتح غازي بن أرتق. والشاعر في جميع ما تقدم من حياته ، كان قد شغل نفسه بالمديح المادي ، وبالصلات بالسلاطين والملوك ، ولم يكن الاتجاه الديني أو الروحي قد ظهر في شعره ، إلّا في بعض المقطعات القصار من آل البيت أو صحابة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وليس بين أيدينا ما يعطينا الوقت الذي نظم فيه هذه المقطعات ، ففي ديوانه إشارات إلى أنه قال في آل الرسول صلىاللهعليهوسلم (٢) :
يا عترة المختار يا من بهم |
|
يفوز عبد يتولاهم |
أعرف في الحشر بحبي لكم |
|
إذ يعرف النّاس بسيماهم |
وقال :
يا عترة المختار يا من بهم |
|
أرجو نجاتي من عذاب اليم |
فمن أتى الله بعرفانكم |
|
(فقد أتى الله بقلب سليم) |
__________________
(١) الديوان : ١١٨ ـ ١٢١.
(٢) الديوان : الصفحات : ٥٥ ـ ٥٩.
وقال في صحابة الرسول صلىاللهعليهوسلم :
قيل لي تعشق الصحابة طرا |
|
أم تفردت منهم بفريق |
فوصفت الجميع وصفا إذا ضوّع |
|
أزرى بكلّ مسك سحيق |
قيل لي هذي الصفات والكل كالدرياق |
|
يشفي من كل داء وثيق |
فإلى من تميل؟ قلت إلى الأربع |
|
لا سيما إلى (الفاروق) |
غير أننا نعلم أنه دخل مصر سنة (٧٢٦ ه) وكان دخوله مصر في هذه السنة أنه قصد الحج ، وقد قال هو نفسه عن زيارته لمصر في هذه السنة (فلما منّ الله عليّ بقضاء حجة الإسلام ، وزيارة قبر النبي عليهالسلام ، قذف بي خوف بلادي إلى الديار المصرية ، وأهلت بالمثول في الحضرة الشريفة الملكية الناصرية .. (١).
ومن هنا نستطيع تحديد الوقت الذي نظم فيه قصيدته الرائية التي مدح بها النبي محمدا صلىاللهعليهوسلم وهو في المدينة المنورة :
كفى البدر حسنا أن يقال : نظيرها |
|
فيزهي. ولكنا بذاك نضيرها |
وحسب غصون البان إن قوامها |
|
يقاس به ميادها ونضيرها |
ومن خلال هذه القصيدة النبوية يلمح القارئ أن ثمة معاناة قاسية كان يعيش الشاعر في أجوائها ، وأنه يحمل في طيات نفسه هما ثقيلا وعسرا من
__________________
(١) مقدمة الديوان (صادر) : ١١.
الحياة ، وضيقا من الدنيا ، ولم يستطع التعبير عن ذلك كله إلّا إمام قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فهو يقول :
فلو تحمل الأيام ما أنا حامل |
|
لما كاد يمحو صبغة الليل نورها |
سأصبر إما أن تدور صروفها |
|
عليّ وإما تستقيم أمورها |
فإن تكن الخساء أني فخرها |
|
وإن تكن الزّبّاء أنّي قصيرها |
ثم ينتقل إلى ذكر المقصود ـ ع ـ ببراعة مخلص :
وعاج بها عن رمل عاج دليها |
|
فقامت لعرفان المراد صدورها |
غدت تتقاضانا المسير لأنها |
|
إلى نحو خير المرسلين مسيرها |
ترضّ الحصى شوقا لمن سبّح الحصى |
|
لديه وحيّى بالسلام بعيرها |
إلى خير مبعوث إلى خير أمة |
|
إلى خير معبود دعاها بشيرها |
حتّى يقول فيها :
أيا صادق الوعد الأمين وعدتني |
|
ببشرى فلا أخشى وأنت بشيرها |
بعثت الأماني عاطلات لتبتغي |
|
نداك فجاءت حاليات نحورها |
إليك رسول الله أشكو جرائما |
|
يوازي الجبال الراسيات صغيرها |
كبائر لو تبلى الجبال بحملها |
|
لدكت ونادى بالثبور ثبيرها |
وغالب ظني بل يقيني إنها |
|
ستمحى وإن حلت وأنت سفيرها |
وبين يدي نجواي قدمت مدحة |
|
قضى خاطري إلّا نجيب خطيرها |
تروم بها نفسي الجزاء فكن لها |
|
مجيزا بأن تمسي وأنت مجيرها |
فلا بن زهير قد أجزت ببردة |
|
عليك فأثرى من ذويه فقيرها |
أجرني أجزني وأجزني أجر مدحتي |
|
ببرد إذا ما النار شب سعيرها |
بمدحك تمت حجتي وهي حجتي |
|
على عصبة يطغى عليّ فجورها (١) |
لقد تركت معظم أبيات هذه القصيدة ؛ لطولها ، ولكن الذي يهمنا منها أنه يظهر شكواه. ويعترف بذنوب أثقلت كاهله ، وأنه يرجو من رسول الله
__________________
(١) الديوان : ٤٦ ـ ٥٠.
صلىاللهعليهوسلم أن يقبل الله ـ تعالى ـ بمدحه منه إنابته وتوبته على الرغم من عظم الجرم الذي : يوازي الجبال الراسيات صغيرها.
ونظم الصفي قصائد أخرى في مناسبة مولده صلىاللهعليهوسلم ومنها قصيدة :
خمدت لفضل ولادك النيران |
|
وانشق من فرح بك الإيوان (١) |
وفي هذه القصيدة يتجرد الشاعر من أموره الدنيوية ، ويسوق معاني المديح النبوي تترى ، ويضمنها أحداثا واكبت سنة الميلاد الشريف ، ومكان الرسول صلىاللهعليهوسلم بين أخوته من الأنبياء والرسل «عليهمالسلام». وفي أواخرها يعترف بقصوره عن أن يحيط بكل صفاته وأخلاقه صلىاللهعليهوسلم ، فيقول :
ولو أنني وفيت وصفك حقه |
|
فني الكلام وضاقت الأوزان |
فعليك من ربّ السّلام سلامة |
|
والفضل والبركات والرضوان |
وعلى سراط الحقّ آلك كلما |
|
هب النسيم ومالت الأغصان |
وعلى ابن عمك وارث العلم الذي |
|
ذلّت لسطوة بأسه الشجعان |
وعلى صحابتك الذين تتبعوا |
|
طرق الهدى فهداهم الرحمن |
وشروا بسعيهم الجنان وقدروا |
|
أن النفوس لبيعها أثمان |
ثم ينهي القصيدة بالغرض النفسي الذي لا ينفك الإنسان بذكره أمام شفيع الأمة ، ومنقذها صلىاللهعليهوسلم ، فيقول :
أشكو إليك ذنوب نفس هفوها |
|
طبع عليه ركب الإنسان |
فاشفع لعبد شانه عصيانه |
|
إن العبيد يشينها العصيان |
__________________
(١) الديوان : ٥٠ ـ ٥٢.
فلك الشفاعة في محبيكم إذا |
|
نصب الصراط وعلق الميزان |
فلقد تعرض للإجازة طامعا |
|
في أن يكون جزاءه الغفران (١) |
وأما قصيدته التي استعان منها بالبيت :
صلى عليك إله العرش ما طلعت |
|
شمس النهار ولاحت أنجم الغسق |
في بديعيته القافية ، فمطلعها :
فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق |
|
بدت فهيّجت الورقاء في الورق |
وهي قصيدة مدحية في الرسول صلىاللهعليهوسلم ذكر كعادته في المديح النبوي : الرسول صلىاللهعليهوسلم وصفاته وأخلاقه ، وموقعه بين الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ وفي آخرها يعد الرسول بأنه سوف يصفيه المدح ما دام حيا ، فيقول :
فلا أخلّ بعذر عن مديحكم |
|
ما دام فكري لم يرتج ولم يعق |
فسوف أصفيك محض المدح مجتهدا |
|
فالخلق تفنى وهذا إن فنيت بقي (٢) |
ولقد صدق الشاعر وعده مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين وضع قصيدته (الكافية البديعية) فيه. فقد تأخر نظمها بعد هذا الزمن ، وقد أشار إلى القصيدة القافية المذكورة في شرح بيت (التفصيل) من الأنواع البديعية حين قال :
(صلي عليه إله العرش ما طلعت) |
|
شمس وما لاح نجم في دجى الظلم |
__________________
(١) وردت في الديوان (جزاؤه) الأصوب أن يقول : (جزاءه الغفران) كما أثبتنا بنصب جزاء ليكون (الغفران) اسم (يكون) ، ولكنه سها : أو هو خطأ مطبعي.
(٢) الديوان : ٥٤.
قال في الشرح : وصدر بيت القصيدة هو بحاله لي في قصيدة أخرى في مدح النبي صلىاللهعليهوسلم أولها :
فيروزج (١) الصبح أم ياقوتة الشفق |
|
بدت فهيجت الورقاء في الورق |
والبيت الذي أتيت بصدره منها لئلا تخلو. القصيدة من هذا النوع هو :
صلى عليه إله العرش ما طلعت |
|
شمس النهار ولاحت أنجم الغسق (٢) |
ثم نعود بعد هذه الوقفة الموجزة مع الصفي ، وهو يزجي قصائده الدينية إلى النبي وصحابته وآله رضى الله عنهم إلى بقية عمره الذي قضاه بين سلطان مصر ، وسلطان ماردين ، وبلده العراق. ويبدو أن السنوات التي تلت عودته من الحج أي من بعد سنة (٧٢٦ ه) جعلته ينسج حبال الصلة بين ملوك مصر وماردين بشكل ذكي ، ففي الوقت الذي نراه يلازم السلطان قلاوون ، يبعث سنة (٧٢٧ ه) بقصيدة إلى سلطان ماردين ـ وهو في دمشق يعتذر له عن الانقطاع. ثم بأخرى يمدحه ويهنئه بعيد النحر ، ويصف ليلة مضت له ، يقول في مطلعها :
أهلا ببدر دجى يسعى بشمس |
|
بنوره صبغة الليل البهيم محا |
ثم يمدحه بقصيدة كافية عقيب مال تلف له بماردين ويعرض بذلك سنة (٧٤١ ه) :
أيا ملك العصر الذي شاع فضله |
|
ويا ابن ملوك العرب والعجم والترك |
__________________
(١) الديوان : ١٠٣.
(٢) الديوان : ١٢٥.
وينظم له قصيدة موشحية يهنئه بعيد الفطر سنة (٧٤١ ه) بوزن الدوبيت :
لما شدت الورق على الأغصان بين الورق |
|
ماست طربا بها غصون البان كالمغتبق |
الطير شدا |
|
ومنظر الزهر يدا |
والقطر غدا |
|
يوليه جودا وندا |
والجون حدا |
|
ومد في الجوردا |
والنرجس جفن طرفه الوسنان لم ينطبق |
|
بل بات إلى شقائق النعمان ساهي الحدق |
ما هزني الريح إلّا هزني الطرب |
|
إذ كان للقلب في مر الصبا إرب (١) |
وطال مكث الصفي في مصر حتّى سنة (٧٣٩ ه) وكانت العلاقة بين مصر وسلاطين ماردين قد قويت ، بفعل المخاطر المغولية التي كانت تواجههم ، وكان لوجود الصفي بين الأمارتين أثر في تقريب وجهات النظر ، وتوثيق العلائق بينهما. وموقع الصفي في مصر ـ في هذه السنوات ـ كان موقعا متميزا ، فقد حظي برعاية سلطان مصر ، ورئيس وزرائه. ما لم يحظ غيره بها وقد ذكر هو نفسه هذه الرعاية فقال :
«وشملني من الأنعام ما فاجأني ابتداعا» ولم أملك له خبرا ألزمتني المروءة بمكافأة تلك الحقوق ، ورأيت كفرانها كالعقوق .. فنظمت في معاليه ما طاب لفظه ومعانيه ، وظهرت آيات القويّ فيه ، من تمكن سبكه وقوافيه.
__________________
(١) الديوان : ١٢٧.
فلما صادفت رسائلي فيه قبولا ، وهبت ريح سعدها قبولا ، أشار رئيس وزرائه ، وزعيم كتاب إنشائه عن إشارته العالية أن اجمع له جزءا من جد شعري وهزله ورقيق لفظي وجزله ... ؛ ليكون ديوانا للمحاضرة ومجموعا للمذاكرة .. فاخترت منه ما يحبّ ويبتغي ، ورتبته على ما يجب وينبغي ، واقتضى الأدب أن اسم الكتاب بوسمه ، وأشرف باب المديح بتقديم لقبه الشريف واسمه ، فصيرت ولي المديح كوسيمه ، وختمت به أبناء المدح كختم الأنبياء بسميه ، وجعلت فصول الأبواب فروعا تتبع أصلا ، وجملة الكتاب اثنا عشر بابا تشتمل على ثلاثين فصلا .. (١) فكان هذا الديوان الذي بين أيدينا اليوم ، وقد طبع أكثر من طبعة أولاهما سنة : ١٢٨٣ ه و ١٢٩٧ ه ، ثم طبعة ١٣٧٥ ه وأشار الناشر إلى أنه قابل بها النسخ المطبوعة سابقا والأخيرة المتداولة هي طبعة (دار صادر ـ بيروت) سنة : ١٣٨٢ ه / ١٩٦٢ م. وحين ترك الشاعر مصر راجعا إلى العراق لم ينس أن يضع بين يدي ابن قلاوون قصيدة عصماء يمدحه بها سبق أن أشرنا إليها فيما مضى ، يشير في أخرياتها بالرحيل ، ويعتذر إلى ابن قلاوون بقوله (٢) :
يا ذا الذي خطب المديح سماحة |
|
فنداه قبل نداي قد لباني |
أقصيتني بالجود ثم دعوتني |
|
فنداك أبعدني وإن أدناني |
ضاعفت برّك لي ولو لم تولني |
|
إلّا القبول عطية لكفاني |
فنأيت عنك ولست أول حازم |
|
خاف النزول بمهبط الطوفان |
علمي بصرف الدهر أخلى معهدي |
|
مني وصرف في البلاد عناني |
ولربما طلب الحريص زيادة |
|
فغدت مؤدية إلى النقصان |
__________________
(١) مقدمة ديوانه : ٧ ـ ٨.
(٢) الديوان : ٦٢ ـ ٦٥.