ولعمري إنّ الذي يوقع النفس في الوسوسة ويمنعها من رفع اليد عن مثل هذه القاعدة بالأخبار المعتبرة ليس إلّا موافقتها للاحتياط ، وإلّا فقاعدة طهارة الأشياء ومطهّريّة الماء ـ مثلا ـ أثبت في الشريعة وأوضح مستندا من نفس هذه القاعدة ، فضلا عن عمومها ، ولم يزل يرفع اليد عن مثل هذه القواعد بالأخبار البالغة أوّل مرتبة الحجّيّة.
وأمّا القواعد التي يشكل رفع اليد عنها إلّا بنصّ صحيح صريح معتضد بالفتوى ونحوها فهي : القواعد الكلّيّة المعروفة مناطاتها ، المعتضدة بالعقل والاعتبار ، مثل : قاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، وحرمة دم المسلم وعرضه وماله ، لا مثل قاعدة الانفعال ، التي عمدة المستند لعمومها الإجماع ونحوه من الأدلّة اللّبّيّة التي غاية ما يمكن استفادته منها على وجه يستدلّ به في الموارد الخلافيّة كون نفس القاعدة ـ التي انعقد عليها الإجماع وارتكزت في أذهان المتشرّعة ـ كمتن رواية قطعيّة قابلة للتخصيص ، فلا ينبغي الاستشكال في الطهارة.
لكن ينبغي الاقتصار في الحكم المخالف للأصل على لبن المأكول ، لكونه القدر المتيقّن الذي لا يبعد دعوى انصراف إطلاق الفتاوى والنصوص إليه ، وإن كان القول بطهارته مطلقا لا يخلو عن قوّة ، كغيره ممّا تقدّم من الأجزاء التي لا تحلّه الحياة ، فإنّها طاهرة من كلّ حيوان حلّ أكله أم حرم (إلّا أن تكون عينه نجسة ، كالكلب والخنزير والكافر) فإنّها بجميع أجزائها نجسة (على الأظهر) سواء كانت متّصلة بجملتها أو منفصلة عنها عند حياتها أو بعد موتها ، لما أشرنا إليه ـ عند البحث عن نجاسة أجزاء الميتة ـ من أنّ معروض النجاسة ـ على ما يتبادر عرفا من
الحكم بنجاسة حيوان ـ ليس إلّا نجاسة جسده الباقي بعد موته بجميع أجزائه ، سواء اتّصلت الأجزاء بجملتها أو انفصلت عنها ، فجثّة الحيوان المحكوم بنجاسته ليست بنظر العرف إلّا كعين العذرة في كون كلّ جزء منه من حيث هو معروضا للنجاسة ، فشعر الخنزير أو لحمه أو عظمه ما دام مصداقا لهذا الموضوع نجس ، سواء كان متّصلا بالخنزير أو منفصلا عنه.
فما حكي عن السيّد ـ من طهارة شعر الكلب والخنزير بل ربّما استظهر منه طهارة ما لا تحلّه الحياة منه مطلقا (١) ـ ضعيف.
ولا يقاس ذلك بأجزاء الميتة التي لا يتنجّس منها إلّا ما حلّ فيه الروح ، لأنّه مع كونه قياسا يتوجّه عليه : وجود الفارق بينهما حيث إنّ المؤثّر في نجاسة الميتة الموت الذي لا يتأثّر منه ما لا روح له.
وأمّا الموجب لنجاسة أجزاء الكلب كونها معدودة من الجملة المسمّاة باسم الكلب من غير فرق ـ بمقتضى ظاهر دليله ـ بين كون الجزء لحما أو عظما.
نعم ، ربّما يتوهّم الاستحالة وانقلاب الموضوع بانفصال الجزء أو عروض الموت ، فإنّ الكب الميّت ليس بكلب حقيقة ، والشعر المنفصل عنه لا يعدّ جزءا فعليّا منه.
ويدفعه : ما أشرنا إليه من أنّ معروض النجاسة ـ على ما ينسبق إلى الذهن ـ ليس مفهوم الكلب الذي يصحّ سلبه بعد الموت ، بل جثّته القابلة للاتّصاف بالموت والحياة بجميع أجزائها ، ولذا لا يتردّد أحد من أهل العرف في نجاسة
__________________
(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٣١ ، وانظر : مسائل الناصريّات : ١٠٠ ، المسألة ١٩.
الأجزاء المنفصلة عن نجس العين قبل موته أو بعده ، فدعوى الاستحالة باطلة بحكم العرف.
هذا ، مع أنّ في بعض (١) الأخبار إشارة إلى نجاسة شعر الخنزير.
نعم ، ربما يتوهّم طهارته من نفي البأس عن الماء الذي يستقى به في بعض الروايات ، كصحيحة زرارة : سئل الصادق عليهالسلام عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر أيتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : «لا بأس» (٢).
ويدفعه : ظهور السؤال في المفروغيّة من نجاسة الشعر ، ووقوع السؤال عن حكم الماء الذي يستقى به ، فهذه الصحيحة كغيرها ممّا ورد فيها السؤال عن حكم الماء الذي يستقى بالحبل المصنوع من شعر الخنزير من أقوى الأدلّة على نجاسته ، فلو تمّت دلالتها على طهارة الماء الملاقي له ، فهي من أدلّة القول بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس ، وقد تقدّم (٣) الكلام فيها في محلّه.
(ويجب الغسل) بالضمّ (على من مسّ ميّتا من الناس قبل تطهيره) بالغسل (وبعد برده) على المشهور ، بل عن الخلاف وغيره دعوى الإجماع عليه (٤).
__________________
(١) التهذيب ٩ : ٨٥ / ٣٥٧ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب النجاسات ، ح ٣.
(٢) الكافي ٣ : ٦ ـ ٧ / ١٠ ، التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢.
(٣) في ج ١ ، ص ١٦١ ـ ١٦٢.
(٤) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥١٢ ، وانظر : الخلاف ١ : ٧٠١ ، المسألة ٤٩٠ ، والغنية : ٤٠.
وحكي عن السيّد في شرح الرسالة والمصباح القول باستحبابه (١). وهو ضعيف.
ويدلّ على المشهور : الأخبار الكثيرة :
منها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام ، قال : قلت : الرجل يغمّض عين (٢) الميّت أعليه غسل؟ قال : «إذا مسّه بحرارته فلا ، ولكن إذا مسّه بعد ما يبرد فليغتسل» قلت : فالذي يغسّله يغتسل؟ قال : «نعم» (٣) الحديث.
وحسنة حريز أو صحيحة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من غسّل ميّتا فليغتسل ، وإن مسّه ما دام حارّا فلا غسل عليه ، وإذا برد ثمّ مسّه فليغتسل» قلت : فمن أدخله القبر؟ قال : «لا غسل عليه ، إنّما يمسّ الثياب» (٤).
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يغتسل الذي غسّل الميّت ، وإن قبّل الميّت إنسان بعد موته وهو حارّ فليس عليه غسل ، ولكن إذا مسّه وقبّله وقد برد فعليه الغسل ، ولا بأس أن يمسّه بعد الغسل ويقبّله» (٥).
وعن عبد الله بن سنان أيضا عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت له : أيغتسل من
__________________
(١) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٥١.
(٢) كلمة «عين» لم ترد في «ض ١٠ ، ١١» والتهذيب.
(٣) الكافي ٣ : ١٦٠ / ٢ ، التهذيب ١ : ٤٢٨ / ١٣٦٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١.
(٤) الكافي ٣ : ١٦٠ (باب غسل من غسّل الميّت ..) ح ١ ، التهذيب ١ : ١٠٨ / ٢٨٣ ، الإستبصار ١ : ٩٩ / ٣٢١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١٤.
(٥) الكافي ٣ : ١٦٠ ـ ١٦١ / ٣ ، التهذيب ١ : ١٠٨ / ٢٨٤ ، الإستبصار ١ : ٩٩ / ٢٢٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١٥.
غسّل الميّت؟ قال : «نعم» قلت : من أدخله القبر؟ قال : «لا ، إنّما يمسّ الثياب» (١).
وعن عاصم بن حميد ـ في الصحيح ـ قال : سألته عن الميّت إذا مسّه الإنسان أفيه غسل؟ قال : فقال : «إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل» (٢).
وعن إسماعيل بن جابر ـ في الصحيح ـ قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام حين مات ابنه إسماعيل الأكبر ، فجعل يقبّله وهو ميّت ، فقلت : جعلت فداك أليس لا ينبغي أن يمسّ الميّت بعد ما يموت ومن مسّه فعليه الغسل؟ فقال : «أمّا بحرارته فلا بأس ، إنّما ذاك إذا برد» (٣).
وعن معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الذي يغسّل الميّت أعليه غسل؟ قال : «نعم» قلت : فإذا مسّه وهو سخن؟ قال : «لا غسل عليه ، فإذا برد فعليه الغسل» قلت : والبهائم والطير إذا مسّها عليه غسل؟ قال : «لا ، ليس هذا كالإنسان» (٤).
وعن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «من غسّل ميّتا وكفّنه اغتسل غسل الجنابة» (٥).
وعن محمّد بن الحسن الصفّار ـ في الصحيح ـ قال : كتبت إليه : رجل أصاب
__________________
(١) الكافي ٣ : ١٦١ / ٨ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب غسل المسّ ، ح ٤.
(٢) التهذيب ١ : ٤٢٩ / ١٣٦٥ ، الإستبصار ١ : ١٠٠ / ٣٢٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٣.
(٣) التهذيب ١ : ٤٢٩ / ١٣٦٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٢.
(٤) التهذيب ١ : ٤٢٩ / ١٣٦٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٤.
(٥) التهذيب ١ : ٤٤٧ / ١٤٤٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٦.
يده أو بدنه ثوب الميّت الذي يلي جسده قبل أن يغسّل (١) هل يجب عليه غسل يده أو بدنه؟ فوقّع عليهالسلام «إذا أصاب يدك جسد الميّت قبل أن يغسّل (٢) فقد يجب عليك الغسل» (٣).
وعن الحلبي ـ في الصحيح ـ عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته عن الرجل يمسّ الميتة أينبغي أن يغتسل منها؟ فقال : «لا ، إنّما ذاك من الإنسان وحده» (٤).
وعن محمّد بن مسلم ـ في الصحيح ـ عن أحدهما عليهماالسلام في رجل مسّ ميتة أعليه الغسل؟ قال : «لا ، إنّما ذلك من الإنسان» (٥).
وعن سليمان بن خالد أنّه سأل أبا عبد الله عليهالسلام أيغتسل من غسّل الميّت؟ قال : «نعم» قال : فمن أدخله القبر؟ قال : «لا ، إنّما مسّ الثياب» (٦).
وعن الفضل بن شاذان عن الرضا عليهالسلام ، قال : «إنّما أمر من يغسّل الميّت بالغسل لعلّة الطهارة ممّا أصابه من نضح الميّت ، لأنّ الميّت إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفته» (٧).
وعن محمّد بن سنان عن الرضا عليهالسلام ، قال : «وعلّة اغتسال من غسّل الميّت
__________________
(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «يغتسل». وما أثبتناه كما في المصدر.
(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «يغتسل». وما أثبتناه كما في المصدر.
(٣) التهذيب ١ : ٤٢٩ / ١٣٦٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٥.
(٤) الكافي ٣ : ١٦١ / ٤ ، وفيه : «الميّت» بدل «الميتة» ، التهذيب ١ : ٤٣١ / ١٣٧٥ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب غسل المسّ ، ح ٢ و ٣.
(٥) التهذيب ١ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ / ١٣٧٤ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب غسل المسّ ، ح ١.
(٦) الفقيه ١ : ٩٨ / ٤٥١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١٠.
(٧) علل الشرائع : ٢٦٨ (الباب ١٨٢) ح ٩ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١١٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١١.
أو مسّه الطهارة لما أصابه من نضح الميّت ، لأنّ الميّت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته» (١).
وعن الخصال عن عليّ عليهالسلام في حديث الأربعمائة ، قال : «ومن غسّل منكم ميّتا فليغتسل بعد ما يلبسه أكفانه» (٢).
وعن عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليهالسلام ، قال : سألته عن رجل مسّ ميّتا عليه الغسل؟ قال : فقال : «إن كان الميّت لم يبرد فلا غسل عليه ، وإن كان قد برد فعليه الغسل إذا مسّه» (٣).
ثمّ إنّ مقتضى القاعدة تقييد ما أطلق فيها الغسل بمسّ الميّت بعد برده بغيره من الروايات الدالّة على اختصاصه بما قبل أن يغسّل الميّت ، المصرّحة بنفي البأس عن مسّه بعد الغسل ، كما عليه فتوى الأصحاب.
ولا ينبغي الالتفات إلى ما يستشعر من تعليل نفي الغسل على من أدخله القبر في بعض الأخبار المتقدّمة (٤) : بأنّه «إنّما يمسّ الثياب» المشعر بوجوب الغسل عليه لو مسّ جسده عند إدخاله القبر بعد ما ورد التصريح بنفي البأس عنه في الأخبار المقيّدة ، فتكون النكتة في تخصيصه بالذكر في مقام التعليل التنبيه على انتفاء الموضوع المقتضى لوجوب غسل المسّ ولو على تقدير فساد غسل
__________________
(١) علل الشرائع : ٣٠٠ (الباب ٢٣٨) ح ٣ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٨٩ / ١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١٢.
(٢) الخصال : ٦١٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١٣.
(٣) مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٨ / ٤٢٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ١٨.
(٤) في ص ١٠٤ و ١٠٦.
الميّت.
نعم ، في موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام التصريح بثبوته بعد الغسل ، قال : «يغتسل الذي غسّل الميّت ، وكلّ من مسّ ميّتا فعليه الغسل وإن كان الميّت قد غسّل» (١).
لكنّها ـ مع مخالفتها لإجماع المسلمين ، كما ادّعاه بعض (٢) ، مع كون راويها عمّار المقدوح في متفرّداته بالخلل واضطراب المتن ـ لا تنهض للحجّيّة ، فضلا عن معارضة ما عرفت ، فيجب ردّ علمها إلى أهله.
لكنّ الإنصاف أنّ حملها على الاستحباب في الفرض ـ كما عن التهذيبين (٣) ـ جمعا بينها وبين ما دلّ على نفي البأس عنه ، واختصاص الوجوب بما قبل الغسل أولى وأوفق بما تقتضيه قاعدة المسامحة ، فهو الأشبه ، والله العالم.
والعجب فيما حكي عن صاحب الذخيرة من أنّه ـ بعد نقل جملة من أخبار المسألة ـ قال : ولا يخفى أنّ الأمر وما في معناه في أخبارنا غير واضح الدلالة على الوجوب ، فالاستناد إلى هذه الأخبار في إثبات الوجوب لا يخلو عن إشكال (٤). انتهى.
وليت شعري لو نوقش في دلالة هذه الأخبار المتظافرة المعتضد بعضها
__________________
(١) التهذيب ١ : ٤٣٠ / ١٣٧٣ ، الإستبصار ١ : ١٠٠ ـ ١٠١ / ٣٢٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل المسّ ، ح ٣.
(٢) البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٢٩.
(٣) حكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٢٩ ، وانظر : التهذيب ١ : ٤٣٠ ، ذيل ح ١٣٧٣ ، والاستبصار ١ : ١٠١ ، ذيل ح ٣٢٨.
(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٣٠ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ٩١.
ببعض ـ التي ورد في جملة منها التعبير بأنّ عليه الغسل ، وفي بعضها التصريح بوجوب الغسل عليه ، وفي جملة منها التعبير بصيغة الأمر ، وفي بعضها بالجملة الخبريّة ـ مع اعتضادها بفهم الأصحاب وعملهم ، فكيف يمكن استفادة حكم شرعيّ وجوبيّ أو تحريميّ من الأدلّة السمعيّة!؟ فلا مجال للمناقشة في دلالتها على المدّعي.
نعم ، ربما يخدش فيها ـ انتصارا للسيّد القائل باستحبابه (١) ـ بمعارضتها ببعض الأخبار التي يدّعى ظهوره في عدم الوجوب ، وكونه من الأغسال المستحبّة : كبعض الأخبار الواردة في بيان عدد الأغسال ، المتقدّمة في محلّها من عدّه في طيّ الأغسال المسنونة مع ما في بعضها من التصريح بأنّ الفرض هو غسل الجنابة ، الدالّ على أنّ ما عداه من السنن.
وفي صحيحة الحلبي الأمر به وبما هو معلوم الندبيّة ، قال : «اغتسل يوم الأضحى والفطر والجمعة ، وإذا غسّلت ميّتا» (٢) الحديث.
ورواية الحسن (٣) بن عبيد قال : كتبت إلى الصادق عليهالسلام : هل اغتسل أمير المؤمنين عليهالسلام حين غسّل رسول الله صلىاللهعليهوآله عند موته؟ فأجابه «النّبيّ صلىاللهعليهوآله
__________________
(١) تقدّم تخريج قوله في ص ١٠٤ ، الهامش (١).
(٢) التهذيب ١ : ١٠٥ / ٢٧٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأغسال المسنونة ، ح ٩.
(٣) في الموضع الثاني من التهذيب : «الحسين». وفي الموضع الأوّل منه وكذا في الاستبصار عن القاسم الصيقل.
طاهر مطهّر ، ولكن فعل أمير المؤمنين عليهالسلام وجرت به السنّة» (١).
ورواية عمرو بن خالد عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهالسلام ، قال : «الغسل من سبعة : من الجنابة وهو واجب ، ومن غسل الميّت ، وإن تطهّرت أجزأك» وذكر غير ذلك (٢).
والتوقيع المرويّ عن الاحتجاج في جواب الحميري حيث كتب إلى القائم عجّل الله فرجه : روي لنا عن العالم أنّه سئل عن إمام قوم صلّى بهم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ فقال : «يؤخّر ويتقدّم بعضهم ويتمّ صلاتهم ، ويغتسل من مسّه».
التوقيع : «ليس على من نحّاه إلّا غسل اليد ، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمّم صلاته مع القوم» (٣).
وفي الجميع ما لا يخفى.
أمّا التوقيع : فمحمول على ما إذا مسّه قبل أن يبرد الميّت ، كما هو الغالب في مفروض السائل.
ويشهد له ما روي عنه أيضا ، قال : وكتب إليه : وروي عن العالم أنّ «من مسّ ميّتا بحرارته غسل يده ، ومن مسّه وقد برد فعليه الغسل» وهذا الميّت في هذه الحال لا يكون إلّا بحرارته ، فالعمل في ذلك على ما هو؟ ولعلّه ينجّسه بثيابه
__________________
(١) التهذيب ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨ / ٢٨١ ، و ٤٦٩ / ١٥٤١ ، الاستبصار ١ : ٩٩ ـ ١٠٠ / ٣٢٣ بتفاوت فيما عدا الموضع الأوّل من التهذيب ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٧.
(٢) التهذيب ١ : ٤٦٤ / ١٥١٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب غسل المسّ ، ح ٨.
(٣) الاحتجاج : ٤٨٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل المسّ ، ح ٤.
ولا يمسّه ، فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع : «إذا مسّه على هذه الحال لم يكن عليه إلّا غسل يده» (١).
وأمّا رواية عمرو بن خالد : فهي مع ضعف سندها لا تخلو عن تشابه.
وقد حمل الشيخ قوله عليهالسلام : «وإن تطهّرت أجزأك» على التقيّة ، لموافقته للعامّة (٢).
قال في الحدائق : ويعضده أنّ رواة الخبر من العامّة والزيديّة (٣). انتهى.
ويحتمل أن يكون المقصود به : إن اغتسلت أجزأك عن الوضوء.
وأمّا مكاتبة الحسن : فعلى تقدير تسليم ظهورها في الاستحباب يحتمل اختصاصها بالمعصومين المنزّهين عن الرجس ، مع أنّ ظهورها فيه ممنوع ، فإنّ المتبادر من قوله عليهالسلام : «وجرت به السنّة» لو لم تكن إرادة ثبوته في الشرع على وجه اللزوم فلا أقلّ من كونه أعمّ من ذلك.
نعم ، قد يتراءى من الرواية استتباع جريان السنّة به لفعل أمير المؤمنين عليهالسلام ، فلا يناسبه الوجوب ، إذا لو كان واجبا لثبت في أصل الشرع ، لكن أمير المؤمنين عليهالسلام لم يكن يشرّع في الدين ، فالمقصود بالرواية ـ بحسب الظاهر ـ بيان عدم كون الاغتسال من مسّه صلىاللهعليهوآله لأجل الاستقذار ، بل لمتابعة السنّة المتّبعة ، فقوله عليهالسلام : «وجرت به السّنة» في قوّة التعليل لفعله عليهالسلام ، لا أنّه تفريع عليه.
وأمّا ذكره مع الأغسال المسنونة وجعله معها في حيّز الطلب : فلا يدلّ
__________________
(١) الاحتجاج : ٤٨٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل المسّ ، ح ٥.
(٢) التهذيب ١ : ٤٦٤ ، ذيل ح ١٥١٧.
(٣) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.
على الاستحباب ، وغايته الإشعار بذلك ، فلا اعتداد به في مقابل ما عرفت.
وأمّا ما في غير واحد من الروايات من تخصيص الفرض بغسل الجنابة وعدّ سائر الأغسال ـ التي منها غسل المسّ ـ من السنن : فلا يدلّ على الاستحباب ، كما لا يخفى على المتأمّل في تلك الروايات.
ولا يبعد أن يكون المراد بالفرض فيها ما ثبت وجوبه بالكتاب.
وكيف كان فلا ينهض مثل هذه الروايات شاهدا لصرف غيرها من الأدلّة.
ثمّ إنّ المنساق إلى الذهن ـ بواسطة المناسبات المغروسة فيه ـ من الأمر بالغسل عند مسّ الميّت كون مسّه كالجنابة والحيض من الأحداث المقتضية للتطهّر منه ، كما أنّ المتبادر من الأمر بغسل الثوب أو البدن عند إصابة شيء كون ذلك الشيء قذرا شرعا ، فيكون المقصود بالغسل التطهّر منه ، لا التعبّد المحض ، كما يشهد لذلك التعليل بـ «الطهارة لما أصابه من نضح الميّت» في بعض الروايات المتقدّمة (١) ، فلا يجب إلّا إذا وجب تحصيل الطهارة لغاياته الواجبة من صلاة ونحوها.
هذا ، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه.
وإن أبيت إلّا عن ظهور الأخبار في وجوبه مطلقا ولو عند عدم وجوب فعل الصلاة ونحوها ، فنقول : كفى صارفا لها عن ظاهرها عدم الخلاف فيه ، بل الإجماع عليه ، كما ادّعاه بعض (٢) ، فيكون إطلاق الأمر بغسل مسّ الميّت كإطلاق
__________________
(١) في ص ١٠٦ و ١٠٧.
(٢) أنظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٧٢.
الأمر بغسل الثوب عند إصابة النجاسات في أغلب أخبارها بلحاظ وجوبه المقدّمي.
وممّا يؤيّد كونه حدثا مانعا من الصلاة ـ مضافا إلى ما عرفت ـ ما عن الفقه الرضوي أنّه عليهالسلام قال ـ بعد ذكر غسل مسّ الميّت ـ : «وإن نسيت الغسل فذكرته بعد ما صلّيت فاغتسل وأعد صلاتك» (١).
وهل ينتقض الوضوء بالمسّ؟ فلو مسّ الميّت بعد أن كان متطهّرا ، فعليه إعادة الوضوء أيضا لو لم نقل بالاجتزاء ، بكلّ غسل عن الوضوء ، فيه وجهان أحوطهما ذلك ، والله العالم.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى ـ كما عن جماعة (٢) التصريح به ـ عدم الفرق في وجوب الغسل بين كون الممسوس مسلما أو كافرا.
وما احتمله في محكيّ المنتهى والتحرير ـ من اختصاصه بالأوّل ، نظرا إلى اقتضاء تقييده في الفتاوى والنصوص بما قبل الغسل كون المفروض موضوعا فيها هو الميّت الذي يطهّره الغسل ، وعلّله أيضا : بأنّ مسّ الكافر لا يزيد عن مسّ البهيمة والكلب (٣) ـ ضعيف في الغاية ، فإنّ تعليله الذي ذكره أخيرا مع كونه قياسا
__________________
(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٣٩ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليهالسلام : ١٧٥.
(٢) الحاكي عنهم هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٣٩ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ١٣٥ ، الفرع «ه» من المسألة ٢٦٩ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢٢ ، والدروس ١ : ١١٧ ، والبيان : ٨٣ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٦٣.
(٣) حكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٣٩ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ١٢٨ ، وتحرير الأحكام ١ : ٢١.
يتوجّه عليه : أنّ إيجاب الغسل بمسّه لو لم يكن موجبا لنقصه فلا يوجب مزيّته على أخويه حتّى يتوهّم اختصاصه بالمؤمن ، فلعلّ ثبوته في الكافر أولى.
وأمّا التقييد الواقع في النصوص والفتاوى فلا يفهم منه إلّا قصر الحكم ، أي انتفاء الوجوب بمسّ الميّت من الإنسان بعد أن غسّل غسلا صحيحا ، لا قصر الموضوع وتخصيصه بمن يطهّره الغسل ، ولذا لم يفهمه منها أحد.
هذا ، مع خلوّ معظم الأخبار عن هذا القيد ، وإنّما قيّدناها بقرينة منفصلة دالّة على نفي البأس عن مسّ الميّت بعد تغسيله ، وهي لا تقتضي إلّا صرف الحكم الوارد في الأخبار المطلقة عن خصوص هذا الفرض.
نعم ، مورد أكثر أخبار الباب هو مسّ الميّت الذي يراد تغسيله ، فلا يكون إلّا موتى المسلمين ، لكنّ الأحكام الشرعيّة لا تتخصّص بمواردها ، مع أنّ فيما عداها ممّا يظهر منه الإطلاق من الأخبار المتقدّمة غنى وكفاية.
مثل : خبر (١) عليّ بن جعفر ، وصحيحة (٢) محمّد بن مسلم ، الآمرة بغسل من يغمّض الميّت بعد برده.
ورواية (٣) عبد الله بن سنان ، الدالّة على وجوب الغسل على من مسّ الميّت وقبّله بعد برده.
وما رواه الحميري ـ فيما كتبه إلى الصاحب عجّل الله فرجه ـ عن العالم من
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ١٠٧ ، الهامش (٣).
(٢) تقدّم تخريجها في ص ١٠٤ ، الهامش (٣).
(٣) تقدّم تخريجها في ص ١٠٤ ، الهامش (٥).
أنّ «من مسّ ميّتا بحرارته غسل يده ، ومن مسّه وقد برد فعليه الغسل» (١).
وكذلك لا فرق ـ بمقتضى الإطلاقات ـ بين المسّ بأيّ جزء من أجزاء البدن لأيّ جزء من أجزاء الممسوس وإن لم تكن ممّا تحلّه الحياة منهما بعد صدق اسم المسّ عليه وعدم انصرافه عنه.
نعم ، الظاهر عدم الصدق في الشعر المسترسل ماسّا كان أم ممسوسا ، كأطراف اللحية وما يسترسل من الرأس ، بخلاف أصولها الساترة للبشرة ، فإنّه ربما يصدق على مسّها مسّ الميّت ، كما ظهر لك تحقيقه في مبحث مسح الرأس في الوضوء.
وكيف كان فما حكي عن بعض ـ من اعتبار المسّ بما تحلّه الحياة لما تحلّه الحياة في وجوب الغسل (٢) ـ ضعيف ، لعدم إناطة صدق المسّ عرفا بكون الماسّ أو الممسوس ممّا حلّ فيه الحياة ، ولذا لا يشكّ أحد في تحقّق مسّ الميّت بإمرار اليد على رأسه مع مستوريّة بشرته بشعره وعدم وقوع المسّ إلّا على الشعر.
نعم ، ربما يشكّ في صدق اسم المسّ أو انصراف إطلاقه بالنسبة إلى بعض الأفراد ، كما إذا لاقى طرف ظفره ـ مثلا ـ جسد الميّت أو عكسه ، لا لكون الماسّ أو الممسوس ممّا لا تحلّه الحياة ، بل لعدم الاعتداد عرفا بمثل هذه الملاقاة ، أو كون مفهوم المسّ لديهم أخصّ من مطلق الإصابة ، فإنّه ربما يشكّ أيضا في الصدق أو الانصراف فيما لو لاقاه بطرف إصبعه ملاقاة خفيفة ، وإن كان الظاهر تحقّق الصدق
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ١١١ ، الهامش (١).
(٢) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٤٣ عن روض الجنان : ١١٥.
حقيقة في جميع الصور ، وإن أمكن دعوى الانصراف عنها.
وكيف كان فيرجع عند الشكّ في الصدق إلى استصحاب الطهارة ، وعدم وجوب الغسل.
وأمّا عند الشكّ في الانصراف بعد تحقّق صدق الاسم ففي رفع اليد عن أصالة الإطلاق والرجوع إلى الأصول العمليّة إشكال ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.
تنبيه : حكي عن جماعة (١) التصريح بعدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد.
وربما استظهر ذلك من المتن حيث قيّده بما قبل تطهيره ، فإنّ مقتضاه خروج الشهيد الذي لا يغسّل ولا يتنجّس بالموت على ما صرّح به بعض (٢).
لكن في الاستظهار نظر ، والحكم موقع تردّد ، فإنّ مقتضى إطلاقات جملة من الأخبار ثبوته.
ودعوى شهادة سياق الأخبار بإرادة غيره ممّن يجب غسله غير مسموعة.
لكن يبعّده خلوّ الأخبار الحاكية للغزوات الصادرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والوصيّ عليهالسلام عن أمر من يباشر دفن القتلى بغسل المسّ مع حصول المسّ غالبا ، بل ربما يستشعر ممّا ورد في باب الشهيد كونه بحكم المغسل.
لكن رفع اليد بمثل هذه الأمور عمّا تقتضيه الإطلاقات مشكل ، فوجوبه لو لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.
__________________
(١) الحاكي عنهم هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٣٧ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٤٨ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢٢ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٢٨.
(٢) صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٠٧.
نعم ، الظاهر عدم وجوبه بمسّ المقتول قودا أو حدّا إذا اغتسل عند قتله ، كما عرفت في محلّه من أنّ الظاهر كون الغسل المتقدّم بمنزلة تغسيله بعد الموت ، كما أنّ المتّجه عدم وجوبه بمسّ الميّت الذي يمّموه بدلا من غسله لدى الضرورة ، لتناثر جلده ونحوه ، وكذا بمسّ الميّت المسلم الذي غسّله الكافر عند فقد المماثل والمحرم ، وكذا الميّت الذي غسّل بلا مزج الخليطين ، لتعذّره ، أو اقتصر فيه على الأقلّ من الغسلات الثلاث ، لإعواز الماء ونحوه ، لما عرفته في محالّها.
لكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه في شيء من الصور.
تكملة : لا يسقط غسل المسّ ولا يطهر شيء من بدن الميّت ممّا حلّ فيه الروح إلّا بعد إكمال غسله ، فلو مسّ رأسه ـ مثلا ـ برطوبة مسرية بعد أن كما غسل رأسه ولم يكمل غسل سائر الجسد ، فعليه الغسل وغسل يده ، لصدق وقوع المسّ قبل الغسل ، فإنّ بعض الغسل ليس غسلا ، بل أنيط نفي البأس عن مسّه ـ في بعض (١) الأخبار المتقدّمة ـ بوقوعه بعد الغسل.
فما عن بعض ـ من القول بطهارة العضو الذي تحقّق الفراغ منه ، وعدم وجوب الغسل بمسّه (٢) ـ ضعيف.
وأضعف منه ما عن بعض آخر من التفصيل بين الحكمين ، فالتزم بطهارة
__________________
(١) وهي رواية عبد الله بن سنان ، الأولى المتقدّمة في ص ١٠٤.
(٢) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥١٧ عن العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ١٣٥ ، الفرع «د» من المسألة ٢٦٩ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢٢ ، ونهاية الإحكام ١ : ١٧٤ ، والشهيد في الدروس ١ : ١١٧ ، والبيان : ٨٢ ، وغيرهما.
العضو وعدم سقوط غسل المسّ ، لزعمه اقتضاء القواعد الفقهيّة زوال النجاسة بمجرّد انفصال الغسالة عن العضو ، وعدم توقّف طهارة عضو على غسل عضو آخر (١).
وفيه : أنّ هذا إنّما هو في المتنجّسات التي يطهّرها الغسل ـ بالفتح ـ لا الميّت الذي هو نجس العين ، وقد جعل الشارع الغسل ـ الذي هو من العبادات ـ مطهّرا له ، كالإسلام للكافر ، كيف! ولو كان جري الماء عليه من حيث هو موجبا لطهارته كسائر المتنجّسات ، لم يكن ذلك مقتضيا إلّا لطهارة ظاهره الذي جرى عليه الماء دون ما في أحشائه ، فحكم الميّت أمر تعبّديّ مخصوص به لا يشابه غيره حتّى يقاس عليه ، والله العالم.
(وكذا) يجب الغسل (إن مسّ قطعة) مبانة (منه) أو من حيّ بعد البرد وقبل التطهير إن قلنا بقبولها له ، كما تقدّم (٢) الكلام فيه في محلّه ، وكان (فيها عظم) على المشهور كما في الجواهر (٣) وغيره (٤) ، بل عن صريح الخلاف وظاهر غير واحد من الأصحاب دعوى الإجماع عليه (٥).
واستدلّ له : بما رواه المشايخ الثلاثة عن أيّوب بن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة ، فإذا مسّه إنسان
__________________
(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٣٧ عن البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.
(٢) في ج ٥ ، ص ١٤٨.
(٣) جواهر الكلام ٥ : ٣٤٠.
(٤) جامع المقاصد ١ : ٤٥٩ ، الحدائق الناضرة ٣ : ٣٤١.
(٥) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٤٠ ، وانظر : الخلاف ١ : ٧٠١ ، المسألة ٤٩٠.
فكلّ ما فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل ، فإنّ لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» (١) ويستفاد منه حكم المبانة من الميّت بالفحوى وتنقيح المناط بشهادة العرف ، مع إمكان أن يدّعى صدق الميتة عليها حقيقة ، الموجب لاندراجها في الموضوع الذي تفرّع عليه الحكم.
مضافا إلى عدم قائل ـ على الظاهر ـ بوجوبه في المبانة من الحيّ دون الميّت ، وإن احتمل وجوده في عكسه ، كما ربما يستشعر من المتن.
ويشهد له أيضا ما عن الفقه الرضوي من التصريح به ، قال : «فإن مسست شيئا من جسد أكيل السبع فعليك الغسل إن كان فيما مسست عظم ، وما لم يكن فيه عظم فلا غسل في مسّه» (٢).
خلافا للمصنّف في محكيّ المعتبر حيث لم يوجب الغسل بمسّ القطعة المبانة مطلقا ، فإنّه ـ بعد أن استدلّ له بالرواية المتقدّمة ـ قال : والذي أراه التوقّف في ذلك ، فإنّ الرواية مقطوعة ، والعمل بها قليل ، ودعوى الشيخ في الخلاف الإجماع لم يثبت ، فإذن الأصل عدم الوجوب ، وإن قلنا بالاستحباب ، كان تفصّيا من اطراح قول الشيخ والرواية (٣) انتهى
__________________
(١) الكافي ٣ : ٢١٢ / ٤ ، التهذيب ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ / ١٣٦٩ ، الإستبصار ١ : ١٠٠ / ٣٢٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل المسّ ، ح ١ ، وأورده الصدوق في الفقيه ١ : ٨٧ من دون إسناد.
(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٤١ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليهالسلام : ١٧٤.
(٣) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٥٢.
وفي المدارك ـ بعد نقل ما سمعته من المعتبر ـ قال : وهو في محلّه (١).
أقول : وهو كذلك لو أغمض عن الرواية ، لكنّ الظاهر كفاية ما عرفت في جبرها ، فالقول بالوجوب ـ كما هو المشهور ـ لا يخلو عن قوّة.
نعم ، لا يبعد دعوى انصراف الرواية بل وإطلاق الفتاوى عن مثل السنّ المشتمل على جزء يسير من اللحم ، كما صرّح به بعض (٢).
وربما استدلّ له : بأمور أيضا مرجعها إلى ما ذكره الشهيد في محكيّ الذكرى تعريضا على ما تقدّم من المعتبر : بأنّ هذه القطعة جزء من جملة يجب الغسل بمسّها ، فكلّ دليل دلّ على وجوب الغسل بمسّ الميّت فهو دالّ عليها ، وبأنّ الغسل يجب بمسّها متّصلة ، فلا يسقط بالانفصال ، وبأنّه يلزم عدم الغسل لو مسّ جميع الميّت متفرّقا (٣). انتهى.
وفي الجميع نظر.
أمّا الأوّل : فيرد عليه : أنّه لا يصدق مسّ الميّت عرفا على مسّ عضوه المنفصل عنه حتّى يعمّه إطلاق ما دلّ على وجوب الغسل بمسّ الميّت ، بل ربما يتأمّل في بعض موارد الصدق أيضا في استفادة حكمه من المطلقات ، كما لو مسّ جسده الباقي بعد قطع رأسه وأطرافه ، لإمكان دعوى انصراف الإطلاق عنه ، وإن كانت الدعوى غير مسموعة خصوصا بالنظر إلى بعض الأخبار المتقدّمة (٤) التي
__________________
(١) مدارك الأحكام ٢ : ٢٨٠.
(٢) الشيخ جعفر النجفي في كشف الغطاء : ١٥٩.
(٣) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٨٠ ، وانظر : الذكرى ٢ : ٩٧.
(٤) في ص ١٠٤.