الكشف والبيان - ج ٤

أبي محمّد بن عاشور

الكشف والبيان - ج ٤

المؤلف:

أبي محمّد بن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

يعنى بقوله : عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره ، ثمّ يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفيا كقولهم في أمثالهم : عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة.

(عَلى أَنَّهُمَا) يعني الوصيين (اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي استوجبا إثما بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما (فَآخَرانِ) من أولياء الميت (يَقُومانِ مَقامَهُما) يعني مقام الوصيين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَ).

قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأبي بن كعب أي وجب (عَلَيْهِمُ) الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال : (الْأَوْلَيانِ) رجع إلى قوله : فآخران الأوليان ولم يرتفع بالاستحقاق.

وقرأ الباقون : بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت ، استحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ).

وقال صخر الغي :

متى ما تنكروها تعرفوها

على أقطارها علق نفيث (١)

(الْأَوْلَيانِ) بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين.

وقرأ الحسن : الأولون ، وقرأ الآخرون (الْأَوْلَيانِ) على لغت الآخرين وإنما جاز ذلك ، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا) أي والله لشهادتنا (أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) يعني يميننا أحق من يمينهما. نظيره قوله (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) (٢) في قصة اللعان أراد الأيمان ، وهذا كقول القائل : أشهد بالله وله أقسم (وَمَا اعْتَدَيْنا) في يميننا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا بالله بعد العصر مرّة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت ، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : صدق الله عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى الله وأستغفره.

وإنما انتقل اليمين إلى الأوليان ، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه ، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة ، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقرّ المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي ، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي.

روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١٦٣ ، ولسان العرب : ٢ / ١٩٥.

(٢) سورة النور : ٦.

١٢١

الداري ، قال : بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذبا وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة (١) فذلك قوله (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا ردّ اليمين وإلزامهم الحق.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) الآية. واختلفوا في حكم الآية. فقال بعضهم : هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس. وقال الآخرون : هي محكمة وهي الصواب (يَوْمَ) أي اذكروا واحذروا يوم (يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ) لهم (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي (قالُوا) أي فيقولون (لا عِلْمَ لَنا) قال ابن عباس : (لا عِلْمَ لَنا) إلّا علم أنت أعلم به منا.

وقال ابن جريح : معنى قوله (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا : (لا عِلْمَ لَنا).

الحسن ومجاهد ، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يحتسبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ اذْكُرْ‌ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُ‌وحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَ‌اةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ‌ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرً‌ا بِإِذْنِي وَتُبْرِ‌ئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَ‌صَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِ‌جُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ‌ مُّبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِ‌يِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَ‌سُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قَالَ الْحَوَارِ‌يُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَ‌بُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١١٢) قَالُوا نُرِ‌يدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ اللَّهُمَّ رَ‌بَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِ‌نَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْ‌زُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ‌ الرَّ‌ازِقِينَ (١١٤) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ‌ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٧ / ١٥٦.

١٢٢

مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْ‌تَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَ‌بِّي وَرَ‌بَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّ‌قِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ‌ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِ‌ي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّ‌ضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَ‌ضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ (١٢٠)

قوله (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) يعني حين قال الله يا عيسى بن مريم ، محل عيسى نصب لأنه نداء المنصوب إذا جعلته نداء واحدا : فإن شئت جعلته ندائين فيكون عيسى في محل الرفع لأنه نداء مفرد وابن في موضع النصب لأنه نداء مضاف ، وتقدير الكلام يا عيسى يا ابن مريم. نظيره قوله :

يا حكم بن المنذر بن الجارود

أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود (١)

ذلك في حكم الرفع والنصب ، وليس بن المنذر عن النصب (اذْكُرْ نِعْمَتِي) قال الحسن : ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله نعمتي نعمي لفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٢) أراد نعم الله لأن العدد لا ينفع على الواحد (عَلَيْكَ) يا عيسى (وَعَلى والِدَتِكَ) مريم ، ثم ذكر النعم (إِذْ أَيَّدْتُكَ) قوّيتك وأعنتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني جبرئيل (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) صبيا (وَكَهْلاً) نبيا (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) قال ابن عباس : أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم (رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (٣).

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) يعني الخط (وَالْحِكْمَةَ) يعني العلم والقيم (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) وتجعل وتصوّر وتقدر إلى قوله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٤) أي المصورين من الطين (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كصورة الطير.

(بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) حيا يطير بإذني (وَتُبْرِئُ) تصح وتشفي (الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء (بِإِذْنِي) فأحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية (وَإِذْ كَفَفْتُ) منعت وصرفت (بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني اليهود (عَنْكَ) حين همّوا بقتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يعني الدلالات والمعجزات التي ذكرتها (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا) ما هذا (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعني ما جاءتهم من البينات ومن قال ساحر بالألف فإنه راجع إلى عيسى عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٣ / ٤٤٨.

(٢) سورة إبراهيم : ٣٤.

(٣) زاد المسير لابن الجوزي : ١ / ٣٣٢.

(٤) سورة المؤمنون : ١٤.

١٢٣

محمد بن عبد الله بن حمدون ، مكي بن عبدان ، أبو الأزهر عن أسباط عن مجاهد بن عبد الله ابن عمير قال : لما قال الله لعيسى (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد ولم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أدركه الليل بات.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم الوحي. والوحي على أقسام ، وحي بمعنى إرسال جبرئيل إلى الرسول ، ووحي بمعنى الإلهام كالإيحاء إلى أم موسى والنحل ووحي بمعنى الأحلام في حال اليقظة في المنام.

قال أبو عبيدة : أوحى لها : أي إليها ، وقال الشاعر :

ومن لها القرار فاستقرت

وشدها بالراسيات الثبت (١)

يعني أمرت (وإلى) صلة يقال : أوحى ووحى. قال الله (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٢).

قال العجاج :

أوحى لها القرار فاستقرّت

. أي أمرها بالقرار فقرت. والحواريون خواص أصحاب عيسى.

قال الحسن : كانوا قصارين. وقال مجاهد : كانوا صيادين.

وقال السدي : كانوا ملاحين (٣).

وقال قتادة : الحواريون الوزراء.

وقال عكرمة : هم الأصفياء. وكانوا اثني عشر رجلا ، بطرس ويعقوب ويحنس واندرواسى وخيلبس وأبرثلما ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلقيا ، وتداوسيس ، وفتاتيا ، وتودوس (٤) ، (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) عيسى (قالُوا) حين لقيتهم ورفقتهم (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ).

قرأ علي وعائشة وابن عباس وابن جبير ومجاهد : هل تستطيع بالتاء ، ربَّك بنصب الباء ، وهو اختيار الكسائي وأبي عبيد على معنى هل تستطيع أن تدعو ربّك كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٥) وقالوا : لأن الحواريين لم يكونوا شاكّين في قدرة الله تعالى. وقرأ الباقون بالياء قيل : (يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) برفع الباء فقالوا : إنهم لم يشكوا في قدرة الله تعالى وإنما معناه هل ينزل أم لا كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنّه يستطيع وإنّما يريد هل يفعل أم لا ،

__________________

(١) لسان العرب : ١٥ / ٣٨٠ وتفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤٩.

(٢) سورة الزلزلة : ٥.

(٣) راجع تفسير القرطبي : ٤ / ٩٧.

(٤) تفسير الطبري : ٦ / ٢٠.

(٥) سورة يوسف : ٨٢.

١٢٤

وأجراه بعضهم على الظاهر ، فقالوا : غلط قوم وكانوا مشوا ، فقال لهم عيسى عند الغلط استعظاما لقولهم : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ... اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي أن تشكوا في قدرة الله تعالى أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان ولستم بمؤمنين والمائدة هي الخوان الذي عليه الطعام وهي فاعلة إذا أعطاه وأطعمه ، كقولهم : ماد يميد ، وغار يغير ، وامتاد افتعل ومنه قول روبة :

تهدى رؤس المترفين الأنداد

إلى أمير المؤمنين الممتاد

أي المستعطي.

قال رؤبة : والمائدة هي المطعمة المعطية الآكلين الطعام وسمي الطعام أيضا مائدة على الخوان لأنه يؤكل على المائدة كقولهم للمطر سماء ، وللشحم ثرى.

وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد الآكلون أي تميل ومنه قوله (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (١).

قال الشاعر :

وأقلقني قتل الكناني بعده

وكادت بي الأرض الفضاء تميد (٢)

فقال أهل البصرة : هي فاعلة بمعنى المفعول أي تميد بالآكلين إليها ، كقوله (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي مرضية ، قال عيسى مجيبا لهم (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فلا تشكوا في قدرته. وقيل : (اتَّقُوا اللهَ) أن تسألوه شيئا لم يسأله الأمم قبلكم (قالُوا) إنما سألنا لأنا (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) نستيقن قدرته (وَتَطْمَئِنَ) تسكن (قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) بأنك رسول الله.

(وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) لله بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة ، وقيل : (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) لك عند بني إسرائيل ، إذا رجعنا إليهم ، (قالَ عِيسَى) عند ذلك (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ) حال ردّ إلى الاستقبال أي كائنة وذلك كقوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) (٣) يعني يصدقني في قراءة من رفع.

وقرأ عبد الله والأعمش : تكن لنا بالجزم على جواب الدعاء.

(عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي عائدا من علينا وحجة وبرهانا والعيد اسم لما أعتد به وعاد إليك من كل شيء ومنه قيل : أيام الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة.

ويقال : لطيف الخيال عيد.

__________________

(١) سورة النحل : ١٥.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٦٧.

(٣) سورة مريم : ٦.

١٢٥

قال الشاعر :

يا عيد مالك من شوق وإيراق

ومرّ طيف على الأهوال طراق (١)

فقال آخر :

إعتاد قلبك من جبينك عود

شق عناك فأنت عنه تذود

وأنشد الفراء :

فوا كبدي من لاعج الحب والهوى

إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها (٢)

وأصله عود بالواو ولأنه من عاد يعود إذا رجع فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها مثل النيران والميقات والميعاد.

قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا.

وقال سفيان : نصلي فيه.

وقال الخليل بن أحمد : العيد كل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه.

وقال ابن الأنصاري : سمي العيد عيدا للعود من الترح إلى الفرح فهو يوم سرور للخلق كلهم ألا ترى أن المسجونين لا يطالبون ولا يعاقبون ولا تصطاد فيه الوحوش والطيور ولا ينفذ الصبيان إلى المكتب (٣) ، وقيل : سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إختلاف ملابسهم وأحوالهم وأفعالهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يظلم ومنهم من يرحم ، وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف فاضل تشبيها بالعيد وهو فحل نجيب كريم ومشهور في العرب وينسبون إليه فيقال : إبل عيدية (٤). قال الراعي :

عيد به طويت على زفراتها

طي القناطر قد نزلن نزولا (٥)

وقوله (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) يعني قبل زماننا ولمن يجيء بعدنا.

وقرأ زيد بن ثابت : لأولنا وآخرنا على الجميع.

وقال ابن عباس : يعني نأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.

__________________

(١) لسان العرب : ٣ / ٣١٨.

(٢) كتاب العين : ١ / وفيه : نفسي ، بدل : قلبي.

(٣) راجع روضة الواعظين للفتال النيشابوري : ٣٥٢.

(٤) راجع تفسير القرطبي : ٦ / ٣٦٨.

(٥) لسان العرب : ٤ / ٣٢٥ ، وفيه : حوزيّة طويت.

١٢٦

(وَآيَةً مِنْكَ) دلالة وحجة (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللهُ) مجيبا لعيسى (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) يعني المائدة.

وقرأ أهل الشام والمدينة ، وقتادة وعاصم : (مُنَزِّلُها) في التشديد لأنها نزلت وقرأت والتفعل يدل في الكثير مرة بعد مرة لقوله (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً).

وقرأ الباقون بالتخفيف لقوله : (أَنْزِلْ عَلَيْنا ... فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير.

وقال عبد الله بن عمران : أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون.

واختلف العلماء في المائدة هل نزلت عليهم أم لا؟

فقال مجاهد : ما نزلت المائدة وهذا مثل ضربه الله.

وقال الحسن : والله ما نزلت مائدة إن القوم لما سمعوا الشرط وقيل لهم (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الآية استغفروا وقالوا : لا نريدها ولا حاجة فيها فلم ينزل ، والصواب إنها نزلت لقوله : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ولا يقع في خبره الخلف ، وتواترت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والتابعين وغيرهم من علماء الدين في نزولها ، قال كعب : نزلت يوم الأحد ، لذلك اتخذه النصارى عيدا.

واختلفوا في صفتها وكيف نزولها وما عليها.

فروى قتادة عن جلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت المائدة خبزا ولحما وذلك أنهم سألوا عيسى طعاما يأكلون منه لا ينفد ، قال ، فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا أو تخبوا أو ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم ، قال : فما مضى يومهم حتى خبوا ورفعوا وخانوا».

وقال إسحاق بن عبد الله : إن بعضهم سرق منها ، وقال لعلها لا تنزل أبدا فرفعت ومسخوا قردة وخنازير.

وقال ابن عباس : إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوما فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاما ولأصبحنا من وجعنا ، فادع لنا الله (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) فنزل الملائكة بمائدة يحملونها ، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.

وروى عطاء بن سائب عن باذان وميسرة قالا : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلّا اللحم.

١٢٧

وقال ابن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلّا الخبز واللحم.

قال عطاء : نزل عليها كل شيء إلّا السمك واللحم.

قال العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء.

وقال عمار وقتادة : كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة.

وقال وهب بن منبه : أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا ، فقيل لوهب : ما كان ذلك يغني عنهم ، قال : لا شيء ولكن الله أضعف لهم البركة ، فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل.

وقال الكلبي ومقاتل : استجاب الله لعيسى عليه‌السلام فقال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلا ، ولعنة لمن بعدهم ، قالوا : قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين ، فقال : هل لكم طعام؟ قال : نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة ، فقال : عليّ بها فقطعهن عيسى قطعا صغارا ، ثم قال : اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقا كل رفقة عشرة ، ثم قام عيسى ودعا الله فاستجاب الله له ونزل فيها البركة فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا ، ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال : كلوا بسم الله فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء الله وفضل خمس الذيل ، والناس خمسة آلاف ونيف.

وقال الناس جميعا : نشهد إنك عبده ورسوله ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى عليه‌السلام فأنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم : ويحكم إنما سحر أعينكم. فمن أراد به الخير بثّته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة فمكثوا بذلك أيام ثم هلكوا ولم تبق ولم يأكلوا ولم يشربوا فكذلك كل ممسوخ.

وقال كعب الأحبار : نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلّا اللحم.

وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشية حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل.

فقال يمان بن رئاب : كانوا يأكلون منها ما شاءوا.

وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي إنه قال : والله ما اتبع عيسى عليه‌السلام شيئا من المآذي قط ولا انتهر شيئا ولا قهقه ضحكا ولا ذبّ ذبايا عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه. ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى ،

١٢٨

وقال : (اللهُمَ ... أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) الآية (وَارْزُقْنا) عليها طعاما نأكله (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فنزل الله سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها [وهي تجيء مرتفعة] حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة.

واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه ، فقال عيسى : أيكم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها؟ فقال شمعون. رئيس الحواريين ـ : أنت بذلك أولى منا ، فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك فيها سيل سيلا من الدسم وعند رأسها ملح ويمتد ذنبها خل وجهها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد.

فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء فعله الله بالقدرة العالية فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة.

وقال محمد بن كعب : تعلم ما أريد فلا أعلم ما تريد.

وقال عبد العزيز بن يحيى : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك لأن السرّ هو موضعه الأنفس.

قال الزجاج : يعلم جميع ما أعلم ولا أعلم ما يعلم من النفس عبارة عن حملة الشيء وحقيقته وذاته ولا أنه (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ما كان وما يكون (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحّدوه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أقمت فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) قبضتني إليك.

قال الحسن : الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أوجه ، وفاة الموت وذلك قوله (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١) يعني وجعل نقصان أجلها وفاة النوم ، وذلك قوله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٢) يعني ينيمكم ، ووفاة بالرفع كقوله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) (٣).

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وقرأ الحسن : فإنهم عبيدك وإن يتوبوا فيغفر لهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

__________________

(١) سورة الزمر : ٤٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦٠.

(٣) سورة آل عمران : ٥٥.

١٢٩

وقال السدي : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) وتميتهم بنصرانيتهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام (فَإِنَّكَ) الرب (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في الملك والنقمة ، الحكيم في قضائك.

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (١) في الآخرة.

قال قتادة : متكلمان خطها يوم القيامة وهو ما قص الله عليكم وعدو الله إبليس وهو قوله (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) فصدهم عن ذلك يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه يومئذ ، وأما عيسى فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه.

وقال عطاء : هذا يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة ليس فيها عمل إنما فيها الثواب والجزاء ، و (يَوْمُ) رفع على خبر هذا ، ونصبه نافع على الحرف يعني إنما تكون هذه الأشياء في يوم (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ، وقرأ الحسن : هذا يومٌ بالتنوين ، ثم بيّن لهم ثوابها فقال (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فازوا بالجنة ونجوا مما خافوا ، ثم عظّم نفسه عمّا قالت النصارى من بهتان بأن معه إلها فقال (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

__________________

(١) سورة المائدة : ١١٩.

١٣٠

سورة الأنعام

مكية كلها غير ست آيات منها نزلت في المدينة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١) إلى آخر ثلاث آيات وقوله (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) عليكم نبأكم إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢) فهذه الست مدنيات وباقي السورة كلها نزلت بمكة مجملة واحدة ليلا ومعها سبعون ألف ملك وقد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله العظيم» وخر ساجدا ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم (٣) [١٢٥]. وهي مائة وخمس وستون آية وكلها حجاج على المشركين ، كلماتها ثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة وحروفها إثنا عشر ألفا وأربعمائة وعشرون حرفا.

روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما وليلة» (٤) [١٢٦].

مسلم عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له ويوحي في قلبه شيئا ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا فإذا وكل يوم القيامة يقول للرب تبارك وتعالى أبشر في ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السبيل وأنت عبدي فأنا ربك» (٥) [١٢٧].

قال سعيد بن جبير : لم ينزل من الوحي شيء إلّا ومع جبرئيل أربعة من الملائكة (يَحْفَظُونَهُ

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩١.

(٢) سورة الأنعام : ١٥٣.

(٣) تفسير مجمع البيان : ٤ / ٥.

(٤) تفسير مجمع البيان : ٤ / ٥.

(٥) تفسير مجمع البيان : ٤ / ٥ وفتح القدير : ٢ / ٩٧. بتفاوت في الأخير.

١٣١

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) وهو قوله تعالى (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) (١) إلّا الأنعام فإنها تنزل ومعها سبعون ألف ملك.

وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال : قال عمر رضي‌الله‌عنه : الأنعام من نواجب القرآن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‌ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا بِرَ‌بِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُ‌ونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْ‌ضِ يَعْلَمُ سِرَّ‌كُمْ وَجَهْرَ‌كُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَ‌بِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِ‌ضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥) أَلَمْ يَرَ‌وْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْ‌نٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْ‌ضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْ‌سَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَ‌ارً‌ا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ‌ تَجْرِ‌ي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْ‌نًا آخَرِ‌ينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْ‌طَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ‌ مُّبِينٌ (٧) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌوَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ‌ ثُمَّ لَا يُنظَرُ‌ونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَ‌جُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُ‌سُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُ‌وا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١٠) قُلْ سِيرُ‌وا فِي الْأَرْ‌ضِ ثُمَّ انظُرُ‌وا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّ‌حْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُ‌وا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية.

قال مقاتل : قال المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربك؟ قال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فكذبوه فأنزل الله عزوجل حامدا نفسه دالّا بصفته على وجوده وتوحيده. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ... فِي يَوْمَيْنِ) يوم الأحد ويوم الإثنين (الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٢) يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)

قال السدي : يعني ظلمة الليل ونور النهار.

وقال الواقدي : كل ما في القرآن من (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) يعني الكفر والإيمان.

وقال قتادة : يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى.

__________________

(١) سورة الجن : ٢٨.

(٢) سورة فصلت : ٩.

١٣٢

وقال أهل المعاني : جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام.

وقال أبو عبيدة : وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد إثنين لمّا هدّني الكبر (١) مجاز الآية : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ، وقيل : معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض.

وقال قتادة : خلق الله السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار.

وقال وهب : أول ما خلق الله مكانا مظلما ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان ، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دما فارتفع بخارها وزبدها ، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين.

وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله عزوجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ» (٢) [١٢٨] (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

قال قطرب : هو مختصر يعني (الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد هذا البيان (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته به.

وقال النضر بن شميل : الباء في قوله : (بِرَبِّهِمْ) بمعنى عن ، وقوله : (يَعْدِلُونَ) من العدول. أي يكون ويعرفون.

وأنشد :

وسائلة بثعلبة بن سير

وقد علقت بثعلبة العلوق (٣)

وأنشد :

شرين بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج (٤)

أي من البحر قال الله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أي منها.

محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فتح أول الخلق بالحمد لله ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وختم بالحمد ، فقال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي : ١ / ٢٢٨.

(٢) فتح الباري : ١١ / ٤٣٠.

(٣) مراده بقوله : بن سير : بن سيار ، والبيت للمفضل البكري انظر الصحاح : ٢ / ٦٩٢.

(٤) تفسير الطبري : ٢٩ / ٢٥٨.

١٣٣

حماد بن عبد الله بن الحرث عن وهب قال : فتح الله التوراة بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وختمها بالحمد فقال : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية. قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) (١) يعني آدم عليه‌السلام فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده (٢).

وقال السدي : بعث الله جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ ، وقال : يا ربّ إنها عاذت بك ، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال : أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله عزوجل لملك الموت رحم جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله خلق آدم من تراب جعله طينا ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار [فكان إبليس يمرّ به فيقول] (٣) خلقت الأمر عظيم ثم نفخ الله فيه روحه» (٤) [١٢٩] (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).

قال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني أجل الدنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو الآخرة.

عطية عن ابن عباس : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) هو أجل موت الإنسان. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) يعني وهو أجل مسمى (عِنْدَهُ) لا يعلمه غيره ، الأجل المسمى هو الأجل الآجل.

(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) تشكون في البعث (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) يعني وهو إله السماوات وإله الأرض.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ١٩٤.

(٣) أثبتناه من المصادر ، وما في المخطوط : (ومرّ به المؤمن فقال)

(٤) مجمع الزوائد : ٨ / ١٩٧ وفتح الباري : ٦ / ٢٥٧.

١٣٤

مقاتل : يعلم سر أعمالكم وجهرها ، قال : وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد ، محمد بن أحمد البلخي يقول : هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) تعملون من الخير والشر (وَما تَأْتِيهِمْ) يعنى كفار أهل مكّة (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) مثل انشقاق القمر وغيره (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لها تاركين وبها مكذبين (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) يعني القرآن وقيل : محمد عليه الصلاة والسلام (لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال ثمانون سنة ، ويقال : مائة سنة ، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يعني أعطيناهم ما لم نعطكم.

قال ابن عباس : أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود ، ويقال : مكنته ومكنت له فجاء [...] (١) جميعا (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) يعني المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً).

تقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدرارا أي غزيرة كثيرة دائمة ، وهي مفعال من الدر ، مفعال من أسماء المبالغة ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث.

قال الشاعر :

وسقاك من نوء الثريا مزنة

سعرا تحلب وابلا مدرارا (٢)

وقوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) من خطاب التنوين كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (٣).

وقال أهل البصرة : أخبر عنهم بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا) وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه وقلت لعبد الله أكرمك وجعلنا الأنهار التي تجري من تحتهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا) وخلقنا وابتدأنا (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) الآية.

وقال الكلبي ومقاتل : أنزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسول فأنزل الله عزوجل (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) في

__________________

(١) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(٢) كتاب العين : ٨ / ٣٩.

(٣) سورة يونس : ٢٢.

١٣٥

صحيفة مكتوبا من عند الله (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لما سبق فيهم من علمي (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على محمد (مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلّا بالوحي [والحلال] (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) الكافرون ولا يمهلون.

قال مجاهد : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لقامت الساعة.

وقال الضحاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا.

وقال قتادة : لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ولم يؤخروا طرفة عين (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) يعني ولو أرسلنا إليهم ملكا (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة (وَلَلَبَسْنا) ولشبهنا وخلطنا (عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي.

وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس : هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم.

وقال قتادة : ما لبس قوم على أنفسهم إلّا لبس الله عليهم.

وقرأ الأزهري : وَلَلَّبَسْنا بالتشديد على التكرير يقال : ألبست العرب ألبسه لبسا والتبس عليهم الأمر ألبسه لبسا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَحاقَ).

قال الربيع بن أنس : ترك. عطاء : أحل.

مقاتل : دار. الضحّاك : إحاطة.

قال الزجاج : الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه : (يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ).

وقيل : وجب. والحيق والحيوق الوجوب.

(بِالَّذِينَ سَخِرُوا) هزءوا (مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين (سِيرُوا) سافروا (فِي الْأَرْضِ) معتبرين (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب ، يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن أجابوك وإلّا (قُلْ لِلَّهِ) يقول يفتنكم بعدد الأيام لا [...] والأصنام ثم قال (كَتَبَ) ربكم أي قضى وأوجب فضلا وكرما (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

وذكر النفس هاهنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف

١٣٦

منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

هشام بن منبه قال : حدثنا أبو عروة عن محمد رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش «إن رحمتي سبقت غضبي» (١).

وقال عمر لكعب الأحبار : ما أول شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : إني (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) سبقت رحمتي غضبي.

وقال سليمان وعبد الله بن عمر : إن لله تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة ، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده (٢).

ثم قال (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد ، مجازه : والله ليجمعنكم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعني في يوم القيامة إلي يعني في ، وقيل : معناه (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) في [غيركم] (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا) غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء وخبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، فأخبر الله تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر.

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ‌ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْ‌تُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِ‌كِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَ‌بِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَّن يُصْرَ‌فْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَ‌حِمَهُ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ‌ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‌ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ (١٧) وَهُوَ الْقَاهِرُ‌ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‌ (١٨)

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الآية.

قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلّا الحاجة ، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل الله تعالى قوله (وَلَهُ ما سَكَنَ) أي استقر (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من خلق.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ / ١٨٧.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ٢٠٦ و ٢٠٨ بتفاوت.

١٣٧

قال أبو روحي : إن من الخلق ما يستقر نهارا وينتشر ليلا ومنها ما يستقر ليلا وينتشر نهارا.

وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير : كلّ ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق الله عزوجل إلّا هو ساكن في الليل والنهار ، وقيل : معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار.

وقال أهل المعاني : في الآية لغتان واختصار مجازها : (وَلَهُ ما سَكَنَ) وشرك (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والبرد وأراد في كل شيء (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأصواتهم (الْعَلِيمُ) بأسرارهم.

وقال الكلبي : يعني (هُوَ السَّمِيعُ) لمقالة قريش (الْعَلِيمُ) بمن يكسب رزقهم (قُلْ) يا محمد (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) ربا معبودا وناصرا ومعينا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج.

قال مجاهد : سمعت ابن عباس يقول : كنت لا أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بعير. فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ، أنا أحدثتها (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عزوجل (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ) منهم (أَنْ يُطْعِمُونِ).

وقرأ عكرمة والأعمش : وَلا يَطْعُمُ بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل.

وقرأ أشهب العقيلي : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعِمُ كلاهما بضم الياء ، وكسر العين.

قال الحسن بن الفضل : معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول : معناه (وَهُوَ يُطْعِمُ) ولا يستطعم ، يقول العرب : أطعمت غيري بمعنى استطعمت.

وأنشد :

إنّا لنطعم من في الصيف مطعما

وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع

أي استطعمنا وقيل : معناه (وَهُوَ يُطْعِمُ) يعني الله (وَلا يُطْعَمُ) يعني الولي (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أخلص (وَلا تَكُونَنَ) يعني وقيل لي : ولا تكونن (مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) تعبدت غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيامة.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) يعني من يصرف الغضب عنه.

وقرأ أهل الكوفة : يَصْرِفْ بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف الله عنه العذاب ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله من الله بأن قبل فيما قبله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ

١٣٨

وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) (١) ، ولقوله فيما بعده (رَحِمَهُ) ولم يقل : فقد رحم ، على الفعل المجهول.

[ولقراءة أبيّ : من يصرفه الله عنه]. يعني يوم القيامة ، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك : حينئذ [وساعتئذ] (فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) يعني نجاة البينة (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) بشدة وبلية وفقر ومرض (فَلا كاشِفَ) دافع وصارف (لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) عافية ورخاء ونعمة (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الخير والشر (قَدِيرٌ).

روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال : أهدي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي مليا ثم احتنا لي وقال لي : يا غلام ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج و (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)».

(وَهُوَ الْقاهِرُ) القادر الغالب (فَوْقَ عِبادِهِ) وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد (٢).

(وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أمره (الْخَبِيرُ) بما جاء من عباده.

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ‌ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْ‌آنُ لِأُنذِرَ‌كُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَ‌ىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِ‌يءٌ مِّمَّا تُشْرِ‌كُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِ‌فُونَهُ كَمَا يَعْرِ‌فُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُ‌وا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَ‌ىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُ‌هُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَ‌كُوا أَيْنَ شُرَ‌كَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَ‌بِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِ‌كِينَ (٢٣) انظُرْ‌ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُ‌ونَ (٢٤) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرً‌ا وَإِن يَرَ‌وْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ‌ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُ‌ونَ (٢٦) وَلَوْ تَرَ‌ىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ‌ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَ‌دُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَ‌بِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُ‌دُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨)

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٩٩.

١٣٩

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) الآية.

قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ما وجد الله رسولا غيرك وما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولو سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ، فأنزل الله (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) فإن أجابوك وإلّا فقل (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على ما أقول (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ) وخوفكم يا أهل مكة (بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم.

قال الفراء : والعرب تضمر الهاء في مصطلحات التشديد (من) و (ما) فيها وإن الذي أخذت مالك ، ومالي أخذته ، ومن أكرمت [أبرّ به] بمعنى أكرمته.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية من كتاب الله فإن من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه» (١) [١٣٠].

وقال الحسن بن صالح : سألت ليثا : هل بقي أحد لم يبلغه الدعوة.

قال : كان مجاهد يقول حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير ، ثم قرأ هذه الآية.

فقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له.

وقال محمد بن كعب القرضي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا عليه‌السلام وسمع منه (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) ولم يقل آخر والآلهة جمع لأن الجمع يلحق التأنيث كقوله تعالى (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٢). (قُلْ) يا محمد إن أشهدوكم أنتم و (لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني التوراة والإنجيل (يَعْرِفُونَهُ) يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته وصفته (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) أي من الصبيان.

قال الكلبي : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لعبيد الله بن سلام : إن الله قد أنزل على نبيّه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله : يا عمر قد عرفته فيكم حين رأيته بنعته وصفته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني بابني ، قال : وكيف؟ قال : نعته الله عزوجل في كتابنا ، فلا أدري ما أحدث النساء ، فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام (٣)

(الَّذِينَ خَسِرُوا) غبنوا (أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وذلك إن لكل عبد منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار (وَمَنْ أَظْلَمُ) أكفر.

__________________

(١) جامع البيان : ٧ / ٢١٥.

(٢) سورة طه : ٥١.

(٣) زاد المسير بتفاوت : ٣ / ١٣ ، والدر المنثور : ١ / ١٤٧.

١٤٠