الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

إلى أن قال : «وإنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شي‌ء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان. عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات ، لا شي‌ء إلّا الواحد القهّار».

إلى أن قال : «ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها» (١) إلى آخره.

ولا يخفى ما فيه من ظهور الدلالة على فناء جميع المخلوقات عند انقضاء العالم.

واستدلّ الآخرون القائلون بالقول الثاني أيضا بوجوه :

الأوّل : أنّه لو كان الإعادة إنما هي بالمعنى المذكور أوّلا لما كان الجزاء به (٢) واصلا إلى مستحقه ، واللازم باطل سمعا ؛ للأدلة الدالّة على أن الله لا يضيع (أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣) ، وعقلا ؛ لوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي.

وبيان اللزوم : أن المنشأ لا يكون (٤) هو المبتدأ ، بل مثله ؛ لامتناع إعادة المعدوم بعينه.

وردّ بالمنع ، ولو سلّم فلا يقوم حجّة على من يقول ببقاء الروح والأجزاء الأصلية وإعدام البواقي ثمّ إيجادها وإن لم يكن الثاني هو الأوّل (٥) بعينه ، بل هو (٦) مغاير له في صفة الابتداء والإعادة أو باعتبار آخر. ولا شكّ أن الاعتبار في الاستحقاق هو الروح.

الثاني (٧) : الآيات الدالة على كون النشور بالإحياء بعد الموت ، والجمع بعد

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣٦٩ ـ ٣٧١ / الخطبة : ١٨٦.

(٢) ليست في «ح».

(٣) إشارة إلى الآية : ٣٠ من سورة : الكهف.

(٤) في «ح» بعدها : إلّا.

(٥) الثاني هو الأول ، من «ح» ، وفي «ق» : هو الثاني.

(٦) ليست في «ح».

(٧) في «ق» بعدها : في ، وما أثبتناه وفق «ح».

٢٤١

التفرق ، كقوله تعالى (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (١) الآية.

وكقوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) إلى قوله (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) (٢). وقوله (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٣) ، (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٤) ، و (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٥) ، بعد ما ذكر بدء الخلق من الطين وعلى وجه يرى ويشاهد ، مثل : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٦). (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٧). وكقوله (يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٨).

إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالتفريق دون الإعدام.

واجيب بأنا لا ننفي الإعدام وإن لم تدلّ عليه ، وإنّما سيقت لبيان كيفيّة الإحياء بعد الموت والجمع بعد التفريق ، لأن السؤال وقع عن ذلك.

وحاصل هذا الجواب ـ على ما ذكره بعض الأفاضل ـ أنه يمكن أن يفني الله تعالى العالم بأسره ويعدمه (٩) ، ثم يوجد الأرض والسماء ، ثمّ يحيي الأحياء بجمع الأجزاء المتفرّقة. ففي ذلك جمع بين ما دلّ على الإعدام وما دلّ على الجمع بعد التفريق وأنهم (مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (١٠) انتهى.

الثالث : ما رواه الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره في الحسن عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم».

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) البقرة : ٢٥٩.

(٣) فاطر : ٩.

(٤) الروم : ١٩.

(٥) الأعراف : ٢٩.

(٦) العنكبوت : ١٩.

(٧) العنكبوت : ٢٠.

(٨) القارعة : ٤ ـ ٥.

(٩) من «ح» ، وفي «ق» : ويعذّبه.

(١٠) يس : ٥١.

٢٤٢

وقال : «أتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخرجه إلى البقيع ، فانتهى به إلى قبر فصوّت بصاحبه فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل أبيض الرأس واللحية يمسح التراب عن وجهه ، وهو يقول : الحمد لله والله أكبر ، فقال جبرئيل : عد بإذن الله. ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل مسود الوجه وهو يقول : يا حسرتاه يا ثبوراه.

ثمّ قال له جبرئيل : عد إلى ما كنت بإذن الله ، فقال : يا محمّد ، هكذا يحشرون يوم القيامة ، والمؤمنون (١) يقولون هذا القول ، وهؤلاء يقولون ما ترى» (٢).

الرابع : ما رواه الديلمي في (إرشاد القلوب) قال : روت الثقات عن زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : «إن الصور قرن عظيم».

ثم ساق الخبر ـ وهو طويل ـ إلى أن قال عليه‌السلام : «ثمّ يأمر الله السماء أن تمطر على الأرض أربعين يوما حتى يكون الماء فوق كلّ شي‌ء [اثني عشر] ذراعا ، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل ، فتتدانى (٣) أجزاؤهم (٤) التي صارت ترابا إلى بعضها بعضا بقدرة العزيز الحميد ، حتى إنّه لو دفن في قبر واحد ألف ميّت ، وصارت لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة كلّها ترابا مختلطة بعضها ببعض ، لم يختلط تراب ميّت بميّت آخر ؛ لأنّ في ذلك القبر سعيدا وشقيا ، جسد ينعم بالجنة ، وجسد يعذّب بالنار ، نعوذ بالله منها» (٥) الحديث.

الخامس : ما رواه الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) في حديث الزنديق المشار إليه آنفا ، عن الصادق عليه‌السلام ، حيث قال : أنى للروح بالبعث ، والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرقت ، فعضو في بلدة تأكله سباعها ، وعضو باخرى تمزقه هوامها ، وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط؟ فقال عليه‌السلام : «إن الذي أنشأه من غير

__________________

(١) في المصدر : فالمؤمنون.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٣) في المصدر : فتساق.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : أجسادهم.

(٥) إرشاد القلوب ١ : ١١٩ ، ١٢١ ـ ١٢٢.

٢٤٣

شي‌ء ، وصوّره على غير مثال كان سبق ، قادر أن يعيده كما بدأه».

قال : أوضح لي ذلك. قال : «إن الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسنين في ضياء وفسحة ، وروح المسيئين في ضيق وظلمة. والبدن يصير ترابا [كما] منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها ممّا أكلته ومزّقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها. [وإن] (١) تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. فإذا كان حين البعث مطرت السماء [فـ] (٢) تربو الأرض ، ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب [إلى قالبه] ، فينقل بإذن الله إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» (٣).

السادس : ما ذكره الإمام العسكري عليه‌السلام في تفسيره قال : «إن الله ينزل بين نفختي الصور بعد ما ينفخ النفخة الاولى ـ من دوين سماء الدنيا ، من البحر المسجور الذي قال الله (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٤) ، وهو من منيّ كمنيّ الرجال ، فيمطر ذلك على الأرض ، فيلقي الماء المني مع الأموات البالية فينبتون من الأرض ويحيون» (٥).

أقول : ويمكن الجواب عن هذه الأخبار بما اجيب به عن الآيات المتقدّمة من أن الغرض من سوقها بيان كيفيّة الإحياء والإيجاد ، ولا سيّما إذا قلنا بفناء العالم كملا ، كما دلّ عليه كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام المتقدّم.

وتوضيحه أنه لا ريب في أن هذه الأجساد تضمحلّ وتتفرّق في التراب ، كما وصفه في حديث (الاحتجاج) ، ولكن بعد أن يأذن الله سبحانه في فناء العالم ـ

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : فإن.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : و.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ / ٢٢٣.

(٤) الطور : ٦.

(٥) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٨٢ / ١٤٠.

٢٤٤

من أرض وسماء وجميع ما فيها ـ يحصل العدم المحض للجميع ، ثمّ بعد ذلك إذا أذن الله عزوجل في إيجاد ما أفناه أعاد الأرض أولا بجميع ما أودعه فيها ، وأعاد السماء ، ثمّ فعل به ما ذكر في هذه الأخبار.

وبالجملة ، فالأدلّة ـ كما سمعت ـ من الطرفين والأجوبة من الجانبين متعارضة متصادمة ، وما ادّعوه من امتناع إعادة المعدوم لم يأتوا عليه بدليل يركن إليه ولا برهان يعتمد عليه ، والأمر بالنسبة إلى القدرة الإلهيّة من الممكنات ؛ لأن الله تعالى قادر على جميع المقدورات ، محيط علمه بجميع المعلومات من جزئيّات وكلّيات.

والتمسك بقصور إدراك العقل عن ذلك مع إمكانه بالنسبة إلى القدرة الإلهيّة ممّا لا يسمن ولا يغني من جوع ؛ فإن كثيرا من أحوال النشأة البرزخيّة والاخرويّة ممّا يقصر العقل عن إدراكها مع ورود الشرع بها ؛ ولهذا أنكرها جملة من العقلاء (١) المستبدّين بعقولهم والمستندين إليها ، كمسألة تجسّم الأعمال ونحوها. ولذا أيضا قد أنكر جملة من العقلاء القول بالمعاد (١) ؛ لاعتمادهم في الأحكام على مجرّد العقل ، مستندين إلى استلزامه إعادة المعدوم ، وزيّفوا ذلك بشبهات واهية مذكورة في مظانّها.

والحقّ إلّا إنه لا يمكن الجزم في المسألة بشي‌ء من القولين ، إلّا أنه يمكن أن يقال : إنه يكفي في المعاد في المعاد (٢) كونه مأخوذا من الأجزاء الأصلية الباقية

__________________

(١) وهم كافة الفلاسفة وأكثر الملاحدة ولم يقفوا البلاء عليه ، بل عكسوا تارة بادعاءات آبية ، واخرى بشبهات واهية [مذكورة] (١) في مظانّها. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) شرح المقاصد ٥ : ٨٨.

(٣) في «ح» : والمعاد ، بدل : في المعاد ، ولكنّها شطب عنها.

__________________

١ ـ في الأصل : المذكور.

٢٤٥

بعد فناء البدن التي صرّح بها عليه‌السلام في خبر عمّار (١) المبحوث عنه ؛ إذ مدار اللذات والآلام التي هي الغرض من الإعادة إنما هو على الروح ولو بواسطة الآلات.

ويعضد ما ذكرناه أن القائلين بالهيولى يقولون بانعدام الصورة الجسمية والنوعيّة وبقاء الهيولى عند تفرّق الجسم ، والنافين لها يقولون بعدم انعدام جزء من الجسم عند التفرق.

ويؤكّده ما ذكره بعض المحقّقين من (أن تشخص الشخص إنما هو بأجزائه الأصلية المخلوقة من المني ، وتلك الأجزاء (٢) باقية في مدّة حياة الشخص وبعد موته وتفرّق أجزائه) (٣) انتهى.

أقول : لا يخفى أن غاية ما يستفاد من الأخبار المتقدّمة الدالّة على الإعادة هو الدلالة على إعادة ذلك الشخص ، بمعنى أنه يحكم عليه عرفا أنه هو هو ، كما أنه يحكم على الماء الواحد إذا افرغ في إناءين أنه هو الماء الذي كان في إناء واحد عرفا وشرعا ، ولا يمنع ذلك تشخّصه بالوحدة التي كان عليها حال كونه في ذلك الإناء الواحد.

وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أن ابن أبي العوجاء سأله عن قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٤) قال : ما ذنب الغير؟ فقال عليه‌السلام : «ويحك هي هي ، وهي غيرها». قال : فمثّل لي [في] ذلك شيئا من أمر الدنيا. قال : «نعم ، أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها؟ فهي هي ، وهي غيرها» (٥) ، فإنّ الظاهر أن المعنيّ فيه أنها هي هي من حيث المادة ، وإنما الاختلاف في الصفات والعوارض الغير المشخّصة ، وبذلك صارت غير الاولى.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٢١ / ٥٨٠.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الأجساد.

(٣) بحار الأنوار ٧ : ٥١.

(٤) النساء : ٥٦.

(٥) الاحتجاج ٢ : ٢٥٦ / ٢٢٧.

٢٤٦

وبالجملة ، فإن الادراك واللذة إنما [يقومان] (١) بالروح وإن كان بواسطة الآلات كما أشرنا إليه آنفا ، وإن تشخص الشخص إنما هو بتلك الأجزاء الأصلية ، ولذلك يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة : إنه هو هو بعينه وإن تبدّلت الصورة والهيئات ، بل كثير من الأعضاء والآلات ، ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب : إنها عقوبة لغير الجاني ؛ باعتبار تبدّل الصورة والآلات والهيئات من الحالة الاولى إلى الحالة الأخيرة.

فعلى هذا يقال : إن المعاد في الآخرة هو الشخص الذي كان في الدنيا بعينه وشخصه ، وهذه العينيّة والشخصيّة ـ كما عرفت ـ راجعة إلى أجزاء الروح مع تلك الأجزاء الأصليّة. وعلى هذا تتلاءم الأخبار والآيات والدلائل الدالة على أن المعاد في الآخرة هو عين هذا الجسم ، كقوله سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢). والدالة على أنه مثله ، كقوله تعالى (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٣) ، إلى غير ذلك.

وبه تندفع جملة من الإشكالات الموردة في المقام ، ومنها أنه لو قلنا باستحالة إعادة المعدوم ، فإنه يبطل القول بالمعاد ، بمعنى جمع الأجزاء المتفرقة أيضا ؛ لأنّ أجزاء بدن الشخص كبدن زيد مثلا لا يكون بدن زيد إلّا بشرط اجتماع خاصّ وشكل معيّن ، فإذا تفرّقت أجزاؤه وانتفى الاجتماع والتشكل المعيّنان لم يبق بدن زيد ، ثمّ إذا اعيد ؛ فإمّا أن يعاد ذلك الاجتماع والتشكل بعينهما ، أو لا. وعلى الأوّل يلزم إعادة المعدوم ، وعلى الثاني لا يكون المعاد بعينه هو البدن الأوّل ، بل مثله ، وحينئذ يكون تناسخا. ومن ثمّ قيل : ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ (٤).

__________________

(١) في النسختين : يقوم.

(٢) يس : ٧٩.

(٣) الواقعة : ٦٠ ـ ٦١.

(٤) بحار الأنوار ٧ : ٤٩.

٢٤٧

والجواب أن يقال : إنما يلزم التناسخ لو لم يكن البدن المحشور مؤلّفا من الأجزاء الأصليّة للبدن الأوّل ، أما إذا كان كذلك فلا يستحيل إعادة الروح إليه ، وليس ذلك من التناسخ ، فإن سمّي به فهو مجرّد اصطلاح ؛ فإن التناسخ الذي دلّ الدليل على منعه واستحالته عبارة عن تعلّق نفس زيد ببدن آخر لا يكون مخلوقا من أجزاء بدنه ، وأمّا تعلّقها بالبدن المؤلف من أجزائه الأصليّة بعينها ، مع تشكّلها بشكل مثل الشكل السابق ، فهو الذي نعنيه بالحشر الجسماني.

وكون الشكل والاجتماع غير السابق لا يقدح في المقصود ، وهو حشر الأشخاص الإنسانية بأعيانها ؛ لما بيّناه آنفا من أن زيدا مثلا شخص واحد محفوظ وحدته الشخصيّة من أوّل عمره ـ إلى آخره ـ بحسب العرف والشرع ؛ ولذلك يؤاخذ عرفا وشرعا بعد التبدّل ما لزمه قبل. وكما لا (١) يتوهّم أن في ذلك تناسخا لا ينبغي أن يتوهّم في هذه الصورة وإن كان الشكل الثاني مخالفا للشكل الأوّل ، كما ورد في الخبر (٢) أنه يحشر المتكبرون كأمثال الذر ، وأن ضرس الكافر مثل جبل احد ، وأن أهل الجنة جرد مرد مكحولون.

والحاصل أن المعاد الجسماني عبارة عن عود النفس إلى بدن هو ذلك البدن بحسب الشرع والعرف ، ومثل هذه التبدّلات والتغيّرات التي لا تقدح في الوحدة بحسب الشرع والعرف لا تقدح في كون المحشور هو المبدأ.

ومنها أنه على القول الأوّل من القولين المتقدّمين يلزم أنه (لو كانت إعادة المعدوم جائزة لكان إعادة الوقت الذي حدث فيه أولا جائزة ، لكن اللازم باطل ، فالملزوم كذلك.

بيان الملازمة : أن الوقت الأوّل من شرائط وجود ذلك الشخص ومشخّصاته ،

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) بحار الأنوار ٧ : ٥٠.

٢٤٨

فيستحيل وجوده ثانيا بعينه من دون ذلك الشرط.

بيان بطلان اللازم : أنه (١) لو اعيد ذلك الوقت بعينه لكان (٢) ذلك الإيجاد ثابتا له في الوقت الأوّل ، فيكون من حيث هو معاد مبتدأ ، هذا خلف).

وعلى هذا الدليل اقتصر العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني ـ عطّر الله مرقده ـ على ما نقل عنه في قواعده (٣).

وجوابه بناء على ما عرفت من حصول العينية والتشخّص بانضمام تلك الأجزاء إلى الروح ، حسب ما بينّاه وأوضحناه.

ومنها أن من تفرّق أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها ، وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع ، كيف يجمع؟ وأبعد من هذا لو أن إنسانا أكل إنسانا صار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل ، فإن اعيد ؛ فأجزاء المأكول إمّا أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وإمّا أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء.

والجواب أن في الآكل أجزاء أصليّة وأجزاء فضليّة وكذلك في المأكول ، فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل ، والأجزاء الأصليّة للآكل هي ما كان له قبل الأكل. والله بكلّ شي‌ء عليم ، يعلم الأصلي من الفضلي ، فيجمع الأجزاء الأصليّة للآكل وينفخ فيها روحه ، ويجمع الأجزاء الفضليّة ـ وهي الأصليّة ـ للمأكول وينفخ فيها روحه. وكذلك يجمع الأجزاء المتفرّقة في البقاع المتعدّدة والأصقاع المتبدّدة بقدرته الكاملة وحكمته

__________________

(١) من هنا إلى قوله : في تفسير الأخبار ، الآتي في الصفحة : ١٥٥ من «ح» ، وقد وقع هذا الكلام في صفحة مفقودة من مصوّرة «ق».

(٢) في «ح» بعدها : في.

(٣) قواعد المرام في علم الكلام : ١٤٧.

٢٤٩

الشاملة ، كما تقدّم في حديث (الاحتجاج) (١) من أدلّة القول الثاني.

وعلى هذا يحمل ما تقدّم من الأخبار الدالّة على حفظ أجزاء البدن في التراب على خبر عمّار (٢) المذكور الدالّ على اختصاص ذلك بالطينة الّتي خلق منها ، وأن ما عداها يضمحلّ ويبلى.

وأمّا ما ذكره المحدّث الكاشاني في (الوافي) ، حيث قال بعد نقل الخبر المشار إليه : (لعلّ المراد بطينته التي خلق منها بدنها المثالي البرزخي اللطيف الذي يرى الإنسان نفسه فيه في النوم ، وقد مضت الإشارة إليه في الأخبار الماضية.

واستدارتها عبارة عن انتقالها من حال إلى حال ، من الدوران بمعنى الحركة.

ويقال : إن حاله في هذه المدّة كحال النطفة في الرحم ، والبذر في الأرض ، ينبت ويثمر ويختلف عليه [أطوار] النشأة ، إلى أن يتولّد يوم القيامة بالنفخة الإسرافيلية (٣) ، ويفيق من صعقته ، ويخرج من الهيئة المحيطة به كما يخرج الجنين من القرار المكين (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (٤). فالموت ابتداء البعث) (٥) انتهى.

فلا يخفى ما فيه من البعد عن ظاهر الخبر المذكور ، بل التعسف البالغ في الظهور ؛ لأنه عليه‌السلام ذكر أن الطينة تبقى مستديرة في القبر ـ من الاستدارة ـ فكيف يصحّ حملها على البدن المثالي البرزخي ، والبدن المثاليّ البرزخيّ إنّما هو في وادي السلام وهو في ظهر الكوفة ، الذي تنقل إليه أرواح المؤمنين؟ ثمّ إنه أيّ مناسبة بين الطينة التي خلق منها وبين البدن المثالي حتى تحمل عليه؟! وأيضا إن الانتقالات ـ كما في النطفة ـ لا تترتّب على البدن المثالي ؛ بل

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ / ٢٢٣.

(٢) الفقيه ١ : ١٢١ / ٥٨٠.

(٣) من «ق» والمصدر ، وفي «ح» : الاسرائيلية.

(٤) الانشقاق : ١٩.

(٥) الوافي ٢٥ : ٦٩٠.

٢٥٠

الظاهر من الخبر الذي لا يعتريه الشكّ ولا الإشكال ولا يتطرّق إليه (١) الريب ولا الاحتمال إنما هو حمل الطينة على الأجزاء الأصليّة التي خلق منها البدن ، فإنّها تبقى محفوظة في القبر إلى أن يخلق منها مرّة اخرى بإنزال المطر الذي دلّت عليه الأخبار (٢) المتقدّمة ، وأنه تنمو (٣) به تلك الطينة الأصلية وتنبت كما تنبت الشجرة وتخرج من النواة ، والإنسان من النطفة. هذا هو ظاهر الخبر كما عرفت آنفا.

ولكن هؤلاء ـ أعني من اتّسم بالتصوّف ـ عادتهم في تفسير الأخبار اختراع المعاني البعيدة ، ويزعمون أنهم من أهل الحقائق والباطن ، كما لا يخفى على من راجع كتب هذا القائل وأمثاله من علماء الصوفيّة العاميّة ، والله الهادي لمن يشاء.

__________________

(١) من «ع».

(٢) من قوله السابق : إنه لو اعيد ذلك الوقت ، المار في الصفحة : ١٥٤ إلى هنا من «ح» ، وقد وقع هذا الكلام في صفحة مفقودة من مصوّرة «ق».

(٣) من «ق» ، وفي «ح» : تيمن.

٢٥١
٢٥٢

(٥٧)

درّة نجفية

في حكم منجزات المريض أنها هل تخرج من الأصل أو الثلث؟ وكذا إقراره

و [هاتان المسألتان] هما من عويصات المسائل وأمّهات المعاضل ؛ لوقوع الاختلاف فيهما نصا وفتوى بين علمائنا الأعلام ، وقد صارتا منتصلا لسهام النقض والإبرام. وها أنا مثبت في هذه الدرّة الفاخرة والجوهرة الباهرة ما وصل إليه فهمي القاصر ، وخطر ببالي الفاتر من أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام ، كاشف عن ذلك نقاب الإبهام ، بما تشتاقه الطباع السليمة والأفهام المستقيمة ، فأقول : إن الكلام هنا يقع في مقصدين :

المقصد الأوّل : في المنجّزات. وهي عبارة عن التبرعات المنجّزة في مرض الموت المشتملة على المحاباة ، كالإبراء والهبة ، والبيع بأقل من ثمن المثل (١) ، ونحو ذلك ممّا فيه نقص على الوارث وإضرار به. وقد اختلف أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في أن مخرجها من الأصل أو الثلث ـ وقد اتّفق الفريقان على لزوم ذلك لو برئ من مرضه ذلك ولم يمت فيه ، وإنّما الخلاف لو مات في مرضه ذلك ـ على قولين :

__________________

(١) في «ح» : مثل بمثل ، بدل : ثمن المثل.

٢٥٣

والأوّل : منهما للشيخ المفيد في (المقنعة) (١) ، والشيخ في (النهاية) (٢) ، وابن البرّاج (٣) وابن إدريس (٤) ، وإليه مال المحدّث الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي (٥) ، والفاضل المولى محمّد باقر الخراساني في (الكفاية) (٦) ، والمحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ قدّس الله أرواحهم ونوّر أشباحهم ـ وهو الأظهر عندي والمختار.

والثاني : للشيخ في (المبسوط) (٧) ، والصدوق (٨) وابن الجنيد (٩) ، وهو المشهور بين المتأخّرين (١٠).

فمن الأدلّة الدالّة على القول الأوّل ظاهر قوله عزوجل (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (١١).

وقد روى الشيخ قدس‌سره في الصحيح عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : «وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً) ، وهذا يدخل فيه الصداق والهبة» (١٢).

والتقريب فيه أنه دالّ بإطلاقه على ما يشمل الصحّة والمرض.

ومنها موثّقة عمّار أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «صاحب المال أحقّ بماله ما دام

__________________

(١) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ٦٧١.

(٢) النهاية : ٦١٨.

(٣) المهذّب ١ : ٤٢٠.

(٤) السرائر ٣ : ٢٢١.

(٥) بداية الهداية : ١١٦.

(٦) كفاية الأحكام : ١٥١.

(٧) المبسوط ٤ : ٤٤.

(٨) المقنع : ٤٨٢.

(٩) عنه في مختلف الشيعة ٦ : ٣٦٩ / المسألة : ١٥٢.

(١٠) جامع المقاصد ١١ : ٩٤ ، إيضاح الفوائد ٢ : ٥٩٣.

(١١) النساء : ٤.

(١٢) تهذيب الأحكام ٩ : ١٥٢ / ٦٢٤ ، الاستبصار ٤ : ١١٠ / ٤٢٣ ، وفيهما : في ، بدل : فيه ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٣٩ ، كتاب الهبات ، ب ٧ ، ح ١.

٢٥٤

فيه شي‌ء من الروح ، يضعه حيث يشاء» (١).

ومنها موثّقة سماعة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون له الولد ، أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : «هو ماله يصنع به ما يشاء إلى أن يأتيه الموت» (٢).

و [وروى] (٣) في (الكافي) عن أبي بصير مثله ، وزاد فيه : «إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا ، إن شاء وهبه ، وإن شاء تصدّق به ، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت. وإن أوصى به فليس له إلّا الثلث ، إلّا إن الفضل في ألّا يضيّع من يعول ولا يضرّ بورثته» (٤).

ومنها صحيحة أبي شعيب المحاملي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الإنسان أحقّ بماله ما دامت الروح في بدنه» (٦).

ومنها مرسلة إبراهيم بن أبي بكر بن أبي السمّال الأزديّ (٧) ، عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الميّت أولى بماله ما دام فيه الروح» (٨).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٧ / ١ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٦ / ٧٤٨ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٧ : ٨ / ٥ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٦ / ٧٤٩ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٦ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ١.

(٣) في النسختين : رواه.

(٤) الكافي ٧ : ٨ ـ ٩ / ١٠ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٧ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٢ ، وفيهما : فإن أوصى ، بدل : وإن أوصى.

(٥) من «ح» وتهذيب الأحكام ، وفي «ق» : الحاملي ، وفي الكافي : أبي المحامل ، بدل : أبي شعيب المحاملي ، وفي وسائل الشيعة : أبي المحامد.

(٦) الكافي ٧ : ٨ / ٩ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٧ / ٧٥١ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٩ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٨.

(٧) في الكافي : الأسدي ، وفي وسائل الشيعة : إبراهيم بن أبي السمّاك ، بدل : إبراهيم بن أبي بكر بن أبي السمّال.

(٨) الكافي ٧ : ٧ / ٣ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٧ / ٧٥٢ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٧ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٣.

٢٥٥

ومنها رواية مرازم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في الرجل يعطي الشي‌ء من ماله في مرضه ، فقال : «إذا أبان فيه فهو جائز ، وإن أوصى به فهو من الثلث» (١).

والظاهر أن المراد بقوله : «أبان فيه» أي ميّزه وعزله وسلّمه إلى المعطى ، ولم يعلّق إعطاءه على الموت.

ومنها موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : الميّت أحقّ بماله ما دام فيه الروح يبيّن به؟ قال : «نعم ، فإن أوصى به (٢) فليس له إلّا الثلث». كذا في (الكافي) (٣).

ورواه الشيخ في (التهذيب) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الميّت أحقّ بماله ما دام فيه الروح تبيّن به (٤) ، فإن قال : بعدي ، فليس له إلّا الثلث» (٥).

وفي (الفقيه) ـ عوض قوله : «فإن قال : بعدي» ـ : «فإن تعدّى» (٦). وما في (التهذيب) أظهر ، ويعضده ما في (الكافي) (٧).

ومنها موثّقة عمّار أيضا برواية المشايخ الثلاثة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الرجل أحقّ بماله ما دام فيه الروح ، إن أوصى به كلّه فهو جائز» (٨).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٨ / ٦ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٨ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٦.

(٢) في المصدر بعدها : فإن تعدّى.

(٣) الكافي ٧ : ٨ / ٧ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، وفي ذيله : فإن تعدّى فليس له إلّا الثلث ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٩ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٧.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : فيه.

(٥) تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٨ / ٧٥٦ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٩ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٧.

(٦) الفقيه ٤ : ١٣٧ / ٤٧٧ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٩ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ذيل الحديث : ٧.

(٧) يلاحظ أن نسخة الكافي التي بين أيدينا تعضد نسخة الفقيه ، انظر الهامش : ٣ أعلاه.

(٨) الكافي ٧ : ٧ / ٢ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله .. ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٧ / ٧٥٣ ، الفقيه ٤ : ١٥٠ / ٥٢٠ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩٨ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ٥.

٢٥٦

أقول : ينبغي حمل هذا الخبر على فقد الوارث ، أو إجازة الورثة (١) ؛ فإن الوصية لا تنفذ إلّا من الثلث.

ومنها موثّقة عمّار الساباطي أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في الرجل يجعل بعض ماله لرجل [في مرضه]. قال : «إذا أبانه جاز» (٢).

هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدالّة على هذا القول.

وأمّا ما يدلّ على القول (٣) الآخر ، فمنه رواية عليّ بن عقبة عن الصادق عليه‌السلام ، في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك ، كيف القضاء فيه؟ قال : «ما يعتق منه إلّا ثلثه ، وسائر ذلك للورثة (٤) [والورثة] (٥) أحقّ بذلك ، ولهم ما بقي» (٦).

وموثّقة سماعة قال : سألته عن عطية الوالد لولده؟ فقال : «أمّا إذا كان صحيحا فهو له (٧) يصنع به ما يشاء ، وأمّا في مرض فلا يصلح» (٨). وهو دالّ على أنه في غير الصحّة لا يصلح.

وصحيحة الحلبي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تبرئ زوجها [من صداقها] (٩) في مرضها؟ قال : «لا» (١٠).

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : الوصية.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ : ١٩٠ / ٧٦٤ ، الاستبصار ٤ : ١٢١ / ٤٦١ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠٠ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ١٠.

(٣) في «ح» : قول.

(٤) في تهذيب الأحكام ووسائل الشيعة : الورثة.

(٥) من الاستبصار.

(٦) تهذيب الأحكام ٩ : ١٩٤ / ٧٨١ ، الاستبصار ٤ : ١٢٠ / ٤٥٥ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٦ ، كتاب الوصايا ، ب ١١ ، ح ٤.

(٧) فهو له ، من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : فقال.

(٨) تهذيب الأحكام ٩ : ٢٠٠ / ٨٠٠ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠٠ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ١١.

(٩) من تهذيب الأحكام.

(١٠) تهذيب الأحكام ٩ : ٢٠١ / ٨٠٢ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠١ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ١٥.

٢٥٧

وموثّقة سماعة قال : سألته عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو بعضه تبرئه منه في مرضها؟ قال : «لا ، ولكنّها إن وهبت له جاز ما وهبت له من ثلثها» (١).

ورواية أبي ولّاد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرئه منه في مرضها؟ قال : «بل تهبه له ، فتجوز هبتها له ، ويحسب (٢) ذلك من ثلثها إن كانت تركت شيئا» (٣).

وصحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام : ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : «الثلث ، والثلث كثير» (٤).

وصحيحة يعقوب بن شعيب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ، ما له من ماله؟ قال : «له ثلث ماله ، وللمرأة أيضا» (٥).

ورواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «للرجل عند موته ثلث ماله ، وإن لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه» (٦).

هذا ما وقفت عليه من روايات هذا القول.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ترجيح أخبار القول الأول يظهر من وجوه :

أحدها : اعتضاد تلك الأخبار بظاهر (القرآن) (٧) كما عرفت آنفا.

وثانيها : أنها مخالفة للعامة ، كما نبّه عليه كثير من أصحابنا ـ رضوان الله

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٩ : ٢٠١ / ٨٠٣ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠١ ، كتاب الوصايا ، ب ١٧ ، ح ١٦.

(٢) في «ح» : ويجب ، وفي تهذيب الأحكام : ويحتسب.

(٣) تهذيب الأحكام ٩ : ١٩٥ / ٧٨٣ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٨ ، كتاب الوصايا ، ب ١١ ، ح ١١.

(٤) تهذيب الأحكام ٩ : ٢٤٢ / ٩٤٠ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٤ ، كتاب الوصايا ، ب ١٠ ، ح ٨.

(٥) الكافي ٧ : ١١ / ٣ ، باب ما للإنسان أن يوصي. ، الفقيه ٤ : ١٣٦ / ٤٧٣ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٢ ، كتاب الوصايا ، ب ١٠ ، ح ٢.

(٦) تهذيب الأحكام ٩ : ٢٤٢ / ٩٣٩ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٣ ، كتاب الوصايا ، ب ١٠ ، ح ٧.

(٧) النساء : ٤.

٢٥٨

عليهم ـ من أن أكثر العامة (١) على القول بمضمون الأخبار الأخيرة.

ومن أخبارهم في المسألة ـ على ما نقله شيخنا الشهيد الثاني في (المسالك) عن صحاحهم (٢) ـ أن رجلا من الأنصار أعتق ستّة أعبد في مرضه لا مال له غيرهم ، فاستدعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجزّأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة (٣).

قال قدس‌سره : (وعلى هذه الرواية اقتصر ابن الجنيد في كتابه (الأحمدي) ..) (٤).

الثالث : أنها صريحة الدلالة على المطلوب والمراد ، عارية عن وصمة الطعن في دلالتها والإيراد ، ولهذا أن المتأخّرين إنّما تيسّر لهم الطعن في أسانيدها بناء على الاصطلاح المحدث ، وأمّا من لا يراه ولا يعمل به ـ كما هو الحقّ الحقيق بالاتباع ، وعليه جرى جملة متقدّمي علمائنا : الصدور منهم والأتباع ـ فلا مجال للطعن بذلك عنده. بخلاف الأخبار المقابلة لها ، فإنّها لما هي عليه من الإجمال وسعة دائرة الاحتمال غير قابلة للاستدلال ، مع ما في جملة منها من الاختلال من جهات اخر ، والاعتلال ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في المقام بأوضح مقال.

الرابع : اعتضادها بالإجماع على صحّة التصرف ، المعتضد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» (٥). خرج منه ما خرج من التصرف المعلّق على الموت بدليل ، وبقي الباقي ؛ لعدم الدليل الناص على ذلك ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

الخامس : اتّفاق القائلين من الطرفين على لزوم التصرّف لو برئ من مرضه ،

__________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣١٩ ، المحلّى ٩ : ٣٥٢ ، الوجيز ٢ : ٢٧٢ ، الفتاوي الهندية ٦ : ١٠٩.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٤٢٦ ، السنن الكبرى ٦ : ٤٣٥ / ١٢٥٥٠.

(٣) مسالك الأفهام ٦ : ٣٠٧.

(٤) مسالك الأفهام ٦ : ٣٠٩.

(٥) عوالي اللآلي ٢ : ١٣٨ / ٣٨٣.

٢٥٩

ونفاذه من الأصل ، فإنه لا وجه له على القول الآخر إلّا باعتبار أن يكون صحيحا غير لازم ، موقوفا على إجازة الوارث إن مات أو البرء ، فيكون البرء (١) كاشفا عن الصحّة واللزوم ، وإجازة الوارث وعدمها [كاشفة] (٢) عن اللزوم (٣) وعدمه ، بعين ما قالوه في تصرّف الفضولي.

وأنت خبير بأنّا لم نظفر لهم في أمثال (٤) هذه المقامات على أزيد من وجوه اعتبارية لا تصلح لأن تكون مستندا في الأحكام الشرعيّة ، كما حقّقنا ذلك بما لا مزيد عليه في بعض فوائدنا في مسألة البيع الفضولي ، حيث إن المشهور بينهم صحته ؛ لوجوه اعتبارية ذكروها ، مع أن الأخبار تمنعها وتردّها كما أوضحناه في الموضع المشار إليه.

ولا يخفى أن مقتضى الأدلّة كتابا (٥) وسنّة (٦) هو وجوب الوفاء بالعقود وترتب أثرها عليها من جواز التصرف بجميع أنواع التصرّفات ، وإبطال ذلك يحتاج إلى دليل قاطع وبرهان ساطع ، فما خرج بدليل من (كتاب) أو سنّة وجب الوقوف عليه ، وما لم يقم عليه دليل فهو باق على مقتضى الأدلّة. ولا ريب أن التصرّف في الصورة المفروضة كذلك بمقتضى الأدلّة المتقدّمة.

وبالجملة ، فإنّا نقول : إن مقتضى العقد هو الصحّة واللزوم ، وجواز التصرّف لمن انتقل إليه كيف شاء ، واستمرار ذلك في جميع الأزمنة. وتخلّف بعض الأفراد في بعض الموارد لقيام دليل لا يقتضي انسحابه فيما لا دليل فيه ؛ إذ هو قياس محض.

__________________

(١) من «ح».

(٢) في المخطوط : كاشفا.

(٣) وإجازة الوارث وعدمها كاشفا عن اللزوم ، سقط في «ح».

(٤) من «ح».

(٥) المائدة : ١.

(٦) تهذيب الأحكام ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ ، أبواب المهور ، ب ٢٠ ، ح ٤.

٢٦٠