كتاب الاعتكاف
في شرائطه
قال رحمهالله : وإذا مضى له يومان وجب الثالث على الأظهر.
أقول : وجوب الثالث مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن الجنيد ، واختاره أبو العباس في المحرر ، لرواية ابي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليهالسلام «قال : من اعتكف ثلاثة فهو يوم الرابع بالخيار ، إن شاء زاد يوما آخر وإن شاء ان يخرج خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج حتى يستكمل الثلاثة» (١).
وقال في المبسوط بوجوبه بالشروع كالحج ، لأن إطلاق الروايات (٢) على وجوب الكفارة على المعتكف بإفساده يدل على وجوبه مطلقا.
وذهب السيد المرتضى وابن إدريس إلى عدم الوجوب مطلقا وجواز الخروج متى شاء ، واختاره العلامة في المختلف ، لأنه عبادة مندوبة فلا يجب بالشروع فيه كالصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات التي لا تلزم بالشروع.
__________________
(١) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٤ ، حديث ٣. بتفاوت ، فراجع.
(٢) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٦.
قال رحمهالله : ولو نذر اعتكاف ثلاثة من دون لياليها ، قيل : يصح ، وقيل : لا ، لأنه بخروجه عن قيد الاعتكاف يبطل اعتكاف ذلك اليوم.
أقول : قال في الخلاف : إذا قال : (علي لله أن أعتكف ثلاثة أيام) ، لزمه ذلك ، فإن قال متتابعا لزمه بينها ليلتان ، وإن لم يشرط التتابع جاز أن يعتكف نهارا ثلاثة أيام بلا لياليها. وقال في المبسوط : إذا نذر اعتكاف ثلاثة أيام وجب عليه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من أول يوم إلى بعد الغروب من ذلك اليوم وكذلك اليوم الثاني والثالث ، هذا إذا أطلقه.
وان شرط التتابع لزمه الثلاثة الأيام بينها ليلتان ، والمشهور دخول الليالي مطلقا ، لأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام ، والمفهوم دخول الليالي ، فيجب الكون في المسجد قبل طلوع الفجر من أول يوم إلى غروب الشمس من اليوم الثالث.
فرع : هل يجوز ابتداء الاعتكاف في أثناء النهار؟ نص الشيخ في المبسوط على عدم الجواز ، قال : لأنه لا بد من الصوم ، والصوم لا يكون إلا من أول النهار.
وفي هذا التعليل نظر ، لأنا لو فرضنا كونه في رمضان أو غيره من الصوم الواجب أو الندب ، ثمَّ اعتكف في وسط النهار كان الشرط موجودا ، فإن صح اعتكافه بطل حكم الشيخ بعدم الصحة ، وإن بطل اعتكافه بطل تعليل الشيخ عدم الصحة لعدم الصوم ، إذ التقدير أنه صائم ، والشرط هو الصوم مطلقا ، سواء كان لسبب غير الاعتكاف أو به.
والأجود أن يقال : إن الاعتكاف لا يصح أقل من ثلاثة أيام ، واليوم حقيقة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، والملفق من يومين لا يصدق
عليه اسم اليوم وإن صدق عليه اسمه مجازا ، لأن اللفظ إذا أطلق حمل على الحقيقة ما لم يحصل قرينة تصرفه الى المجاز ، ولا قرينة هنا.
تنبيه : لا بد من نية الاعتكاف والصوم معا لكونهما عبادتين متغايرتين فلا يكفي نية أحدهما عن الأخرى لاشتراط النية في كل عبادة ، فإن اتحد السبب جاز جمعهما في نية واحدة ، فيقول : (أعتكف غدا صائما) أو (أصوم غدا معتكفا لوجوبه أو ندبه قربة إلى الله) ، وان اختلف السببان وجب نيتان ، فيقول : (أعتكف غدا لوجوبه أو ندبه قربة الى الله) ، ثمَّ يقول : (أصوم غدا من رمضان ، أو لوجوبه بالنذر ، أو عن كفارة كذا لوجوبه ، أو ندبه قربة إلى الله). ويكفي في الاعتكاف نية واحدة ، فيقول : (أعتكف ثلاثة أيام ، أو عشرة ، أو شهر كذا ، لوجوبه أو ندبه قربة إلى الله) ، لأن الاعتكاف عبادة واحدة ، ولا بد من تجديد نية الصوم في كل يوم ، لأن صوم كل يوم عبادة بانفراده.
قال رحمهالله : وقيل : لا يصح إلا في المساجد الأربعة : مسجد مكة ، ومسجد النبي صلىاللهعليهوآله ، ومسجد الجامع بالكوفة ، ومسجد البصرة ، وقائل جعل موضعه مسجد المدائن ، وضابطه : كل مسجد جمع فيه نبي أو وصي جماعة ، ومنهم من قال : جمعة ،.
أقول : الاقتصار على المساجد الأربعة التي عددها المصنف أولا مذهب الشيخ والسيد المرتضى ، وهو المشهور بين الأصحاب ، ولهم عليه روايات (٣) كثيرة ، وجعل علي بن بابويه موضع مسجد البصرة مسجد المدائن ، قال : والعلة في ذلك أنه لا يعتكف إلا في مسجد جمع فيه إمام عدل ، وقد جمع النبي
__________________
(٣) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٣.
صلىاللهعليهوآلهوسلم بمكة ، وجمع أمير المؤمنين عليهالسلام في هذه المساجد ، وقد روي (٤) مسجد البصرة ، واكتفى ابن ابي عقيل بمطلق المساجد ، واستدل الجميع بالروايات (٥).
__________________
(٤) المصدر السابق ، حديث ١٢.
(٥) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٣ هذا للمشهور ، ودليل ابن بابويه نقله في السرائر ١ : ٤٢١ ، ويظهر من كشف الرموز ١ : ٣١٧ والمهذب البارع ٢ : ٩٨ انه لم يتمسك برواية.
في أقسامه
قال رحمهالله : والثاني لا يجب المضي فيه حتى يمضي يومان فيجب الثالث ، وقيل : لا يجب ، والأول أظهر.
أقول : قد سبق (٦) البحث في هذه.
قال رحمهالله : ولو شرط في حال نذره الرجوع إذا شاء كان له ذلك أيّ وقت شاء ولا قضاء ، ولو لم يشترط وجب استئناف ما نذره إذا قطعه.
أقول : هذه المسألة لم يتردد فيها المصنف ولا ذكر فيها خلافا ، ولكنها من المسائل المهمة من علم الفقه ، وهي ذات شعب وفروع ، فأحببت أن أكشف رموزها ونكاتها وأبين فروعها وتحقيقاتها وبالله المستعان ، فنقول :
يجوز اشتراط الرجوع عند العارض قطعا ، لقول الصادق عليهالسلام : «واشترط على ربك في اعتكافك كما تشترط عند إحرامك بأن لك في اعتكافك ان تخرج عند العارض ، إن عرض لك من علة تنزل بك من الله» (٧)
__________________
(٦) ص ٣٦٣.
(٧) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٩ ، حديث ٢.
وهل يجوز اقتراحا ، كأن يقول : (ولي الرجوع متى شئت)؟ عبارة المصنف هنا ، والعلّامة في القواعد تعطي الجواز ، وجزم به الشهيد ، قال : ولو شرط الرجوع متى شاء اتبع ولم يقيد بالعارض ، وهو مذهب أبي العباس في المحرر.
وظاهر الخبر وعبارات الفقهاء التقييد بالعارض ، لأنهم شبهوا الشرط هنا بالشرط في الإحرام ، والاشتراط في الإحرام إنما يصح مع العارض ، ولأن النذر لازم والتخيير ينافيه ، وهو ظاهر الشيخ في المبسوط ، لأن عبارته فيه : إذا شرط المعتكف على ربه إن عرض له عارض رجع فيه ، وظاهر العلامة في تحريره كذلك.
ووقت هذا الشرط عند عقد النذر إن كان الاعتكاف منذورا ، فيقول : (لله علي أن أعتكف الشهر الفلاني ، أو ثلاثة أيام ـ مثلا ـ ولي الرجوع فيه عند العارض) ، أو مطلقا على جواز الاقتراح ، وإن كان مندوبا ففي ابتداء اعتكافه فيقول : (أعتكف ثلاثة أيام أو أكثر ـ على قدر ما ينويه ـ ولي الرجوع إذا شئت ، أو مع العارض) ، فلو أطلق عند النذر وشرط في ابتداء اعتكافه لغي الشرط ولم يثمر شيئا.
إذا عرفت هذا فالاعتكاف إما واجب أو مندوب فإن كان مندوبا وشرط فيه الرجوع ، فإن كان الشرط مع العارض يعتد به ، فان قلنا : يلزم بالشروع ـ كما ذهب إليه الشيخ في المبسوط ـ وحصل العارض في الأولين جاز الرجوع قطعا ، وإن حصل في الثالث ، قال في المبسوط : لم يكن له الرجوع ، لأن الشرط إنما يؤثر فيما يوجبه الإنسان على نفسه ، واليوم الثالث وجب بأصل الشرع ، وسببه مضي اليومين.
وقيل : يجوز الرجوع مطلقا قضية للشرط ، وهو مذهب الشهيد نقله عن النهاية.
وان كان الشرط مطلقا من غير قيد جاز الرجوع متى شاء ، سواء كان
في الأولين أو الثالث على مذهب الشهيد ، وعلى مذهب السيد وابن إدريس يجوز الرجوع مطلقا ، سواء شرط أو لم يشرط ، وسواء كان في الأولين أو الثالث.
وعلى وجوب الثالث بمضي اليومين فجواز الرجوع في اليومين مطلقا ، وفي الثالث مع الشرط ، وإن كان الاعتكاف واجبا فإما أن يكون معيّنا أو لا ، وعلى التقديرين إما أن يكون يشترط التتابع أو لا ، وعلى التقادير الأربعة ، اما ان يشترط على ربه الرجوع عند العارض أو لا ، فالأقسام ثمانية :
الأول : ان لم يعيّن ولم يشترط التتابع ولا شرط على ربه ، فهذا يخرج مع العارض ، فإذا زال استأنف من رأس إن لم يعتكف ثلاثة ، وإن اعتكف ثلاثة وجب عليه الإتيان بالباقي ، فإن كان الباقي أقل من ثلاثة أكمله ثلاثة.
الثاني : لم يعيّن ولم يشترط التتابع واشترط على ربه ، فهذا يخرج مع العارض ، فاذا زال استأنف إذا كان الماضي أقل من ثلاثة ، وإن كان ثلاثة بني عليها إن كان الواجب أكثر ، وإن بقي أقل من ثلاثة أكمله ثلاثة ، هذا على مذهب المصنف في المعتبر والعلّامة في التذكرة وأبي العباس في المهذب ، لأنهم ذهبوا الى وجوب القضاء مع عدم تعيين الزمان ، وعدمه مع تعيينه ، وذهب العلامة في المختلف والمصنف إلى عدم القضاء مطلقا ، لأن فائدة الشرط سقوط القضاء ، وظاهر ابن الجنيد وجوب القضاء مطلقا وإنما تقسيمنا على المذهب الأول.
ولو كان شرط الرجوع اقتراحا ثمَّ رجع اقتراحا أيضا سقط عنه ما بقي من النذر قضية للشرط ، وان كان رجوعه لأجل العارض ولم يختر قطعه وجب عليه إتمام ما بقي ، لأنه لم يختر قطع الاعتكاف ، وإنما قطعه لعارض ، فإذا زال وجب عليه الإتيان بالباقي ، وإنما يسقط عنه لو اختار قطعه لأجل الشرط ،
وهذا قطعه لغير الشرط فيجب إتمامه ، لأصالة البقاء وعدم صلاحية العارض لإسقاطه.
الثالث : لم يعين واشترط التتابع ولم يشترط على ربه ، فإنه يخرج مع العارض فإذا زال استأنف اعتكافا متتابعا ، لأنه وجب عليه متتابعا ولم يفعله كذلك وليس يتعين بشروعه في الاعتكاف ، لأنه لم يعينه في نذره فيجب عليه الإتيان به على وصفه الذي شرطه في نذره.
الرابع : عين زمانا ولم يشترط التتابع لفظا ولا شرط على ربه ثمَّ حصل العارض ، فإذا زال العارض فإن بقي منه بقية وجب الإتيان بها على الفور ، ويقضي الفائت بعد الفراغ من تلك البقية ، وإن لم يبق شيء قضى ما فاته خاصة ولم يجب الفور.
الخامس : لم يعين زمانا لكن اشترط التتابع واشترط على ربه ،
فعند العارض يخرج ثمَّ يأتي بما بقي عليه متتابعا عند زوال العارض ، هذا إن كان اعتكف ثلاثة وإلا استأنف من رأس.
السادس : عين زمانا واشترط التتابع ولم يشترط على ربه ، فهذا يخرج مع العارض ويقضي مع الزوال متابعا.
السابع : عين زمانا ولم يشترط التتابع واشترط على ربه ، فهذا يخرج عند العارض ولا يجب عليه الإتيان ولا القضاء عملا بالشرط.
الثامن : عين زمانا واشترط التتابع واشترط على ربه ، فهذا يخرج عند العارض فإذا زال لم يجب عليه الإتمام عملا بالشرط ، ولا القضاء ، لأصالة البراءة.
فرعان :
الأول : لو شرط الخروج عند عارض معين تخصص به ، ولا يخرج لغيره
ويخرج له إن عرض ، فإن قال : (إن عرض قطعت اعتكافي) خرج له وبطل اعتكافه ، وإن قال : (أخرج) ، خرج وعاد مع قصر الزمان ، ولا يبطل اعتكافه ، وان طال الزمان بطل.
الثاني : لو شرط المنافي كالأكل ، والنكاح ، والتكسب بالبيع ، أو الشراء ، أو الصنائع بطل نذره لعدم صحة الشرط المقيد به ، وإنما صح شرط الخروج ـ وإن كان منافيا للإجماع إلا من مالك فإنه لم يجوزه لكونه منافيا كالأكل والجماع ، وخالفه جميع العلماء ـ لورود النص به عن الصادق عليهالسلام ، ولأنه عبادة وجبت عليه بعقده فكان له الشرط فيها ، ولأن الاعتكاف لم يخص بقدر معين ، فإذا شرط الخروج فكأنه نذر ذلك القدر الذي إقامة لا غير ، ولأن فيه استظهارا للمكلف على براءة ذمته من القضاء.
في أحكامه
قال رحمهالله : وشمّ الطيب على الأظهر.
أقول : تحريم الطيب على المعتكف مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن الجنيد وابن إدريس ، واختاره العلامة ، لأنه أحوط.
قال رحمهالله : وقيل : ويحرم عليه ما يحرم على المحرم ، ولم يثبت.
أقول : القائل بذلك الشيخ في الجمل ، وتبعه ابن حمزة وابن البراج ، وقال في المبسوط : وله أن ينكح وينظر في أمور معيشته ، وروي أنه يجتنب ما يجتنبه المحرم ، وقال : وذلك مخصوص بما قلناه ، لأن لحم الصيد لا يحرم عليه ، وعقد النكاح.
وقال ابن إدريس بعدم التعميم ، واختاره المصنف والعلامة.
قال رحمهالله : ومن مات قبل انقضاء اعتكافه الواجب ، قيل : يجب على الولي القيام به ، وقيل : يستأجر من يقوم به ، والأول أشبه.
أقول : عبارة المصنف وعبارة العلامة في القواعد والتحرير وعبارة الشيخ في المبسوط توهم أن الموت في أثناء الاعتكاف قبل فواته والتمكن من قضائه ،
لأن قولهم : من مات قبل انقضاء اعتكافه يدل على الموت في أثنائه ولا يدل على الموت قبل القضاء بعد الفوات ، لحصول الفرق بين لفظي القضاء والانقضاء ، مع أن عبارتهم في هذه الكتب التي ذكرناها لا تختلف لفظا ولا معنى ، ولم يتابعهم الشهيد على هذا اللفظ ، بل قال : لو مات قبل القضاء بعد التمكن وجب على الولي قضاؤه ، وهذا هو المقصود وإن أوهم لفظهم غيره ، لأن الموت قبل الفوات والتمكن من القضاء ، والإهمال لا يوجب على الولي القضاء.
إذا تقرر هذا فحجة القائل بالوجوب عموم (٨) الأمر بوجوب قضاء الصوم الواجب على الميت ، ولا يمكن الإتيان بمثل هذا الصوم إلا على هيئته ـ وهي هيئة الاعتكاف ـ فيكون الاعتكاف واجبا.
واحتج القائل بالعدم بأصالة براءة الذمة ، ووجوب قضاء الصوم لا يدل على وجوب قضاء الاعتكاف ، لعدم الملازمة بينهما.
قال رحمهالله : ومنهم من خص الكفارة بالجماع حسب ، واقتصر في غيره من المفطرات على القضاء ، وهو الأشبه.
أقول : البحث هنا في موضعين :
الأول : في الجماع ، وأوجب الشيخ في المبسوط به الكفارة ، سواء كان الاعتكاف واجبا أو مندوبا ، واختاره العلامة في التحرير والتذكرة ، وأكثر الأصحاب أطلق وجوب الكفارة في الجماع ولم يفصلوا (٩) ، وهو اختيار أبي العباس أيضا ، واشترط في القواعد وجوب الاعتكاف لأصالة البراءة ، ولأنه لم يفسد صوما متعينا عليه فلا يجب عليه الكفارة.
__________________
(٨) الوسائل ، كتاب الصوم ، باب ٢٣ من أبواب أحكام شهر رمضان.
(٩) كذا.
واحتج الأولون بعموم الروايات (١٠) ، والأخذ بالاحتياط.
وعلى تقدير الوجوب ، هل هي كفارة أو كفارتان إذا كان الجماع نهارا؟
قيل : إن كان في رمضان لزمه كفارتان ، إحداهما لرمضان ، والأخرى للاعتكاف ، وإن كان في غير رمضان فهي كفارة واحدة لأصالة براءة الذمة من الزائد.
وقيل : يلزمه كفارتان أيضا كرمضان ، وهو مذهب ابن إدريس ، واستقربه الشهيد ، لأن في النهار صوما واعتكافا ، فحينئذ لا فرق بين رمضان وغيره في وجوب كفارتين إن وقع الجماع نهارا ، وكفارة واحدة إن وقع ليلا.
الثاني : في الإفطار على غير الجماع ، وأوجبها الشيخ في المبسوط مطلقا في المعيّن والمطلق ، وفي أوّلي المندوب أو ثالثة ، وهو بناء على مذهبه فيه ، وهو أنه يجب بالشروع وغير المتعين يتعين بالشروع فيه ، وقال في النهاية : يجب في المتعين خاصة ، وعليه العلامة وأبو العباس.
فرعان :
الأول : لو نذر اعتكاف زمان معين كرجب مثلا ، ثمَّ أخلّ به من رأس وجب عليه كفارة واحدة لخلف النذر ، ولو اعتكفه وأفسده تعددت الكفارة بتعدد كل يوم يحصل فيه الإفساد ، ولو أفسد بعضه وأخلّ بالباقي وجب عليه عن كل يوم أفسده كفارة ، ووجب عما أخلّ به كفارة واحدة لخلف النذر ، لأن الباقي لا يسقط بإفساد ما قبله ، بل يجب عليه الإتيان به ، فإذا أخلّ به يكون قد أخلّ بالنذر فيجب الكفارة ، ولو نذر صوم شهر معين وأخلّ به من رأس تعددت الكفارة بتعدد الأيام ، قاله أبو العباس في اللمعة بخلاف الاعتكاف ، ولم يذكر الفرق بينهما.
__________________
(١٠) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٦.
والظاهر ان الفرق كون الاعتكاف عبادة واحدة ، لأنه يكفي فيه نية واحدة ، كقوله : (أعتكف هذا الشهر من أوله إلى آخره لوجوبه بالنذر قربة إلى الله) ، والصوم عبادة متعددة بتعدد الأيام المنذورة لافتقار كل يوم إلى نية ، وكل من نذر عبادة في زمان معيّن وأخل بها وجب عليه كفارة خلف النذر ، فتتعدد الكفارة بتعدد العبادة المنذورة مع الإخلال.
فإن قيل : هذا لازم لكم في الاعتكاف ، لوجوب الصوم فيه ، فالإخلال به إخلال بالصوم الواجب بالنذر ، مع أنه يجب تعدد النية فيه بتعدد الأيام ولا يكفي فيه نية واحدة.
قلنا : لا يلزمنا هذا ، لأن الصوم عبادة منفردة لم يتناولها عقد النذر ، وإنما وجب لكونه شرطا في صحة الاعتكاف ، كما أن الطهارة شرط في صحة الصلاة ، فلو نذر صلاة ركعتين وجبت الطهارة ولو أخلّ بها في الزمان المعين وجبت كفارة واحدة عن ترك الصلاة ، ولا تجب كفارة أخرى عن ترك الطهارة ، لأن نذر المشروط لا يستلزم نذر الشرط ، لجواز تغاير سبب الوجوب فيهما ، لأنه قد تجب الطهارة لصلاة غير المنذور ، ثمَّ يدخل وقت المنذورة فيؤديها فيها ، وقد يجب الصوم لغير الاعتكاف ، ثمَّ يؤدي الاعتكاف فيه ، فلا يلزم ما قلتم.
الثاني : إذا كان الإفساد بالخروج من المسجد ، فإن كان النذر معينا بزمان وجب عليه كفارة خلف النذر ، أو العهد ، أو اليمين بحسب الموجب لتحقق الحنث ، وكذا لو أفسده بما يوجب القضاء دون الكفارة كتعمد القيء.
ويحتمل ذلك في غير المعين ، لوجوبه بالشروع فيه ، ويحتمل العدم ، لإمكان الإتيان بالنذر لعدم تعينه في زمان فلا يتحقق الحنث.
ولو خرج من المسجد في ثالث المندوب لم تجب الكفارة وان وجب القضاء ،
قاله الشهيد في دروسه ، وأبو العباس في مهذبه ، ولو أفسده بالمفطر وجبت الكفارة.
قال رحمهالله : الارتداد موجب للخروج من المسجد ، ويبطل الاعتكاف ، وقيل : لا يبطل ، وإن عاد بنى ، والأول أشبه.
أقول : القول بعدم البطلان قول الشيخ في المبسوط لأصالة الصحة ، والقول بالبطلان مذهبه في الخلاف ، واختاره المصنف والعلامة ، لأنه إن كان عن فطرة وجب قتله ، وإن كان عن ملة وجب خروجه عن المسجد ، لأنه نجس ، ووجوب الخروج ينافي الاعتكاف ، ولأن الاعتكاف عبادة مشروعة من شرطها التقرب إلى الله تعالى ، وذلك لا يصح من الكافر.
قال رحمهالله : قيل : إذا أكره امرأته على الجماع وهما معتكفان نهارا في شهر رمضان لزمه أربع كفارات ، وقيل : يلزمه كفارتان ، وهو الأشبه.
أقول : وجوب الأربع مذهب ابن الجنيد وابن إدريس وابن حمزة وابن البرّاج ، واختاره العلّامة ، وقال الشهيد : لا نعلم فيه مخالفا غير المعتبر ، لأنه اقتصر فيه على كفارتين ، واختاره المصنف هنا كاختياره في المعتبر ، لأصالة براءة الذمة ، ولأن المكرهة لم تفطر فلا كفارة عليها.
احتج القائلون بوجوب الأربع بأنه فعل موجب للكفارة على اثنين فيتضاعف على المكره ، لصدور الفعل عنه أجمع لسقوط اعتبار فعلها باكراهها ، ولأنها لو طاوعته لزمهما أربع ، فمع الإكراه يلزمه ما يلزمها مع المطاوعة.
قال رحمهالله : إذا باع أو اشترى ، قيل : يبطل اعتكافه ، وقيل : يأثم ولا يبطل ، وهو الأشبه.
أقول : البطلان مذهب ابن إدريس إذا كان البيع والشراء اختياريا لا
ضرورة داعية إليه ، لأن الاعتكاف هو اللبث للعبادة ، فإذا فعل قبائح ومباحات لا حاجة إليها فما لبث للعبادة ، وخرج عن حقيقة المعتكف اللابث للعبادة فيبطل اعتكافه.
وقال الشيخ في المبسوط : يأثم ويصح اعتكافه لأصالة الصحة ، وهو اختيار العلامة.
تنبيه : لو باع المعتكف أو اشترى معاطاة لم يحرم ، لأنها ليست بيعا حقيقة ، لأنه هو الإيجاب والقبول اللذان تنتقل بهما العين من مالك إلى غيره ، فإذا خلا عن الإيجاب والقبول لا يكون بيعا حقيقة وإن كان بيعا مجازا لأصالة الإباحة ، والمنع يحمل على البيع الحقيقي ، لأن اللفظ إذا أطلق انصرف إلى الحقيقة دون المجاز.
ولقد نبه الشهيد على ذلك حيث شرط إباحة بيع ما يضطر إليه أو شرائه ، كشراء الغذاء والقميص المضطر إلى لبسه ، أو بيع شيء كذلك مع تعذر المعاطاة ، فإن تعذرت جاز له العقد على ذلك ولا إثم حينئذ.
قال رحمهالله : إذا اعتكف ثلاثة متفرقة ، قيل : يصح ، لأن التتابع لا يجب إلا بالاشتراط ، وقيل : لا ، وهو الأصح.
أقول : إذا نذر ثلاثة أيام مثلا ولا عينها بزمان ولا شرط التتابع ، هل يجب عليه تتابعها؟ قال الشيخ : نعم ، واختاره المصنف ، لأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام ، وقيل : يجوز تفريقها بأن يأتي بيوم من النذر ثمَّ يضم إليه آخرين نفلا ، أو من واجب غيره وهكذا ثلاثا ، لأن التتابع لا يجب إلا بالاشتراط كما قاله المصنف.
كتاب الحج