وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

لم الأحداث في الوضوء

١ ـ إنّ عثمان كان يرى لنفسه أهليّة التشريع ، كما كانت من قبل للشيخين ، فإنّه ليس بأقل منهما شأنا ، حتّى يجوز لهما الإفتاء بالرأي ولا يجوز له؟! مع أنّهم جميعا من مدرسة واحدة هي مدرسة الاجتهاد ، وكلّ منهم خليفة!! ٢ ـ إنه كان من المتشدّدين بظواهر الدين تشدّدا منهيّا عنه ، حتّى أنّه عند بناء مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه ، فإذا أصابه شي‌ء من التراب نفضه ، وذلك كلّه لأنّه كان رجلا نظيفا متنظّفا (١) ، مع أنّ عمارا كان على ضعفه يحمل لبنتين.

وكان عثمان يغتسل كل يوم خمس مرات ، ولا يردّ سلام المؤمن إذا كان في حالة الوضوء ، وقال هو عن نفسه بأنّه لم يمدّ يده إلى ذكره منذ بايع رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغيرها من حالاته التي تنمّ عن نفسية مهيّأة للتزيّد والمبالغة في التنظف.

٣ ـ استفادة عثمان من كون الوضوء نظافة وطهارة ، وهذه الفكرة تلائم فكر عثمان ، فلذلك يكون عنده تثليث الغسلات وغسل الممسوحات أكثر نظافة وطهارة ، ولا غضاضة في ذلك من وجهة نظره.

٤ ـ وجود أحاديث نبويّة أمكنه الاستفادة منها في طرح وضوئه الغسلي ، كاستفادته من إحسان الوضوء ، لأنّه كان قد قال بعد وضوئه الغسلي : واللّٰه لأحدثنكم حديثا ، واللّٰه لو لا آية في كتاب اللّٰه ما حدثتكموه .. إني سمعت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ، ثمّ يصلي إلّا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها» (٢). واستفيد من بعده من «أسبغوا الوضوء» ومن «ويل للأعقاب من النار» للتدليل على الغسل.

__________________

(١) انظر العقد الفريد ٥ : ٩٠ عن أم سلمة.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / الحديث ٦.

٤١

٥ ـ إنّه حين الثورة عليه كان يحاول تكثيف هالة القدسية حول نفسه ليدفع الثوار عن قتله ، فكان يذكرهم مواقفه وشراءه بئر رومة وو و (١) ليثبت بقاءه على الإيمان ، فكان الوضوء الجديد خطوة في هذا الدرب ، إرادة منه معالجة الموقف ، لكنه عالج الداء بالداء لا بالدواء.

٦ ـ كان يحاول إشغال الناس بالخلافات الفقهية ، والمناقشات فيها ، لدفعهم عن قتله وعن الخوض في مساوئ سياسته المالية والإدارية ، وذلك ما حصل بالفعل في كثير من آرائه ، إلّا أنّ النتيجة لم تكن محمودة العاقبة بالنسبة له ، ولذا قال الإمام علي بأنّ عمله هو الذي أجهز عليه.

٧ ـ ومن أهم دوافع إبداعاته هو التفاف الأمويين حوله ، محاولين بناء مجد فقهي سياسي جديد ، وهذا هو الذي أبعد بعض كبار الصحابة من التعاون معه ، مما خلق عنده فراغا فقهيا ملأته العقلية الأمويّة المحيطة به.

٨ ـ وجود حالة الاستسلام عند كثير من الصحابة ، والتي جعلت الخليفة لا يتورّع عن طرح ما يرتئيه ، لأنّ غاية معارضتهم أن تنتهي بمجرد قوله : «رأي رأيته» ، أو بقولهم : «الخلاف شر» ، و «إنّ عثمان إمام فما أخالفه» (٢) ، ممّا يعني رسوخ ما يطرحه الخليفة في نهاية المطاف.

٩ ـ تفشّي حالة الاجتهاد ، وتلقّيها بالقبول من قبل كثير من الصحابة ، مما أهّلهم لاستقبال ما يطرحه عثمان كرأي مقبول ، وقد تفشت هذه الحالة نتيجة اجتهادات وآراء عمر بن الخطّاب بشكل كبير جدا ، ومن قبله آراء الخليفة أبي بكر.

فمن كل هذه الأمور ـ وأمور جزئية أخرى طرحناها من قبل في مدخل الدراسة ـ وجدنا هذه المبررات هي التي دفعت عثمان لابتداع الوضوء الثلاثي الغسلي الجديد ، الذي لم يرتضه الصحابة المتعبدون!!

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري وغيره.

(٢) انظر الكامل في التاريخ ٤ : ١٠٤ ، البداية والنهاية ٧ : ٢٢٨ ، سنن البيهقي ٣ : ١٤٤.

٤٢

علي والوضوء

ولمّا تولّى الإمام عليّ الخلافة ـ وهو المتبنّي الوحيد من بين الخلفاء الأربعة لمدرسة التعبد المحض ـ راح يبين الوضوء النبويّ للمسلمين ، ويعرّض ويشير إلى إحداث عثمان في الوضوء النبوي ، ونستطيع أن ندرج خطواته في بيان الوضوء النبوي في المندرجات الآتية :

١ ـ إنّ الثابت المحفوظ عن عليّ في كتب الفقه والتفسير والحديث هو الوضوء الثنائي المسحي ، يتبعه في ذلك صحابة كثر على رأسهم ابن عباس والطالبيون وأنس بن مالك.

٢ ـ كان الإمام علي يشير إلى الإحداث الذي طال الوضوء بمثل قوله بعد الوضوء المسحي وشربه من فضلته : «إن أناسا يكرهون هذا ، وقد رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعله ، وهذا وضوء من لم يحدث (١)» ، وقوله : «وهذا وضوء من لم يحدث ، ورأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل هكذا» (٢) ، فهو يؤكّد وجود المحدثين في الوضوء ، ولم يكن قبله محدث في الوضوء إلّا عثمان كما علمت.

٣ ـ قوله عليه‌السلام : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه .. مغيّرين لسنته .. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى أن يقول : ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (٣).

وهذا النص ـ بعد الفراغ عن عدم إبداع الشيخين في الوضوء ـ يكاد يكون

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ١٥٣ ، وانظر مسند أحمد ١ : ١٤٤ ، سنن البيهقي ١ : ٧٥.

(٢) مسند أحمد ١ : ١٢. وقد بيّنّا في هذا المجلد الأول (المدخل) فساد رأي من ذهب إلى أن المقصود بالحدث هو الحدث الناقض للوضوء فراجع.

(٣) الكافي ٨ : ٥٩ ـ ٦٢.

٤٣

صريحا في إبداع عثمان للوضوء ، لأنّه عليه‌السلام صرح بابتداع الولاة من قبله ، ولمّا كان الشيخان براء من بدعة الوضوء بقي عثمان هو المقصود في كلام الإمام لا محالة.

٤ ـ كتابة الإمام علي كيفية الوضوء لواليه محمد بن أبي بكر في جملة ما كتبه إليه ، وكان في كتابه عليه‌السلام «تمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثا ، واغسل وجهك ، ثمّ يدك اليمنى ، ثمّ اليسرى ، ثمّ امسح رأسك ورجليك .. فإني رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع ذلك» (١).

٥ ـ تنبيه وإشارة الإمام علي ـ في جملة أحاديثه الوضوئية ـ إلى أن مبعث الأحداث في الوضوء هو الاجتهاد والرأي ، وأنّ الوضوء ـ بل الدّين ـ لا يدرك بالرأي ، فكان يقول : «لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهرها ، لكن رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ظاهرها» (٢) ، ويقول : «كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتّى رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح ظاهرهما» (٣).

فهو يقرر أنّ الدين ـ ومنه الوضوء ـ لا يدرك بالرأي كما يتصوره البعض ، وإلّا لكان باطن القدم أحقّ بالمسح ، فكيف يعدل عنه إلى غسل الظاهر والباطن بمحض الرأي والاجتهاد؟! ٦ ـ كانت وضوءات الإمام عليّ البيانية ـ وكذلك ابن عباس وأنس بن مالك ـ تحمل في ثناياها أدلّة من الكتاب والسنة ، وليست ادعاءات محضة لرؤية الوضوء النبوي ، لأن قول علي : «لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحق بالمسح من ظاهرها لكن رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح على أعلى قدميه» (٤) ، وما شاكله يتضمّن

__________________

(١) أنظر أمالي المفيد المطبوع في جملة مصنفاته ١٣ : ٢٦٧ ، أمالي الطوسي : ٢٩ بإسناد في ضمنه الثقفي صاحب الغارات ، وقد حرف النص المتقدم في كتاب الغارات المطبوع وقد بينا التحريف الواقع في نسخ الغارات المطبوع ، ومن أراد المزيد فليراجع مدخل الدراسة.

(٢) المصنف ١ : ٣٠ / الحديث ٦.

(٣) سنن أبي داود ٤٢ : الحديث ١٦٤.

(٤) تأويل مختلف الحديث ١ : ٥٦.

٤٤

دلالة الكتاب على المسح لأنّه أرسله إرسال المسلمات طبق أصل تشريعه وهو آية الوضوء الظاهرة في مسح القدمين ، ثمّ دحض الرأي الذي لو سلّم لكان الباطن أحق بالمسح ، وعلى التقديرين فالمسح هو المشروع سواء كان الظاهر أو الباطن ، وبعد كلّ ذلك أكّد علي بن أبي طالب رؤيته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يمسح أعلى قدميه.

وكذلك ابن عباس كان يقول «لا أجد في كتاب اللّٰه إلّا غسلتين ومسحتين».

وكان أنس يعارض رأي الحجاج الذاهب إلى غسل القدمين ـ بحجة أنّه أقرب شي‌ء للخبث ـ بقوله : صدق اللّٰه وكذب الحجاج ، قال تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ).

والمقصود الأوّل هنا هو تدليلات الإمام علي بالكتاب والسنة ودحض الرأي ، وهذا بخلاف وضوءات عثمان المدعية لمحض الرؤية والمتشبّثة بما لا يمت إلى أصل أفعال الوضوء بصلة ، فكأنّ الإمام عليّا أراد أن يشير إلى اجتهاد عثمان في الوضوء ودحضه.

٧ ـ وبعد هذا كله فإنّنا لا نرى في وضوءات علي ولا ابن عباس ولا أنس ولا غيرهم من الماسحين تلك الضحكات والتبسمات ، ولا إشهادات الخائف الطارح لفكر جديد ، ولا تبرّعات بالتعليم لمجرّد سماع مضمضة ، ولا غيرها مما ذكرناه في الوضوءات العثمانية ، بل نرى الحالة حالة طبيعية منسجمة مع سير الأمور في تعليم الوضوء النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصحيح ، ودحض الوضوء الجديد النابع من الرأي ، إذ كانت نصوصهم تحوي النفي والإثبات معا.

الأمويون والوضوء :

ولمّا استشهد الإمام علي وصالح الإمام الحسن معاوية ، تولّى الأخير السلطة ، فراح يترسّم خطى عثمان فقهيا ويدعمه عقائديّا ، ويتبنّى آراء ابن عمه ، كما حدث ذلك عند ما صلّى الظهر في مكّة ركعتين ، فنهض إليه مروان بن الحكم

٤٥

وعمرو بن عثمان وقالا له : ما عاب أحد ابن عملك بأقبح ممّا عبته به.

فقال لهما : أنّه صلاهما مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر قصرا.

فقالا له : إنّ ابن عمك قد كان أتمّهما ، وإنّ خلافك إيّاه عيب ، فخرج معاوية إلى منى فصلّاها بنا أربعا (١).

وكذلك تابع عثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين (٢) ، وكذلك ترك معاوية التكبير المسنون في الصلاة لترك عثمان ، وتركه زياد بن أبيه لترك معاوية (٣).

ومثله فعل في تركه التلبية في الحج (٤) ، حيث نصّوا على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبا بكر وعمر أهلّوا ولم يذكروا عثمان (٥) ، هذا إلى غيرها من المفردات الفقهية.

وكذلك كانت خطوات معاوية في تقرير قاعدة «من غلب» بعد أن كان يعتقدها عثمان ، مضافا إلى مفاهيم عقائدية ركّزها معاوية يعود نفعها لتثبيت أركان الحكم الأموي وعلى رأسه أفكار عثمان ، والّذي يهمنا هو تبنّيه لفقه عثمان ، وتأثير ذلك على الوضوء.

لقد سار الفقه الأموي على خطى عثمان ، فراح يستفيد من «أسبغ الوضوء» و «ويل للأعقاب من النار» لترسيخ الوضوء العثماني.

١ ـ فقد دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة يوم توفّي سعد بن أبي وقاص [سنة ٥٥ ه‍] فتوضأ عندها ، فقالت له : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (٦).

فلاحظ كيف عدلت عائشة عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «أسبغوا الوضوء» ـ مع أنّ المقام

__________________

(١) أنظر مسند أحمد ٤ : ٩٤ ، فتح الباري ٢ : ٤٥٧ ، نيل الأوطار ٣ : ٢٥٩.

(٢) انظر الدر المنثور ٢ : ١٣٧ ، والموطأ ٢ : ٥٣٨ / الحديث ٣٤.

(٣) انظر فتح الباري ٢ : ٢١٥.

(٤) سنن النسائي (المجتبى) ٥ : ٢٥٣ ، سنن البيهقي ٥ : ١١٣.

(٥) انظر المحلى ٧ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، فتح الباري ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٦) صحيح مسلم ١ : ٢١٣ / الحديث ٢٥ ، الموطأ ١ : ١٩ / الحديث ٥ ، شرح معاني الآثار ١ : ٣٨ / الحديث ١٨٨.

٤٦

يقتضي الاستدلال به (١) إلى الاستدلال ـ بـ «ويل للأعقاب من النار» ، وهذا العدول يكمن وراءه ادّعاء أم المؤمنين ـ ومن ورائها الأمويون ، وعثمان من قبل ـ دلالة «ويل للأعقاب» على الوضوء الغسلي ، كما ترسّخ ذلك الفهم حتّى اليوم عند أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي.

ومحصّل الكلام إنّ هذا النصّ يوقفنا على الاختلاف بين وضوء عبد الرحمن والوضوء الذي أرادته أم المؤمنين عائشة ، وحيث عرفنا أن عائشة بقولها السابق أرادت التدليل على الغسل ، عرفنا من مفهوم المخالفة أن عبد الرحمن كان يذهب إلى المسح على القدمين.

وجاء أبو هريرة ليصنع نفس صنيع أمّ المؤمنين ، وذلك أنّه رأى قوما يتوضئون من المطهرة ، فقال : أسبغوا الوضوء ، فإنّي سمعت أبا القاسم يقول : «ويل للعراقيب من النار» (٢).

وقد مثّل غير واحد من العلماء (٣) للإدراج بحديث أبي هريرة عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله «أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار» لكونهما لم يصدرا على هذا النسق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يدلنا على أنّ أبا هريرة كان يريد الاستفادة ـ كعائشة ـ من «الويل للأعقاب» أو (العراقيب) للتدليل على الوضوء الغسلي العثماني.

ويتضح ذلك بجلاء فيما أخرجه عبد الرزاق ، عن ابن جريح ، قال : قلت لعطاء : لم لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس ، وقد قالهما جميعا (٤)؟

قال : لا أراه إلّا مسح الرأس وغسل القدمين ، إنّي سمعت أبا هريرة يقول : ويل للأعقاب من النار.

قال عطاء : وإنّ أناسا ليقولون هو المسح ، وأمّا أنا فأغسلهما (٥).

__________________

(١) لكونها قد قالت : يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥ / الحديث ٢٩.

(٣) انظر مثلا السيوطي في تدريب الراوي.

(٤) يعني أن القرآن قالهما معا.

(٥) المصنف لعبد الرزاق ١ : ٢٠ / الحديث ٥٨.

٤٧

فها هو يستدل على الغسل بقول أبي هريرة «ويل للأعقاب» ، وهذا يبيّن لنا حلقات متواصلة في سبيل تثبيت الوضوء الغسلي ، فمن عدول عائشة ، وإدراج أبي هريرة ، واستدلال عطاء ، تتبيّن سلسلة التطورات التي استفيد منها لتقرير وتدعيم الوضوء العثماني.

٢ ـ واستمر التدعيم الأمويّ للوضوء العثماني ، والإصرار من (نهج التعبد المحض) على بطلان ذلك ، ومخالفته للكتاب والسنة.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده إلى الربيع بنت معوّذ أنّها قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذكرت أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ وغسل رجليه ـ فقال ابن عباس : إنّ الناس أبوا إلّا الغسل ، ولا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح (١).

وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، أسألها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يتوضّأ عندها ، فأتيتها ، فأخرجت إلىّ إناء ..

فقالت : .. بهذا كنت أخرج لرسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيبدأ فيغسل يديه ثلاثا ، قبل أن يدخلهما الإناء ، ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثا ثلاثا ، ويغسل وجهه ثلاثا ، ثمّ يغسل يديه ثلاثا ثلاثا ، ثمّ يمسح رأسه مقبلا ومدبرا ، ويغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ،قالت : وقد جاءني ابن عمّ لك [تعني ابن عباس] فسألني عنه فأخبرته.

فقال : ما علمنا في كتاب اللّٰه إلّا غسلتين ومسحتين (٢).

وهنا نقف على صراعين وضوئيين كانا في العصر الأموي.

أ ـ بين الربيع وبين ابن عباس.

ب ـ بين الربيع وبين الإمام السجاد وعبد اللّٰه بن محمد بن عقيل.

فالربيع ـ وعلى ضوء النصين الآنفين ـ كانت قد تبنّت الوضوء الغسلي وأصرت

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / الحديث ٤٥٨.

(٢) مسند الحميدي ١ : ١٦٤ ، ومسند أحمد ٦ : ٣٥٨.

٤٨

عليه ، مع معرفتها بأنّ عترة الرسول لا يقبلون بنقلها للوضوء الغسلي ، إذ أن ابن عباس قد استدل على سقم رأيها بالقرآن الكريم ، وفي اعتراضه إشارة إلى عدم قبول نسبة الغسل إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تراه رحمه اللّٰه ـ في نص آخر ـ يستدل عليها بالرأي إلزاما لها ـ أو لهم ـ بما ألزموا به أنفسهم ، لسقوط العضوين الممسوحين في التيمم.

وهذا يؤكد الدعم الأموي عبر أقطابه ومحدثيه للوضوء العثماني الغسلي.

٣ ـ ووصل الأمر في الوضوء الغسلي إلى أن يتبناه الحجاج ـ وهو بعيد عن الدين بعد الأرض عن السماء ـ ويعلن به من على المنبر.

فقد أخرج الطبري بسنده إلى حميد ، قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس من ابن آدم أقرب إلى خبث من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما .. فقال أنس : صدق اللّٰه وكذب الحجاج ، قال تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (١).

وهذا ـ الإعلان و ـ الاستدلال من الحجّاج يدلّ على تبني الأمويين للوضوء العثماني من جهة ، كما يدلّ على تحكيم الاجتهاد والرأي في الوضوء في جهة مقابلة تماما لوضوء النبي والإمام علي ، ففي حين يؤكد علي بن أبي طالب على أنّ الوضوء لو كان بالرأي لكان باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما لكنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ظهورهما ، يأتي الحجّاج فيعارضه ويعارض القرآن ، مصرّحا بأنّه لا بدّ من غسل باطنهما وظهورهما وعراقيبهما ، بحجّة كونهما أقرب للخبث!! وبعد هذا لا يبقى مجال للشك في تبنّي الأمويين للوضوء العثماني ، وانتهاجهم نفس نهجه واستدلالهم بنفس استدلالاته ، مع تطويرها وإشاعتها بالآراء والتأويلات والاجتهادات والدلالات البعيدة ، وهذا ما يؤكّد عدم أصالة ذلك الوضوء وعدم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ٨٢ ، وانظر تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢ ، الدر المنثور ٢ : ٢٦٢ ، تفسير الخازن ١ : ٤٣٥.

٤٩

تلقّيهم إياه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومبالغة في تثبيت الوضوء المدّعى نسبوا إلى إعلام الماسحين كعلي وابن عباس وأنس أنّهم كانوا يثلّثون الغسلات ، أو يغسلون الأرجل أو .. ليبعدوا عن أنفسهم شبهة الابتداع ، وقاموا في هذا السبيل أيضا بمنع التدوين ، حتّى جاء عمر بن عبد العزيز ليأمر بتدوين تلك الأحاديث وليعمّم كتابا إلى الافاق يأمرهم فيه بالأخذ عن ابن شهاب الزهري ، معلّلا ذلك بأنهم لا يجدون أعلم منه ، وقد سخّروا رجاء بن حياة ـ المعدود من أفقه فقهاء الشام ـ ليرشد الناس ويفتيهم بآراء عبد الملك بن مروان (١) ، ومثله جاء عن عبد اللّٰه بن عمر (٢) ودفعه الناس للأخذ عن عبد الملك.

وكان أبو هريرة من الداعين للسكوت عن ظلم الأمويين (٣) ، وكانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأيا في العامّة (٤) وو وكل هذا جاء لتضعيف معالم فقه التعبد المحض وتحريف الوضوء النبوي ، ومن أجله رأينا ازدياد عدد المؤيّدين لوضوء الدولة في هذه الحقيقة بعد أن كانت الكفّة في زمان عثمان وقبله راجحة للوضوء الثنائي المسحي ، ولكن بقي ـ رغم كل جهود الدولة الأموية ـ تابعون قائلون بالوضوء المسحي ، من أمثال عروة بن الزبير ، والحسن البصري وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعكرمة ، وعلقمة بن قيس ، والإمام الباقر ، والإمام الصادق ، وغيرهم ممن يعلمهم المتتبع.

فالأمويون لم يتمكنوا من مجابهة الوضوء المسحي ـ وإن كانوا هم دعاة للوضوء الغسلي ـ ولا نرى التقية تعمل في الوضوء عند أئمة أهل البيت حتى أواخر عهد الأمويين ، ومن يراجع مرويات الباقر في الكتب الحديثية الأربعة عند الشيعة ، يجد الإمام يصف وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو غير مكترث بما قيل أو يقال.

__________________

(١) انظر تهذيب الكمال ٩ : ١٥٤.

(٢) انظر تهذيب التهذيب ٦ : ٤٢٢ ، تهذيب الكمال ١٨ : ٤١٠ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٨٩ ، المنتظم ٦ : ٣٩.

(٣) انظر كتاب الأموال : ٤١٢ ، والشعر والشعراء : ٣٩٢.

(٤) انظر وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (المدخل) : ٢٣٤.

٥٠

ويبدو أن الأمويين كانوا يجاملون بعض الصحابة والتابعين كأنس بن مالك وابن عباس وعلي ابن الحسين ومحمد بن علي الباقر وغيرهم في وضوئهم ، فلم يواجهوهم بالعنف ، وإن كانوا في ظروف أخرى يواجهون بعضا آخر بالعنف ، كما في حديث أبي مالك الأشعري (١) ، وكيف كان خائفا من بيان وضوء النبي أو صلاته لقومه.

العباسيّون والوضوء

لقد قامت الدولة العباسية على أكتاف شعار «الرضا من آل محمد» ، وكان الناس قد التفّوا حولها وأيّدوها باعتبارها الدولة المنتصرة للحق ، وقد قضى أبو العباس السفاح فترة حكومته منشغلا بتصفية الخصوم الأمويين وأذيالهم ، فكان في معزل عن الصراعات الفقهية وعن الكفة العلوية بالذات.

ولكن لما آل الأمر إلى أبي جعفر المنصور العباسي اختلفت الموازين ـ بعد أن ثبتت أركان الدولة ـ فقد راح يشتري الفقهاء بالصلات والهدايا والمناصب وكراسي القضاء وو و .. ولكنه وأتباعه عجزوا عن أبي حنيفة ، فضايقوه ونكّلوا به بلا جدوى ، إلّا أنهم أفلحوا من بعد في استدراج تلميذه القاضي أبي يوسف.

وقد بقي الإمام جعفر بن محمد الصادق رائد مدرسة التعبد المحض آن ذاك ، وصاحب الوضوء الثنائي المسحي ، حجر عثرة في طريق المنصور والعباسيين ، فراح المنصور يتّخذ شتى الأساليب محاولا إفحامه.

فدعا المنصور أبا حنيفة لإعجاز الإمام بمسائل عويصة ولكنّه لم يفلح ، بل أذعن أبو حنيفة بأن الصادق عليه‌السلام أعلم الناس (٢).

فأخذ المنصور يدعو إلى الأخذ بمذهب مالك ، فدعاه وأمره بتدوين العلم

__________________

(١) انظر مسند أحمد ٥ : ٣٤٢.

(٢) انظر مناقب أبي حنيفة للموفق الخوارزمي ١ : ٧٣ ، جامع أسانيد أبي حنيفة ١ : ٢٢٢.

٥١

وجعله علما واحدا يحمل الناس عليه (١) ، راسما له المنهج في أن لا يقلّد عليّا وابن عباس ، وأن يأخذ بأقوال ابن عمر وإن خالف عليا وابن عباس (٢) ، علما بأنّ مالكا كان ينفرد بتفصيل الخلفاء الثلاثة على سائر الصحابة ، والحكومة لا تعدّ عليّا إلّا كسائر الناس (٣).

وهذا المخطط الفقهي العقائدي المحموم من المنصور ، طال الوضوء النبوي أيضا ، فالتزم المنصور بالوضوء العثماني الغسلي الثلاثي ، وترك الوضوء النبوي ـ المسحي الثنائي ـ الذي صار من جملة الفروع الفقهية التي يعرف بها الشيعة.

المنصور والوضوء

فعن داود الرقي ، قال : دخلت على أبي عبد اللّٰه ـ أي الصادق عليه‌السلام ـ فقلت له :جعلت فداك كم عدّة الطهارة؟

فقال : «ما أوجبه اللّٰه فواحدة ، وأضاف إليها رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له» ، أنا معه في ذا حتّى جاءه داود بن زربي ، فسأله عن عدّة الطهارة؟ فقال له : «ثلاثا ثلاثا ، من نقص عنه فلا صلاة له»!!.

قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبد اللّٰه إليّ وقد تغيّر لوني ، فقال : «اسكن يا داود ، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق».

قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنّه رافضيّ يختلف إلى جعفر بن محمد.

فقال أبو جعفر المنصور : إنّي مطّلع إلى طهارته ، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حقّقت عليه القول وقتلته.

__________________

(١) وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(٢) الطبقات الكبرى ٤ : ١٤٧ ، وانظر الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ٥٠٤.

(٣) موقف الخلفاء العباسيين : ١٧٠.

٥٢

فاطّلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد اللّٰه ، فما تمّ وضوءه حتّى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه.

قال : فقال داود : فلمّا أن دخلت عليه رحّب بي ، وقال : يا داود قيل فيك شي‌ء باطل ، وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة ، فاجعلني في حلّ ، وأمر له بمائة ألف درهم.

قال : فقال داود الرقي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد اللّٰه ، فقال له داود بن زربي : جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة.

فقال أبو عبد اللّٰه : فعل اللّٰه ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين ، فقال أبو عبد اللّٰه لداود بن زربي : حدّث داود الرقي بما مرّ عليكم حتّى تسكن روعته.

فقال : فحدّثته بالأمر كلّه.

قال : فقال أبو عبد اللّٰه : «لهذا أفتيته ، لأنّه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو» ثمّ قال : يا داود بن زربي توضّأ مثنى مثنى ولا تزيدن عليه ، فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك (١).

فالإمام الصادق علم السياسة المنصورية التي تتحيّن الفرص ، وعلم أنّ داود بن زربي قد وشي به إلى السلطة عبر الوضوء الثنائي المسحي ، فعالج الموقف علاجا حكيما.

والذي يتضح هنا هو اتخاذ المنصور هذه المفردة الوضوئية كرقم يدل على متابعة مدرسة التعبد المحض والتحديث ، وهي مدرسة جعفر بن محمد الصادق ، وكان هذا الرقم كافيا لقتل من يؤمن به.

المهدي والوضوء

وكان نفس هذا المسلك عند المهدي العباسي ، فإنه كان يريد معرفة المخترقين

__________________

(١) رجال الكشي : ٣١٢ / رقم ٥٦٤. وعنه في وسائل الشيعة ١ : ٤٤٣ ح ١١٧٢.

٥٣

لجدار سلطته عبر الوضوء النبوي الصحيح ، وكان داود بن زربي أيضا محطّ النظر في قضية الوضوء ، ممّا يعني أنّ الجواسيس كانوا يؤكّدون على مفردة الوضوء الثنائي المسحي أيضا في معرفة المخالفين للسلطة العباسية ولمدرسة الاجتهاد والرأي.

فعن داود بن زربي قال : سألت الصادق عن الوضوء؟ فقال لي : «توضأ ثلاثا ثلاثا».

ثمّ قال لي : أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟! قلت : بلى.

قال داود : فكنت يوما أتوضأ في دار المهدي ، فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به ، فقال : كذب من زعم أنك رافضي وأنت تتوضأ هذا الوضوء.

قال : فقلت : لهذا واللّٰه أمرني (١).

وهذا النص يؤكد استمرار النزاع الوضوئي ، وتأكيد الحكّام على ضرورة التزام الوضوء العثماني وترك الوضوء النبوي الثنائي المسحي.

ولا يخفى عليك أنّ المهدي العباسيّ كان يكره نهج علي في الفقه والإمامة ، إذ أنّ القاسم بن مجاشع التميمي عرض عليه وصيّته ، وكان فيها بعد الشهادة بالوحدانية ونبوة محمد «وأنّ علي بن أبي طالب وصيّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ووارث الإمامة من بعده» ، فلمّا بلغ المهدي إلى هذا الموضع رمي بالوصية ولم ينتظر فيها (٢).

وسأل المهدي شريكا القاضي قائلا : ما تقول في علي بن أبي طالب؟

قال : ما قال فيه جدك العباس وعبد اللّٰه.

قال : وما قالا فيه؟

قال : فأمّا العباس فمات وعليّ عنده أفضل الصحابة ، وكان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتّى لحق بالله ، وأمّا عبد اللّٰه فإنّه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأسا منيعا وقائدا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨٢ / الحديث ٢١٤ ، الاستبصار ١ : ٧١ / الحديث ٢١٩.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٨٧٦ / حوادث سنة ١٦٩ ه‍.

٥٤

مطاعا ، فلو كانت إمامته على جور ، كان أوّل من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين اللّٰه وفقهه في أحكام اللّٰه ، فسكت المهدي ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلّا قليلا حتّى عزل شريك (١).

وهذا ما يؤكد عداءهم لنهج عليّ خلافة ووصية وفقها ، ومنه مفردة الوضوء كما عرفت.

الرشيد والوضوء

ولما آل الأمر إلى هارون الرشيد ـ الذي تعدّ فترة حكمه أوج قوة العصر العباسي وعصرها الذهبي ـ نحا نفس منحى أسلافه في رفض علي وابن عباس ـ وإن كان الأخير جدّهم ـ ورفض منهجهم الفكري والفقهي ، فما أن دار الحوار السابق بين المهدي وشريك ، حتّى قدم هارون الرشيد الكوفة يعزل شريكا عن القضاء (٢) ، وليس بنا حاجة هاهنا إلى شرح ظلم الرشيد للعلويين ، ولكنّ الذي نريد التأكيد عليه هو محاربته إياهم فقهيّا إضافة إلى محاربتهم سياسيا وعسكريّا.

فقد جاء رجل إلى الرشيد يخبره عن مكان يحيى بن عبد اللّٰه بن الحسن ، ووصف له شكله ولباس وهيئته وجماعته ، فلم يطمئن الرشيد بل سأله : أو تعرف يحيى؟

قال : قديما ، وذاك الذي حقّق معرفتي بالأمس له.

قال : فصفه لي.

قال : مربوع ، أسمر ، حلو السمرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن.

قال : هو ذاك ، فما سمعته يقول؟

قال : ما سمعته يقول شيئا ، غير أنّي لمّا رأيته رأيت غلاما له أعرفه ، لمّا حضر وقت صلاته فأتاه بثوب غسيل فألقاه في عنقه ونزع جبته الصوف ليغسلها ، فلمّا كان

__________________

(١) تاريخ بغداد ٩ : ٢٩٢.

(٢) تاريخ بغداد ٩ : ٢٩٢.

٥٥

بعد الزوال صلّى صلاة ظننتها العصر ، أطال في الأولتين وحذف الأخيرتين.

فقال له الرشيد : للّٰه أبوك ، لجاد ما حفظت ، تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم (١).

فلم يطمئن الرشيد بكلّ ما وصفه له ذلك الرجل وكل ما قاله ، حتّى إذا وصف له صلاة العصر ووقتها ، والجمع بين الصلاتين علم صدقه وتحقّق معرفته به ، وهذا يدل على بشاعة استغلال الخلفاء للفقه على الأصعدة كافّة.

وأمّا الوضوء ، فقد كان الرشيد قد اتخذه مفردة يعرف بها الشيعة ليوقع بهم ، ومن ذلك محاولته الإيقاع بعلي بن يقطين.

فعن محمد بن الفضل ، قال : اختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء ، أهو من الأصابع إلى الكعبين أم من الكعبين إلى الأصابع؟

فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر : جعلت فداك ، إنّ أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إليّ بخطّك ما يكون بحسبه ، فعلت إن شاء اللّٰه.

فكتب إليه أبو الحسن : «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلاثا ، وتغسل وجهك ثلاثا ، وتخلل شعر لحيتك ، وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثا ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ولا تخالف ذلك إلى غيره».

فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين ، تعجّب ممّا رسم له ـ مما أجمع العصابة على خلافه ـ ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة ، امتثالا لأمر أبي الحسن.

وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنّه رافضي مخالف لك ، فقال

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣١٠.

٥٦

الرشيد لبعض خاصته : قد كثر عندي القول في علي بن يقطين والقرف ـ أي الاتهام ـ له بخلافنا ، وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيرا ، وقد امتحنته مرارا ، فما ظهر منه عليّ ما يقرف به ، وأحبّ أن أستبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيستحرز منّي.

فقيل له : إنّ الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه ، ولا ترى غسل الرجلين ، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه.

فقال : أجل ، إنّ هذا الوجه يظهر به أمره.

ثمّ تركه مدّة وناطه بشي‌ء من الشغل في الدار ، حتّى دخل وقت الصلاة ، وكان علي ابن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ، وخلل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه ، فلمّا رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ، ثمّ ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده.

وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن «ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين ، توضّأ كما أمر اللّٰه ، اغسل وجهك مرّة فريضة وأخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك ، والسلام» (١).

وفي هذا دلالة كافية على أنّ السلطة ـ ومن حولها ـ قد اتخذت الوضوء الثنائي المسحي ، سبيلا لكشف الشيعة في القصر الهاروني ، لأنّ الوضوء أمر عبادي يتكرّر فعله كلّ يوم قبل الصلاة ، فهو أوضح شاخص فقهي يعرف به «الرافضة» كما في تعبير هارون الرشيد.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٢٧ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٢٨٨ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣٣٥ ، إعلام الورى : ٢٩٣.

٥٧

وعلى كلّ حال ، فقد استمر الخلاف الوضوئي باحتدام وشدّة ، فكان المحدثون من أصحاب مدرسة التعبد المحض لا يرون إلّا الوضوء النبوي الثنائي المسحي ، وكانت الدولة وأتباعها ـ من فقهاء منع التحديث ، ومن مدرسة الاجتهاد والرأي ـ لا ترى إلّا الوضوء العثماني الثلاثي الغسلي.

وحين حصرت الدولة العباسية المذاهب الإسلامية بالمذاهب الأربعة ـ وهي جميعا من مدرسة الاجتهاد والرأي ـ ودوّنت آراؤهم الفقهية ، كان من ضمنها الوضوء العثماني ، الذي أكدوا عليه أيّ تأكيد ، واختلفوا في فروضه وسننه وآدابه وكيفيته أشد الاختلاف مما يقف عليه المطالع في كتبهم الفقهية ، فاتّسعت الفجوة اتساعا كبيرا بحيث تعسّر ويتعسر رأبها ، فصار الوضوءان خطّين متوازيين لا يلتقيان.

نهاية المطاف

من كل ما تقدم تتجلى حقيقة في غاية الأهمية والوضوح ، مفادها أن المعارضين للوضوء العثماني لم يكونوا قد بزغوا بزوغا مفاجئا فظهروا على الساحة الفقهية الإسلامية ظهورا غير متوقع ، بل العكس هو الصحيح ، وذلك لتسلسل حلقات الاجتهادات في مقابل الكتاب والسنة من جانب ، وتسلسل حلقات المعارضة للتدوين والتحديث من جانب آخر من قبل الخلفاء ، وبقي إصرار جمّ غفير من عيون الصحابة على مواصلة التدوين والتحديث ، ومن ثمّ لجوء المانعين إلى فتح باب الاجتهاد والرأي ، وبقاء المتعبّدين على تعبّدهم المحض ومنعهم من العمل بالاجتهاد والرأي (١).

لأنّ فتح أبي بكر وعمر لباب الرأي والاجتهاد لأنفسهما هو الذي فتح من بعدهما لعامة الصحابة ذلك ، فكانت تلك نتيجة طبيعية لسدّهما باب التدوين والتحديث والذهاب إلى شرعية التعددية وحجية الآراء.

وكان إعطاء عمر زمام اختيار الخليفة الثالث في الشورى بيد عبد الرحمن بن

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في كتابنا (منع تدوين الحديث ، أسبابه ونتائجه).

٥٨

عوف للتأكيد على لابدّيّة الانصياع للجهة التي فيها ابن عوف مشروطا ومقيدا بقيد اتّباع «سيرة الشيخين» ، وذلك ما أوقعه بالفعل عبد الرحمن بن عوف حين بايع عثمان على ذلك الشرط ، وأمّا علي بن أبي طالب فلم يرض بذلك الشرط الجديد الذي أقحم في الشريعة ، والذي قرّروه دون نص من كتاب اللّٰه ولا برهان من سنة نبيّه ، وقد أيّده جماعة كثيرة من كبار الصحابة فلم يرتضوا ذلك الشرط الجديد.

وذلك العهد الذي قطعه عثمان على نفسه بالتزامه سيرة الشيخين أوقعه في محاذير ونزاع وخصومة شديدة مع كبار الصحابة ، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن عوف ، لأنّ عبد الرحمن كان يرى الاقتصار على اجتهادات الشيخين دون غيرهما ، وعثمان كان يرى أنّ له حقّ الاجتهاد كما كان للشيخين ، وأنّه ليس بأقل شأنا منهما ، وذلك ما دقّ بينهما عطر منشم ، فمات عبد الرحمن وهو لا يكلم عثمان.

وكان الصحابة ـ ومنهم علي بن أبي طالب ، وطبقا لقول رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألزموهم بما الزموا به أنفسهم» ـ قد طالبوا عثمان بالوفاء بما ألزم به نفسه في يوم الشورى ، إلّا أنه كان يرى أنه مبسوط اليد ، مطلق العنان في اجتهاداته وتصرّفاته الفقهية والعملية ، مما أنشب الخلاف بينه وبين الصحابة على أوسع آفاقه ، حتّى أؤدي بحياته أخيرا.

وقد أثّرت قاعدة «سيرة الشيخين» حتّى على خلافة علي بن أبي طالب مع أنه لم يلزم نفسه بها ، ولا أعطى عهدا بالعمل وفقها ، بل رفضها رفضا قاطعا في يوم الشورى ، وعند ما أتاه الناس للمبايعة ، بايعهم بشرط أن يحملهم على كتاب اللّٰه وما يعلم من سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوافقوا بذلك ثمّ نقضوه في أماكن عدّة مثل صلاة التراويح وفدك وما إليهما ، إذ عانى عليّ أشدّ المعاناة من هذا النهج «نهج الاجتهاد والرأي» لما يستتبعه من توال فاسدة على مرور الأيام.

فالمحصّل الذي طغى على الساحة الإسلامية هو استفحال نهج الاجتهاد والرأي نتيجة لدعم القوة التنفيذية «الخلافة والحكومة» له ، وبقي خطّ التعبد في صدور الصحابة المضطهدين الّذين لا طاقة لهم بردّ الناس إلى جادة الصواب لاستفحال التيار المقابل.

٥٩

وهذا هو الذي سوّغ لعمر أن يعاقب ـ وبجرأة ـ من يتحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسهّل من بعده لعثمان أن يتجاهل الأحاديث الوضوئية الصحيحة عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «يتحدّثون بأحاديث لا أدري ما هي؟!» نعم ، أنكرها عثمان وكأنه لم يسمعها من قبل ، ولا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحدّث بها ويفعلها طول عمره المبارك الشريف!! وقد استمرّ عثمان أيضا بالنهي عن التحديث والفتيا ، فصار أبو ذر وابن مسعود وعمّار بن ياسر وأمثالهم في أشدّ المضايقة ، وأقسى الضغوط ، لأنّهم لم يلتزموا بالمنع الحكومي ، حتّى وصل الأمر بالحجّاج بن يوسف الثقفي أن يختم في يد جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري وفي عنق سهل بن سعد الساعدي [الأنصاري] وأنس بن مالك [الأنصاري] ، يريد إذلالهم ، وأن يتجنّبهم الناس ولا يسمعوا منهم (١). وفي كتاب (المحن) لأبي العرب التميمي : أن الحجّاج ختم يد الحسن البصري وابن سيرين (٢) كذلك.

إذن ، لم يكن التيار الفكريّ الفقهيّ المعارض لوضوء عثمان تيارا طارئا ولا حدثا عابرا ، بل كان امتدادا طبيعا لخط التحديث ، المعارض للرأي والاجتهاد.

فـ «الناس» المقصودون في أحاديث عثمان الوضوئية ـ ولا ريب ـ هم أنفسهم أو هم امتداد للصحابة الكبار المعارضين لمنع التحديث والتدوين ، وهؤلاء هم الذين يرون أنّ الأحكام توقيفية لا يمكن تجاوزها بالزيادة والنقصان ، فلا مجال للاجتهاد والرأي فيها خصوصا مع وجود النص القرآني والسنة النبوية المباركة.

وستعلم لاحقا أنّ أصحاب المدوّنات كانوا من أتباع وأنصار الوضوء الثنائي المسحي ، أو أنهم لم يكونوا من أنصار الوضوء الثلاثي الغسلي على الأقلّ ، وهذه مسألة تؤكّد الترابط بين المدونين ونهج التعبد في الوضوء من جهة ، وبين مانعي التدوين وخط الاجتهاد والرأي في الوضوء من جهة أخرى ، حتّى أن عبد اللّٰه بن عمر

__________________

(١) أسد الغابة ، لابن الأثير ٢ : ٤٧٢ في ترجمة سهل بن سعد الساعدي.

(٢) كتاب المحن : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ كما في الفكر الأصولي لعبد المجيد الصغير.

٦٠