تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

المغفرة يتعدّى لمفعول واحد ، وأما المجرور بعده باللام فهو في معنى المفعول لأجله ، يقال : غفر الله لك ذنبك ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] فلو بني شرح للمجهول لما صح أن يجعل (لَكَ) نائبا عن الفاعل.

وجملة : (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) معطوفة على جملة ، (يَأْخُذُونَ) لأن كلا الخبرين يوجب الذم ، واجتماعهما أشد في ذلك.

وجملة : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) معطوفة على التي قبلها ، واستعير إتيان العرض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المال ، وقد يراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة ، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية ، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني.

والمعنى : أنهم يعصون ، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة ، ولا يقلعون عن المعاصي.

وجملة : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) جواب عن قولهم : (سَيُغْفَرُ لَنا) إبطالا لمضمونه ، لأن قولهم : (سَيُغْفَرُ لَنا) يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك ، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم ، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحجهم بها ، فهم المقصود بالكلام. كما تشهد به قراءة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بتاء الخطاب.

والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ ، وهذا التقرير لا يسعهم إلّا الاعتراف به ، لأنه صريح كتابهم ، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس «لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب» ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم ، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية ، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن ، فقولهم : (سَيُغْفَرُ لَنا) تقوّل على الله بما لم يقله.

والميثاق : العهد ، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة ، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى (في) أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به ، والكتاب توراة موسى ، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل (أن) الناصبة ، والمعنى : بأن لا يقولوا ، أي بانتفاء قولهم على الله

٣٤١

غير الحق ، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق ، فلا يقدر حرف جر ، والتقدير : ميثاق الكتاب انتفاء قولهم على الله إلخ.

وفعل (دَرَسُوا) عطف على (يُؤْخَذْ) ،. لأن يؤخذ في معنى المضي ، لأجل دخول لم عليه ، والتقدير : ألم يؤخذ ويدرسوا ، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب ، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) ـ إلى قوله ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) [النبإ : ٦ ـ ١٤] والتقدير : ومخلقكم أزواجا ونجعل نومكم سباتا ، إلى آخر الآية.

والمعنى : أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلّا الحق ، وهم عالمون بذلك الميثاق ، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة.

وجملة : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) حالية من ضمير (يَأْخُذُونَ) أي : يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه ، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضا فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصدا ، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة ، بل هم قد حرموا أنفسهم ، وقرينة ذلك قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) المتفرع على قوله : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وقد نزلوا في تخيرهم عرض الدنيا بمنزلة من لا عقول لهم ، فخوطبوا ب (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالاستفهام الإنكاري ، وقد قرئ بتاء الخطاب ، على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة ، وهي قراءة نافع ، وابن عامر ، وابن ذكوان ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وأبي جعفر ، وقرأ البقية بياء الغيبة ، فيكون توبيخهم تعريضيا.

وفي قوله : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) كناية عن كونهم خسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية ، لأن كون الدار الآخرة خيرا مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خير الآخرة.

وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين ، لأن الكناية عن خسرانهم خير الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين ، وهذه معان كثيرة جمعها قوله : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وهذا من حد الإعجاز العجيب.

٣٤٢

ووقعت جملة : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) إلى آخرها عقب التي قبلها : لأن مضمونها مقابل حكم التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدنى قد فرطوا في ميثاق الكتاب ، ولم يكونوا من المتقين ، فعقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم ، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل ، وآمنوا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون. فكني عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقامة الصلاة ، لأن الصلاة شعار دين الإسلام ، حتى سمي أهل الإسلام أهل القبلة ، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية ، لأنهم وجدوها مبدّلة محرّفة فبقوا في انتظار الرسول المخلّص الذي بشرت به التوراة والإنجيل ، ثم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعث : مثل عبد الله بن سلام.

ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب : المسلمون ، ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيرا لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم.

وجملة : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) خبر عن الذين يمسكون ، والمصلحون هم ، والتقدير : إنّا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون ، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))

عاد الكلام إلى العبرة بقصص بني إسرائيل مع موسى عليه‌السلام ، لأن قصة رفع الطور عليهم من أمهات قصصهم ، وليست مثل قصة القرية الذين اعتدوا في السبت ، ولا مثل خبر إيذانهم بمن يسومهم سوء العذاب. فضمائر الجمع كلها هنا مراد بها بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى ، بقرينة المقام.

والجملة معطوفة على الجمل قبلها.

و (إِذْ) متعلقة بمحذوف تقديره : واذكر إذ نتقنا الجبل فوقهم.

والنتق : الفصل والقلع. والجبل الطور.

وهذه آية أظهرها الله لهم تخويفا لهم ، لتكون مذكرة لهم ، فيعقب ذلك أخذ العهد عليهم بعزيمة العمل بالتوراة ، فكان رفع الطور معجزة لموسى عليه‌السلام تصديقا له فيما

٣٤٣

سيبلغهم عن الله من أخذ أحكام التوراة بعزيمة ومداومة والقصة تقدمت في سورة البقرة [٦٣] عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).

والظلة السحابة ، وجملة : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) مقولة لقول محذوف يدل عليه نظم الكلام ، وحذف القول في مثله شائع كثير ، وتقدم نظيرها في سورة البقرة.

وعدّي (واقِعٌ) بالباء : للدلالة على أنهم كانوا مستقرين في الجبل فهو إذا ارتفع وقع ملابسا لهم ففتتهم ، فهم يرون أعلاه فوقهم وهم في سفحه ، وهذا وجه الجمع بين قوله (فَوْقَهُمْ) وبين باء الملابسة. وجعل بعض المفسرين الباء بمعنى (على).

وجملة : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) مقول قول محذوف. وتقدم تفسير نظيرها في سورة البقرة.

[١٧٢ ـ ١٧٤] (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل ، فإنهم لم يكونوا مشركين والله يقول (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب ، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية ، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر. جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى ، وهو ميثاق الكتاب ، وفي يوم رفع الطور. وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها ، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة. والمقصود به ابتداؤهم المشركون.

وتبدّل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى آخر الآية. وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله (مِنْ بَنِي آدَمَ) فعموم الموعظة تابع لعموم العظة. فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك ، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين.

و (إِذْ) اسم للزمن الماضي ، وهو هنا مجرد عن الظرفية ، فهو مفعول به لفعل «اذكر»

٣٤٤

محذوف.

وفعل (أَخَذَ) يتعلق به (مِنْ بَنِي آدَمَ) وهو معدّى إلى ذرياتهم ، فتعين أن يكون المعنى : أخذ ربك كلّ فرد من أفراد الذرية. من كل فرد من أفراد بني آدم ، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى.

و (من) في قوله : (مِنْ بَنِي آدَمَ) وقوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ابتدائية فيهما.

والذرّيات جمع ذريّة ، والذّريّة اسم جمع لما يتولد من الإنسان ، وجمعه هنا للتنصيص على العموم.

وأخذ العهد على الذرية المخرجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذ العهد عى الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى ، وإلا لكان أبناء آدم الأدنون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم.

ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن جمع من أصحابه ، متفاوتة في القوة غير خال واحد منها عن متكلّم ، غير أن كثرتها يؤيد بعضها بعضا ، وأوضحها ما روى مالك في «الموطأ» في ترجمة «النهي عن القول بالقدر» بسنده إلى عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا ، ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور ، وليس تفسيرا لمنطوق الآية ، وبه صارت الآية دالة على أمرين ، أحدهما : صريح وهو ما أفاده لفظها ، وثانيهما : مفهوم وهو فحوى الخطاب. وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله ، ولم يتعرض لذلك في الحديث ، وذكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم ، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائل فيكون تفسيرا للآية تفسير تكميل لما لم يذكر فيها ، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه.

والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) [الأنعام : ٤٦] الآية.

٣٤٥

وقوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل (مِنْ بَنِي آدَمَ) أبدل بعض من كل ، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) في سورة الأنعام [٩٩].

والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه ، وهو هنا الحمل على الإقرار ، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم. والضمير في (أَشْهَدَهُمْ) عائد على الذرية باعتبار معناه ، لأنه اسم يدل على جمع.

والقول في (قالُوا بَلى) مستعار أيضا لدلالة حالهم على الاعتراف بالربوبية لله تعالى.

وجملة (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) مقول لقول محذوف هو بيان لجملة (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين. والمعنى واحد ، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع.

والاستفهام في (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) تقريري ، ومثله يقال في تقرير من يظن به الإنكار أو ينزل منزلة ذلك ، فلذلك يقرر على النفي استدراجا له حتى إذا كان عاقدا قلبه على النفي ظن أن المقرّر يطلبه منه ، فأقدم على الجواب بالنفي ، فأما إذا لم يكن عاقدا قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي ، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك ، وعليه قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) [الأحقاف : ٣٤] تنزيلا لهم منزلة من يظنه ليس بحق ، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) في سورة الأنعام [١٣٠].

والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب ، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها ، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكنه ، لأنها وراء المعتاد المألوف ، فيراد تقريبها بهذا التمثيل ، وحاصل المعنى : أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية ، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك ، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها.

وجملة : (قالُوا بَلى) جواب عن الاستفهام التقريري ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة

٣٤٦

البقرة [٣٠].

وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة ، وإمّا مجازا على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى ، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين. وقال أبو النجم :

قالت له الطير تقدم راشدا

إنك لا ترجع إلا حامدا

فهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب.

و (بَلى) حرف جواب لكلام فيه معنى النفي ، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي ، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف (نعم) ، لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي ، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : «لو قالوا نعم لكفروا» أي لكان جوابهم محتملا للكفر ، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ذرياتهم ، بالجمع ، وقرأ الباقون (ذُرِّيَّتَهُمْ) ، بالإفراد.

وقولهم : (شَهِدْنا) تأكيد لمضمون (بَلى) والشهادة هنا أيضا بمعنى الإقرار.

ووقع (أَنْ تَقُولُوا) في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد ، فهو على تقرير لام التعليل الجارة ، وحذفها مع أن جار على المطرد الشائع. والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لا بإيقاع القول ، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول ، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك ، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) في سورة الأنعام [١٥٦].

وقرأ الجمهور : أن تقولوا ـ بتاء الخطاب ـ وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب ، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه ، تصريحا بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد ، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره ، وليس من الالتفاف لاختلاف المخاطبين. وقرأه أبو عمرو ، وحده : بياء الغيبة ، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم.

والإشارة ب (هذا) إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى

٣٤٧

على تقديره بالمذكور.

والمعنى : أن ذلك لمّا جعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه ، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذر يوم القيامة ، إذا سئل عن الإشراك ، بعذر الغفلة ، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة ، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أن لا تقولوا إلخ.

وعطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقا ، فلما كان في أصل الفطرة العلم بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به ، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير ، وكلاهما لا ينهض عذرا ، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل.

ومعنى : (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) كنا على دينهم تبعا لهم لأننا ذرية لهم ، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل.

و (مِنْ بَعْدِهِمْ) نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم. والاستفهام في (أَفَتُهْلِكُنا) إنكاري ، والإهلاك هنا مستعار للعذاب ، والمبطلون الآخذون بالباطل ، وهو في هذا المقام الإشراك.

وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بالإله الواحد مستقر في فطرة العقل ، لو خلي ونفسه ، وتجرد من الشبهات الناشئة فيه من التقصير في النظر ، أو الملقاة إليه من أهل الضلالة المستقرة فيهم الضلالة ، بقصد أو بغير قصد ، ولذلك قال الماتريدي والمعتزلة : أن الإيمان بالإله الواحد واجب بالعقل ، ونسب إلى أبي حنيفة وإلى الماوردي وبعض الشافعية من أهل العراق ، وعليه أنبتت مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك ، وقال الأشعري : معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل تمسكا بقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ولعله أرجع مؤاخذة أهل الفترة على الشرك إلى التواتر بمجيء الرسل بالتوحيد.

وجملة : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) معترضة بين القصتين ، والواو اعتراضية ، وتسمى واو الاستئناف أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أي آيات القرآن ، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأنعام [٥٥]. وتفصيلها بيانها وتجريدها من الالتباس.

وجملة : (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عطف على جملة : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) فهي في

٣٤٨

موقع الاعتراض ، وهذا إنشاء ترجّي رجوع المشركين إلى التوحيد ، وقد تقدم القول في تأويل معنى الرجاء بالنسبة إلى صدوره من جانب الله تعالى عنه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في سورة البقرة [٢١].

والرجوع مستعار للإقلاع عن الشرك ، شبه الإقلاع عن الحالة التي هم متلبسون بها بترك من حل في غير مقره الموضع الذي هو به ليرجع إلى مقره ، وهذا التشبيه يقتضي تشبيه حال الإشراك بموضع الغربة ، لأن الشرك ليس من مقتضى الفطرة فالتلبس به خروج عن أصل الخلقة كخروج المسافر عن موطنه ، ويقتضي أيضا تشبيه حال التوحيد بمحل المرء وحيّه الذي يأوي إليه ، وقد تكرر في القرآن إطلاق الرجوع على إقلاع المشركين عن الشرك كقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف : ٢٦ ـ ٢٨] أي يرجعون عن الشرك ، وهو تعريض بالعرب ، لأنهم المشركون من عقب إبراهيم ، وبقرينة قوله : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) [الزخرف : ٢٩] ، فإني استقريت من اصطلاح القرآن أنه يشير بهؤلاء إلى العرب.

[١٧٥ ، ١٧٦] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦))

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ).

أعقب ما يفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك.

ومناسبتها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله ، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر.

وشأن القصص المفتتحة بقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أن يقصد منها وعظ المشركين

٣٤٩

بصاحب القصة بقرينة قوله : (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) إلخ ، ويحصل من ذلك أيضا تعليم مثل قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) [يونس : ٧١] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء : ٦٩] (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) [القصص : ٣] ونظائر ذلك ، فضمير (عَلَيْهِمْ) راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة ، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم ، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن ، كما قدّمناه غير مرة ، فهذا من قبيل رد العجز على الصدر.

ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوما تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة ، فالضمير المجرور ب (على) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون ، وكثيرا ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مرادا به المشركون كقوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١].

والنبأ الخبر المروي.

وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معيّن ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها ، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبأ ممّن للعرب إلمام بمجمل خبره.

فقيل المعنى به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، بأسانيد كثيرة عند الطبري ، وعن زيد بن أسلم ، وقال القرطبي في «التفسير» هو الأشهر ، وهو قول الأكثر ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالبا دين الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهّد وتوخّى الحنيفية دين إبراهيم ، وأخبر أن الله يبعث نبيّا في العرب ، فطمع أن يكونه ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرم الخمر ، وذكر في شعره أخبارا من قصص التوراة ، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول :

كل دين يوم القيامة عند

الله إلا دين الحنيفية زور

وله شعر كثير في أمور إلاهية ، فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب ، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة ، وتردد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا ، ورثى من قتل من المشركين يوم بدر ، وخرج إلى الطائف

٣٥٠

بلاد قومه فمات كافرا. وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء ، وقد قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم» وروي عن أمية أنه قال لما مرض مرض موته «أنا أعلم أن الحنيفية حق ، ولكن الشك يداخلني في محمد».

فمعنى (آتَيْناهُ آياتِنا) أن الله ألهم أمية كراهية الشرك ، وألقى في نفسه طلب الحق ، ويسّر له قراءة كتب الأنبياء ، وحبّب إليه الحنيفية ، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابر وحسد وأعرض عن الإسلام ، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يسر له ، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع ، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين ، إذ مات على الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب ، واسمه النعمان الخزرجي ، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصّر في الجاهلية ، ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية ، فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا محمد ما الذي جئت به ـ قال ـ جئت بالحنيفية دين إبراهيم ـ قال ـ فإني عليها ـ فقال النبي ـ لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها» فكفر وخرج إلى مكة يحرّض المشركين على قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخرج معهم ، إلى أن قاتل في حنين بعد فتح مكة ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك.

وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين ، وكان في زمن موسىعليه‌السلام يقال له : بلعام بن باعور ، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفوا فيها ، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مدين وعرّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض (مؤاب) ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الاصحاحات ٢٢ ـ ٢٣ ـ ٢٤ فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه.

والإيتاء هنا مستعار للاطلاع وتيسير العلم مثل قوله (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)(١) [البقرة : ٢٥١].

و «الآيات» دلائل الوحدانية التي كرّهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنيفية بالنسبة

__________________

(١) في المطبوعة : وآتاه الله العلم والحكمة وهو غلط ، والمثبت هو الموافق للقرآن الكريم.

٣٥١

لأمية بن أبي الصلت ، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي.

والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه جلده ، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، واستعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به ، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه ، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية.

وأتبعه بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقية بمعنى لحقة غير مفلت كقوله : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠] (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) [طه : ٧٨] وهذا أخص من اتّبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة.

والمراد بالغاوين : المتصفين بالغي وهو الضلال (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال : وغوى أو كان غاويا ، كما تقدم عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].

ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول ، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله ، فالانسلاخ على الآيات أثر من وسوسة الشيطان ، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده ، فسخره وأدام إضلاله ، وهو المعبر عنه ب (فَأَتْبَعَهُ) فصار بذلك في زمرة الغواة المتمكنين من الغواية.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سببا للهداية والتزكية ، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها ، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم ، فالمعنى : ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرفعه الله بعلمه.

والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها ، لأن الصفات الحميدة تخيل صاحبها مرتفعا على من دونه ، أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلا وزكاء وتميزا بالفضل ، فمعنى لرفعناه ليسّرنا له العمل بها الذي يشرف به.

وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة ، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض ، أي ركن

٣٥٢

ومال إلى الأرض ، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى ، بحال من كان مرتفعا عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل ، فبذكر الأرض علم أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد.

واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة ، على ما يدعو إليه الحق والرشد ، فالاتباع مستعار للاختيار والميل ، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها.

وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث ، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيها بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه ، فالكلام في قوة أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شقاء وعناد ، كمثل الكلب إلخ.

واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة ، وتقدم قوله تعالى ؛ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) في سورة البقرة [١٧] ، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب ، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حين كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصبا وعناء ، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديرا فيه بأن يستريح من عنائه ؛ لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللهث ، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه ، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة ، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله (أَوْ تَتْرُكْهُ).

وليس لشيء من الحيوان حالة تصلح للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث ، لأنه يلهث إذا أتعب وإذا كان في دعة ، فاللهث في أصل خلقته.

وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه ، سبب آت من غيره فمعنى (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) إن تطارده وتهاجمه. مشتق من الحمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله ، يقال حمل فلان على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة. وقد أغفل المفسرون توضيحه ، وأغفل الراغب في «مفردات القرآن» هذا المعنى لهذا الفعل.

فهذا تشبيه تمثيل مركب منتزعة فيه الحالة المشبهة والحالة المشبه بها من متعدد ،

٣٥٣

ولما ذكر (تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) في شق الحالة المشبه بها ، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة ، وتتقابل أجزاء هذا التمثيل بأن يشبّه الضال بالكلب ، ويشبه شقاؤه واضطراب أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة ، تشبيه المعقول بالمحسوس ، ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس. وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة. فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه ، كما درج عليه في «الكشاف» ، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) كبير جدوى ، بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها ، لتكتسب الحالة المشبهة تشويها ، وذلك تقصير في حق التمثيل.

والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار ، يألف من يعاشره ويحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم ، ويحرس الأنعام التي يعاشرها ، ويعدو على الذئاب ، ويقبل التعليم ، لأنه ذكي.

ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر ، ويلهث بدون ذلك ، لأن في خلقته ضيقا في مجاري النفس يرتاح له باللهث.

وجملة : (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) في موضع الحال من الكلب والخطاب في (تَحْمِلْ) وتترك لمخاطب غير معيّن ، والمعنى إن يحمل عليه حامل ، أو يتركه تارك.

واللهث : سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس ، وفعله بفتح الهاء وبكسرها ، ومضارعه بفتحها لا غير ، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام ، لأنه من الأدواء ، وليس بصوت.

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

جملة مبيّنة لجملة : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) الآيتين ، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن ، تشبيه بليغ ، لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها.

والإشارة بذلك إلى (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) ، وهو صاحب القصة ، هو مثل المشركين ،

٣٥٤

لأنهم شابهوه في أنهم أتوا القرآن فكذبوا به ، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب ، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثل في قوله : (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي حال الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم ، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل ، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٧] وهذا تأويل ما روي عن عبادة بن الصامت أن آية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) إلى آخرها نزلت في قريش.

وفرع على ذلك الأمر بقوله : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي اقصص هذه القصة وغيرها ، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن ، فإن في القصص تفكرا وموعظة ، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم ، لأن للأمثال واستحضار النظائر شأنا عظيما في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة ، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس ، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧))

جملة مستأنفة لأنها جعلت إنشاء ذم لهم ، بأن كانوا في حالة شنيعة وظلموا أنفسهم.

والظلم هنا على حقيقته فإنهم ظلموا أنفسهم بما أحلّوه بها من الكفر الذي جعلهم مذمومين في الدنيا ومعذبين في الآخرة.

وتقديم المفعول للاختصاص ، أي ما ظلموا إلا أنفسهم ، وشأن العاقل أن لا يؤذي نفسه ، وفيه إزالة تبجحهم بأنهم لم يتبعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظنا منهم أن ذلك يغيظه ويغيظ المسلمين ، وإنما يضرون أنفسهم.

وجملة : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) يجوز أن تكون معطوفة على الصلة باعتبار أنهم معروفون بمضمون هذه الجملة عند النبي والمسلمين ، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) فتكون تذييلا للجملة التي قبلها إخبارا عنهم بأنهم في تكذيبهم ، وانتفاء من القصص ما ظلموا إلا أنفسهم.

وقوله : (كانُوا يَظْلِمُونَ) أقوى في إفادة وصفهم بالظلم من أن يقال : وظلموا أنفسهم ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) في سورة الأنعام [٧٥].

٣٥٥

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨))

هذه الجملة تذييل للقصة والمثل وما أعقبا به من وصف حال المشركين ، فإن هذه الجملة تحصل ذلك كله وتجري مجرى المثل ، وذلك أعلى أنواع التذييل ، وفيها تنويه بشأن المهتدين وتلقين للمسلمين للتوجه إلى الله تعالى بطلب الهداية منه والعصمة من مزالق الضلال ، أي فالذين لم يهتدوا إلى الحق بعد أن جاءهم دلت حالهم على أن الله غضب عليهم فحرمهم التوفيق.

والهداية حقيقتها إبانة الطريق ، وتطلق على مطلق الإرشاد لما فيه النفع سواء اهتدى المهدي إلى ما هدي إليه أم لم يهتد ، قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].

ثم قد علم أن الفعل الذي يسند إلى الله تعالى إنما يراد به اتقن أنواع تلك الماهية وأدومها ، ما لم تقم القرينة على خلاف ذلك ، فقوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ) يعنى به من يقدر الله اهتداءه ، وليس المعنى من يرشده الله بالأدلة أو بواسطة الرسل ، وقد استفيد ذلك من القصة المذيلة فإنه قال فيها : (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) [الأعراف : ١٧٥] فايتاء الآيات ضرب من الهداية بالمعنى الأصلي ، ثم قال فيها (فَانْسَلَخَ مِنْها) [الأعراف : ١٧٥] وقال (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف : ١٧٦] وقال : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) [الأعراف : ١٧٦] فعلمنا أن الله أرشده ، ولم يقدر له الاهتداء ، فالحالة التي كان عليها قبل أن يخلد إلى الأرض ليست حالة هدى ، ولكنها حالة تردد وتجربة ، كما تكون حالة المنافق عند حضوره مع المسلمين إذ يكون متلبسا بمحاسن الإسلام في الظاهر ، ولكنه غير مبطن لها كما قدمناه عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) في سورة البقرة [١٧] ، فتعين أن يكون المعنى هنا : من يقدر الله له أن يكون مهتديا فهو المهتدي.

والقصر المستفاد من تعريف جزأى الجملة (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) قصر حقيقي ادعائي باعتبار الكمال واستمرار الاهتداء إلى وفاة صاحبه ، وهي مسألة الموافاة عند الأشاعرة ، أي وأما غيره فهو وإن بان مهتديا فليس بالمهتدي لينطبق هذا على حال الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وكان الشأن أن يرفع بها.

وبهذا تعلم أن قوله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ليس من باب قول أبي النجم :

٣٥٦

وشعري شعري

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» لأن ذلك فيما ليس في مفاد الثاني منه شيء زائد على مفاد ما قبله بخلاف ما في الآية فإن فيها القصر.

وكذلك القول في (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وزيد في جانب الخاسرين الفصل باسم الإشارة لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران تحذيرا منه ، فالقصر فيه مؤكد.

وجمع الوصف في الثاني مراعاة لمعنى (من) الشرطية ، وإنما روعي معنى (من) الثانية دون الأولى ؛ لرعاية الفاصلة ولتبين أن ليس المراد ب (من) الأولى مفردا.

وقد علم من مقابلة الهداية بالإضلال ، ومقابلة المهتدي بالخاسر أن المهتدي فائز رابح فحذف ذكر ربحه إيجازا.

والخسران استعير لتحصيل ضد المقصود من العمل كما يستعار الربح لحصول الخير من العمل كما تقدم عند قوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في هذه السورة [٩] ، وفي قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في سورة البقرة [١٦].

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

عطف على جملة : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) [الأعراف : ١٧٥] ، والمناسبة أن صاحب القصة المعطوف عليها انتقل من صورة الهدى إلى الضلال ، لأن الله لما خلقه خلقه ليكون من أهل جهنم ، مع ما لها من المناسبة للتذييل الذي ختمت به القصة وهو قوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) [الأعراف : ١٧٨] الآية.

وتأكيد الخبر بلام القسم وبقد ؛ لقصد تحقيقه لأن غرابته تنزل سامعه خالي الذهن منه منزلة المتردد في تأويله ، ولأن المخبر عنهم قد وصفوا ب (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) ـ إلى قوله ـ (بَلْ هُمْ أَضَلُ) ، والمعني بهم المشركون ، وهم ينكرون أنهم في ضلال ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وكانوا يحسبون أنهم أصحاب أحلام وأفهام ، ولذلك قالوا

٣٥٧

للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معرض التهكم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥].

والذرء الخلق وقد تقدم في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) في سورة الأنعام [١٣٦].

واللام في (لِجَهَنَّمَ) للتعليل ، أي خلقنا كثيرا لأجل جهنم.

وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية ، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم ، ولم يخلقوا لأجل جهنم ، لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها ، وليست اللام لام العاقبة ؛ لعدم انطباق حقيقتها عليها ، وفي «الكشاف» جعلهم لاغراقهم في الكفر ، وأنهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار ، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار اه ، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في (ذَرَأْنا) وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى.

وتقديم المجرور على المفعول في قوله : (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) ليظهر تعلقه ب (ذَرَأْنا).

ومعنى خلق الكثير لاعمال الشر المفضية إلى النار : أن الله خلق كثيرا فجعل في نفوسهم قوى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة ، فجعلت الشهوة والغضب المسمّين بالهوى تغلب قوة الفطرة ، وهي الحكمة والرشاد ، فترجح نفوسهم دواعي الشهوة والغضب فتتبعها وتعرض عن الفطرة ، فدلائل الحق قائمة في نفوسهم ، ولكنهم ينصرفون عنها ؛ لغلبة الهوى عليهم فبحسب خلقة نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات : جعلوا كأنهم خلقوا لجهنم ، وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة.

والجن خلق غير مرئي لنا ، وظاهر القرآن أنهم عقلاء ، وأنهم مطبوعون على ما خلقوا لأجله من نفع أو ضر ، وخير أو شر ، ومنهم الشياطين ، وهذا الخلق لا قبل لنا بتفصيل نظامه ولا كيفيات تلقيه لمراد الله تعالى منه.

وقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ) حال أو صفة لخصوص الإنس ، لأنهم الذين لهم : قلوب ،

٣٥٨

وعقول ، وعيون وآذان ، ولم يعرف للجن مثل ذلك ، وقد قدم الجن على الإنس في الذكر ، ليتعين كون الصفات الواردة من بعد صفات للإنس وبقرينة قوله : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ).

والقلوب اسم لموقع العقول في اللغة العربية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].

والفقه تقدم عند قوله : (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) في سورة الأنعام [٦٥].

ومعنى نفي الفقه والإبصار والسمع عن آلاتها الكائنة فيهم أنهم عطلوا أعمالها بترك استعمالها في أهم ما تصلح له : وهو معرفة ما يحصل به الخير الأبدي ، ويدفع به الضر الأبدي ، لأن آلات الإدراك والعلم خلقها الله لتحصيل المنافع ودفع المضار ، فلما لم يستعملوها في جلب أفضل المنافع ودفع أكبر المضار ، نفي عنهم عملها على وجه العموم للمبالغة ، لأن الفعل في حيز النفي يعم ، مثل النكرة ، فهذا عام أريد به الخصوص للمبالغة لعدم الاعتداد بما يعلمون من غير هذا ، فالنفي استعارة بتشبيه بعض الموجود بالمعدوم كله.

وليس في تقديم الأعين على الآذان مخالفة لما جرى عليه اصطلاح القرآن من تقديم السمع على البصر لتشريف السمع يتلقى ما أمر الله به كما تقدم عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧] لأن الترتيب في آية سورة الأعراف هذه سلك طريق الترقي من القلوب التي هي مقر المدركات إلى آلات الإدراك الأعين ثم الآذان فللآذان المرتبة الأولى في الارتقاء.

وجملة : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) مستأنفة لابتداء كلام بتفظيع حالهم فجعل ابتداء كلام ليكون أدعى للسامعين. وعرّفوا بالإشارة لزيادة تمييزهم بتلك الصفات ، وللتنبيه على أنهم بسببها أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضل من الأنعام ، وتشبيههم بالأنعام في عدم الانتفاع بما ينتفع به العقلاء فكأن قلوبهم وأعينهم وآذانهم ، قلوب الأنعام وأعينها وآذانها ، في أنها لا تقيس الأشياء على أمثالها ، ولا تنتفع ببعض للدلائل العقلية فلا تعرف كثيرا مما يفضي بها إلى سوء العاقبة.

و (بل) في قوله : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) للانتقال والترقي في التشبيه في الضلال وعدم الانتفاع بما يمكن الانتفاع به ، ولما كان وجه الشبه المستفاد من قوله : (كَالْأَنْعامِ) يؤول إلى معنى الضلال ، كان الارتقاء في التشبيه بطريقة اسم التفضيل في الضلال.

٣٥٩

ووجه كونهم أضل من الأنعام : أن الأنعام لا يبلغ بها ضلالها إلى إيقاعها في مهاوي الشقاء الأبدي ، لأن لها إلهاما تتفصى به عن المهالك كالتردي من الجبال والسقوط في الهوّات ، هذا إذا حمل التفضيل في الضلال على التفضيل في جنسه وهو الأظهر ، وإن حمل على التفضيل في كيفية الضلال ومقارناته كان وجهه أن الأنعام قد خلق إدراكها محدودا لا يتجاوز ما خلقت لأجله ، فنقصان انتفاعها بمشاعرها ليس عن تقصير منها ، فلا تكون بمحل الملامة ، وأما أهل الضلالة فإنهم حجروا أنفسهم عن مدركاتهم ، بتقصير منهم وإعراض عن النظر والاستدلال فهم أضل سبيلا من الأنعام.

وجملة : (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) تعليل لكونهم أضل من الأنعام وهو بلوغهم حد النهاية في الغفلة ، وبلوغهم هذا الحد أفيد بصيغة القصر الادعائي إذ ادّعي انحصار صفة الغفلة فيهم بحيث لا يوجد غافل غيرهم لعدم الاعتداد بغفلة غيرهم كل غفلة في جانب غفلتهم كلا غفلة ، لأن غفلة هؤلاء تعلقت بأجدر الأشياء بأن لا يغفل عنه ، وهو ما تقضي الغفلة عنه بالغافل إلى الشقاء الأبدي ، فهي غفلة لا تدارك منها ، وعثرة لا لعى لها.

والغفلة عدم الشعور بما يحق الشعور به ، وأطلق على ضلالهم لفظ الغفلة بناء على تشبيه الإيمان بأنه أمر بيّن واضح يعد عدم الشعور به غفلة ، ففي قوله : (هُمُ الْغافِلُونَ) استعارة مكنية ضمنية ، والغفلة من روادف المشبه به ، وفي وصف (الْغافِلُونَ) استعارة مصرحة بأنهم جاهلون أو منكرون.

وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم ، بمداركهم ثم تشبيههم بالأنعام ، ثم الترقي إلى أنهم أضل من الأنعام ، ثم قصر الغفلة عليهم.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))

هذا خطاب للمسلمين ، فتوسطه في خلال مذام المشركين ؛ لمناسبة أن أفظع أحوال المعدودين لجهنم هو حال إشراكهم بالله غيره ، لأن في ذلك إبطالا لأخص الصفات بمعنى الإلهية : وهي صفة الوحدانية وما في معناها من الصفات نحو الفرد ، الصمد. وينضوي تحت الشرك تعطيل صفات كثيرة مثل : الباعث ، الحسيب ، والمعيد ، ونشأ عن عناد أهل الشرك إنكار صفة الرحمن.

فعقبت الآيات التي وصفت ضلال إشراكهم بتنبيه المسلمين للاقبال على دعاء الله

٣٦٠