تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

فعليّة ، بتقدير : هل يشفع لنا شفعاء كما قدّره الزّجاج ، لعدم الملجئ إلى ذلك ، ولذلك انتصب : (فَنَعْمَلَ) في جواب (نُرَدُّ) كما انتصب (فَيَشْفَعُوا) في جواب (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ).

والمراد بالعمل في قولهم : (فَنَعْمَلَ) ما يشمل الاعتقاد ، وهو الأهم ، مثل اعتقاد الوحدانيّة والبعث وتصديق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، لأنّ الاعتقاد عمل القلب ، ولأنّه تترتّب عليه آثار عمليّة ، من أقوال وأفعال وامتثال. والمراد بالصّلة في قوله : (الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.

وجملة : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا تذييلا وخلاصة لقصّتهم ، أي فكان حاصل أمرهم أنّهم خسروا أنفسهم من الآن وضلّ عنهم ما كانوا يفترون.

والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النّفع ، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة الأنعام ، [١٢] وقوله : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في أوّل هذه السّورة [٩]. والمعنى : أنّ ما أقحموا فيه نفوسهم من الشّرك والتّكذيب قد تبيّن أنّه مفض بهم إلى تحقّق الوعيد فيهم ، يوم يأتي تأويل ما توعّدهم به القرآن ، فبذلك تحقّق أنّهم خسروا أنفسهم من الآن ، وإن كانوا لا يشعرون.

وأما قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فالضّلال مستعار للعدم طريقة التّهكّم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكّما عليهم ، وهذا التّهكّم منظور فيه إلى محاكاة ظنّهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) [الأعراف : ٣٧].

و (ما) من قوله : (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) موصولة ، ما صدقها الشّفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله. وحذف عائد الصّلة المنصوب ، أي ما كانوا يفترونه ، أي يكذبونه إذ يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) [يونس : ١٨] ، وهم جماد لا حظّ لهم في شئون العقلاء حتى يشفعوا ، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبّر بالمضي لأنّ الضّلال المستعار للعدم متحقّق من ماضي الأزمنة.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ

١٢١

وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))

جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة ، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمر باتّباعه ونبذ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك ؛ ثمّ التّذكير بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله ، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله ، والامتنان بخلق الأرض والتّمكين منها ، وبخلق أصل البشر وخلقهم ، وخلل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦]. وانتقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) [الأعراف : ٢٨] ، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٣٥] الآية. وبأن المشركين ظلموا بنكث العهد بقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) [الأعراف : ٣٧] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة ، وعقب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف : ٥٢] وأنهاه بالتّذييل بقوله : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف : ٥٣].

فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد ، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل ، ثمّ لبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) الآية ، استئنافا ابتدائيا عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الأعراف : ٣] ، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي ، وكان ما بعده بمنزلة البرهان ، وكان قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) بمنزلة النّتيجة للبرهان ، والنتيجة مساوية للمطلوب إلّا أنّها تؤخذ أوضح وأشد تفصيلا.

فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء ، ولذلك كان للتّأكيد بحرف (إنّ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبية. وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه ، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته ، كان الخطاب صالحا لتناول المسلمين ، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك ، ولا يكون حرف (إن) بالنّسبة إليهم سدى ، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر ، لأنّ فيه حظا للفريقين ، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه (ما) هو بالمؤمنين أعلق مثل (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٥٧].

١٢٢

وقد جعل المخبر عنه الرب ، والخبر اسم الجلالة : لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلوم عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته : الله ، لا غيره ممن ليس له هذا الاسم ، على ما هو الشّأن ، فهي تعريف المسند في نحو : أنا أخوك ، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخا ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه. فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة ، وهو حمل (هو هو) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه ، وجعل الآخر مسندا ، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب ، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسند إليه. ليكون الحمل أجدى إفادة ، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارسا في غارة :

يخوض بحرا نقعه ماؤه

يحمله السّابح في لبده

إذ قد علم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعا. وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بحرا وأنّ للبحر ماء ، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع ، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم ، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع ، وإلّا فما كان يعوز المعرّي أن يقول : ماؤه نقعه (١) فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه.

وأكّد هذا الخبر بحرف التّوكيد ، وإن كان المشركون يثبتون الرّبوبيّة لله ، والمسلمون لا يمترون في ذلك ، لتنزيل المشركين من المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّا لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم.

وقوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) صفة لاسم الجلالة ، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم ، وهو (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلا على انفراده بالإلهية ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) بسورة الأنعام[١].

وقوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تعليم بعظيم قدرته ، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية ، فلا يدلّ قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك ، وفيه تحدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] وليس القصد من قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الاستدلال على الواحدانية ، إذ لا دلالة فيه على ذلك.

١٢٣

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السّماوات والأرض مدرّجا ، وأن لا يكون دفعة ، لأنّه جعل العوالم متولّدا بعضها من بعض ، لتكون أتقن صنعا ممّا لو خلقت دفعة ، وليكون هذا الخلق مظهرا لصفتي علم الله تعالى وقدرته ، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة ، لكنّ العلم والحكمة اقتضيا هذا التّدرج ، وكانت تلك المدّة أقل زمن يحصل فيه المراد من التّولّد بعظيم القدرة. ولعلّ تكرّر ذكر هذه الأيّام في آيات كثيرة لقصد التّنبيه إلى هذه النّكتة البديعة ، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة.

وظاهر الآيات أنّ الأيّام هي المعروفة للنّاس ، التي هي جمع اليوم الذي هو مدّة تقدّر من مبدأ ظهور الشّمس في المشرق إلى ظهورها في ذلك المكان ثانية ، وعلى هذا التّفسير فالتّقدير في ما يماثل تلك المدّة ستّ مرّات ، لأنّ حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقّق إلّا بعد تمام خلق السّماء والأرض ، ليمكن ظهور نور الشّمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النّصف إلى ظهور الشّمس مرّة ثانية ، وقد قيل : إنّ الأيّام هنا جمع اليوم من أيّام الله تعالى الذي هو مدّة ألف سنة ، فستّة أيام عبارة عن ستّة آلاف من السّنين نظرا لقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] وقوله : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش ، وما هو ببعيد ، وإن كان مخالفا لما في التّوراة ، وقيل المراد : في ستّة أوقات ، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [الأنفال : ١٦] أي حين إذ يلقاهم زحفا ، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خلقت عالما بعد عالم ولم يشترك جميعها في أوقات تكوينها ، وأيّا ما كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة ، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن.

والاستواء حقيقته الاعتدال ، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء ، كما في قوله تعالى في صفة جبريل (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٦ ـ ٨].

والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته ، أشهرها القصد والاعتلاء ، وقد التزم هذا اللّفظ في القرآن مسندا إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية ، كما في هذا الآية. ونظائرها سبع آيات من القرآن : هنا. وفي يونس ، والرّعد ، وطه ، والفرقان ، والم

١٢٤

السجدة ، والحديد ، وفصّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بسببها أجدر بالدّلالة على المعنى المراد تبليغه مجملا ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته ، ولذلك اختير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون.

فالاستواء يعبّر عن شأن عظيم من شئون عظمة الخالق تعالى ، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيل : لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شئونه تعالى ، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معان من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلّا بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة ، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة ، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا.

وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحث ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملا ، ويسمّون أمثالها بالمتشابهات ، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون : استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفا ، وقد بيّنت أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) في سورة آل عمران [٧] ، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في «المدارك» عن سفيان بن عيينة أنّه قال : سأل رجل مالكا فقال : الرّحمن على العرش استوى. كيف استوى يا أبا عبد الله ؛ فسكت مالك مليّا حتّى علاه الرّحضاء ثمّ سرّي عنه ، فقال : «الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالا» واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة ، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله : «وأظنّك رجل سوء أخرجوه عنّي» وأنّه قال : «والسؤال عنه بدعة». وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها : «فقال : فعل الله فعلا في العرش سمّاه استواء». قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات ، أحسنها : ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على ، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قول الأخطل :

قد استوى بشر على العراق

بغير سيف ودم مهراق

وأراه بعيدا ، لأنّ العرش ما هو إلّا من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه ، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية ، وقد قال أهل اللّغة : إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعلى أو بإلى ، قال البخاري ، عن مجاهد : استوى علا على

١٢٥

العرش ، وعن أبي العالية : استوى إلى السّماء ارتفع فسوى خلقهن.

وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحرف الذي يعدّى به فعله ، فإن عدّي بحرف (على) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء ، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن ، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل ، وهو تمثيل شأن تصرّفه تعالى بتدبير العوالم ، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعا عقب ذكر خلق السّماوات والأرض ، فالمعنى حينئذ : خلقها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير الملك أمور مملكته مستويا على عرشه. وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقبض الله الأرض ويطوي السّماوات يوم القيامة ثمّ يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض». ولذلك أيضا عقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) إلخ ، وقوله في سورة يونس [٣] : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ، وقوله في سورة الرّعد [٢] : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ). وقوله في سورة الم السجدة [٤ ، ٥] : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ). وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزء من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبها بجزء من أجزاء الهيئة الممثّل بها ، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابها لعرش الملك في العظمة ، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها. وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه.

فأمّا إذا عدّي فعل الاستواء بحرف اللّام فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة ، كما في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩]. وقد نحا صاحب «الكشاف» نحوا من هذا المعنى ، إلّا أنّه سلك به طريقة الكناية عن الملك : يقولون استوى فلان على العرش يريدون ملك.

والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليه الملك ، قال تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النماء : ٢٣] وقال : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠] ، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب ، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مماثلا لجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها ، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة ، كما قدّمته آنفا. وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصودا لتقريب شأن من شئون

١٢٦

عظمة ملك الله بحال هيئة من الهيئات المتعارفة ، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك ، وذلك شعار العرش الذي من حوله تصدر تصرّفات الملك ، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة ، وقد بيّن القرآن عمل بعضهم مثل جبريل عليه‌السلام وملك الموت ، وبيّنت السنة بعضها : فذكرت ملك الجبال ، وملك الرّياح ، والملك الذي يباشر تكوين الجنين ، ويكتب رزقه وأجله وعاقبته ، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجودا منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة. ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق. وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن ، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض» وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال في حديث طويل : «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنّه أوسط الجنّة ، وأعلى الجنّة وفوقه عرش الرّحمن ومنه تفجّر أنهار الجنّة» وقد قيل إنّ العرش هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة [٢٥٥].

وقد دلّت (ثمّ) في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش ، تنبيها على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييرا في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان ، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة ، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود : إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨].

وجملة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في موضع الحال من اسم الجلالة ، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش ، وتنبيه على المقصود من الاستواء ، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر ، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس [٣] وسورة الرّعد [٢] بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة ، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليل الحدوث ، ولكونه متكرّرا حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم. والإغشاء والتّغشية : جعل الشّيء غاشيا ، والغشي والغشيان حقيقته التّغطية والغمّ.

١٢٧

فمعنى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أنّ الله يجعل أحدهما غاشيا الآخر.

والغشي مستعار للإخفاء ، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار ، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب : جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء ، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي ، ولهذا استغنى بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) عن ذكر عكسه ولم يقل : والنّهار اللّيل ، كما في آية (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) [الزمر : ٥] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّل هو الفاعل في المعنى ، ويجوز العكس إذا أمن اللّبس ، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص (يُغْشِي) ـ بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين ـ. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، ويعقوب ، وخلف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين ـ وهما بمعنى واحد في التّعدية.

وجملة : (يَطْلُبُهُ) إن جعلت استينافا أو بدل اشتمال من جملة (يغشي) فأمرها واضح ، واحتمل الضّمير المنصوب في (يطلبه) أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار ، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالا من أحد المفعولين على السّواء فإنّ كلا اللّيل والنّهار يعتبر طالبا ومطلوبا ، تبعا لاعتبار أحدهما مفعولا أوّل أو ثانيا.

وشبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتدا من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطا من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلام الأفق بطلب اللّيل النّهار ، على طريقة التّمثيل ، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاء ظلام اللّيل في الأفق ساقطا في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفق : بطلب النّهار اللّيل على وجه التّمثيل ، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) [مريم : ٢٧] وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ).

والحثيث : المسرع ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، من حثه إذا أعجله وكرّر إعجاله ليبادر بالعجلة ، وقريب من هذا قول سلامة من جندل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيبه :

أودى الشّباب الذي مجد عواقبه

فيه نلذّ ولا لذّات للشّيب

ولّى حثيثا وهذا الشّيب يتبعه

لو كان يدركه ركض اليعاقيب

١٢٨

فالمعنى يطلبه سريعا مجدّا في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) ـ بالنّصب ـ في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض ، أي وخلق الشّمس والقمر والنّجوم ، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات. و (مُسَخَّراتٍ) حال من المذكورات.

وقرأ ابن عامر برفع (الشَّمْسَ) وما عطف عليه ورفع (مُسَخَّراتٍ) ، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلالة كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ).

وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في سورة البقرة [١٦٤] ويأتي في سورة الشّمس.

والتّسخير حقيقته تذليل ذي عمل شاق أو شاغل بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض ، فمنه تسخير العبيد والأسرى ، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل ، ومنه تسخير البقر للحلب ، والغنم للجزّ. ويستعمل مجازا في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه ، بحيلة أو إلهام تصريفا يصيّره من خصائصه وشئونه ، كتسخير الفلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف ، وتسخير السّحاب للأمطار ، وتسخير النّهار للعمل ، واللّيل للسّكون ، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف ، والشّمس للدّفء في الشّتاء ، والظلّ للتبرد في الصّيف ، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّدا عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد ، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزبية أو نحوها ، ولذلك قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة. فقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أطلق التّسخير فيه مجازا على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير ، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيع غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط.

ولفظ الأمر في قوله : (بِأَمْرِهِ) مستعمل مجازا في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة. ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] لأن (كن) تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضا فالأمر هنا من ذلك ، وهو تصريف نظام

١٢٩

الموجودات كلّها.

وجملة : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لإفادة تعميم الخلق. والتّقدير : لما ذكر آنفا ولغيره. فالخلق : إيجاد الموجودات ، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله.

وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتعي نفوس السّامعين هذا الكلام الجامع.

واللام الجارة لضمير الجلالة لام الملك. وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه.

والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس ، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في ملك الله تعالى ، فليس لغيره شيء من هدا الجنس ، وهو قصر إضافي معناه : ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر ، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في ملك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن ، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى ، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصرا ادعائيا لأنّ لكثير من الموجودات تدبير أمور كثيرة ، ولكن لما كان المدبّر مخلوقا لله تعالى كان تدبيره راجعا إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمد في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢].

وجملة (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) تذييل معترضة بين جملة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) وجملة (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس ، وبنافع تصرّفاته ، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقان صنعه.

وفعل (تَبارَكَ) في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل : تثاقل ، أظهر الثّقل في العمل ، وتعالل ، أي أظهر العلّة ، وتعاظم : أظهر العظمة ، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهورا بيّنا حتى كأنّ صاحبه يظهره ، ومنه : (تَعالَى اللهُ) [النمل : ٦٣] أي ظهر علوّه ، أي شرفه على الموجودات كلّها ، ومنه (تَبارَكَ) أي ظهرت بركته.

والبركة : شدّة الخير ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في سورة آل عمران [٩٦] ، وقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) في سورة الأنعام [٩٢]. فبركة الله الموصوف بها هي مجده ونزاهته وقدسه ، وذلك جامع

١٣٠

صفات الكمال ، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر.

واتباع اسم الجلالة بالوصف وهو (رَبُّ الْعالَمِينَ) في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد ، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد ، ومدبّر أحوال الموجودات ، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات ، ومضى الكلام على (الْعالَمِينَ) في سورة الفاتحة [٢].

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥))

استئناف جاء معترضا بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها. فالجملة معترضة بين جملة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤] وجملة : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الأعراف : ٥٧] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فرص تهنّؤ القلوب للذّكرى. والخطاب ب (ادْعُوا) خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته ، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب ، وهو تقريب للمؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته ، وشاهده قوله بعده : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦]. والخطاب موجّه إلى المسلمين بقرينة السياق.

و (الدّعاء) حقيقته النّداء ، ويطلق أيضا على النّداء لطلب مهمّ ، واستعمل مجازا في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال ، كما في الرّكوع والسّجود ، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن.

والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه ، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة ، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مقامهم منها.

وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب ، مع وجود معاد قريب في قوله : (تَبارَكَ اللهُ) [الأعراف : ٥٤] ودون ضمير المتكلّم ، لأنّ في لفظ الرّب إشعارا بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية ، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) [آل عمران : ١٥٠].

والتّضرّع : إظهار التّذلل بهيئة خاصة ، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع ، لأنّه تذلّل جهري ، وقد فسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام [٦٣] : (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) بالجهر بالدّعاء ، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخفية ،

١٣١

فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله (ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الأعراف : ٥٦] وتكون ، الواو للتقسيم بمنزلة (أو) وقد قالوا : إنّها فيه أجود من (أو). ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل ، فيكون مصدرا بمعنى الحال ، أي متذلّلين ، أو مفعولا مطلقا ل (ادْعُوا) ، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه ، وجعلوا قوله: (وَخُفْيَةً) مأمورا به مقصودا بذاته ، أي ادعوه مخفين دعاءكم ، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه ، وهذا خطأ : فإنّ النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا علنا غير مرّة. وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال : «اللهمّ اسقنا» وقال : «اللهمّ حوالينا ولا علينا» وقال : «اللهمّ عليك بقريش» الحديث. وما رويت أدعيته إلّا لأنّه جهر بها يسمعها من رواها ، فالصّواب أنّ قوله : (تَضَرُّعاً) إذن بالدّعاء بالجهر والإخفاء ، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع. وقرأ الجمهور (وَخُفْيَةً) ـ بضمّ الخاء ـ وقرأه أبو بكر ـ بكسر الخاء ـ وتقدّم في الأنعام.

وجملة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) واقعة موقع التّعليل للأمر بالدّعاء ، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضى الله عنهم ، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه ، تنبيها على قصد الأمرين وإيجازا في الكلام. ولكون الجملة واقعة موقع التّعليل افتتحت ب (إنّ) المفيدة لمجرّد الاهتمام ، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر ، ومن شأن (إنّ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط ، وتقوم مقام الفاء ، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر.

وإطلاق المحبّة وصفا لله تعالى ، في هذه الآية ونحوها ، إطلاق مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة ، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني ، وعندي فيه احتمال ، فقالوا : أريد لازم المحبّة ، أي في المحبوب والمحب ، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان ، ويلزمها رضى المحب عن محبوبه وإيصال النّفع له. وهذان اللّازمان متلازمان في أنفسهما. فإطلاق المحبّة وصفا لله مجاز بهذا اللّازم المركب.

والمراد ب (الْمُعْتَدِينَ) : المشركون ، لأنّ يرادف الظّالمين.

والمعنى : ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين ، كقوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] تعريض

١٣٢

بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاء الكافرين ، قال تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [الرعد : ١٤] على أحد تأويلين فيها. وحمل بعض المفسّرين التّضرّع على الخضوع ، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهيا عنه ، وتجاوز بعضهم فجعل قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تأكيدا لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء ، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله. ونقل ذلك عن ابن جريج ، وأحسب أنّه نقل عنه غير مضبوط العبارة ، كيف وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهرا ودعا أصحابه.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

عطف النّهي عن الفساد في الأرض على جملة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف : ٥٥] عطفا على طريقة الاعتراض ، فإنّ الكلام لمّا أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرّفهم بذلك العنوان العظيم في قوله : (رَبَّكُمْ) [الأعراف : ٥٥] ، وعرّض لهم بمحبّته إياهم دون أعدائهم المعتدين ، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشّهوية والغضبيّة ، فإنّهما تجنيان فسادا في الغالب ، فذكّرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزّها عن أن يخالطه فساد ، فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد ، فأشبه موقع الاحتراس ، وكذلك دأب القرآن أن يعقّب التّرغيب بالتّرهيب ، وبالعكس ، لئلّا يقع النّاس في اليأس أو الأمن.

والاهتمام بدرء الفساد كان مقاما هنا مقتضيا التّعجيل بهذا النّهي معترضا بين جملتي الأمر بالدّعاء.

وفي إيقاع هذا النّهي عقب قوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف : ٥٥] تعريض بأنّ المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض ، وإرباء للمسلمين عن مشابهتهم ، أي لا يليق بكم وأنتم المقرّبون من ربّكم ، المأذون لكم بدعائه ، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين.

والإفساد في الأرض والإصلاح تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

١٣٣

لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في سورة البقرة [١١] ، وبيّنّا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح ، ومر هنالك القول في حذف مفعول (تُفْسِدُوا) ممّا هو نظير ما هنا.

و (الْأَرْضِ) هنا هي الجسم الكروي المعبّر عنه بالدّنيا.

والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض ، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّيا إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة ، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلّا به ، فقد قطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخل بني النضير ، ونهى أبو بكررضي‌الله‌عنه عن قطع شجر العدوّ ، لاختلاف الأحوال.

والبعدية في قوله : (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعدية حقيقية ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠] على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألسنة المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده ، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة ، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار ، فذلك النّظام الأصلي ، والقانون المعزّز له ، كلاهما إصلاح في الأرض ، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحا ، والثّاني جعل الضّار صالحا بالتّهذيب أو بالإزالة ، وقد مضى في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في سورة البقرة [١١] ، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحا وبين جعل الفاسد صالحا. فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غيّر ذلك النّظام فأفسد الصّالح ، واستعمل الضّار على ضرّه ، أو استبقى مع إمكان إزالته ، كان إفسادا بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٣].

والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض.

١٣٤

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

عود إلى أمر الدّعاء لأنّ ما قبله من النّهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام ، وأعيد الأمر بالدّعاء ليبنى عليه قوله : (خَوْفاً وَطَمَعاً) قصدا لتعليم الباعث على الدّعاء بعد أن علّموا كيفيته ، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدّعاء وأنواعه ، فلا إشكال في عطف الأمر بالدّعاء على مثله لأنّهما مختلفان باختلاف متعلّقاتهما.

والخوف تقدّم عند قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة :٢٢٩].

والطّمع تقدّم في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) في سورة البقرة [٧٥].

وانتصاب (خَوْفاً وَطَمَعاً) هنا على المفعول لأجله ، أي أنّ الدّعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه ، فحذف متعلّق الخوف والطّمع لدلالة الضّمير المنصوب في (ادْعُوهُ).

والواو للتّقسيم للدّعاء بأنّه يكون على نوعين :

فالخوف من غضبه وعقابه ، والطّمع في رضاه وثوابه ، والدّعاء لأجل الخوف نحو الدّعاء بالمغفرة ، والدّعاء لأجل الطّمع نحو الدّعاء بالتّوفيق وبالرّحمة. وليس المراد أنّ الدّعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسّر به الفخر في السّؤال الثّالث لأنّ ذلك وإن صحّ في الطّمع لا يصحّ في الخوف إلّا بسماجة. وفي الأمر بالدّعاء خوفا وطمعا دليل على أنّ من حظوظ المكلّفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب الله والطّمع في ثوابه ، وهذا ممّا طفحت به أدلّة الكتاب والسنّة ، وقد أتى الفخر في السّؤال الثّاني في تفسير الآية بكلام غير ملاق للمعروف عند علماء الأمّة ، ونزع به نزعة المتصوّفة الغلاة. وتعقّبه يطول ، فدونك فانظره إن شئت.

وقد شمل الخوف والطّمع جميع ما تتعلّق به أغراض المسلمين نحو ربّهم في عاجلهم وآجلهم ، ليدعوا الله بأن ييسر لهم أسباب حصول ما يطمعون ، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون. وهذا يقتضي توجّه همّتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب ، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطّمع في الثّواب ، فلا جرم أنّه اقتضى الأمر بالإحسان ، وهو أن يعبدوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه ، فالتّقدير : وادعوه خوفا وطمعا وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وهذا إيجاز.

١٣٥

وجملة : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) واقعة موقع التّفريع على جملة (وَادْعُوهُ) ، فلذلك قرنت ب (إِنَ) الدّالة على التّوكيد ، وهو لمجرّد الاهتمام بالخبر ، إذ ليس المخاطبون بمتردّدين في مضمون الخبر ، ومن شأن (إن) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها ، فتغني عن فاء التّفريع ، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء (إنّ) عن العاطف.

و (رَحْمَةِ اللهِ) : إحسانه وإيتاؤه الخبر.

والقرب حقيقته دنوّ المكان وتجاوره ، ويطلق على الرّجاء مجازا يقال : هذا قريب ، أي ممكن مرجو ، ومنه قوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] فإنّهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة ، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان. ودلّ قوله (قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) على مقدّر في الكلام ، أي وأحسنوا لأنّهم إذا دعوا خوفا وطعما فقد تهيّئوا لنبذ ما يوجب الخوف ، واكتساب ما يوجب الطّمع ، لئلا يكون الخوف والطّمع كاذبين ، لأنّ من خاف لا يقدم على المخوف ، ومن طمع لا يترك طلب المطموع ، ويتحقّق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السيّئات ، فلا جرم تكون رحمة الله قريبا منهم ، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين وتعريضا بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرّحمة عنهم.

وعدم لحاق علامة التّأنيث لوصف (قَرِيبٌ) مع أنّ موصوفه مؤنّث اللّفظ ، وجّهه علماء العربيّة بوجوه كثيرة ، وأشار إليها في «الكشاف».

وجلّها يحوم حول تأويل الاسم المؤنّث بما يرادفه من اسم مذكّر ، أو الاعتذار بأنّ بعض الموصوف به غير حقيقي التّأنيث كما هنا ، وأحسنها ـ عندي ـ قول الفراء وأبي عبيدة : أنّ قريبا أو بعيدا إذا أطلق على قرابة النّسب أو بعد النّسب فهو مع المؤنّث بتاء ولا بدّ ، وإذا أطلق على قرب المسافة أو بعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التّذكير على التّأويل بالمكان ، وهو الأكثر ، قال الله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٣] وقال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب : ٦٣]. ولمّا كان إطلاقه في هذه الآية على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشّائع في استعماله في المعنى الحقيقي ، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً

١٣٦

ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧))

جملة : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) عطف على جملة : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عطفت عليه بأنّه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكر بعضا من رحمته العامة وهو المطر. فذكر إرسال الرّياح هو المقصود الأهم لأنّه دليل على عظم القدرة والتّدبير ، ولذلك جعلناه معطوفا على جملة : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤] أو على جملة : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤]. وذكر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرّياح يحصل منه إدماج الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أنّ الرّياح لا ترسل إلّا للتبشير بالمطر ، ولا أنّ المطر لا ينزل إلّا عقب إرسال الرّياح ، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجو ، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارة المشركين بالقحط والجوع كقوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦] ـ وقوله ـ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠].

وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة ، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها ، وحسّن هذه الاستعارة أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشبهت بالعاقل المرسل إلى جهة ما ، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كرة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية في سورة البقرة [١٦٤]. فتصريف الرّياح من جهة إلى جهة أشبه بالإرسال منه بالإيجاد. والرّياح : جمع ريح ، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وقرأ الجمهور : (الرِّياحَ) ـ بصيغة الجمع ـ وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : الرّيح ـ بصيغة المفرد باعتبار الجنس ، فهو مساو لقراءة الجمع ، قال ابن عطيّة : من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد ، لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة ، كقوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف : ٢٤] ونحو ذلك. ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنّشر يزيل الاشتراك أي الإيهام. والتّحقيق أنّ التّعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدّد المهابّ أو حصول الفترات في الهبوب ، وأنّ الإفراد قد يراد به أنّها مدفوعة دفعة

١٣٧

واحدة قويّة لا فترة بين هباتها.

وقوله : (نَشْراً) قرأه نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو جعفر : نشرا ـ بضمّ النّون والشّين ـ على أنّه جمع نشور ـ بفتح النّون ـ كرسول ورسل ، وهو فعول بمعنى فاعل ، والنّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب ، أي تبثّه وتكثره في الجوّ ، كالشّيء المنشور ، ويجوز أن يكون فعولا بمعنى مفعول ، أي منشورة ، أي مبثوثة في الجهات ، متفرّقة فيها ، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة. ومعنى ذلك أنّ ريح المطر تكون ليّنة ، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال ، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة ، كما قال الكميت في السّحاب :

مرته الجنوب بأنفاسها

وحلّت عزاليه الشّمأل

ومن أجل ذلك عبّر عنها بصيغة الجمع لتعدّد مهابّها ، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس : ٢٢] من حيث جري السّفن إنّما جيّده بريح متّصلة.

وقرأه ابن عامر (نَشْراً) ـ بضم النّون وسكون الشّين ـ وهو تخفيف نشر ـ الذي هو بضمّتين ـ كما يقال : رسل في رسل. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بفتح النّون ، وسكون الشّين على أنّه مصدر ، وانتصب إمّا على المفعولية المطلقة لأنّه مرادف ل (أرسل) بمعناه المجازي ، أي أرسلها إرسالا أو نشرها نشرا ، وإمّا على الحال من الرّيح ، أي ناشرة أي السّحاب ، أو من الضّمير في (أرسل) أي أرسلها ناشرا أي محييا بها الأرض الميّتة ، أي محييا بآثارها وهي الأمطار.

وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين ـ وبالتّنوين وهو تخفيف (بشرا) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نذر ونذير ، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث.

فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب ، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها ، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها ، فيدخل عليهم بها سرور.

وأصل معنى قولهم : بين يدي فلان ، أنّه يكون أمامه بقرب منه (ولذلك قوبل بالخلف في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [البقرة : ٢٥٥]) فقصد قائله الكناية

١٣٨

عن الأمام ، وليس صريحا ، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين ، ثمّ لشهرة هذه الكناية وأغلبيّة موافقتها للمعنى الصريح جعلت كالصّريح ، وساغ أن تستعمل مجازا في التّقدّم والسّبق القريب ، كقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] ، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يدان. وهكذا استعماله في هذه الآية ، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته.

والرّحمة هذه أريد بها المطر ، فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، لأنّ الله يرحم به. والقرينة على المراد بقيّة الكلام ، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت ، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأوّل من قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) تقريع المشركين وتفنيد إشراكهم ، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم ، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول ، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مصرّفا وأنّ للمطر منزلا ، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل ، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالبا ، فيقولون : مطرنا بنوء الثّريا ـ ويقولون : غثنا ما شئنا. مبنيا للمجهول أي أغثنا ، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله ، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء ، هو الله تعالى كقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] ، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة. فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم : أراحل أنت أم ثاو ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد ، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح ، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيره ، فروعي في هذا الإسناد حالهم ابتداء ، ويحصل رعي حال المؤمنين تبعا ، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة.

و (حَتَّى) ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله : (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ، الذي هو في معنى متقدّمة رحمته ، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلّت سحابا أنزلنا به الماء ، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطر ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله : (أَقَلَّتْ) أي الرّياح السّحاب ، ثمّ مضمون قوله : (ثِقالاً) ، ثم مضمون (سُقْناهُ) أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه ، ثمّ أن ينزل منه الماء. وكلّ ذلك غاية لتقدّم

١٣٩

الرياح ، لأنّ المفرّع عن الغاية هو غاية.

الثّقال : البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء ، وهو البخار ، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر ، ومن أحسن معاني أبي الطّيب قوله في : «حسن الاعتذار» :

ومن الخير بطء سيبك عنّي

أسرع السّحب في المسير الجهام

وطوي بعض المغيّا : وذلك أنّ الرّياح تحرّك الأبخرة التي على سطح الأرض ، وتمدّها برطوبات تسوقها إليها من الجهات النديّة التي تمرّ عليها كالبحار والأنهار ، والبحيرات والأراضين النديّة ، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبّر عنه بالإثارة في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] فإذا بلغ حدّ البخاريّة رفعته الرّياح من سطح الأرض إلى الجوّ.

ومعنى (أَقَلَّتْ) ، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يعد محموله قليلا فالهمزة فيه للجعل.

وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار ، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات ، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقل من إحداهما حين كانت منفصلة عن الأخرى ، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحابا عظيما فيثقل ، فينماع ، ثمّ ينزل مطرا. وقد تبيّن أنّ المراد من قوله : (أَقَلَّتْ) غير المراد من قوله في الآية الأخرى (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨].

والسّحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز اجراؤه على اعتبار التّذكير نظرا لتجرّد لفظه

عن علامة التّأنيث ، وجاز اعتبار التّأنيث فيه نظرا لكونه في معنى الجمع ولهذه النّكتة وصف السّحاب في ابتداء إرساله بأنّها تثير ، ووصف بعد الغاية بأنّها ثقال ، وهذا من إعجاز القرآن العلمي ، وقد ورد الاعتباران في هذه الآية فوصف السّحاب بقوله : (ثِقالاً) اعتبارا بالجمع كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : و «رأيت بقرا تذبح» ، وأعيد الضّمير إليه بالإفراد في قوله : (سُقْناهُ).

وحقيقة السّوق أنّه تسيير ما يمشي ومسيّره وراءه يزجيه ويحثّه ، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله ، وقد يجعل تمثيلا إذا روعي قوله : (أَقَلَّتْ سَحاباً) أي: سقناه بتلك الرّيح إلى بلد ، فيكون تمثيلا لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق

١٤٠