تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

من البشر لكان الأحقّ بالرسالة رجلا عظيما من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] يعنون قرية مكة وقرية الطائف.

والمعنى : إبطال أن يكون لهم تصرف في شئون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبر فيما وكل عليه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوءة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاءون ويمنعون من يشاءون.

والخزائن : جمع خزينة وهي البيت ، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات ، أو المال وما هو نفيس عند خازنه ، وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [يوسف : ٥٥]. وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات ، ومنه اصطفاء من هيّأه من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر ، وقد تقدم في سورة الأنعام [٥٠] قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) قال تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤]. وقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص : ٦٨].

وقد سلك معهم هنا مسلك الإيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) ، لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم : كاهن ، ومجنون ، وشاعر إلخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردّت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله.

فقوله تعالى هنا : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) هو كقوله في سورة ص [٨ ، ٩] (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) وقوله في سورة الزخرف [٣٢] (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ).

وكلمة «عند» تستعمل كثيرا في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] ، فالمعنى : أيملكون خزائن ربك ، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة (خَزائِنُ) إلى (رَبِّكَ) على نحو (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) [النجم : ٣٥]. وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء : ١٠٠].

٨١

(أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧)).

إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون.

والمصيطر : يقال بالصاد والسين في أوله : اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين ، إذا حفظ وتسلط ، وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع ، ومنه الساطور ، وهو حديدة يقطع بها اللحم والعظم. وصيغ منه وزن فيعل للإلحاق بالرباعي كقولهم : بيقر ، بمعنى هلك أو تحضر ، وبيطر بمعنى شق ، وهيمن ، ولا خامس لها في الأفعال. وإبدال السين صادا لغة فيه مثل الصراط والسراط.

وقرأ الجمهور (الْمُصَيْطِرُونَ) بصاد. وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر ، وحفص في رواية بالسين في أوله.

وفي معنى الآية قوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) لأن وضوحه كنار على علم. وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨))

لما نفى أن يكون لهم تصرف قوي أو ضعيف في مواهب الله تعالى على عباده أعقبه بنفي أن يكون لهم اطلاع على ما قدره الله لعباده اطلاعا يخوّلهم إنكار أن يرسل الله بشرا أو يوحي إليه وذلك لإبطال قولهم : (تَقَوَّلَهُ) [الطور : ٣٣]. ومثل ذلك قولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] المقتضي أنهم واثقون بأنهم يشهدون هلاكه. وحذف مفعول (يَسْتَمِعُونَ) ليعم كلاما من شأنه أن يسمع من الأخبار المغيبة بالمستقبل وغيره الواقع وغيره.

وسلك في نفي علمهم بالغيب طريق التهكم بهم بإنكار أن يكون لهم سلّم يرتقون به إلى السماء ليستمعوا ما يجري في العالم العلوي من أمر تتلقاه الملائكة أو أهل الملأ الأعلى بعضهم مع بعض فيسترقوا بعض العلم مما هو محجوب عن الناس إذ من المعلوم أنه لا سلّم يصل أهل الأرض بالسماء وهم يعلمون ذلك ويعلمه كل أحد.

٨٢

وعلم من اسم السّلّم أنه آلة الصعود ، وعلم من ذكر السماوات في الآية قبلها أن المراد سلم يصعدون به إلى السماء ، فلذلك وصف ب (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي يرتقون به إلى السماء فيستمعون وهم فيه ، أي في درجاته الكلام الذي يجري في السماء. و (فِيهِ) ظرف مستقر حال من ضمير (يَسْتَمِعُونَ) ، أي وهم كائنون فيه لا يفارقونه إذ لا يفرض أنهم ينزلون منه إلى ساحات السماء.

وإسناد الاستماع إلى ضمير جماعتهم على اعتبار أن المستمع سفير عنهم على عادة استعمال الكلام العربي من إسناد فعل بعض القبيلة إلى جميعها إذا لم تصده عن عمله في قولهم : قتلت بنو أسد حجرا ، ألا ترى أنه قال بعد هذا (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) ، أي من استمع منهم لأجلهم ، أي أرسلوه للسمع. ومثل هذا الإسناد شائع في القرآن وتقدم عند قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) وما بعده من الآيات في سورة البقرة [٤٩].

و (في) للظرفية وهي ظرفية مجازية اشتهرت حتى ساوت الحقيقة لأن الراقي في السّلّم يكون كله عليه ، فالسلم له كالظرف للمظروف ، وإذ كان في الحقيقة استعلاء ثم شاع في الكلام فقالوا : صعد في السلم ، ولم يقولوا : صعد على السلم ولذلك اعتبرت ظرفية حقيقية ، أي حقيقة عرفية بخلاف الظرفية في قوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] لأنه لم يشتهر أن يقال : صلبه في جذع ، بل يقال : صلبه على جذع ، فلذلك كانت استعارة ، فلا منافاة بين قول من زعم أن الظرفية مجازية وقول من زعمها حقيقة.

والفاء في (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) لتفريع هذا الأمر التعجيزي على النفي المستفاد من استفهام الإنكار. فالمعنى : فما يأتي مستمع منهم بحجة تدل على صدق دعواهم. فلام الأمر مستعمل في إرادة التعجيز بقرينة انتفاء أصل الاستماع بطريق استفهام الإنكار.

والسلطان : الحجة ، أي حجة على صدقهم في نفي رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو في كونه على وشك الهلاك.

والمراد بالسلطان ما يدل على اطلاعهم على الغيب من أمارات كأن يقولوا : آية صدقنا فيما ندعيه وسمعناه من حديث الملأ الأعلى ، أننا سمعنا أنه يقع غدا حادث كذا وكذا مثلا ، مما لا قبل للناس بعلمه ، فيقع كما قالوا ويتوسم منه صدقهم فيما عداه. وهذا معنى وصف السلطان بالمبين ، أي المظهر لصحة الدعوى.

٨٣

وهذا تحدّ لهم بكذبهم فلذلك اكتفى بأن يأتي بعضهم بحجة دون تكليف جميعهم بذلك على نحو قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] أي فليأت من يتعهد منهم بالاستماع بحجة. وهذا بمنزلة التذييل للكلام على نحو ما تقدم في قوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطور : ٣١] وقوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [الطور : ٣٤].

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩))

لما جرى نفي أن تكون لهم مطالعة الغيب من الملأ الأعلى إبطالا لمقالاتهم في شئون الربوبية أعقب ذلك بإبطال نسبتهم لله بنات استقصاء لإبطال أوهامهم في المغيبات من العالم العلوي ، فهذه الجملة معترض بين جملة (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) [الطور : ٣٨] وجملة (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) [الطور : ٤٠] ، ويقدر الاستفهام إنكارا لأن يكون لله البنات.

ودليل الإنكار في نفس الأمر استحالة الولد على الله تعالى ولكن لمّا كانت عقول أكثر المخاطبين بهذا الرد غير مستعدة لإدراك دليل الاستحالة ، وكان اعتقادهم البنات لله منكرا ، تصدّي لدليل الإبطال وسلك في إبطاله دليل إقناعي يتفطنون به إلى خطل رأيهم وهو قوله : (وَلَكُمُ الْبَنُونَ).

فجملة (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) في موضع الحال من ضمير الغائب ، أي كيف يكون لله البنات في حال أن لكم بنين وهم يعلمون أن صنف الذكور أشرف من صنف الإناث على الجملة كما أشار إليه قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ، ٢٢]. فهذا مبالغة في تشنيع قولهم فليس المراد أنهم لو نسبوا لله البنين لكان قولهم مقبولا لأنهم لم يقولوا ذلك فلا طائل تحت إبطاله.

وتغيير أسلوب الغيبة المتبع ابتداء من قوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] إلى أسلوب الخطاب التفات مكافحة لهم بالرد بجملة الحال.

وتقديم (لَكُمُ) على (الْبَنُونَ) لإفادة الاختصاص ، أي لكم البنون دونه فهم لهم بنون وبنات ، وزعموا أن الله ليس له إلا البنات.

وأما تقديم المجرور على المبتدأ في قوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) فللاهتمام باسم الجلالة وقد أنهي الكلام بالفاصلة لأنه غرض مستقل.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠))

٨٤

هذا مرتبط بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) [الطور : ٣٣] وقوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) [الطور : ٣٧] إذ كل ذلك إبطال للأسباب التي تحملهم على زعم انتفاء النبوءة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعد أن أبطل وسائل اكتساب العلم بما زعموه عاد إلى إبطال الدواعي التي تحملهم على الإعراض عن دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأجل ذلك جاء هذا الكلام على أسلوب الكلام الذي اتصل هو به ، وهو أسلوب خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال هنا : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) وقال هنالك : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) [الطور : ٣٧].

والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) مستعمل في التهكم بهم بتنزيلهم منزلة من يتوجس خيفة من أن يسألهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجرا على إرشادهم.

والتهكم استعارة مبنية على التشبيه ، والمقصود ، ما في التهكم من معنى أن ما نشأ عنه التهكم أمر لا ينبغي أن يخطر بالبال.

وجيء بالمضارع في قوله : (تَسْأَلُهُمْ) لإفادة التجدد ، أي تسألهم سؤالا متكررا لأن الدعوة متكررة ، وقد شبهت بسؤال سائل.

وتفريع (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) لما فيه من بيان الملازمة بين سؤال الأجر وبين تجهّم من يسأل والتحرج منه. وقد فرع قوله : (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) على الفعل المستفهم عنه لا على الاستفهام ، أي ما سألتهم أجرا فيثقل غرمه عليهم ، لأن الاستفهام في معنى النفي ، والإثقال يتفرع على سؤال الأجر المفروض لأن مجرد السؤال محرج للمسئول لأنه بين الإعطاء فهو ثقيل وبين الرد وهو صعب.

والمغرم بفتح الميم مصدر ميمي ، وهو الغرم. وهو ما يفرض على أحد من عوض يدفعه.

والمثقل : أصله المحمّل بشيء ثقيل ، وهو هنا مستعار لمن يطالب بما يعسر عليه أداؤه ، شبه طلبه أداء ما يعسر عليه بحمل الشيء الثقيل على من لا يسهل عليه حمله.

و (مِنْ) للتعليل ، أي مثقلون من أجل مغرم حمل عليهم.

والمعنى : أنك ما كلفتهم شيئا يعطونه إياك فيكون ذلك سببا لإعراضهم عنك تخلصا من أداء ما يطلب منهم ، أي انتفى عذر إعراضهم عن دعوتك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١))

٨٥

هذا نظير الإضراب والاستفهام في قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) [الطور : ٣٧] ، أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجدونه فيه ويروونه للناس؟! أي ما عندهم الغيب حتى يكتبوه ، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإسلام بأنهم كالذين سألهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجرا على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين أطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما ادّعى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما أطلعوا عليه فيجدونه مخالفا لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال قتادة : لما قالوا : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] قال الله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي حتى علموا متى يموت محمد ، أو إلى ما يؤول إليه أمره فجعله راجعا إلى قوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠]. والوجه ما سمعته آنفا.

والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل ، أي ما غاب عن علم الناس.

والتعريف في (الْغَيْبُ) تعريف الجنس وكلمة (عند) تؤذن بمعنى الاختصاص والاستئثار ، أي استأثروا بمعرفة الغيب فعلموا ما لم يعلمه غيرهم.

والكتابة في قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يجوز أنها مستعارة للجزم الذي لا يقبل التخلف كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] لأن شأن الشيء الذي يراد تحقيقه والدوام عليه أن يكتب ويسجل ، كما قال الحارث بن حلزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

فيكون الخبر في قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مستعملا في معناه من إفادة النسبة الخبرية.

ويجوز أن تكون الكتابة على حقيقتها ، أي فهم يسجلون ما أطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوما لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مستعملا في معنى الفرض والتقدير تبعا لفرض قوله : (عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) ، ويكون من باب قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) [النجم : ٣٥] وقوله : (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) [مريم : ٧٧ ، ٧٨].

وحاصل المعنى : أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢))

انتقال من نقض أقوالهم وإبطال مزاعمهم إلى إبطال نواياهم وعزائمهم من التبيت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ولدعوة الإسلام من الإضرار والإخفاق وفي هذا كشف لسرائرهم

٨٦

وتنبيه للمؤمنين للحذر من كيدهم.

وحذف متعلّق (كَيْداً) ليعم كل ما يستطيعون أن يكيدوه فكانت هذه الجملة بمنزلة التتميم لنقض غزلهم والتّذييل بما يعم كل عزم يجري في الأغراض التي جرت فيها مقالاتهم.

والكيد والمكر متقاربان وكلاهما إظهار إخفاء الضر بوجوه الإخفاء تغريرا بالمقصود له الضرّ.

وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) وكان مقتضى الظاهر أن يقال فهم المكيدون لما تؤذن به الصلة من وجه حلول الكيد بهم لأنهم كفروا بالله ، فالله يدافع عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن المؤمنين وعن دينه كيدهم ويوقعهم فيما نووا إيقاعهم فيه.

وضمير الفصل أفاد القصر ، أي الذين كفروا المكيدون دون من أرادوا الكيد به.

وإطلاق اسم الكيد على ما يجازيهم الله به عن كيدهم من نقض غزلهم إطلاق على وجه المشاكلة بتشبيه إمهال الله إياهم في نعمة إلى أن يقع بهم العذاب بفعل الكائد لغيره ، وهذا تهديد صريح لهم ، وقد تقدم قوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) في سورة الأنفال [٣٠]. ومن مظاهر هذا التهديد ما حلّ بهم يوم بدر على غير ترقب منهم.

والقول في تفريع (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) كالقول في تفريع قوله : (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤٠].

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

هذا آخر سهم في كنانة الرد عليهم وأشد رمي لشبح كفرهم ، وهو شبح الإشراك وهو أجمع ضلال تنضوي تحته الضلالات وهو إشراكهم مع الله آلهة أخرى.

فلما كان ما نعي عليهم من أول السورة ناقضا لأقوالهم ونواياهم ، وكان ما هم فيه من الشرك أعظم لم يترك عد ذلك عليهم مع اشتهاره بعد استيفاء الغرض المسوق له الكلام بهذه المناسبة ، ولذلك كان هذا المنتقل إليه بمنزلة التذييل لما قبله لأنه ارتقاء إلى الأهم في نوعه والأهم يشبه الأعم فكان كالتذييل ، ونظيره في الارتقاء في كمال النوع قوله تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ) إلى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧] الآية.

٨٧

وقد وقع قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إتماما للتذييل وتنهية المقصود من فضح حالهم.

وظاهر أن الاستفهام المقدر بعد (أَمْ) استفهام إنكاري. واعلم أن الآلوسي نقل عن «الكشف على الكشاف» كلاما في انتظام الآيات من قوله تعالى : (يَقُولُونَ شاعِرٌ) إلى قوله : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) فيه نكت وتدقيق فانظره.

[٤٤ ـ ٤٦] (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦))

عطف على جملة (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] وما بعدها من الجمل الحالية لأقوالهم بمناسبة اشتراك معانيها مع ما في هذه الجملة في تصوير بهتانهم ومكابرتهم الدالة على أنهم أهل البهتان فلو أروا كسفا ساقطا من السماء وقيل لهم : هذا كسف نازل كابروا وقالوا هو سحاب مركوم.

فيجوز أن يكون (كِسْفاً) تلويحا إلى ما حكاه الله عنهم في سورة الإسراء [٩٠ ـ ٩٢] (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً). وظاهر ما حكاه الطبري عن ابن زيد أن هذه الآية نزلت بسبب قولهم ذلك ، وإذ قد كان الكلام على سبيل الغرض فلا توقف على ذلك.

والمعنى : إن يروا كسفا من السماء مما سألوا أن يكون آية على صدقك لا يذعنوا ولا يؤمنوا ولا يتركوا البهتان بل يقولوا : هذا سحاب ، وهذا المعنى مروي عن قتادة. وهو من قبيل قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ، ١٥].

والكسف بكسر الكاف : القطعة ، ويقال : كسفة. وقد تقدم في سورة الإسراء.

و (مِنَ السَّماءِ) صفة ل (كِسْفاً) ، و (مِنَ) تبعيضية ، أي قطعة من أجزاء السماء مثل القطع التي تسقط من الشهب.

والمركوم : المجموع بعضه فوق بعض يقال : ركمه ركما ، وهو السحاب الممطر قال تعالى : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) [النور : ٤٣].

والمعنى : أن يقع ذلك في المستقبل يقولوا سحاب ، وهذا لا يقتضي أنه يقع لأن

٨٨

أداة الشرط إنما تقتضي تعليق وقوع جوابها على وقوع فعلها لو وقع. ووقع (سَحابٌ مَرْكُومٌ) خبرا عن مبتدأ محذوف ، وتقديره : هو سحاب وهذا سحاب.

والمقصود : أنهم يقولون ذلك عنادا مع تحققهم أنه ليس سحابا. ولكون المقصود أن العناد شيمتهم فرع عليه أن أمر الله رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتركهم ، أي يترك عرض الآيات عليهم ، أي أن لا يسأل الله إظهار ما اقترحوه من الآيات لأنهم لا يقترحون ذلك طلبا للحجة ولكنهم يكابرون ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧]. وليس المراد ترك دعوتهم وعرض القرآن عليهم.

ويجوز أن يكون الأمر في قوله : (فَذَرْهُمْ) مستعملا في تهديدهم لأنهم يسمعونه حين يقرأ عليهم القرآن كما يقال للذي لا يرعوي عن غيه : دعه فإنه لا يقلع.

وأفادت الغاية أنه يتركهم إلى الأبد لأنهم بعد أن يصعقوا لا تعاد محاجتهم بالأدلة والآيات.

وقرأ الجمهور (يُلاقُوا). وقرأه أبو جعفر (يُلْقُوا) بدون ألف بعد اللام.

و «اليوم الذي فيه يصعقون» هو يوم البعث الذي يصعق عنده من في السماوات ومن في الأرض.

وإضافة اليوم إلى ضميرهم لأنهم اشتهروا بإنكاره وعرفوا بالذين لا يؤمنون بالآخرة. وهذا نظير النسب في قول أهل أصول الدين : فلان قدري ، يريدون أنه لا يؤمن بالقدر. فالمعنى بنسبته إلى القدر أنه يخوض في شأنه ، أو لأنه اليوم الذي أوعدوه ، فالإضافة لأدنى ملابسة.

ونظيره قوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: ١٠٣].

والصعق : الإغماء من خوف أو هلع قال تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] ، وأصله مشتق من الصاعقة لأن المصاب بها يغمى عليه أو يموت ، يقال : صعق ، بفتح فكسر ، وصعق بضم وكسر.

٨٩

وقرأه الجمهور (يُصْعَقُونَ) بفتح المثناة التحتية ، وقرأه ابن عامر وعاصم بضم المثناة.

وذلك هو يوم الحشر قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ، وملاقاتهم لليوم مستعارة لوقوعه ، شبه اليوم وهو الزمان بشخص غائب على طريقة المكنية وإثبات الملاقاة إليه تخييل. والملاقاة مستعارة أيضا للحلول فيه ، والإتيان بالموصول للتنبيه على خطئهم في إنكاره.

و (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) بدل من (يَوْمَهُمُ) [الطور : ٤٥] وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى معرب.

والإغناء : جعل الغير غنيا ، أي غير محتاج إلى ما تقوم به حاجياته ، وإذا قيل : أغنى عنه. كان معناه : أنه قام مقامه في دفع حاجة كان حقه أن يقوم بها ، ويتوسع فيه بحذف مفعوله لظهوره من المقام.

والمراد هنا لا يغني عنهم شيئا عن العذاب المفهوم من إضافة (يَوْمَ) إلى ضميرهم ومن الصلة في قوله : (الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ).

و (كَيْدُهُمْ) من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي ما يكيدون به وهو المشار إليه بقوله: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) [الطور : ٤٢] ، أي لا يستطيعون كيدا يومئذ كما كانوا في الدنيا.

فالمعنى : لا كيد لهم فيغني عنهم على طريقة قول امرئ القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره

أي لا منار له فيهتدي به.

وهذا ينفي عنهم التخلص بوسائل من فعلهم ، وعطف عليه (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لنفي أن يتخلصوا من العذاب بفعل من يخلصهم وينصرهم فانتفى نوعا الوسائل المنجية. (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧))

جملة معترضة والواو اعتراضية ، أي وإن لهم عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وهو عذاب الجوع في سني القحط ، وعذاب السيف يوم بدر.

وفي قوله : (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال:

٩٠

وإن لهم عذابا جريا على أسلوب قوله : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [الطور : ٤٥] فخولف مقتضى الظاهر لإفادة علة استحقاقهم العذاب في الدنيا بأنها الإشراك بالله.

وكلمة (دُونَ) أصلها المكان المنفصل عن شيء انفصالا قريبا ، وكثر إطلاقه على الأقل ، يقال : هو في الشرف دون فلان ، وعلى السابق لأنه أقرب حلولا من المسبوق ، وعلى معنى (غير). و (دُونَ) في هذه الآية صالحة للثلاثة الأخيرة ، إذ المراد عذاب في الدنيا وهو أقل من عذاب الآخرة قال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) [السجدة : ٢١] وهو أسبق من عذاب الآخرة لقوله تعالى : (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) ، وهو مغاير له كما هو بيّن.

ولكون هذا العذاب مستبعدا عندهم وهم يرون أنفسهم في نعمة مستمرة كما قال تعالى : (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) [فصلت : ٥٠] أكد الخبر ب (إِنَ) فالتأكيد مراعى فيه شكهم حين يسمعون القرآن ، كما دل عليه تعقيبه بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

والاستدراك الذي أفادته (لكنّ) راجع إلى مفاد التأكيد ، أي هو واقع لا محالة ولكن أكثرهم لا يعلمون وقوعه ، أي لا يخطر ببالهم وقوعه ، وذلك من بطرهم وزهوهم ومفعول (لا يَعْلَمُونَ) محذوف اختصارا للعمل به وأسند عدم العلم إلى أكثرهم دون جميعهم لأن فيهم أهل رأي ونظر يتوقعون حلول الشر إذا كانوا في خير.

والظلم : الشرك قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وهو الغالب في إطلاقه في القرآن.

[٤٨ ، ٤٩] (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا).

عطف على جملة (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ) [الطور : ٤٥] إلخ ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء من قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) [الطور : ٧] المسوق مساق التسلية له ، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى

٩١

ختمت السورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمد الله شكرا له على تفضيله بالرسالة.

والمراد بحكم ربك ما حكم به وقدره من انتفاء إجابة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم.

فاللام في قوله : (لِحُكْمِ رَبِّكَ) يجوز أن تكون بمعنى (على) فيكون لتعدية فعل (اصْبِرْ) كقوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ١٠]. ويجوز فيها معنى (إلى) أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) [يونس : ١٠٩] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون (لِحُكْمِ رَبِّكَ) هو ما حكم به من إرساله إلى الناس ، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك.

فللام في هذا المكان موقع جامع لا يفيد غير اللام مثله.

والتفريع في قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) تفريع العلة على المعلول (اصْبِرْ) لأنك بأعيننا ، أي بمحل العناية والكلاءة منا ، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم ، وقد وفى بهذا كله التمثيل في قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) ، فإن الباء للإلصاق المجازي ، أي لا نغفل عنك ، يقال : هو بمرأى مني ومسمع ، أي لا يخفى عليّ شأنه. وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من النصر والجزاء والحفظ.

وقد آذن بذلك قوله : (لِحُكْمِ رَبِّكَ) دون أن يقول : واصبر لحكمنا ، أو لحكم الله ، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب.

وجمع الأعين : إما مبالغة في التمثيل كأنّ الملاحظة بأعين عديدة كقوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] وهو من قبيل (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧].

ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلّقات الملاحظة فملاحظة للذب عنه ، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة ، وملاحظة لجزاء أعدائه بما يستحقونه ، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به ، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٣ ، ١٤] لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلّق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم ، وذلك خلاف قوله في قصة موسى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] فإنه

٩٢

تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) [طه : ٤٠].

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)).

التسبيح : التنزيه ، والمراد ما يدل عليه من قول ، وأشهر ذلك هو قول : «سبحان الله» وما يرادفه من الألفاظ ، ولذلك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار.

والباء في قوله : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) للمصاحبة جمعا بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال.

و (حِينَ تَقُومُ) وقت الهبوب من النوم ، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أمر بالصبر والتسبيح والحمد.

فالتسبيح مراد به : الصلاة ، والقيام : جعل وقت للصلوات : إمّا للنوافل ، وإما لصلاة الفريضة وهي الصبح.

وقيل : التسبيح قوله : «سبحان الله» ، والقيام : الاستعداد للصلاة أو الهبوب من النوم. وروي ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم ، أي يقول القائم : «سبحان الله وبحمده» أو يقول : «سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك ولا إله غيرك».

وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة : أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من جلس مجلسا فكثر فيه لغظه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية.

و (مِنَ اللَّيْلِ) أي زمنا هو بعض الليل ، فيشمل وقت النهي للنوم وفيه تتوارد على الإنسان ذكريات مهماته ، ويشمل وقت التهجد في الليل.

وقوله : (فَسَبِّحْهُ) اكتفاء ، أي واحمده.

وانتصب (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) على الظرفية لأنه على تقدير : ووقت إدبار النجوم.

والإدبار : رجوع الشيء من حيث جاء لأنه ينقلب إلى جهة الدبر ، أي الظهر.

وإدبار النجوم : سقوط طوالعها ، فإطلاق الإدبار هنا مجاز في المفارقة والمزايلة ،

٩٣

أي عند احتجاب النجوم. وفي الحديث : «إذا أقبل الليل من هاهنا (الإشارة إلى المشرق) وأدبر النهار من هاهنا (الإشارة إلى جهة المغرب) فقد أفطر الصائم».

وسقوط طوالعها التي تطلع : أنها تسقط في جهة المغرب عند الفجر إذا أضاء عليها ابتداء ظهور شعاع الشمس ، فإدبار النجوم : وقت السحر ، وهو وقت يستوفي فيه الإنسان حظه من النوم ، ويبقى فيه ميل إلى استصحاب الدّعة ، فأمر بالتسبيح فيه ليفصل بين النوم المحتاج إليه وبين التناوم الناشئ عن التكاسل ، ثم إن وجد في نفسه بعد التسبيح حاجة إلى غفوة من النوم اضطجع قليلا إلى أن يحين وقت صلاة الصبح ، كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يضطجع بعد صلاة الفجر حتى يأتيه المؤذن بصلاة الصبح.

والنجوم : جمع نجم وهو الكوكب الذي يضيء في الليل غير القمر ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) في سورة النحل [١٢].

والآية تشير إلى أوقات الرغائب من النوافل وهي صلاة الفجر والأشفاع بعد العشاء وقيام آخر الليل. وقيل : أشارت إلى الصلوات الخمس بوجه الإجمال وبيّنته السنة.

٩٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٣ ـ سورة النجم

سميت «سورة النجم» بغير واو في عهد أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي «الصحيح» عن ابن مسعود «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفّا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه. وقال : يكفيني هذا قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وهذا الرجل أمية بن خلف. وعن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون. فهذه تسمية لأنها ذكر فيها النجم.

وسموها «سورة والنجم» بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أولها ، وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في «جامعه».

ووقعت في المصاحف والتفاسير بالوجهين وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ (النجم) أو حكاية لفظ (والنجم).

وسموها (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١] كما في حديث زيد بن ثابت في «الصحيحين» «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فلم يسجد» ، أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس. وهذا كله اسم واحد متوسع فيه فلا تعد هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم.

وهي مكية ، قال ابن عطية : بإجماع المتأولين. وعن ابن عباس وقتادة : استثناء قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] الآية قالا : «هي آية مدنية». وسنده ضعيف. وقيل : السورة كلها مدنية ونسب إلى الحسن البصري : أن السورة كلها مدنية ، وهو شذوذ.

وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة.

٩٥

وهي السورة الثالثة والعشرون في عدّ ترتيب السور. نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس.

وعدّ جمهور العادين آيها إحدى وستين ، وعدّها أهل الكوفة اثنتين وستين.

قال ابن عطية : سبب نزولها أن المشركين قالوا : إنّ محمدا يتقوّل القرآن ويختلق أقواله ، فنزلت السورة في ذلك.

أغراض هذه السورة

أول أغراضها : تحقيق أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن الله تعالى وأنه منزه عما ادعوه.

وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل.

وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة.

وإبطال إلهية أصنام المشركين.

وإبطال قولهم في اللّات والعزّى ومناة بنات الله وأنها أوهام لا حقائق لها وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناث.

وذكر جزاء المعرضين والمهتدين وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة.

وإبطال قياسهم عالم الغيب على عالم الشهادة وأن ذلك ضلال في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله. وذكر لذلك مثال من قصة الوليد بن المغيرة ، أو قصة ابن أبي سرح.

وإثبات البعث والجزاء.

وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم وبمن جاء قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرسل أهل الشرائع.

وإنذارهم بحادثة تحلّ بهم قريبا.

وما تخلل ذلك من معترضات ومستطردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم.

٩٦

وأن القرآن حوى كتب الأنبياء السابقين.

[١ ـ ٣] (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣))

كلام موجه من الله تعالى إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (النَّجْمِ) : الكوكب أي الجرم الذي يبدو للناظرين لا معا في جو السماء ليلا.

أقسم الله تعالى بعظيم من مخلوقاته دال على عظيم صفات الله تعالى.

وتعريف (النَّجْمِ) باللام ، يجوز أن يكون للجنس كقوله : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦] وقوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] ، ويحتمل تعريف العهد. وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريّا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار ، ومن أقوالهم : طلع النّجم عشاء فابتغى الراعي كمساء طلع النجم غذيّة وابتغى الراعي شكية (تصغير شكوة وعاء من جلد يوضع فيه الماء واللبن) يعنون ابتداء زمن البرد وابتداء زمن الحرّ.

وقيل (النَّجْمِ) : الشعرى اليمانية وهي العبور وكانت معظمة عند العرب وعبدتها خزاعة.

ويجوز أن يكون المراد ب (النَّجْمِ) : الشهاب ، وبهوية : سقوطه من مكانه إلى مكان آخر ، قال تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [الصافات : ٦ ، ٧] وقال : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥].

والقسم ب (النَّجْمِ) لما في خلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى ، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦].

وتقييد القسم بالنجم بوقت غروبه لإشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أوجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى ، ولذلك قال إبراهيم : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦].

والوجه أن يكون (إِذا هَوى) بدل اشتمال من النجم ، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ومن أعظم أحواله حال هويّه ، ويكون (إِذا) اسم زمان

٩٧

مجردا عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم ، وبذلك نتفادى من إشكال طلب متعلق (إِذا) وهو إشكال أورده العلامة الجنزي (١) على الزمخشري ، قال الطيبي وفي «المقتبس» قال الجنزي : «فاوضت جار الله في قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ما العامل في (إِذا)؟ فقال : العامل فيه ما تعلّق به الواو ، فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأن معنا أقسم الآن ، وليس معناه أقسم بعد هذا (٢) فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف تقديره : وهويّ النجم إذا هوى ، فعرضته على زين المشايخ (٣) فلم يستحسن قوله الثاني. والوجه أن (إِذا) قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ، ونحوه : آتيك إذا احمرّ البسر ، أي وقت احمراره فقد عرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله : آتيك اه. كلام الطيبي ، فقوله : فالوجه يحتمل أن يكون من كلام زين المشايخ أو من كلام صاحب «المقتبس» أو من كلام الطيبي ، وهو وجيه وهو أصل ما بنينا عليه موقع (إِذا) هنا ، وليس تردد الزمخشري في الجواب إلا لأنه يلتزم أن يكون (إِذا) ظرفا للمستقبل كما هو مقتضى كلامه في «المفصّل» مع أن خروجها عن ذلك كثير كما تواطأت عليه أقوال المحققين.

والهويّ : السقوط ، أطلق هنا على غروب الكوكب ، استعير الهويّ إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهويّ : سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء ، فهو هويّ حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه.

وفي ذكر (إِذا هَوى) احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقرارا لعبادة نجم الشعرى ، وأن القسم به اعتراف بأنه إله إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهويّ حالة انخفاض ومغيب في تخيّل الرّائي لأنهم يعدّون طلوع النجم أوجا لشرفه ويعدون غروبه حضيضا ، ولذلك قال الله تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦].

__________________

(١) هو عمر بن عثمان بن الحسن الجنزي بفتح الجيم وسكون النون نسبة إلى جنزة أعظم مدينة بأرّان قرأ على أبي المظفر الأبيوردي وتوفي بمرو سنة ٥٥٠ ه‍.

(٢) يريد أن مقتضى حرف القسم فعل إنشائي حاصل في حال النطق ومقتضى (إذا) الزّمن المستقبل فتنافيا.

(٣) هو محمد بن أبي القاسم بن بايجوك البقّالي الأدمي أو الآدمي الخوارزمي النحوي أخذ اللغة والنحو عن الزمخشري ، وجلس بعد مكانه توفي سنة ٥٦٢ ه‍ عن نيف وسبعين سنة.

٩٨

ومن مناسبات هذا يجيء قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) في هذه السورة [٤٩] ، وتلك اعتبارات لهم تخيلية شائعة بينهم فمن النافع موعظة الناس بذلك لأنه كاف في إقناعهم وصولا إلى الحق.

فيكون قوله : (إِذا هَوى) إشعارا بأن النجوم كلها مسخرة لقدرة الله مسيّرة في نظام أوجدها عليه ولا اختيار لها فليست أهلا لأن تعبد فحصل المقصود من القسم بما فيها من الدلالة على القدرة الإلهية مع الاحتراس عن اعتقاد عبادتها.

وقال الراغب : قيل أراد بذلك أي ب (النَّجْمِ) القرآن المنزل المنجم قدرا فقدرا ، ويعني بقوله : (هَوى) نزوله اه.

ومناسبة القسم ب (النَّجْمِ إِذا هَوى) ، أن الكلام مسوق لإثبات أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابه حال نزوله الاعتباريّ حال النجم في حالة هويّه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منير إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية ، شبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسلفه وهو من تمثيل المعقول بالمحسوس ، أو الإشارة إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله ، أو بانقضاض الشهاب تشبيه محسوس بمحسوس ، وقد يشبهون سرعة الجري بانقضاض الشهاب ، قال أوس بن حجر يصف فرسا :

فانقضّ كالدريّ يتبعه

نقع يثور تخاله طنبا

والضلال : عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المقصود ، وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق.

والغواية : فساد الرأي وتعلقه بالباطل.

والصاحب : الملازم للذي يضاف إليه وصف صاحب ، والمراد بالصاحب هنا : الذي له ملابسات وأحوال مع المضاف إليه ، والمراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا كقول أبي معبد الخزاعي الوارد في أثناء قصة الهجرة لما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيته وفيها أمّ معبد وذكرت له معجزة مسحه على ضرع شاتها : «هذا صاحب قريش» ، أي صاحب الحوادث الحادثة بينه وبينهم.

وإيثار التعبير عنه بوصف (صاحِبُكُمْ) تعريض بأنهم أهل بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة اطلاعهم على أحواله وشئونه إذ هو بينهم في بلد لا تتعذر فيه إحاطة

٩٩

علم أهله بحال واحد معين مقصود من بينهم. ووقع في خطبة الحجاج بعد دير الجماجم قوله للخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر» يريد أنه لا تخفى عنه أحوالهم فلا يحاولون التنصل من ذنوبهم بالمغالطة والتشكيك.

وهذا رد من الله على المشركين وإبطال لقولهم في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم قالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، وقالوا : شاعر ، وقالوا في القرآن : إن هذا إلا اختلاق.

فالجنون من الضلال لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب ، والكذب والسحر ضلال وغواية ، والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [الشعراء : ٢٢٤] أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية.

وعطف على جواب القسم (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وهذا وصف كمال لذاته. والكلام الذي ينطق به هو القرآن لأنهم قالوا فيه : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان :٤] وقالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) [الفرقان : ٥] وذلك ونحوه لا يعدو أن يكون اختراعه أو اختياره عن محبة لما يخترع وما يختار بقطع النظر عن كونه حقا أو باطلا ، فإن من الشعر حكمة ، ومنه حكاية واقعات ، ومنه تخيلات ومفتريات. وكله ناشئ عن محبة الشاعر أن يقول ذلك ، فأراهم الله أن القرآن داع إلى الخير.

و (ما) نافية نفت أن ينطق عن الهوى.

والهوى : ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم ، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يختلفون في الحق ، وقد يحب المرء الحق والصواب. فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل.

ونفي النطق عن هوى يقتضي نفي جنس ما ينطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة ، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم.

واعلم أن تنزيهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة. ولذلك ورد في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه يمزح ولا يقول إلا حقّا». وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى).

وبين (هَوى) و (الْهَوى) جناس شبه التام.

١٠٠