تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

الإحاطة بالفاعل الحقيقي للإتراف كشأن الأفعال التي التزم فيها الإسناد المجازي العقلي الذي ليس لمثله حقيقة عقلية ، ولا يقدّر بنحو : أترفه الله ، لأن العرب لم يكونوا يقدّرون ذلك فهذا من باب : قال قائل ، وسأل سائل.

وإنما جعل أهل الشمال مترفين لأنهم لا يخلو واحد منهم عن ترف ولو في بعض أحواله وأزمانه من نعم الأكل والشرب والنساء والخمر ، وكل ذلك جدير بالشكر لواهبه ، وهم قد لابسوا ذلك بالإشراك في جميع أحوالهم ، أو لأنهم لما قصروا انظارهم على التفكير في العيشة العاجلة صرفهم ذلك عن النظر والاستدلال على صحة ما يدعوهم إليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا وجه جعل الترف في الدنيا من أسباب جزائهم الجزاء المذكور.

والإشارة في قوله : (قَبْلَ ذلِكَ) إلى (سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) [الواقعة : ٤٢ ، ٤٣] بتأويلها بالمذكور ، أي كانوا قبل اليوم وهو ما كانوا عليه في الحياة الدنيا.

والحنث : الذنب والمعصية وما يتخرج منه ، ومنه قولهم : حنث في يمينه ، أي أهمل ما حلف عليه فجر لنفسه حرجا.

ويجوز أن يكون الحنث حنث اليمين فإنهم كانوا يقسمون على أن لا بعث ، قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] ، فلذلك من الحنث العظيم ، وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩] وقد جاءتهم آية إعجاز القرآن فلم يؤمنوا به.

والعظيم : القوي في نوعه ، أي الذنب الشديد والحنث العظيم هو الإشراك بالله. وفي حديث ابن مسعود أنه قال : «قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك» وقال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

ومعنى (يُصِرُّونَ) : يثبتون عليه لا يقبلون زحزحة عنه ، أي لا يضعون للدعوة إلى النظر في بطلان عقيدة الشرك.

وصيغة المضارع في (يُصِرُّونَ) : يثبتون عليه لا يقبلون زحزحة عنه ، أي لا يضعون للدعوة إلى النظر في بطلان عقيدة الشرك.

وصيغة المضارع في (يُصِرُّونَ) و (يَقُولُونَ) تفيد تكرر الإصرار والقول منهم. وذكر فعل (كانُوا) لإفادة أن ذلك ديدنهم.

والمراد من قوله : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) إلخ أنهم كانوا يعتقدون استحالة البعث بعد تلك الحالة. ويناظرون في ذلك بأن القول ذلك يستلزم أنهم يعتقدون استحالة البعث.

٢٨١

والاستفهام إنكاري كناية عن الإحالة والاستبعاد ، وتقدم نظير : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) إلخ في سورة الصافات.

وقرأ الجمهور (أَإِذا مِتْنا) بإثبات الاستفهام الأول والثاني ، أي إذا متنا أإنا. وقرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بالاستفهام في (أَإِذا مِتْنا) والإخبار في (إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

وقرأ الجمهور : (أَوَآباؤُنَا) ، بفتح الواو على أنها واو عطف عطفت استفهاما على استفهام ، وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف لصدارة الاستفهام ، وأعيد الاستفهام توكيدا للاستبعاد. والمراد بالقول في قوله : (وَكانُوا يَقُولُونَ) إلخ انهم يعتقدون استجابة مدلول ذلك الاستفهام.

[٤٩ ، ٥٠] (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠))

لما جرى تعليل ما يلاقيه أصحاب الشمال من العذاب بما كانوا عليه من كفران النعمة ، وكان المقصود من ذلك وعيد المشركين وكان إنكارهم البعث أدخل في استمرارهم على الكفر أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخاطبهم بتحقيق وقوع البعث وشموله لهم ولآبائهم ولجميع الناس ، أي أنبئهم بأن الأولين والآخرين ، أي هم وآباؤهم يبعثون في اليوم المعين عند الله ، فقد انتهى الخبر عن حالهم يوم ترجّ الأرض وما يتبعه.

وافتتح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام به كما افتتح به نظائره في آيات كثيرة ليكون ذلك تبليغا عن الله تعالى. فيكون قوله : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ) إلخ استئنافا ابتدائيا لمناسبة حكاية قولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) [الواقعة : ٤٧] الآية.

والمراد ب (الْأَوَّلِينَ) : من يصدق عليه وصف (أول) بالنسبة لمن بعدهم ، والمراد ب (الْآخِرِينَ) : من يصدق عليه وصف آخر بالنسبة لمن قبله.

ومعنى (لَمَجْمُوعُونَ) : أنهم يبعثون ويحشرون جميعا ، وليس البعث على أفواج في أزمان مختلفة كما كان موت الناس بل يبعث الأولون والآخرون في يوم واحد. وهذا إبطال لما اقتضاه عطف (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) في كلامهم من استنتاج استبعاد البعث لأنهم عدّوا سبق من سبق موتهم أدل على تعذر بعثهم بعد أن مضت عليهم القرون ولم يبعث فريق منهم إلى يوم هذا القيل ، فالمعنى : أنكم.

وتأكيد الخبر ب (إن) واللام لرد إنكارهم مضمونه.

٢٨٢

والميقات : هنا لمعنى الوقت والأجل ، وأصله اسم آلة للوقت وتوسعوا فيه فأطلقوه على الوقت نفسه بحيث تعتبر الميم والألف غير دالّتين على معنى ، وتوسعوا فيه توسعا آخر فأطلقوه على مكان لعمل ما. ولعل ذلك متفرع على اعتبار ما في التوقيف من التحديد والضبط ، ومنه مواقيت الحج ، وهي أماكن يحرم الحاج بالحج عندها لا يتجاوزها حلالا. ومنه قول ابن عباس : «لم يوقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخمر حدّا معيّنا».

ويصح حمله في هذه الآية على معنى المكان.

وقد ضمن (لَمَجْمُوعُونَ) معنى مسوقون ، فتعلق به مجروره بحرف (إِلى) للانتهاء ، وإلا فإن ظاهر مجموعون أن يعدّى بحرف (في).

وأفاد تعليق مجروره به بواسطة (إلى) أنه مسير إليه حتى ينتهي إليه ، فدل على مكان. وهذا من الإيجاز.

وإضافة (مِيقاتِ) إلى (يَوْمٍ مَعْلُومٍ) لأن التجمع واقع في ذلك اليوم. وإذ كان التجمع الواقع في اليوم واقعا في ذلك الميقات كانت بين الميقات واليوم ملابسة صححت إضافة الميقات إليه لأدنى ملابسة وهذا أدقّ من جعل الإضافة بيانية. وهذا تعريض بالوعيد بما يلقونه في ذلك اليوم الذي جحدوه.

[٥١ ـ ٥٥] (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥))

هذا من جملة ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي فإن في التصريح بتفصيل جزائهم في ذلك اليوم ما هو أعظم وقعا في النفوس من التعريض الإجمالي بالوعيد الذي استفيد من قوله : (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ) [الواقعة : ٤٩ ، ٥٠].

وهذا التراخي الرتبي مثل الذي في قوله تعالى : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) [التغابن : ٧] بمنزلة الاعتراض بين جملة (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) [الواقعة : ٤٩] وجملة : (خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧].

والخطاب موجه للمقول إليهم ما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله لهم فليس في هذا الخطاب التفات كما قد يتوهم ، وفي ندائهم بهذين الوصفين إيماء إلى أنهما سبب ما

٢٨٣

لحقهم من الجزاء السّيّئ ، ووصفهم بأنهم : ضالون مكذّبون ، ناظر إلى قولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) [الواقعة : ٤٧] إلخ.

وقدم وصف (الضَّالُّونَ) على وصف (الْمُكَذِّبُونَ) مراعاة لترتيب الحصول لأنهم ضلّوا عن الحق فكذبوا بالبعث ليحذروا من الضلال ويتدبروا في دلائل البعث وذلك مقتضى خطابهم بهذا الإنذار بالعذاب المتوقع.

وشجر الزقوم : من شجر العذاب ، تقدم في سورة الدخان.

والحميم : الماء الشديد الغليان ، وقد تقدم في قوله تعالى : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) في سورة الأنعام [٧٠] وتقدم قريبا في هذه السورة.

والمقصود من قوله : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) تفظيع حالهم في جزائهم على ما كانوا عليه من الترف في الدنيا بملء بطونهم بالطعام والشراب ملئا أنساهم إقبالهم عليه وشربهم من التفكر في مصيرهم.

وقد زيد تفظيعا بالتشبيه في قوله : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) ، كما سيأتي ، وإعادة فعل (شاربون) للتأكيد وتكرير استحضار تلك الصورة الفظيعة. ومعنى (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) يجوز أن يكون (على) فيه للاستعلاء ، أي شاربون فوقه الحميم ، ويجوز مع ذلك استفادة معنى (مع) من حرف (على) تعجيبا من فظاعة حالهم ، أي يشربون هذا الماء المحرق مع ما طعموه من شجر الزقوم الموصوفة في آية أخرى بأنها (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٥ ، ٤٦] فيفيد أنهم يتجرعونه ولا يستطيعون امتناعا.

و (مِنْ) الداخلة على (شَجَرٍ) ابتدائية ، أي آكلون أكلا يؤخذ من شجر الزقوم ، و (مِنْ) الثانية الداخلة على (زَقُّومٍ) بيانية لأن الشجر هو المسمى بالزقوم.

وتأنيث ضمير الشجر في قوله : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتي مؤنثة غالبا.

وأما ضمير (عَلَيْهِ) فإنما جاء بصيغة المذكر لأنه عائد على الأكل المستفاد من قوله : (لَآكِلُونَ) ، أي على ذلك الأكل بتأويل المصدر باسم المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق.

والهيم : جمع أهيم ، وهو البعير الذي أصابه الهيام بضم الهاء ، وهو داء يصيب

٢٨٤

الإبل يورثها حمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروى ، أي شاربون من الحميم شربا لا ينقطع فهو مستمرة آلامه.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر (شُرْبَ) بضم الشين اسم مصدر شرب ، وقرأ الباقون بفتح الشين وهو المصدر لشرب. ورويت عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسند صححه الحاكم ، وخبر الواحد لا يزيد المتواتر قوة فكلتا القراءتين متواتر.

والفاء في قوله : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) عطف على (لَآكِلُونَ) لإفادة تعقيب أكل الزقوم ب (شُرْبَ الْهِيمِ) دون فترة ولا استراحة.

وإعادة (فَشارِبُونَ) توكيد لفظي لنظيره ، وفائدة هذا التوكيد زيادة تقرير ما في هذا الشرب من الأعجوبة وهي أنه مع كراهته يزدادون منه كما ترى الأهيم ، فيزيدهم تفظيعا لأمعائهم لإفادة التعجيب من حالهم تعجيبا ثانيا بعد الأول ، فإن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة أمر عجيب ، وشربهم له كما تشرب الإبل الهيم في الإكثار أمر عجيب أيضا ، فكانتا صفتين مختلفتين.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

اعتراض بين جمل الخطاب موجه إلى السامعين غيرهم فليس في ضمير الغيبة التفات.

والإشارة بقوله : (هذا) إلى ما ذكر من أكل الزقوم وشرب الهيم.

والنزل بضم النون وضم الزاي وسكونها ما يقدم للضيف من طعام. وهو هنا تشبيه تهكّمي كالاستعارة التهكمية في قول عمرو بن كلثوم :

نزلتم منزل الأضياف منا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

قرينانكم فعجلنا قراكم

قبيل الصبح مرداة طحونا

وقول أبي الشّعر الضبيّ ، واسمه موسى بن سحيم :

وكنا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

و (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء ، أي هذا جزاؤهم على أعمالهم نظير قوله آنفا (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : ٢٤]. وجعل يوم الدين وقتا لنزلهم مؤذن بأن ذلك الذي عبر عنه بالنزل جزاء على أعمالهم. وهذا تجريد للتشبيه التهكمي وهو قرينة على التهكم كقول

٢٨٥

عمرو بن كلثوم : «مرادة طحونا».

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧))

أعقب إبطال نفيهم البعث بالاستدلال على إمكانه وتقريب كيفية الإعادة التي أحالوها فاستدل على إمكان إعادة الخلق بأن الله خلقهم أول مرة فلا يبعد أن يعيد خلقهم ، قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] لأنهم لم يكونوا ينكرون ذلك ، وليس المقصود إثبات أن الله خلقهم.

وهذا الكلام يجوز أن يكون من تمام ما أمر بأن يقوله لهم ، ويجوز أن يكون استئنافا مستقلا. والخطاب على كلا الوجهين موجّه للسامعين فليس في ضمير (خَلَقْناكُمْ) التفات.

وتقدم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوّي الحكم ردّا على إحالتهم أن يكون الله قادرا على إعادة خلقهم بعد فناء معظم أجسادهم حين يكونون ترابا وعظاما ، فهذا تذكير لهم بما ذهلوا عنه بأن الله هو خلقهم أول مرة وهو الذي يعيد خلقهم ثاني مرة ، فإنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلقهم لمّا لم يجروا على موجب ذلك العلم بإحالتهم إعادة الخلق نزلوا منزلة من يشك في أن الله خلقهم ، فالمقصود بتقوّي الحكم الإفضاء إلى ما سيفرع عنه من قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) إلى قوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) [الواقعة : ٥٨ ـ ٦١]. ونظير هذه الآية في نسج نظمها والترتيب عليها قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) في سورة الإنسان [٢٨].

وموقعها استدلال وعلة لمضمون جملة (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ) [الواقعة : ٤٩ ، ٥٠] ولذلك لم تعطف.

وفرع على هذا التذكير تحضيضهم على التصديق ، أي بالخلق الثاني وهو البعث فإن ذلك هو الذي لم يصدقوا به.

[٥٨ ، ٥٩] (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩))

تفريع على (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) [الواقعة : ٥٧] ، أي خلقناكم الخلق الذي لم تروه ولكنكم توقنون بأنا خلقناكم فتدبروا في خلق النسل لتعلموا أن إعادة الخلق تشبه ابتداء الخلق.

٢٨٦

وذكرت كائنات خمسة مختلفة الأحوال متحدة المآل إذ في كلها تكوين لموجود مما كان عدما ، وفي جميعها حصول وجود متدرّج إلى أن تتقوم بها الحياة وابتدئ بإيجاد النسل من ماء ميت ، ولعله مادة الحياة بنسلكم في الأرحام من النطف تكوينا مسبوقا بالعدم.

والاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا أن يقرّوا بأن الله خالق النسل من النطفة وذلك يستلزم قدرته على ما هو من نوع إعادة الخلق.

وإنما ابتدئ الاستدلال بتقديم جملة (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) زيادة في إبطال شبهتهم إذ قاسوا الأحوال المغيبة على المشاهدة في قلوبهم لا نعاد بعد أن كنا ترابا وعظاما ، وكان حقهم أن يقيسوا على تخلق الجنين من مبدأ ماء النطفة فيقولوا : لا تتخلق من النطفة الميتة أجسام حية كما قالوا : لا تصير العظام البالية ذواتا حيّة ، وإلا فإنهم لم يدّعوا قط أنهم خالقون ، فكان قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تمهيدا للاستدلال على أن الله هو خالق الأجنة بقدرته ، وأن تلك القدرة لا تقصر عن الخلق الثاني عند البعث.

وفعل الرؤية في «أرأيتم» من باب (ظن) لأنه ليس رؤية عين. وقال الرضيّ : هو في مثله منقول من رأيت ، بمعنى أبصرت أو عرفت ، كأنه قيل : أأبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها ، أخبرني عنها ، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء اه ، أي لأن أصل فعل الرؤية من أفعال الجوارح لا من أفعال العقل.

و (ما تُمْنُونَ) مفعول أول لفعل (أَفَرَأَيْتُمْ). وفي تعدية فعل «أرأيتم» إليه إجمال إذ مورد فعل العلم على حال من أحوال ما تمنون ، ففعل «رأيتم» غير وارد على نفس (ما تُمْنُونَ). فكانت جملة (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) بيانا لجملة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) ، وأعيد حرف الاستفهام ليطابق البيان مبيّنه.

وبهذا الاستفهام صار فعل (أَفَرَأَيْتُمْ) معلقا عن العمل في مفعول ثان لوجود موجب التعليق وهو الاستفهام. قال الرضيّ : إذ صدر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام فالأولى أن لا يعلق فعل القلب عن المفعول الأول نحو : علمت زيدا أي من هو». اه.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) لإفادة التقويّ لأنهم لما نزلوا منزلة من يزعم ذلك كما علمت صيغت جملة نفيه بصيغة دالة على زعمهم تمكن التصرف في تكوين النسل.

وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله تعالى معنى قصر الخلق على الله تعالى.

٢٨٧

و (أَمْ) متصلة معادلة الهمزة ، وما بعدها معطوف لأن الغالب أن لا يذكر له خبر اكتفاء بدلالة خبر المعطوف عليه على الخبر المحذوف ، وهاهنا أعيد الخبر في قوله : (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) زيادة في تقرير إسناد الخلق إلى الله في المعنى وللإيفاء بالفاصلة وامتداد نفس الوقف ، ويجوز أن نجعل (أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) لأن الاستفهام ليس بحقيقي فليس من غرضه طلب تعيين الفاعل ويكون الكلام قد تم عند قوله : (تَخْلُقُونَهُ).

والمعنى : أتظنون أنفسكم خالقين النسمة مما تمنون.

[٦٠ ، ٦١] (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١))

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ).

استدلال بإماتة الأحياء على أنها مقدورة لله تعالى ضرورة أنهم موقنون بها ومشاهدونها ووادّون دفعها أو تأخيرها ، فإن الذي قدر على خلق الموت بعد الحياة قادر على الإحياء بعد الموت إذ القدرة على حصول شيء تقتضي القدرة على ضده فلا جرم أن القادر على خلق حيّ مما ليس فيه حياة وعلى إماتته بعد الحياة قدير على التصرف في حالتي إحيائه وإماتته ، وما الإحياء بعد الإماتة إلا حالة من تينك الحقيقتين ، فوضح دليل إمكان البعث ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) [الحج : ٦٦].

هذا أصل المفاد من قوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) ثم هو مع ذلك تنبيه على أن الموت جعله الله طورا من أطوار الإنسان لحكمة الانتقال به إلى الحياة الأبدية بعد إعداده لها بما تهيئه له أسباب الكمال المؤهلة لتلك الحياة لتتم المناسبة بين ذلك العالم وبين عامريه. وقد مضى الكلام على ذلك عند تفسير قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) في سورة المؤمنين [١١٥].

فهذا وجه التعبير ب (قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) دون : نحن نميتكم ، أي أن الموت مجعول على تقدير معلوم مراد ، مع ما في مادة (قَدَّرْنا) من التذكير بالعلم والقدرة والإرادة لتتوجه أنظار العقول إلى ما في طيّ ذلك من دقائق وهي كثيرة ، وخاصة في تقدير موت الإنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إن أخذ لها أسبابها.

٢٨٨

وفي كلمة (بَيْنَكُمُ) معنى آخر ، وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداولا وتناوبا ، فلا يفلت واحد منهم ولا يتعين لحلوله صنف ولا عمر فآذن ظرف (بين) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحد متى يصيبه قسطه منه ، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه ، أو متى يطير إليه قطّه ولكنه يوقن بأنه نائله لا محاله.

وبهذا كان في قوله : (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) استعارة مكنية إذ شبه الموت بمقسوم ورمز إلى المشبه به بكلمة (بَيْنَكُمُ) الشائع استعمالها في القسمة ، قال تعالى : (أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) [القمر : ٢٨]. وفي هذه الاستعارة كناية عن كون الموت فائدة ومصلحة للناس إما في الدنيا لئلا تضيق بهم الأرض والأرزاق وإما في الآخرة فللجزاء الوفاق.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوّي الحكم وتحقيقه ، والتحقيق راجع إلى ما اشتمل عليه التركيب من فعل (قَدَّرْنا) وظرف (بَيْنَكُمُ) في دلالتهما على ما في خلق الموت من الحكمة التي أشرنا إليها.

وقرأ الجمهور (قَدَّرْنا) بتشديد الدال. وقرأه ابن كثير بالتخفيف وهما بمعنى واحد ، فالتشديد مصدره التقدير ، والتخفيف مصدره القدر.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)).

هذا نتيجة لما سبق من الاستدلال على أن الله قادر على الإحياء بعد الموت فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع ويترك عطفه فعدل عن الأمرين ، وعطف بالواو عطف الجمل فيكون جملة مستقلة مقصودا لذاته لأن مضمونه يفيد النتيجة ، ويفيد تعليما اعتقاديا ، فيحصل الإعلام به تصريحا وتعريضا ، فالصريح منه التذكير بتمام قدرة الله تعالى وأنه لا يغلبه غالب ولا تضيق قدرته عن شيء ، وأنه يبدلهم خلقا آخر في البعث مماثلا لخلقهم في الدنيا ، ويفيد تعريضا بالتهديد باستئصالهم وتعويضهم بأمة أخرى كقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم : ١٩ ، ٢٠] ولو جيء بالفاء لضاقت دلالة الكلام عن المعنيين الآخرين.

والسبق : مجاز من الغلبة والتعجيز لأن السبق يستلزم ان السابق غالب للمسبوق ، فالمعنى : وما نحن بمغلوبين ، قال الفقعسي مرّة بن عداء :

كأنّك لم تسبق من الدهر مرة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

٢٨٩

ويتعلق (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) بمسبوقين لأنه يقال : غلبه على كذا ، إذا حال بينه وبين نواله ، وأصله : غلبه على كذا ، أي تمكن من كذا دونه قال تعالى : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) [يوسف : ٢١]. ويكون الوقف على قوله : (أَمْثالَكُمْ).

ويجوز أن يكون (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) في موضع الحال من ضمير (قَدَّرْنا) [الواقعة : ٦٠] ، أي قدرنا الموت على أن نحييكم فيما بعد إدماجا لإبطال قولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة : ٤٧] فتكون (على) بمعنى (مع) وتكون حالا مقدرة ، وهذا كقول الواعظ : «على شرط النقض رفع البنيان ، وعلى شرط الخروج دخلت الأرواح للأبدان» ويكون متعلق (مسبوقين) محذوفا دالا عليه المقام ، أي ما نحن بمغلوبين فيما قدّرناه من خلقكم وإماتتكم ، ويجعل الوقف على (مسبوقين).

ويفيد قوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) إلخ وراء ذلك عبرة بحال الموت بعد الحياة فإن في تقلب ذينك الحالين عبرة وتدبرا في عظيم قدرة الله وتصرفه فيكون من هذه الجهة وزانه وزان قوله الآتي : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٧٠] وقوله : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة : ٧٣].

ومعنى : (أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) : نبدل بكم أمثالكم ، أي نجعل أمثالكم بدلا.

وفعل (بدّل) ينصب مفعولا واحدا ويتعدى إلى ما هو في معنى المفعول الثاني بحرف الباء ، وهو الغالب أو ب (من) البدلية فإن مفعول (بدّل) صالح لأن يكون مبدلا ومبدلا منه ، وقد تقدم في سورة البقرة [٦١] قوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) ، وفي سورة النساء [٢] عند قوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ، فالتقدير هنا : على أن نبدّل منكم أمثالكم ، فحذف ، متعلق (نُبَدِّلَ) وأبقي المفعول لأن المجرور أولى بالحذف.

والأمثال : جمع مثل بكسر الميم وسكون المثلثة وهو النظير ، أي نخلق ذوات مماثلة لذواتكم التي كانت في الدنيا ونودع فيها أرواحكم. وهذا يؤذن بأن الإعادة عن عدم لا عن تفريق. وقد تردد في تعيين ذلك علماء السنة والكلام.

ويجوز أن يفيد معنى التهديد بالاستئصال ، أي لو شئنا استئصالكم لما أعجزتمونا فيكون إدماجا للتهديد في أثناء الاستدلال ويكون من باب قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٩].

(وَنُنْشِئَكُمْ) عطف على (نُبَدِّلَ) ، أي ما نحن بمغلوبين على إنشائكم.

٢٩٠

وهذا العطف يحتمل أن يكون عطف مغاير بالذات فيكون إنشاؤهم شيئا آخر غير تبديل أمثالهم ، أي نحن قادرون على الأمرين جميعا ، فتبديل أمثالهم خلق أجساد أخرى تودع فيها الأرواح ، وأما إنشاؤهم فهو نفخ الأرواح في الأجساد الميتة الكاملة وفي الأجساد البالية بعد إعادتها بجمع متفرقها أو بإنشاء أمثالها من ذواتها مثل : عجب الذنب ، وهذا إبطال لاستبعادهم البعث بعد استقرار صور شبهتهم الباعثة على إنكار البعث.

ويحتمل أن يكون عطف مغاير بالوصف بأن يراد من قوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) الإشارة إلى كيفية التبديل إشارة على وجه الإبهام.

وعطف بالواو دون الفاء لأنه بمفرده تصوير لقدرة الله تعالى وحكمته بعد ما أفاده قوله : (أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) من إثبات أن الله قادر على البعث.

و (ما) من قوله : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) صادقة على الكيفية ، أو الهيئة التي يتكيّف بها الإنشاء ، أي في كيفية لا تعلمونها إذ لم تحيطوا علما بخفايا الخلقة. وهذا الإجمال جامع لجميع الصور التي يفرضها الإمكان في بعث الأجساد لإيداع الأرواح.

والظرفية المستفادة من (فِي) ظرفية مجازية معناها قوة الملابسة الشبيهة بإحاطة الظرف بالمظروف كقوله : (فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٧ ، ٨].

ومعنى (لا تَعْلَمُونَ) : أنهم لا يعلمون تفاصيل تلك الأحوال.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))

أعقب دليل إمكان البعث المستند للتنبيه على صلاحية القدرة الإلهية لذلك ولسد منافذ الشبهة بدليل من قياس التمثيل ، وهو تشبيه النشأة الثانية بالنشأة الأولى المعلومة عندهم بالضرورة ، فنبهوا ليقيسوا عليها النشأة الثانية في أنها إنشاء من أثر قدرة الله وعلمه ، وفي أنهم لا يحيطون علما بدقائق حصولها.

فالعلم المنفي في قوله : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] ، هو العلم التفصيلي ، والعلم المثبت في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) هو العلم الإجمالي ، والإجمالي كاف في الدلالة على التفصيلي إذ لا أثر للتفصيل في الاعتقاد.

وفي المقابلة بين قوله : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) محسّن الطباق.

٢٩١

ولما كان علمهم بالنشأة الأولى كافيا لهم في إبطال إحالتهم النشأة الثانية رتب عليه من التوبيخ ما لم يرتب مثله على قوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦٠ ، ٦١] فقال : (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) ، أي هلا تذكرتم بذلك فأمسكتم عن الجحد ، وهذا تجهيل لهم في تركهم قياس الأشباه على أشباهها ، ومثله قوله آنفا : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧].

وجيء بالمضارع في قوله : (تَذَكَّرُونَ) للتنبيه على أن باب التذكر مفتوح فإن فاتهم التذكر فيما مضى فليتداركوه الآن.

وقرأ الجمهور (النَّشْأَةَ) بسكون الشين تليها همزة مفتوحة مصدر نشأ على وزن المرة وهي مرة للجنس. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بفتح الشين بعدها ألف تليها همزة ، وهو مصدر على وزن الفعالة على غير قياس ، وقد تقدم في سورة العنكبوت.

[٦٣ ، ٦٤] (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤))

انتقال إلى دليل آخر على إمكان البعث وصلاحية قدرة الله له بضرب آخر من ضروب الإنشاء بعد العدم.

فالفاء لتفريع ما بعدها على جملة : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧] كما فرع عليه قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) [الواقعة : ٥٨] ليكون الغرض من هذه الجمل متحدا وهو الاستدلال على إمكان البعث ، فقصد تكرير الاستدلال وتعداده بإعادة جملة (أَفَرَأَيْتُمْ) وإن كان مفعول فعل الرؤية مختلفا وسيجيء نظيره في قوله بعده (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) [الواقعة : ٦٨] وقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧١].

وإن شئت جعلت الفاء لتفريع مجرد استدلال على استدلال لا لتفريع معنى معطوفها على معنى المعطوف عليه ، على أنه لما آل الاستدلال السابق إلى عموم صلاحية القدرة الإلهية جاز أيضا أن تكون هذه الجملة مرادا بها تمثيل بنوع عجيب من أنواع تعلقات القدرة بالإيجاد دون إرادة الاستدلال على خصوص البعث فيصح جعل الفاء تفريعا على جملة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) من حيث إنها اقتضت سعة القدرة الإلهية.

ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات ، قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].

٢٩٢

والقول في (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) نظير قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) [الواقعة : ٥٨].

و (ما تَحْرُثُونَ) موصول وصلة والعائد محذوف.

والحرث : شق الأرض ليزرع فيها أو يغرس.

وظاهر قوله : (ما تَحْرُثُونَ) أنه الأرض إلا أن هذا لا يلائم ضمير (تَزْرَعُونَهُ) فتعين تأويل (ما تَحْرُثُونَ) بأن يقدر : ما تحرثون له ، أي لأجله على طريقة الحذف والإيصال ، والذي يحرثون لأجله هو النبات ، وقد دل على هذا ضمير النصب في (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) لأنه استفهام في معنى النفي والذي ينفى هو ما ينبت من الحب لا بذره.

فإن فعل (زرع) يطلق بمعنى : أنبت ، قال الراغب : الزرع ، الإنبات ، لقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) فنفى عنهم الزرع ونسبه إلى نفسه اه واقتصر عليه ، ويطلق فعل (زرع) بمعنى : بذر الحب في الأرض لقول صاحب «لسان العرب» : زرع الحب : بذره ، أي ومنه سمي الحب الذي يبذر في الأرض زريعة لكن لا ينبغي حمل الآية على هذا الإطلاق. فالمعنى : أفرأيتم الذي تحرثون الأرض لأجله ، وهو النبات ما أنتم تنبتونه بل نحن ننبته.

وجملة (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) إلخ بيان لجملة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) كما تقدم في (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) [الواقعة : ٥٩] والاستفهام في (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) إنكاري كالذي في قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ).

والقول في موقع (أَمْ) من قوله : (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) كالقول في موقع نظيرتها من قوله : (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [الواقعة : ٥٩] أي أن (أم) منقطعة للإضراب.

وكذلك القول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) مثل ما في قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) [الواقعة : ٥٩].

وكذلك القول في نفي الزرع عنهم وإثباته لله تعالى يفيد معنى قصر الزّرع ، أي الإنبات على الله تعالى ، أي دونهم ، وهو قصر مبالغة لعدم الاعتداد بزرع الناس.

ويؤخذ من الآية إيماء لتمثيل خلق الأجسام خلقا ثانيا مع الانتساب بين الأجسام البالية والأجسام المجددة منها بنبات الزرع من الحبة التي هي منتسبة إلى سنبلة زرع أخذت

٢٩٣

هي منها فتأتي هي بسنبلة مثلها.

[٦٥ ـ ٦٧] (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧))

جملة (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) ، موقعها كموقع جملة : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) [الواقعة : ٦٠] في أنها استدلال بإفنائه ما أوجده على انفراده بالتصرف إيجادا وإعداما ، تكلمة لدليل إمكان البعث.

واللام في قوله : (لَجَعَلْناهُ) مفيدة للتأكيد. ويكثر اقتران جواب (لو) بهذه اللام إذا كان ماضيا مثبتا كما يكثر تجرده عنها كما سيجيء في الآية الموالية لهذه.

والحطام : الشيء الذي حطمه حاطم ، أي كسره ودقّه فهو بمعنى المحطوم ، كما تدل عليه زنة فعال مثل الفتات والجذاذ والدقاق ، وكذلك المقترن منه بهاء التأنيث كالقصاصة والقلامة والكناسة والقمامة.

والمعنى : لو نشاء لجعلنا ما ينبت بعد خروجه من الأرض حطاما بأن نسلط عليه ما يحطمه من برد أو ريح أو حشرات قبل أن تنتفعوا به ، فالمراد جعله حطاما قبل الانتفاع به. وأما أن يؤول إلى الكون حطاما فذلك معلوم فلا يكون مشروطا بحرف (لو) الامتناعية.

وقوله : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) تفريع على جملة (لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي يتفرع على جعله حطاما أن تصيروا تقولون : إنا لمغرمون بل نحن محرومون ، ففعل (ظلتم) هنا بمعنى : صرتم ، وعلى هذا حمله جميع المفسرين.

وأعضل وقع فعل (تَفَكَّهُونَ) ، فعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد : تفكهون تعجبون ، وعن عكرمة : تتلاومون ، وعن الحسن وقتادة : تندمون ، وقال ابن كيسان : تحزنون ، وقال الكسائي : هو تلهف على ما فات ، وهو ـ أي فعل (تَفَكَّهُونَ) ـ من الأضداد تقول العرب : تفكهت ، أي تنعمت ، وتفكهت ، أي حزنت اه.

ذلك أن فعل (تَفَكَّهُونَ) من مادة فكه والمشهور أن هذه المادة تدل على المسرة

والفرح ولكن السياق سياق ضد المسرة ، وبيانه بقوله : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ

٢٩٤

مَحْرُومُونَ) يؤيد ذلك ، فالفكاهة : المسرة والانبساط ، وادعى الكسائي أنها من أسماء الأضداد واعتمده في «القاموس» إذ قال : وتفكه ، أكل الفاكهة وتجنب عن الفاكهة ضده. قال ابن عطية : وهذا كله ـ أي ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ـ لا يخص اللفظة (أي هو تفسير بحاصل المعنى دون معاني الألفاظ) والذي يخص اللفظة هو تطرحون الفاكهة (كذا ولعل صوابه الفكاهة) عن أنفسكم وهي المسرة والجذل ، ورجل فكه ، إذا كان منبسط النفس غير مكترث بشيء اه. يعني أن صيغة التفعّل فيه مطاوعة فعّل الذي تضعيفه للإزالة مثل قشّر العود وقرّد البعير وأثبت صاحب «القاموس» هذا القول ونسبه إلى ابن عطية.

وجعلوا جملة (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) تندما وتحسرا ، أي تعلمون أن حطم زرعكم حرمان من الله جزاء لكفركم ، ومعنى (لَمُغْرَمُونَ) من الغرام وهو الهلاك كما في قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥]. وهذا شبيه بما في سورة القلم من قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) إلى قوله : (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) [القلم : ٢٦ ـ ٣١].

فتحصل أن معنى الآية يجوز أن يكون جاريا على ظاهر مادة فعل (تَفَكَّهُونَ) ويكون ذلك تهكما بهم حملا لهم على معتاد أخلاقهم من الهزل بآيات الله ، وقرينة التهكم ما بعده من قوله عنهم (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ).

ويجوز أن يكون محمل الآية على جعل (تَفَكَّهُونَ) بمعنى تندمون وتحزنون ، ولذلك كان لفعل (تَفَكَّهُونَ) هنا وقع يعوضه غيره.

وجملة (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) مقول قول محذوف هو حال من ضمير (تَفَكَّهُونَ).

وقرأ الجمهور (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) بهمزة واحدة وهي همزة (إنّ) ، وقرأه أبو بكر عن عاصم أإنا بهمزتين همزة استفهام وهمزة (إن).

[٦٨ ، ٦٩] (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩))

هذا على طريقة قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) [الواقعة : ٦٣] الآية ، تفريعا واستفهاما ، وفعل رؤية.

ومناسبة الانتقال أن الحرث إنما ينبت زرعه وشجره بالماء فانتقل من الاستدلال

٢٩٥

بتكوين النبات إلى الاستدلال بتكوين الماء الذي به حياة الزرع والشجر. ووصف (الْماءَ) ب (الَّذِي تَشْرَبُونَ) إدماج للمنة في الاستدلال ، أي الماء العذب الذي تشربونه ، فإن شرب الماء من أعظم النعم على الإنسان ليقابل بقوله بعده : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) [الواقعة : ٧٠].

والمراد ماء المطر ولذلك قال : (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) ، والمراد : أنزلتموه على بلادكم وحروثكم. وماء المطر هو معظم شراب العرب المخاطبين حينئذ ولذلك يقال للعرب: بنو ماء السماء.

والمزن : اسم جمع مزنة وهي السحابة.

ووجه الاستدلال إنشاء ما به الحياة بعد أن كان معدوما بأن كوّنه الله في السحاب بحكمة تكوين الماء. فكما استدل بإيجاد الحي من أجزاء ميتة في خلق الإنسان والنبات استدل بإيجاد ما به الحياة عن عدم تقريبا لإعادة الأجسام بحكمة دقيقة خفية ، أي يجوز أن يمطر الله مطرا على ذوات الأجساد الإنسانية يكون سببا في تخلقها أجسادا كاملة كما كانت أصولها ، كما تتكوّن الشجرة من نواة أصلها ، وقد تم الاستدلال على البعث عند قوله : (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ).

وقوله : (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) جعل استدلالا منوطا بإنزال الماء من المزن ، على طريقة الكناية بإنزاله ، عن تكوينه صالحا للشراب ، لأن إنزاله هو الذي يحصل منه الانتفاع به ولذلك وصف بقوله : (الَّذِي تَشْرَبُونَ). وأعقب بقوله (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠] فحصل بين الجملتين احتباك كأنه قيل : أأنتم خلقتموه عذبا صالحا للشرب وأنزلتموه من المزن لو نشاء جعلناه أجاجا ولأمسكناه في سحاباته أو أنزلناه على البحار أو الخلاء فلم تنتفعوا به.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠))

موقعها كموقع جملة (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٦٥] والمعنى : لو نشاء جعلناه غير نافع لكم. فهذا استدلال بأنه قادر على نقض ما في الماء من الصلاحية للنفع بعد وجود صورة المائية فيه. فوزان هذا وزان قوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) [الواقعة : ٦٠] وقوله : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٦٥].

وتخلص من هذا التتميم إلى الامتنان بقوله : (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) تحضيضا لهم على

٢٩٦

الشكر ونبذ الكفر والشرك.

وحذفت اللام التي شأنها أن تدخل على جواب (لَوْ) الماضي المثبت لأنها لام زائدة لا تفيد إلا التوكيد فكان حذفها إيجازا في الكلام.

وذكّر الشيخ محمد بن سعيد الحجري التونسي في حاشيته على شرح الأشموني للألفية المسماة «زواهر الكواكب» عن كتاب «البرهان في إعجاز القرآن» هذا الاسم سمي به كتابان أحدهما لكمال الدين محمد المعروف بابن الزملكاني والثاني : لابن أبي الأصبع أنه قال : فإن قيل لم أكد الفعل باللام في الزرع ولم يؤكد ، في الماء؟ قلت : لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما مما يحتمل أنه من فعل الزارع أو أنه من سقي الماء ، وجفافه من عدم السقي ، فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك على الحقيقة وأنه قادر على جعله حطاما في حال نموه لو شاء ، وإنزال الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى اه.

وحذف هذه اللام قليل إلا إذا وقعت (لَوْ) وشرطها صلة لموصول فيكثر حذف هذه اللام للطول وهو الذي جزم به ابن مالك في «التسهيل» وتبعه الرضي كقوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء : ٩] وإن قال المرادي والدماميني في «شرحيهما» : إن هذا لا يعرف لغير المصنف ، قال الرضي : وكذلك إذا طال الشرط بذيوله كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ، أي وأما في غير ذلك فحذف اللام قليل ولكنه تكرر في القرآن في عدة مواضع منها هذه الآية. وللفخر كلام في ضابط حذف هذه اللام ، ليس له تمام.

[٧١ ، ٧٢] (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢))

هو مثل سابقه في نظم الكلام.

ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق الماء إلى الاستدلال بخلق النار هي ما تقدم في مناسبة الانتقال إلى خلق الماء من الاستدلال بخلق الزرع والشجر ، فإن النار تخرج من الشجر بالاقتداح وتذكى بالشجر في الاشتعال والالتهاب.

٢٩٧

وهذا استدلال على تقريب كيفية الإحياء للبعث من حيث إن الاقتداح إخراج والزند الذي به إيقاد النار يخرج من أعواد الاقتداح وهي ميتة.

وفي قوله : (الَّتِي تُورُونَ) إدماج للامتنان في الاستدلال بما تقدم في قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) [الواقعة : ٦٨].

وهو أيضا وصف للمقصود من الدليل وهو النار التي تقتدح من الزند لا النار الملتهبة. وضمير شجرتها عائد إلى النار.

وشجرة النار : هي جنس الشجر الذي فيه حرّاق ، أي ما يقتدح منه النار وهو شجر الزّند أو الزّناد وأشجار النار كثيرة منها المرخ (بفتح فسكون) والعفار (بفتح العين) والعشر (بضم ففتح) والكلخ (بفتح فسكون) ومن الأمثال «في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار» أي أكثر من النار.

و (تُورُونَ) : مضارع أورى الزّند إذا حكّه بمثله يستخرج منه النار كانوا يضعون عودا من شجر النار ويحكّونه من أعلاه بعود مثله فتخرج النار من العود الأسفل ويسمى العود الأعلى زندا (بفتح الزاي وسكون النون) وزنادا (بكسر الزاي) ويسمى الأسفل زندة بهاء تأنيث في آخره ، شبّهوا العود الأعلى بالفحل وشبهوا العود الأسفل بالطروقة وقد تابع ذو الرمة هذا المعنى في وصفه الاقتداح للنار فقال على شبه الإلغاز :

وسقط كعين الديك عاورت صاحبي

أباها وهيّأنا لموقعها وكرا

مشهّرة لا تمكن الفحل أمّها

إذا نحن لم نمسك بأطرافها قسرا

وحذف العائد على الموصول لأن ضمير النصب يكثر حذفه من الصلة ، وتقديره : التي تورونها.

وتعدية (تُورُونَ) إلى ضمير (النَّارَ) تعدية على تقدير مضاف ، أي تورون شجرتها كما دل عليه قوله : (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) ، وقد شاع هذا الحذف في الكلام فقالوا : أورى النار كما قالوا : أورى الزناد.

وجملة (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) إلخ بيان لجملة (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ) إلخ كما تقدم في قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) [الواقعة : ٥٩].

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣))

٢٩٨

الجملة بدل اشتمال من جملة (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) [الواقعة : ٧٢] ، أي أنّ إنشاء النار كان لفوائد وحكما منها أن تكون تذكرة للناس يذكرون بها نار جهنم ويوازنون بين إحراقها وإحراق جهنم التي يعلمون أنها أشد من نارهم.

والمتاع : ما يتمتع ، أي ينتفع به زمانا ، وتقدم في قوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) في سورة النساء [٧٧].

والمقوي : الداخل في القواء (بفتح القاف والمد) وهي القفر ، ويطلق المقوي على الجائع لأن جوفه أقوت ، أي خلقت من الطعام إذ كلا الفعلين مشتق من القوى وهو الخلاء. وفراغ البطن : قواء وقوى. فإيثار هذا الوصف في هذه الآية ليجمع المعنيين فإن النار متاع للمسافرين يستضيئون بها في مناخهم ويصطلون بها في البرد ويراها السائر ليلا في القفر فيهتدي إلى مكان النّزّل فيأوي إليهم ، ومتاع للجائعين يطبخون بها طعامهم في الحضر والسفر ، وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال. واختير هذان الوصفان لأن احتياج أصحابهما إلى النار أشد من احتياج غيرهما.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

رتب على ما مضى من الكلام المشتمل على دلائل عظمة القدرة الإلهية وعلى أمثال لتقريب البعث الذي أنكروا خبره ، وعلى جلائل النعم المدمجة في أثناء ذلك أن أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينزهه تنزيها خاصا معقّبا لما تفيضه عليه تلك الأوصاف الجليلة الماضية من تذكر جديد يكون التنزيه عقبه ضربا من التذكر في جلال ذاته والتشكر لآلائه فإن للعبادات مواقع تكون هي فيها أكمل منها في دونها ، فيكون لها من الفضل ما يجزل ثوابه فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلو عن تسبيح ربه والتفكر في عظمة شأنه ولكن لاختلاف التسبيح والتفكر من تجدد ملاحظة النفس ما يجعل لكل حال من التفكر مزايا تكسبه خصائص وتزيده ثوابا.

فالجملة عطف على جملة (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ) إلى قوله : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٧٣] ، وهي تذييل.

والتسبيح : التنزيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) في سورة البقرة [٣٠].

واسم الرب : هو ما يدل على ذاته وجماع صفاته وهو اسم الجلالة ، أي بأن يقول :

٢٩٩

سبحان الله ، فالتسبيح لفظ يتعلق بالألفاظ.

ولما كان الكلام موضوعا للدلالة على ما في النفس كان تسبيح الاسم مقتضيا تنزيه مسماه وكان أيضا مقتضيا أن يكون التسبيح باللفظ مع الاعتقاد لا مجرد الاعتقاد لأن التسبيح لما علق بلفظ اسم تعين أنه تسبيح لفظي ، أي قل كلاما فيه معنى التنزيه ، وعلّقه باسم ربك ، فكل كلام يدل على تنزيه الله مشمول لهذا الأمر ولكن محاكاة لفظ القرآن أولى وأجمع بأن يقول : سبحان الله. ويؤيد هذا ما قالته عائشة رضي‌الله‌عنها «إنه لما نزل قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣] كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في سجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن» أي يتأوله على إرادة ألفاظه.

والباء الداخلة على (بِاسْمِ) زائدة لتوكيد اللصوق ، أي اتصال الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب فكان حقيقا بالتقوية والحث عليه ، وهذا بخلاف قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] لوقوعه في صدر جملته كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب : ٤١ ، ٤٢].

وهذا الأمر شامل للمسلمين بقرينة أن القرآن متلوّ لهم وأن ما تفرع الأمر عليه لا يختص علمه بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أمر بالتسبيح لأجله فكذلك من علمه من المسلمين.

والمعنى : إذ علمتم ما أنزلنا من الدلائل وتذكرتم ما في ذلك من النعم فنزهوا الله وعظّموه بقصارى ما تستطيعون.

و (الْعَظِيمِ) صالح لأن يجعل وصفا ل (رَبِّكَ) ، وهو عظيم بمعنى ثبوت جميع الكمال له وهذا مجاز شائع ملحق بالحقيقة ؛ وصالح لأن يكون وصفا لاسم والاسم عظيم عظمة مجازية ليمنه ولعظمة المسمّى به.

[٧٥ ـ ٨٠] (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

تفريع على جملة (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ) [الواقعة : ٤٩ ، ٥٠] يعرب عن خطاب من الله تعالى موجه إلى المكذبين بالبعث القائلين : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً

٣٠٠