تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

للإنس والجنّ في الحياة الدنيا. والتقدير : فنقول لكم كما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) [الأنعام : ١٢٨] الآية ، أي فنقول : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ، وتقدم في سورة الأنعام.

والمعشر : اسم للجمع الكثير الذي يعد عشرة عشرة دون آحاد.

وهذا إعلان لهم بأنهم في قبضة الله تعالى لا يجدون منجى منها ، وهو ترويع للضالين والمضلّين من الجن والإنس بما يترقبهم من الجزاء السيّئ لأن مثل هذا لا يقال لجمع مختلط إلا والمقصود أهل الجناية منهم فقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) عام مراد به الخصوص بقرينة قوله بعده (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) [الرحمن : ٣٥] إلخ.

والنفوذ والنفاذ : جواز شيء عن شيء وخروجه منه. والشرط مستعمل في التعجيز ، وكذلك الأمر الذي هو جواب هذا الشرط من قوله : (فَانْفُذُوا) ، أي وأنتم لا تستطيعون الهروب.

والمعنى : إن قدرتم على الانفلات من هذا الموقف فافلتوا. وهذا مؤذن بالتعريض بالتخويف مما سيظهر في ذلك الموقف من العقاب لأهل التضليل.

والأقطار : جمع قطر بضم القاف وسكون الطاء وهو الناحية الواسعة من المكان الأوسع ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) في سورة الأحزاب [١٤].

وذكر السماوات والأرض لتحقيق إحاطة الجهات كلها تحقيقا للتعجيز ، أي فهذه السماوات والأرض أمامكم فإن استطعتم فاخرجوا من جهة منها فرارا من موقفكم هذا ، وذلك أن تعدد الأمكنة يسهل الهروب من إحدى جهاتها.

والأرض المذكورة هنا إما أن تكون الأرض التي في الدنيا وذلك حين البعث ، وإما أن تكون أرض الحشر وهي التي سماها القرآن (بِالسَّاهِرَةِ) في سورة النازعات [١٤] ، وقال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ، وإما أن يكون ذلك جاريا مجرى المثل المستعمل للمبالغة في إحاطة الجهات كقول أبي بكر الصديق : «أيّ أرض تقلني ، وأيّ سماء تظلني».

وهذه المعاني لا تتنافى ، وهي من حدّ إعجاز القرآن.

٢٤١

وجملة (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) بيان للتعجيز الذي في الجملة قبله فإن السلطان : القدرة ، أي لا تنفذون من هذا المأزق إلا بقدرة عظيمة تفوق قدرة الله الذي حشركم لهذا الموقف ، وأنّى لكم هاته القوة.

وهذا على طريق قوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) [الشعراء : ٢١٠ ، ٢١١] ، أي ما صعدوا إلى السماء فيتنزّلوا به.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤))

القول فيه كالقول في نظيره المذكور قبله.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥))

استئناف بياني عن جملة (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣] إلخ لأن ذلك الإشعار بالتهديد يثير في نفوسهم تساؤلا عمّا وراءه.

وضمير (عَلَيْكُما) راجع إلى الجنّ والإنس فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة ، وهي قوله بعده : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] الآيات. وهذا تصريح بأنهم معاقبون بعد أن عرض لهم بذلك تعريضا بقوله : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣].

ومعنى (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) أن ذلك يعترضهم قبل أن يلجوا في جهنم ، أي تقذفون بشواظ من نار تعجيلا للسوء. والمضارع للحال ، أي ويرسل عليكما الآن شواظ.

والشواظ بضم الشين وكسرها : اللهب الذي لا يخالطه دخان لأنه قد كمل اشتعاله وذلك أشد إحراقا. وقرأه الجمهور بضم الشين. وقرأه ابن كثير بكسرها.

والنّحاس : يطلق على الدخان الذي لا لهب معه. وبه فسر ابن عباس وسعيد بن جبير وتبعهما الخليل.

والمعنى عليه : أن الدخان الذي لم تلحقهم مضرته والاختناق به بسبب شدة لهب الشواظ يضاف إلى ذلك الشواظ على حياله فلا يفلتون من الأمرين.

ويطلق النحاس على الصّفر وهو القطر. وبه فسر مجاهد وقتادة ، وروي عن ابن عباس أيضا. فالمعنى : أنه يصبّ عليهم الصّفر المذاب.

٢٤٢

وقرأ الجمهور (وَنُحاسٌ) بالرفع عطفا على (شُواظٌ). وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وروح عن يعقوب مجرورا عطفا على (نارٍ) فيكون الشواظ منه أيضا ، أي شواظ لهب من نار ، ولهب من نحاس ملتهب. وهذه نار خارقة للعادة مثل قوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤].

ومعنى (فَلا تَنْتَصِرانِ) : فلا تجدان مخلصا من ذلك ولا تجدان ناصرا.

والناصر : هنا مراد منه حقيقته ومجازه ، أي لا تجدان من يدفع عنكما ذلك ولا ملجأ تتّقيان به.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

تكرير كالقول في الذي وقع قبله قريبا.

[٣٧ ـ ٤٠] (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠))

تفريع إخبار على إخبار فرع على بعض الخبر المجمل في قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] إلى آخره ، تفصيل لذلك الإجمال بتعيين وقته وشيء من أهوال ما يقع فيه للمجرمين وبشائر ما يعطاه المتّقون من النعيم والحبور.

وقوله : (فَكانَتْ وَرْدَةً) تشبيه بليغ ، أي كانت كوردة.

والوردة : واحدة الورد ، وهو زهر أحمر من شجرة دقيقة ذات أغصان شائكة تظهر في فصل الربيع وهو مشهور. ووجه الشبه قيل هو شدة الحمرة ، أي يتغير لون السماء المعروف أنه أزرق إلى البياض ، فيصير لونها أحمر قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨]. ويجوز عندي : أن يكون وجه الشبه كثرة الشقوق كأوراق الوردة.

والدهان ، بكسر الدال : دردي الزيت. وهذا تشبيه ثان للسماء في التموج والاضطراب.

وجملة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) معترضة بين جملة الشرط وجملة الجواب وقد مثّل بها في «مغني اللبيب» للاعتراض بين الشرط وجوابه ، وعين كونها معترضة لا حالية ،

٢٤٣

وهذه الجملة معترضة تكرير للتقرير والتوبيخ كما هو بيّن ، وانشقاق السماء من أحوال الحشر ، أي فإذا قامت القيامة وانشقت السماء. كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) [الحاقة : ١٥ ، ١٦] أن قوله : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة : ١٨]. وهذا هو الانشقاق المذكور في قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً* الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) في سورة الفرقان [٢٥ ، ٢٦].

وجملة (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) إلخ جواب شرط (إذا). واقترن بالفاء لأنها صدرت باسم زمان وهو (فَيَوْمَئِذٍ) وذلك لا يصلح لدخول (إذا) عليه.

ومعنى (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) : نفي السؤال الذي يريد به السائل معرفة حصول الأمر المتردّد فيه ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨]. وليس هو الذي في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣] وقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] ، فإن ذلك للتقرير والتوبيخ فإن يوم القيامة متسع الزمان ، ففيه مواطن لا يسأل أهل الذنوب عن ذنوبهم ، وفيه مواطن يسألون فيها سؤالا تقرير وتوبيخ.

وجملة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تكرير للتقرير والتوبيخ.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١))

هذا استئناف بياني ناشئ عن قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] ، أي يستغنى عن سؤالهم بظهور علاماتهم للملائكة ويعرفونهم بسيماهم فيؤخذون أخذ عقاب ويساقون إلى الجزاء.

والسيما : العلامة. وتقدمت في قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) في آخر سورة البقرة [٢٧٣].

و (آل) في (بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) عوض عن المضاف إليه ، أي بنواصيهم وأقدامهم وهو استعمال كثير في القرآن.

والنواصي : جمع ناصية وهي الشعر الذي في مقدّم الرأس ، وتقدم في قوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) في سورة هود [٥٦].

والأخذ بالناصية أخذ تمكّن لا يفلت منه ، كما قال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً

٢٤٤

بِالنَّاصِيَةِ) [العلق : ١٥].

والأقدام : جمع قدم ، وهو ظاهر السّاق من حيث تمسك اليد رجل الهارب فلا يستطيع انفلاتا وفيه أيضا يوضع القيد ، قال النابغة :

أو حرة كمهاة الرمل قد كبلت

فوق المعاصم منها والعراقيب

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢))

تكرير كما تقدم في نظيرها الذي قبلها.

[٤٣ ، ٤٤] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤))

هذا مما يقال يوم القيامة على رءوس الملأ.

ووصف (جَهَنَّمُ) ب (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) تسفيه للمجرمين وفضح لهم. وجملة (يَطُوفُونَ) حال من (الْمُجْرِمُونَ) ، أي قد تبين سفه تكذيبهم بجهنم اتضاحا بينا بظهورها للناس وبأنهم يترددون خلالها كما ترددوا في إثباتها حين أنذروا بها في الدنيا.

والطواف : ترداد المشي والإكثار منه ، يقال : طاف به ، وطاف عليه ، ومنه الطواف بالكعبة ، والطواف بالصفا والمروة ، قال تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وتقدم في سورة البقرة [١٥٨].

والحميم : الماء المغليّ الشديد الحرارة.

والمعنى : يمشون بين مكان النار وبين الحميم فإذا أصابهم حرّ النار طلبوا التبرد فلاح لهم الماء فذهبوا إليه فأصابهم حرّه فانصرفوا إلى النار دواليك وهذا كقوله : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩].

وآن : اسم فاعل من أنى ، إذا اشتدت حرارته.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

مثل موقع الذي قبله في التكرير.

[٤٦ ـ ٥٣] (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ

٢٤٥

(٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣))

انتقال من وصف جزاء المجرمين إلى ثواب المتقين. والجملة عطف على جملة (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] إلى آخرها ، وهو أظهر لأن قوله في آخرها (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يفيد معنى أنهم فيها.

واللام في (لِمَنْ خافَ) لام الملك ، أي يعطي من خاف ربه ويملك جنتين ، ولا شبهة في أن من خاف مقام ربه جنس الخائفين لا خائف معيّن فهو من صيغ العموم البدلي بمنزلة قولك : وللخائف مقام ربه. وعليه فيجيء النظر في تأويل تثنية (جَنَّتانِ) فيجوز أن يكون المراد : جنسين من الجنات.

وقد ذكرت الجنات في القرآن بصيغة الجمع غير مرة وسيجيء بعد هذا قوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] فالمراد جنسان من الجنات.

ويجوز أن تكون التثنية مستعملة كناية عن التعدد ، وهو استعمال موجود في الكلام الفصيح وفي القرآن قال الله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] ومنه قولهم : لبّيك وسعديك ودواليك ، كقول القوّال (١) الطائي من شعر الحماسة :

فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا

هلمّ فإن المشرفيّ الفرائض

أي فقولوا : يا قوم ، وتقدم عند قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) في سورة التوبة [١٠١]. وإيثار صيغة التثنية هنا لمراعاة الفواصل السابقة واللاحقة فقد بنيت قرائن السورة عليها والقرينة ظاهرة وإليه يميل كلام الفراء ، وعلى هذا فجميع ما أجري بصيغة التثنية في شأن الجنتين فمراد به الجمع.

وقيل : أريد جنتان لكل متّق تحفان بقصره في الجنة كما قال تعالى في صفة جنات الدنيا (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) [الكهف : ٣٢] الآية ، وقال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي) مساكنهم (آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) [سبأ : ١٥] فهما جنتان باعتبار يمنة القصر ويسرته

__________________

(١) هكذا وقع اسمه في «ديوان الحماسة» و «شروحه» وهو بفتح القاف وتشديد الواو كما في «خزانة الأدب». وهو من مخضرمي الدولتين.

٢٤٦

والقصر فاصل بينهما.

والمقام : أصله محل القيام ومصدر ميمي للقيام وعلى الوجهين يستعمل مجازا في الحالة والتلبس كقولك لمن تستجيره : هذا مقام العائذ بك ، ويطلق على الشأن والعظمة ، فإضافة (مَقامَ) إلى (رَبِّهِ) هنا إن كانت على اعتبار المقام للخائف فهو بمعنى الحال ، وإضافته إلى (رَبِّهِ) تشبه إضافة المصدر إلى المفعول ، أي مقامه من ربه ، أي بين يديه.

وإن كانت على اعتبار المقام لله تعالى فهو بمعنى الشأن والعظمة. وإضافته كالإضافة إلى الفاعل ، ويحتمل الوجهين قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) في سورة إبراهيم [١٤] وقوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) في سورة النازعات [٤٠].

وجملة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) معترضة بين الموصوف والصفة وهي تكرير لنظائرها.

وذواتا : تثنية ذات ، والواو أصلية لأن أصل ذات : ذوة ، والألف التي بعد الواو إشباع للفتحة لازم للكلمة. وقيل : الألف أصلية وأن أصل (ذات) : ذوات فخففت في الإفراد وردّتها التثنية إلى أصلها وقد تقدم في قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) في سورة سبأ [١٦]. وأما الألف التي بعد التاء المثناة الفوقية فهي علامة رفع نائبة عن الضمة.

والأفنان : جمع فنن بفتحتين ، وهو الغصن. والمقصود هنا : أفنان عظيمة كثيرة الإيراق والإثمار بقرينة أنّ الأفنان لا تخلو عنها الجنات فلا يحتاج إلى ذكر الأفنان لو لا قصد ما في التنكير من التعظيم.

وتثنية (عَيْنانِ) جار على نحو ما تقدم في تثنية (جَنَّتانِ) ، وكذلك تثنية ضميري (فِيهِما) وضمير (تَجْرِيانِ) تبع لتثنية معادهما في اللفظ.

فإن كان الجنتان اثنتين لكل من خاف مقام ربه فلكل جنة منهما عين فهما عينان لكل من خاف مقام ربه ، وإن كان الجنتان جنسين فالتثنية مستعملة في إرادة الجمع ، أي عيون على عدد الجنات ، وكذلك إذا كان المراد من تثنية (جَنَّتانِ) الكثرة كما تثنيه (عَيْنانِ) للكثرة.

وفصل بين الأفنان وبين ذكر الفاكهة بذكر العينين مع أن الفاكهة بالأفنان أنسب ، لأنه لما جرى ذكر الأفنان ، وهي من جمال منظر الجنة أعقب بما هو من محاسن الجنات وهو

٢٤٧

عيون الماء جمعا للنظيرين ، ثم أعقب ذلك بما هو من جمال المنظر ، أعني : الفواكه في أفنانها ومن ملذات الذوق.

وأما تثنية زوجان فإن الزوج هنا النوع ، وأنواع فواكه الجنة كثيرة وليس لكل فاكهة نوعان : فإمّا أن نجعل التثنية بمعنى الجمع ونجعل إيثار صيغة التثنية لمراعاة الفاصلة ولأجل المزاوجة مع نظائرها من قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) إلى هنا.

وإما أن نجعل تثنية (زَوْجانِ) لكون الفواكه بعضها يؤكل رطبا وبعضها يؤكل يابسا مثل الرطب والتمر والعنب والزبيب ، وأخص الجوز واللوز وجافهما.

و (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) بيان ل (زَوْجانِ) مقدّم على المبيّن لرعي الفاصلة.

وتخلل هذه الآيات الثلاث بآيات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) جار على وجه الاعتراض وعلى أنه مجرد تكرير كما تقدم أولاها.

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤))

حال من (لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) وجيء بالحال صيغة جمع باعتبار معنى صاحب الحال وصلاحية لفظه للواحد والمتعدد ، لا باعتبار وقوع صلته بصيغة الإفراد فإن ذلك اعتبار بكون (من) مفردة اللفظ.

والمعنى : أعطوا الجنان واستقرّوا بها واتكئوا على فرش.

والاتكاء : افتعال من الوكء مهموز اللام وهو الاعتماد ، فصار الاتكاء اسما لاعتماد الجالس ومرفقه إلى الأرض وجنبه إلى الأرض وهي هيئة بين الاضطجاع على الجنب والقعود ، وتقدم في قوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) في سورة يوسف [٣١] ، وتقدم أيضا في سورة الصافات.

وفرش : جمع فراش ككتاب وكتب. والفراش أصله ما يفرش ، أي يبسط على الأرض للنوم والاضطجاع.

ثم أطلق الفراش على السرير المرتفع على الأرض بسوق لأنه يوضع عليه ما شأنه أن يفرش على الأرض تسمية باسم ما جعل فيه ، ولذلك ورد ذكره في سورة الواقعة [١٥ ، ١٦] في قوله : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) وفي سورة الصافات [٤٤] (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

٢٤٨

والمعبر عنه في هذه الآيات واحد يدلّ على أن المراد بالفرش في هذه الآية السرر التي عليها الفرش.

والاتكاء : جلسة أهل الترف المخدومين لأنها جلسة راحة وعدم احتياج إلى النهوض للتناول نحوه وتقدم في سورة الكهف.

والبطائن : جمع بطانة بكسر الباء وهي مشتقة من البطن ضد الظهر من كل شيء ، وهو هنا مجاز عن الأسفل. يقال للجهة السفلى : بطن ، وللجهة العليا ظهر ، فيقال : بطّنت ثوبي بآخر إذا جعل تحت ثوبه آخر ، فبطانة الثوب داخله وما لا يبدو منه ، وضد البطانة الظّهارة بكسر الظاء ، ومن كلامهم : أفرشني ظهر أمره وبطنه ، أي علانيته وسرّه ، شبهت العلانية بظهر الفراش والسرّ ببطن الفراش وهما الظهارة والبطانة ، ولذلك أتبع هذا التشبيه باستعارة فعل : أفرشني. فالبطانة : هي الثوب الذي يجعل على الفراش والظهارة : الثوب الذي يجعل فوق البطانة ليظهر لرؤية الداخل للبيت فتكون الظهارة أحسن من البطانة في الفراش الواحد.

والعرب كانوا يجعلون الفراش حشية ، أي شيئا محشوا بصوف أو قطن أو ليف ليكون أوثر للجنب ، قال عنترة يصف تنعم عبلة :

تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّة

وأبيت فوق سراة أدهم ملجم

فإذا وضعوا على الحشية ثوبا أو خاطوها بثوب فهو البطانة ، وإذا غطوا ذلك بثوب أحسن منه فهو الظهارة.

فالمعنى هنا : أن بطائن فرش الجنة من إستبرق فلا تسأل عن ظهائرها فإنها أجود من ذلك ، ولا ثوب في الثياب المعروفة عند الناس في الدنيا أنفس من الإستبرق البطائن بالذكر كناية عن نفاسة وصف ظهائر الفرش.

والإستبرق : صنف رفيع من الديباج الغليظ. والديباج : نسيج غليظ من حرير والإستبرق ينسج بخيوط الذهب. قال الفخر : وهو معرب عن الفارسية عن كلمة (ستبرك) بكاف في آخره علامة تصغير (ستبر) بمعنى ثخين ، وقد تقدم في سورة الكهف [٣١] ، فأبدلوا الكاف قافا خشية اشتباه الكاف بكاف الخطاب ، والذي في «القاموس» : الإستبرق : الديباج الغليظ معرب (استروه) ، وقد تبين أن الإستبرق : صنف من الديباج ، والديباج : ثوب منسوج من الحرير منقوش وهو أجود أنواع الثياب.

٢٤٩

ومن (جَنَى الْجَنَّتَيْنِ) : ما يجنى من ثمارهما ، وهو بفتح الجيم ما يقطف من الثمر. والمعنى : أن ثمر الجنة دان منهم وهم على فرشهم فمتى شاءوا اقتطفوا منه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥))

هو مثل نظائره.

[٥٦ ـ ٥٨] (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨))

ضمير (فِيهِنَ) عائد إلى فرش وهو سبب تأخير نعم أهل الجنة بلذة التأنّس بالنساء عن ما في الجنات من الأفنان والعيون والفواكه والفرش ، ليكون ذكر الفرش مناسبا للانتقال إلى الأوانس في تلك الفرش وليجيء هذا الضمير مفيدا معنى كثيرا من لفظ قليل ، وذلك من خصائص الترتيب في هذا التركيب.

ف (قاصِراتُ الطَّرْفِ) كائنة في الجنة وكائنة على الفرش مع أزواجهن قال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) [الواقعة : ٣٤ ـ ٣٦] الآية.

و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) : صفة لموصوف محذوف تقديره نساء ، وشاع المدح بهذا الوصف في الكلام حتى نزّل منزلة الاسم ف (قاصِراتُ الطَّرْفِ) نساء في نظرهن مثل القصور والغضّ خلقة فيهن ، وهذا نظير ما يقول الشعراء من المولّدين مراض العيون ، أي : مثل المراض خلقة. والقصور : مثل الغضّ من صفات عيون المها والظباء ، قال كعب بن زهير :

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلّا أغنّ غضيض الطرف مكحول

أي : كغضيض الطرف وهو الظبي.

والطمث بفتح الطاء وسكون الميم مسيس الأنثى البكر ، أي من أبكار. وعبّر عن البكارة ب (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) إطنابا في التحسين ، وقد جاء في الآية الأخرى (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) [الواقعة : ٣٦]. وهؤلاء هن نساء الجنة لا أزواج المؤمنين اللائي كنّ لهم في الدنيا لأنهن قد يكنّ طمثهم أزواج فإن الزوجة في الجنة تكون لآخر من تزوجها في الدنيا.

٢٥٠

وقرأ الجمهور (يَطْمِثْهُنَ) هنا ، وفي نظيره الآتي بكسر الميم. وقرأه الدوري عن الكسائي بضم الميم وهما لغتان في مضارع طمث. ونقل عن الكسائي : التخيير بين الضم والكسر.

وقوله : (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) أي لم يطمثهن أحد قبل ، وقوله : (وَلا جَانٌ) تتميم واحتراس وهو إطناب دعا إليه أن الجنة دار ثواب لصالحي الإنس والجن فلما ذكر (إِنْسٌ) نشأ توهم أن يمسهن جن فدفع ذلك التوهم بهذا الاحتراس.

وجملة (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) نعت أو حال من (قاصِراتُ الطَّرْفِ).

ووجه الشبه بالياقوت والمرجان في لون الحمرة المحمودة ، أي حمرة الخدود كما يشبه الخد بالورد ، ويطلق الأحمر على الأبيض فمنه حديث «بعثت إلى الأحمر والأسود» ، وقال عبد بني الحساس :

فلو كنت وردا لونه لعشقتني

ولكن ربي شانني بسواديا

ويجوز أن يكون التشبيه بهما في الصفاء واللمعان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩))

كرر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فيما علمت سابقا.

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠))

تذييل للجمل المبدوءة بقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، أي لأنهم أحسنوا فجازاهم ربهم بالإحسان.

والإحسان الأول : الفعل الحسن ، والإحسان الثاني : إعطاء الحسن ، وهو الخير ، فالأول من قولهم : أحسن في كذا ، والثاني من قولهم : أحسن إلى فلان.

والاستفهام مستعمل في النفي ، ولذلك عقب بالاستثناء فأفاد حصر مجازاة الإحسان في أنها إحسان ، وهذا الحصر إخبار عن كونه الجزاء الحقّ ومقتضى الحكمة والعدل ، وإلا فقد يتخلف ذلك لدى الظالمين ، قال تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: ٨٢] وقال : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [الأعراف : ١٩٠].

وعلم منه أن جزاء الإساءة السوء قال تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦].

٢٥١

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

القول فيه مثل القول في نظائره.

[٦٢ ـ ٦٩] (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩))

عطف على قوله : (جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، أي ومن دون تينك الجنتين جنتان ، أي لمن خاف مقام ربه.

ومعنى (مِنْ دُونِهِما) يحتمل أن (دون) بمعنى (غير) ، أي ولمن خاف مقام ربه جنتان وجنتان أخريان غيرهما ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦]. ووصف ما في هاتين الجنتين بما يقارب ما وصف به ما في الجنتين الأوليين وصفا سلك فيه مسلك الإطناب أيضا لبيان حسنهما ترغيبا في السعي لنيلهما بتقوى الله تعالى فذلك موجب تكرير بعض الأوصاف أو ما يقرب من التكرير بالمترادفات.

ويكون لكل الجنات الأربع حور مقصورات لا ينتقلن من قصورهن ، ويجوز أن تكون (دون) بمعنى أقل ، أي لنزول المرتبة ، أي ولمن خاف مقام ربه جنتان أقلّ من الأولين فيقتضي ذلك أن هاتين الجنتين لطائفة أخرى ممن خافوا مقام ربهم هم أقل من الأولين في درجة مخافة الله تعالى.

ولعل هاتين الجنتين لأصحاب اليمين الذين ورد ذكرهم في سورة الواقعة والجنتين المذكورتين قبلهما في قوله : (جَنَّتانِ) ... (ذَواتا أَفْنانٍ) [الرحمن : ٤٦ ، ٤٨] إلى آخر الوصف جنتا السابقين الوارد ذكرهم قوله في سورة الواقعة [١٠] (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الآيات.

و (مُدْهامَّتانِ) وصف مشتق من الدّهمة بضم الدال وهي لون السواد. ووصف الجنتين بالسواد مبالغة في شدة خضرة أشجارهما حتى تكونا بالتفاف أشجارها وقوة خضرتها كالسوداوين لأن الشجر إذا كان ريّان اشتدت خضرة أوراقه حتى تقرب من السواد ، وقد أخذ هذا المعنى أبو تمام وركّب عليه فقال :

يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الرّبا فكأنما هو مقمر

٢٥٢

و (نَضَّاخَتانِ) : فوّارتان بالماء ، والنضخ بخاء معجمة في آخره أقوى من النضح بالحاء المهملة الذي هو الرّش.

وقد وصف العينان هنا بغير ما وصف به العينان في الجنتين المذكورتين ، فقيل : هما صنفان مختلفان في أوصاف الحسن يشير اختلافهما إلى أن هاتين الجنتين دون الأولين في المحاسن ولذلك جاء هنا (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ، وجاء فيما تقدم (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢]. وقيل : الوصفان سواء ، وعليه فالمخالفة بين الصنفين من الأوصاف تفنّن.

وعطف (وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) على (فاكِهَةٌ) من باب عطف الجزئي على الكلّي تنويها ببعض أفراد الجنتين كما قال تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) في سورة البقرة [٩٨].

وجاءت جمل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) معترضات بين (جَنَّتانِ) وصفاتها اعتراضا للازدياد من تكرير التقرير والتوبيخ لمن حرموا من تلك الجنات.

[٧٠ ـ ٧٤] (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤))

ضمير (فِيهِنَ) عائد إلى الجنات الأربع الجنتين الأوليين والجنتين اللتين من دونهما فيجوز أن يكون لصاحب الجنتين الأولين جنتان أخريان فصارت له أربع جنات. ويجوز أن يكون توزيعا على من خافوا ربهم كما تقدم.

و (خَيْراتٌ) صفة لمحذوف يناسب صيغة الوصف ، أي نساء خيرات ، وخيرات مخفف من خيرات بتشديد الياء مؤنث خيّر وهو المختص بأن صفته الخير ضد الشر. وخفف في الآية طلبا لخفة اللفظ مع السلامة من اللبس بما أتبع به من وصف (حِسانٌ) الذي هو جمع حسناء كما خفف هين ولين في قول الشاعر :

هينون لينون

ومعنى (خَيْراتٌ) أنهن فاضلات النفس كرائم الأخلاق.

ومعنى حسان : أنهم حسان الخلق ، أي صفات الذوات.

و (حُورٌ) بدل من (خَيْراتٌ). والحور : جمع حوراء وهي ذات الحور بفتح الواو ،

٢٥٣

وهو وصف مركب من مجموع شدة بياض أبيض العين وشدة سواد أسودها وهو من محاسن النساء ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) في سورة الدخان [٥٤].

ووصف نساء الجنتين الأوليين ب (قاصِراتُ الطَّرْفِ). ووصف نساء الجنات الأربع بأنهن (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) في الخيام ، فعلم أن الصفات الثابتة لنساء الجنتين واحدة.

والمقصورات : اللّاء قصرت على أزواجهن لا يعدون الأنس مع أزواجهن ، وهو من صفات الترف في نساء الدنيا فهنّ اللاء لا يحتجن إلى مغادرة بيوتهن لخدمة أو ورد أو اقتطاف ثمار ، أي هن مخدومات مكرمات كما قال أبو قيس بن الأسلت :

ويكرمها جاراتها فيزرنها

وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر

والخيام : جمع خيمة وهي البيت ، وأكثر ما تقال على البيت من أدم أو شعر تقام على العمد وقد تطلق على بيت البناء.

واعترض بجملة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بين البدل والمبدل منه وبين الصفتين لقصد التكرير في كل مكان يقتضيه.

وتقدم القول في (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) آنفا [٥٦].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥))

تكرير في آخر الأوصاف لزيادة التقرير والتوبيخ.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦))

و (مُتَّكِئِينَ) : حال من (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) كررت بدون عطف لأنها في مقام تعداد النعم وهو مقام يقتضي التكرير استئنافا.

والرفرف : ضرب من البسط ، وهو اسم جمع رفرفة ، وهي ما يبسط على الفراش لينام عليه ، وهي تنسج على شبه الرياض ويغلب عليها اللون الأخضر ، ولذلك شبه ذو الرمة الرياض بالبسط العبقرية في قوله :

حتّى كأنّ رياض القف ألبسها

من وشي عبقر تجليل وتنجيد

فوصفها في الآية بأنها (خُضْرٍ) وصف كاشف لاستحضار اللون الأخضر لأنه يسرّ الناظر.

٢٥٤

وكانت الثياب الخضر عزيزة وهي لباس الملوك والكبراء ، قال النابغة :

يصونون أجسادا قديما نعيمها

بخالصة الأردان خضر المناكب

وكانت الثياب المصبوغة بالألوان الثابتة التي لا يزيلها الغسل نادرة لقلة الأصباغ الثابتة ولا تكاد تعدو الأخضر والأحمر ويسمّى الأرجواني.

وأما المتداول من إصباغ الثياب عند العرب فهو ما صبغ بالورس والزعفران فيكون أصفر ، وما عدا ذلك فإنما لونه لون ما ينسج منه من صوف الغنم أبيض أو أسود أو من وبر أو من كتان أبيض أو كان من شعر المعز الأسود.

و (حِسانٍ) : جمع حسناء وهو صفة ل (رَفْرَفٍ) إذ هو اسم جمع.

وعبقري : وصف لما كان فائقا في صنفه عزيز الوجود وهو نسبة إلى عبقر بفتح فسكون ففتح اسم بلاد الجنّ في معتقد العرب فنسبوا إليه كل ما تجاوز العادة في الإتقان والحسن ، حتى كأنه ليس من الأصناف المعروفة في أرض البشر ، قال زهير :

بخيل عليها جنة عبقرية

جديرون يوما أن ينالوا ويستعلوا

فشاع ذلك فصار العبقري وصفا للفائق في صنفه كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما حكاه من رؤيا القليب الذي استسقى منه «ثم أخذها (أي الذنوب) عمر فاستحالت غربا فلم أر عبقريّا يفري فريّة».

وإلى هذا أشار المعري بقوله :

وقد كان أرباب الفصاحة كلما

رأوا حسنا عدّوه من صنعة الجن

فضربه القرآن مثلا لما هو مألوف عند العرب في إطلاقه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧))

هذه الجملة آخر الجمل المكررة وبها انتهى الكلام المسوق للاستدلال على تفرد الله بالإنعام والتصرف.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

إيذان بانتهاء الكلام وفذلكة لما بنيت عليه السورة من التذكير بعظمة الله تعالى ونعمائه في الدنيا والآخرة.

٢٥٥

والكلام : إنشاء ثناء على الله تعالى مبالغ فيه بصيغة التفعل التي إذا كان فعلها غير صادر من اثنين فالمقصود منها المبالغة.

والمعنى : وصفه تعالى بكمال البركة ، والبركة : الخير العظيم والنفع ، وقد تطلق البركة على علو الشأن ، وقد تقدم ذلك في أول سورة الفرقان.

والاسم ما دل على ذات سواء كان علما مثل لفظ «الله» أو كان صفة مثل الصفات العلى وهي الأسماء الحسنى ، فأيّ اسم قدرت من أسماء الله فهو دال على ذات الله تعالى.

وأسند (تَبارَكَ) إلى (اسْمُ) وهو ما يعرف به المسمى دون أن يقول : تبارك ربك ، كما قال : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) [الفرقان : ١] وكما قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] لقصد المبالغة في وصفه تعالى بصفة البركة على طريقة الكناية لأنها أبلغ من التصريح كما هو مقرر في علم المعاني ، وأطبق عليه البلغاء لأنه إذا كان اسمه قد تبارك فإن ذاته تباركت لا محالة لأن الاسم دال على المسمى ، وهذا على طريقة قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] فإنه إذا كان التنزيه متعلقا باسمه فتعلق التنزيه بذاته أولى ومنه قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] على التأويل الشّامل ، وقول عنترة :

فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

أراد : فشككته بالرمح.

وأما قوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٩٦] فهو يحتمل أن يكون من قبيل (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [النصر : ٣] على أن المراد أن يقول كلاما فيه تنزيه الله فيكون من قبيل قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، [الفاتحة : ١] ويحتمل زيادة الباء فيكون مساويا لقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١].

وهذه الكناية من دقائق الكلام كقولهم : لا يتعلق الشك بأطرافه وقول ... :

يبيت بنجاة من اللؤم بيتها

إذا ما بيوت بالملامة حلّت

ونظير هذا في التنزيه أن القرآن يقرأ ألفاظه من ليس بمتوضئ ولا يمسك المصحف إلا المتوضئ عند جمهور الفقهاء.

فذكر (اسْمُ) في قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) مراعى فيه أن ما عدّد من شئون الله

٢٥٦

تعالى ونعمه وإفضاله لا تحيط به العبارة ، فعبّر عنه بهذه المبالغة إذ هي أقصى ما تسمح به اللغة في التعبير ، ليعلم الناس أنهم محقوقون لله تعالى بشكر يوازي عظم نعمه عليهم.

وفي استحضار الجلالة بعنوان (رب) مضافا إلى ضمير المخاطب وهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إشارة إلى ما في معنى الرب من السيادة المشوبة بالرأفة والتنمية ، وإلى ما في الإضافة من التنويه بشأن المضاف إليه وإلى كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الواسطة في حصول تلك الخيرات للذين خافوا مقام ربهم بما بلغهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى.

وقرأ الجمهور ذي الجلال بالياء مجرورا صفة ل (رَبِّكَ) وهو كذلك مرسوم في غير المصحف الشامي. وقرأه ابن عامر (ذُو الْجَلالِ) صفة ل (اسْمَ) كما في قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧]. وكذلك هو مرسوم في غير مصحف أهل الشام. والمعنى واحد على الاعتبارين.

ولكن إجماع القراء على رفع (ذُو الْجَلالِ) الواقع موقع (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) واختلاف الرواية في جرّ (ذِي الْجَلالِ) هنا يشعر بأن لفظ (وَجْهُ) أقوى دلالة على الذات من لفظ (اسْمُ) لما علمت من جواز أن يكون المعنى جريان البركة على التلفظ بأسماء الله بخلاف قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) فذلك من حكمة إنزال القرآن على سبعة أحرف.

والجلال : العظمة ، وهو جامع لصفات الكمال اللائقة به تعالى.

والإكرام : إسداء النعمة والخير ، فهو إذن حقيق بالثناء والشكر.

٢٥٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٦ ـ سورة الواقعة

سميت هذه السورة الواقعة بتسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : «يا رسول الله قد شبت ، قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتساءلون ، وإذا الشمس كورت» وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

وروى ابن وهب والبيهقي عن عبد الله بن مسعود بسند ضعيف أنه سمع رسول الله يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» ، وكذلك سمّيت في عصر الصحابة. روى أحمد عن جابر بن سمرة قال : «كان رسول الله يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور».

وهكذا سميت في المصاحف وكتب السنة فلا يعرف لها اسم غير هذا.

وهي مكية قال ابن عطية : «بإجماع من يعتد به من المفسرين. وقيل فيها آيات مدنية ، أي نزلت في السفر ، وهذا كله غير ثابت» اه. وقال القرطبي : عن قتادة وابن عباس استثناء قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] نزلت بالمدينة.

وقال الكلبي : إلا أربع آيات : اثنتان نزلتا في سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة وهما (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨١ ، ٨٢] ، واثنتان نزلتا في سفره إلى المدينة وهما (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنها نزلت في غزوة تبوك.

وهي السورة السادسة والأربعون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة طه وقبل سورة الشعراء.

٢٥٨

وقد عدّ أهل المدينة ومكة والشام آيها تسعا وتسعين وعدها أهل البصرة سبعا وتسعين وأهل الكوفة ستا وتسعين.

وهذه السورة جامعة للتذكير قال مسروق : «من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة» اه.

أغراض هذه السورة

التذكير بيوم القيامة وتحقيق وقوعه.

ووصف ما يعرض وهذا العالم الأرضي عند ساعة القيامة.

ثم صفة أهل الجنة وبعض نعيمهم.

وصفة أهل النار وما هم فيه من العذاب وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث. وإثبات الحشر والجزاء والاستدلال على إمكان الخلق الثاني بما أبدعه الله من الموجودات بعد أن لم تكن.

والاستدلال بدلائل قدرة الله تعالى.

والاستدلال بنزع الله الأرواح من الأجساد والناس كارهون لا يستطيع أحد منعها من الخروج ، على أن الذي قدر على نزعها بدون مدافع قادر على إرجاعها متى أراد على أن يميتهم.

وتأكيد أن القرآن منزّل من عند الله وأنه نعمة أنعم الله بها عليهم فلم يشكروها وكذبوا بما فيه.

[١ ، ٢] (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢))

افتتاح السورة بالظرف المتضمن الشرط ، افتتاح بديع لأنه يسترعي الألباب لترقب ما بعد هذا الشرط الزماني مع ما في الاسم المسند إليه من التهويل بتوقع حدث عظيم يحدث.

و (إِذا) ظرف زمان وهو متعلق بالكون المقدر في قوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٢] إلخ وقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) [الواقعة : ٢٨] إلخ وقوله : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) [الواقعة : ٤٢] إلخ. وضمّن (إِذا) معنى الشرط.

٢٥٩

وجملة (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) استئناف بياني ناشئ عن قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إلخ وهو اعتراض بين جملى (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) وبين جملة (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [الواقعة : ٨] إلخ.

والجواب قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) [الواقعة : ٨ ، ٩] ، فيفد جوابا للشرط ويفيد تفصيل جملة (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] ، وتكون الفاء مستعملة في معنيين : ربط الجواب ، والتفريع ، وتكون جملة (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) وما بعده اعتراضا.

والواقعة أصلها : الحادثة التي وقعت ، أي حصلت ، يقال : وقع أمر ، أي حصل كما يقال : صدق الخبر مطابقته للواقع ، أي كون المعنى المفهوم منه موافقا لمسمى ذلك المعنى في الوجود الحاصل أو المتوقع على حسب ذلك المعنى ، ومن ذلك حادثة الحرب يقال : واقعة ذي قار ، وواقعة القادسية.

فراعوا في تأنيثها معنى الحادث أو الكائنة أو الساعة ، وهو تأنيث كثير في اللغة جار على ألسنة العرب لا يكونون راعوا فيه إلا معنى الحادثة أو الساعة أو نحو ذلك ، وقريب منه قولهم : دارت عليه الدائرة ، قال تعالى : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) [المائدة : ٥٢] وقال : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [التوبة : ٩٨].

والمراد بالواقعة هنا القيامة فجعل هذا الوصف علما لها بالغلبة في اصطلاح القرآن قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة : ١٥] كما سميت الصاخّة والطامّة والآزفة ، أي الساعة الواقعة. وبهذا الاعتبار صار في قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) محسن التجنيس.

و (الْواقِعَةُ) : الموصوفة بالوقوع ، وهو الحدوث.

و (كاذِبَةٌ) يجوز أن يكون اسم فاعل من كذب المجرد ، جرى على التأنيث للدلالة على أنه وصف لمحذوف مؤنث اللفظ. وتقديره هنا نفس ، أي تنتفي كل نفس كاذبة ، فيجوز أن يكون من كذب اللازم إذا قال خلاف ما في نفس الأمر وذلك أن منكري القيامة يقولون : لا تقع القيامة فيكذبون في ذلك فإذا وقعت آمنت النفوس كلها بوقوعها فلم تبق نفس تكذب ، أي في شأنها أو في الإخبار عنها. وذلك التقدير كله مما يدل عليه المقام.

ويجوز أن يكون من كذب المتعدي مثل الذي في قولهم كذبت فلانا نفسه ، أي حدثته نفسه ، أي رأيه بحديث كذب وذلك أن اعتقاد المنكر للبعث اعتقاد سوّله له عقله القاصر فكأنّ نفسه حدثته حديثا كذبته به ، ويقولون : كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم ،

٢٦٠