تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

القول في موقعها كالقول في موقع جملة (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٤٠] سواء ، فيجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) فتكون تتمة لما في صحف موسى وإبراهيم ، ويكون الخطاب في قوله : (إِلى رَبِّكَ) التفاتا من الغيبة إلى الخطاب والمخاطب غير معين فكأنه قيل : وأن إلى ربه المنتهى ، وقد يكون نظيرها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: ٩٩].

ويجوز أنها ليست مما اشتملت عليه صحف موسى وإبراهيم ويكون عطفها عطف مفرد على مفرد ، فيكون المصدر المنسبك من (أَنَ) ومعمولها مدخولا للباء ، أي لم ينبأ بأن إلى ربك المنتهى ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعليه فلا نتطلب لها نظيرا من كلام إبراهيمعليه‌السلام.

ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه المحض الذي لا تلابسه أحكام هي في الظاهر من تصرفات المخلوقات مما هو شأن أمور الدنيا ، فالكلام على حذف مضاف دل عليه السياق.

والتعبير عن الله بلفظ (رَبِّكَ) تشريف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعريض بالتهديد لمكذبيه لأن شأن الرب الدفاع عن مربوبه.

وفي الآية معنى آخر وهو أن يكون المنتهى مجازا عن انتهاء السير ، بمعنى الوقوف ، لأن الوقوف انتهاء سير السائر ، ويكون الوقوف تمثيلا لحال المطيع لأمر الله تشبيها لأمر الله بالحد الذي تحدد به الحوائط على نحو قول أبي الشيص :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخّر عنه ولا متقدم

كما عبر عن هذا المعنى بالوقوف عند الحد في قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩]. والمعنى : التحذير من المخالفة لما أمر الله ونهى.

وفي الآية معنى ثالث وهو انتهاء دلالة الموجودات على وجود الله ووحدانيته لأن الناظر إلى الكائنات يعلم أن وجودها ممكن غير واجب فلا بد لها من موجود ، فإذا خيّلت الوسوسة للناظر أن يفرض للكائنات موجدا مما يبدو له من نحو الشمس أو القمر أو النار لما يرى فيها من عظم الفاعلية ، لم يلبث أن يظهر له أن ذلك المفروض لا يخلو عن تغير يدل على حدوثه فلا بد له من محدث أوجده فإذا ذهب الخيال يسلسل مفروضات الإلهية

١٤١

(كما في قصة إبراهيم (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] الآيات) لم يجد العقل بدا من الانتهاء إلى وجوب وجود صانع لممكنات كلها ، وجوده غير ممكن بل واجب ، وأن يكون متصفا بصفات الكمال وهو الإله الحق ، فالله هو المنتهى الذي ينتهي إليه استدلال العقل ، ثم إذا لاح له دليل وجود الخالق وأفضى به إلى إثبات أنه واحد لأنه لو كان متعدّدا لكان كلّ من المتعدد غير كامل الإلهية إذ لا يتصرف أحد المتعدد فيما قد تصرف فيه الآخر ، فكان كل واحد محتاجا إلى الآخر ليرضى بإقراره على إيجاد ما أوجده ، وإلا لقدر على نقض ما فعله ، فيلزم أن يكون كل واحد من المتعدد محتاجا إلى من يسمح له بالتصرف ، قال تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] وقال : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما) تقولون (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢] وقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] فانتهى العقل لا محالة إلى منتهى.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣))

انتقال من الاعتبار بأحوال الآخرة إلى الاعتبار بأحوال الحياة الدنيا وضمير (هُوَ) عائد إلى (رَبِّكَ) من قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢].

والضحك : أثر سرور النفس ، والبكاء : أثر الحزن ، وكل من الضحك والبكاء من خواص الإنسان وكلاهما خلق عجيب دال على انفعال عظيم في النفس.

وليس لبقية الحيوان ضحك ولا بكاء وما ورد من إطلاق ذلك على الحيوان فهو كالتخيل أو التشبيه كقول النابغة :

بكاء حماقة تدعو هديلا

مطوقة على فنن تغني

ولا يخلو الإنسان من حالي حزن وسرور لأنه إذا لم يكن حزينا مغموما كان مسرورا لأن الله خلق السرور والانشراح ملازما للإنسان بسبب سلامة مزاجه وإدراكه لأنه إذا كان سالما كان نشيط الأعصاب وذلك النشاط تنشأ عنه المسرة في الجملة وإن كانت متفاوتة في الضعف والقوة ، فذكر الضحك والبكاء يفيد الإحاطة بأحوال الإنسان بإيجاز ويرمز إلى أسباب الفرح والحزن ويذكر بالصانع الحكيم ، ويبشر إلى أن الله هو المتصرف في الإنسان لأنه خلق أسباب فرحه ونكده وألهمه إلى اجتلاب ذلك بما في مقدوره وجعل حدا عظيما من ذلك خارجا عن مقدور الإنسان وذلك لا يمتري فيه أحد إذا تأمل وفيه ما يرشد إلى

١٤٢

الإقبال على طاعة الله والتضرع إليه ليقدّر للناس أسباب الفرح ، ويدفع عنهم أسباب الحزن وإنما جرى ذكر هذا في هذا المقام لمناسبة أن الجزاء الأوفى لسعي الناس : بعضه سارّ لفريق وبعضه محزن لفريق آخر.

وأفاد ضمير الفصل قصرا لصفة خلق أسباب الضحك والبكاء على الله تعالى لإبطال الشريك في التصرف فتبطل الشركة في الإلهية ، وهو قصر إفراد لأن المقصود نفي تصرف غير الله تعالى وإن كان هذا القصر بالنظر إلى نفس الأمر قصرا حقيقيا لإبطال اعتقاد أن الدهر متصرف.

وإسناد الإضحاك والإبكاء إلى الله تعالى لأنه خالق قوتي الضحك والبكاء في الإنسان ، وذلك خلق عجيب ولأنه خالق طبائع الموجودات التي تجلب أسباب الضحك والبكاء من سرور وحزن.

ولم يذكر مفعول (أَضْحَكَ وَأَبْكى) لأن القصد إلى الفعلين لا إلى مفعوليهما فالفعلان منزلان منزلة اللازم ، أي أوجد الضحك والبكاء.

ولما كان هذا الغرض من إثبات انفراد الله تعالى بالتصرف في الإنسان بما يجده الناس في أحوال أنفسهم من خروج أسباب الضحك والبكاء عن قدرتهم تعين أن المراد : أضحك وأبكى في الدنيا ، ولا علاقة لهذا بالمسرة والحزن الحاصلين في الآخرة.

وفي الاعتبار بخلق الشيء وضده إشارة إلى دقائق حكمة الله تعالى.

وفي هذه الآية محسن الطباق بين الضحك والبكاء وهما ضدان.

وتقديم الضحك على البكاء لأن فيه امتنانا بزيادة التنبيه على القدرة وحصل بذلك مراعاة الفاصلة.

وموقع هذه الجملة في عطفها مثل موقع جملة (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٤٠] في الاحتمالين ، فإن كانت مما شملته صحف إبراهيم كانت حكاية لقوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠].

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤))

انتقل من الاعتبار بانفراد الله بالقدرة على إيجاد أسباب المسرة والحزن وهما حالتان لا تخلو عن إحداهما نفس الإنسان إلى العبرة بانفراده تعالى بالقدرة على الإحياء والإماتة ،

١٤٣

وهما حالتان لا يخلو الإنسان عن إحداهما فإن الإنسان أول وجوده نطفة ميتة ثم علقة ثم مضغة (قطعة ميتة وإن كانت فيها مادة الحياة إلا أنها لم تبرز مظاهر الحياة فيها) ثم ينفخ فيه الروح فيصير إلى حياة وذلك بتدبير الله تعالى وقدرته.

ولعل المقصود هو العبرة بالإماتة لأنها أوضح عبرة وللرد عليهم قولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ، وأن عطف (وَأَحْيا) تتميم واحتراس كما في قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢]. ولذلك قدم (أَماتَ) على (أَحْيا) مع الرعاية على الفاصلة كما تقدم في (أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣].

وموقع الجملة كموقع جملة (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٤٠]. فإن كان مضمونها مما شملته صحف إبراهيم كان المحكي بها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [الشعراء : ٨١].

وفعلا (أَماتَ وَأَحْيا) منزلان منزلة اللازم كما تقدم في قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣] إظهار لبديع القدرة على هذا الصنع الحكيم مع التعريض بالاستدلال على كيفية البعث وإمكانه حيث أحاله المشركون ، وشاهده في خلق أنفسهم.

وضمير الفصل للقصر على نحو قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣] ردا على أهل الجاهلية الذين يسندون الإحياء والإماتة إلى الدهر فقالوا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]. فليس المراد الحياة الآخرة لأن المتحدث عنهم لا يؤمنون بها ، ولأنها مستقبلة والمتحدث عنه ماض.

وفي هذه الآية محسن الطباق أيضا لما بين الحياة والموت من التضاد.

[٤٥ ، ٤٦] (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦))

هذه الآية وإن كانت مستقلة بإفادة أن الله خالق الأزواج من الإنسان خلقا بديعا من نطفة فيصير إلى خصائص نوعه وحسبك بنوع الإنسان تفكيرا أو مقدرة وعملا ، وذلك ما لا يجهله المخاطبون فما كان ذكره إلا تمهيدا وتوطئة لقوله : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٤٧] على نحو قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] وباعتبار استقلالها بالدلالة على عجيب تكوين نسل الإنسان ، عطفت عليها جملة (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٤٧] وإلا لكان مقتضى الظاهر أن يقال : إنّ عليه النشأة الأخرى بدون عطف وبكسر همزة (إنّ).

١٤٤

ومناسبة الانتقال إلى هذه الجملة أن فيها كيفية ابتداء الحياة.

والمراد بالزوجين : الذكر والأنثى من خصوص الإنسان لأن سياق الكلام للاعتبار ببديع صنع الله وذلك أشد اتفاقا في خلقه الإنسان ، ولأن اعتبار الناس بما في أحوال أنفسهم أقرب وأمكن ولأن بعض الأزواج من الذكور والإناث لا يتخلق من نطفة بل من بيض وغيره.

ولعل وجه ذكر الزوجين والبدل منه (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) دون أن يقول : وأنه خلقه ، أي الإنسان من نطفة ، كما قال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٥ ، ٦] الآية أمران :

أحدهما : إدماج الامتنان في أثناء ذكر الانفراد بالخلق بنعمة أن خلق لكل إنسان زوجه كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم : ٢١] الآية.

الثاني : الإشارة إلى أن لكلا الزوجين حظا من النطفة التي منها يخلق الإنسان فكانت للذكر نطفة وللمرأة نطفة كما ورد في الحديث الصحيح أنه «إذا سبق ماء الرجل أشبه المولود أباه وإن سبق ماء المرأة أشبه المولود أمه» ، وبهذا يظهر أن لكل من الذكر والأنثى نطفة وإن كان المتعارف عند الناس قبل القرآن أن النطفة هي ماء الرجل إلا أن القرآن يخاطب الناس بما يفهمون ويشير إلى ما لا يعلمون إلى أن يفهمه المتدبرون. وحسبك ما وقع بيانه بالحديث المذكور آنفا.

والنطفة : فعلة مشتقة من : نطف الماء ، إذا قطر ، فالنطفة ماء قليل وسمي ما منه النسل نطفة بمعنى منطوف ، أي مصبوب فماء الرجل مصبوب ، وماء المرأة أيضا مصبوب فإن ماء المرأة يخرج مع بويضة دقيقة تتسرب مع دم الحيض وتستقر في كيس دقيق فإذا باشر الذكر الأنثى انحدرت تلك البيضة من الأنثى واختلطت مع ماء الذكر في قرارة الرحم.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ) ابتدائية فإن خلق الإنسان آت وناشئ بواسطة النطفة ، فإذا تكونت النطفة وأمنيت ابتدأ خلق الإنسان.

و (تُمْنى) تدفق وفسروه بمعنى تقذف أيضا.

وقيل إن (تُمْنى) بمعنى تراق ، وجعلوا تسمية الوادي الذي بقرب مكة منى لأنه تراق به دماء البدن من الهدايا. ولم يذكر أهل اللغة في معاني مني أو أمنى أن منها الإراقة. وهذا من مشكلات اللغة.

١٤٥

ثم إن (تُمْنى) يحتمل أنه مضارع أمنى بهمزة التعدية وسقطت في المضارع فوزنه تأفعل ، ويحتمل أنه مضارع منى مثل رمى فوزنه : تفعل.

وبني فعل (تُمْنى) إلى المجهول لأن النطفة تدفعها قوة طبيعية في الجسم خفية فكان فاعل الإمناء مجهولا لعدم ظهوره.

وعن الأخفش (تُمْنى) تقدّر ، يقال : منى الماني ، أي قدّر المقدر. والمعنى : إذا قدر لها ، أي قدر لها أن تكون مخلّقة كقوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحج : ٥].

والتقييد ب (إِذا تُمْنى) لما في اسم الزمان من الإيذان بسرعة الخلق عند دفق النطفة في رحم المرأة فإنه عند التقاء النطفتين يبتدئ تخلق النسل فهذا إشارة خفية إلى أن البويضة التي هي نطفة المرأة حاصلة في الرحم فإذا أمنيت عليها نطفة الذكر أخذت في التخلق إذا لم يعقها عائق.

ثم لما في فعل (تُمْنى) من الإشارة إلى أن النطفة تقطر وتصب على شيء آخر لأن الصب يقتضي مصبوبا عليه فيشير إلى أن التخلق إنما يحصل من انصباب النطفة على أخرى ، فعند اختلاط الماءين يحصل تخلق النسل فهذا سر التقييد بقوله : (إِذا تُمْنى).

وفي الجمع بين الذكر والأنثى محسّن الطباق لما بين الذكر والأنثى من شبه التضاد.

ولم يؤت في هذه الجملة بضمير الفصل كما في اللتين قبلها لعدم الداعي إلى القصر إذ لا ينازع أحد في أن الله خالق الخلق وموقع جملة (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) إلى آخرها كموقع جملة (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٤٠].

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧))

كان مقتضى الظاهر من التنظير أن يقدم قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) [النجم : ٤٨] على قوله : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) لما في قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) من الامتنان وإظهار الاقتدار المناسبين لقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا* وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) [النجم : ٤٣ ـ ٤٥] إلخ. إذ ينتقل من نعمة الخلق إلى نعمة الرزق كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء : ٧٨ ، ٧٩] وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) [الروم: ٤٠] ولكن عدل عن ذلك على طريقة تشبه الاعتراض ليقرن بين البيانين ذكر قدرته على النشأتين.

١٤٦

ومما يشابه هذا ما قاله الواحدي في شرح قول المتنبي في سيف الدولة :

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاء وثغرك باسم

أنه لما أنشد هذين البيتين أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيتين على صدريهما وقال : ينبغي أن تطبق عجز الأول على الثاني وعجز الثاني على الأول ثم قال له: وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله :

كأني لم أركب جوادا للذة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الزق الرويّ ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

ووجه الكلام في البيتين على ما قاله أهل العلم بالشعر أن يكون عجز الأول على الثاني والثاني على الأول (أي مع نقل كلمة (للذة) من صدر الأول إلى الثاني ، وكلمة (ولم أقل) من صدر الثاني إلى الأول ليستقيم الكلام) فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكرّ وسبأ الخمر مع تبطّن الكاعب فقال أبو الطيب : «أدام الله عز مولانا إن صح أن الذي استدرك هذا على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ إمرؤ القيس وأخطأت أنا ، ومولانا يعرف أن البزّاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله ، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء ، وإنما لما ذكرت الموت في أول البيت اتبعته بذكر الردى ليجانسه ، ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت : ووجهك وضاء ، لأجمع بين الأضداد في المعنى» اه.

ولو أن أبا الطيب شعر بهذه الآية لذكرها لسيف الدولة فكانت له أقوى حجة من تأويله شعر امرئ القيس.

وفي جملة (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ) تحقيق لفعله إياها شبها بالحق الواجب على المحقوق به بحيث لا يتخلف فكأنه حق واجب لأن الله وعد بحصول بما اقتضته الحكمة الإلهية لظهور أن الله لا يكرهه شيء ، فالمعنى : أن الله أراد النشأة الأخرى كقوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنعام : ١٢].

و (النَّشْأَةَ) : المرة من الإنشاء ، أي الإيجاد والخلق.

١٤٧

و (الْأُخْرى) : مؤنث الأخير ، أي النشأة التي لا نشأة بعدها ، وهي مقابل النشأة الأولى التي يتضمنها قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم : ٤٥]. وهذه المقابلة هي مناسبة ذكر هذه النشأة الأخرى.

وقرأ الجمهور (النَّشْأَةَ) بوزن الفعلة وهو اسم مصدر أنشأ ، وليس مصدرا ، إذ ليس نشأ المجرد بمتعد وإنما يقال : أنشأ.

وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب النشاءة بألف بعد الشين المفتوحة بوزن الفعالة وهو من أوزان المصادر لكنه مقيس في مصدر الفعل المضموم العين في الماضي نحو الجزالة والفصاحة. ولذلك فالنشاءة بالمد مصدر سماعي مثل الكآبة. ولعل مدّتها من قبيل الإشباع مثل قول عنترة :

ينباع من ذفرى غضوب جسرة

أي : ينبع.

وتقديم الخبر على اسم (أَنَ) للاهتمام بالتحقيق الذي أفادته (على) تنبيها على زيادة تحقيقه بعد أن حقق بما في (أن) من التوكيد.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨))

ومعنى (أَغْنى) جعل غنيّا ، أي أعطى ما به الغنى ، والغنى التمكن من الانتفاع بما يحب الانتفاع به.

ويظهر أن معنى (أَقْنى) ضد معنى (أَغْنى) رعيا لنظائره التي زاوجت بين الضدين من قوله : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣] و (أَماتَ وَأَحْيا) [النجم : ٤٤] ، و (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم : ٤٥] ، ولذلك فسره ابن زيد والأخفش وسليمان التميمي بمعنى أرضى.

وعن مجاهد وقتادة والحسن : (أَقْنى) : أخدم ، فيكون مشتقا من القنّ وهو العبد أو المولود في الرّق فيكون زيادة على الإغناء. وقيل : (أَقْنى) : أعطى القنية. وهذا زيادة في الغنى. وعن ابن عباس : (أَقْنى) : أرضى ، أي أرضى الذي أغناه بما أعطاه ، أي أغناه حتى أرضاه فيكون زيادة في الامتنان.

والإتيان بضمير الفصل لقصر صفة الإغناء والإقناء عليه تعالى دون غيره وهو قصر ادعائي لمقابلة ذهول الناس عن شكر نعمة الله تعالى بإسنادهم الأرزاق لوسائله العادية ،

١٤٨

مع عدم التنبه إلى أن الله أوجد مواد الإرزاق وأسبابها وصرف موانعها ، وهذا نظير ما تقدم من القصر في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].

وموقع جملة (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) كموقع جملة (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم: ٤٠].

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩))

فهذه الجملة لا يجوز اعتبارها معطوفة على جملة (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم: ٣٨] إذ لا تصلح لأن تكون مما في صحف موسى وإبراهيم لأن الشعرى لم تعبد في زمن إبراهيم ولا في زمن موسى عليهما‌السلام فيتعين أن تكون معطوفة على (ما) الموصولة من قوله (بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ) [النجم : ٣٦ ، ٣٧] إلخ.

الشعرى : اسم نجم من نجوم برج الجوزاء شديد الضياء ويسمى : كلب الجبّار ، لأن برج الجوزاء يسمى الجبّار عند العرب أيضا ، وهو من البروج الربيعية ، أي التي تكون مدة حلول الشمس فيها هي فصل الربيع.

وسميت الجوزاء لشدة بياضها في سواد الليل تشبيها له بالشاة الجوزاء وهي الشاة السوداء التي وسطها أبيض.

وبرج الجوزاء ذو كواكب كثيرة ولكثير منها أسماء خاصة والعرب يتخيلون مجموع نجومها في صورة رجل واقف بيده عصا وعلى وسطه سيف ، فلذلك سموه الجبّار. وربما تخيّلوها صورة امرأة فيطلقون على وسطها اسم المنطقة.

ولم أقف على وجه تسميتها الشّعرى ، وسميت كلب الجبّار تخيلوا الجبار صائدا والشعرى يتبعه كالكلب وربما سمّوا الشعرى يد الجوزاء ، وهو أبهر نجم برج الجوزاء ، وتوصف الشعرى باليمانية لأنها إلى جهة اليمن. وتوصف بالعبور (بفتح العين) لأنهم يزعمون أنها زوج كوكب سهيل وأنهما كانا متصلين وأن سهيلا انحدر نحو اليمن فتبعته الشعرى وعبرت نهر المجرة ، فلذلك وصفت بالعبور فعول بمعنى فاعلة ، وهو احتراز عن كوكب آخر ليس من كواكب الجوزاء يسمونه الشعرى الغميصاء (بالغين المعجمة والصاد المهملة بصيغة تصغير) وذكروا لتسميته قصة.

والشعرى تسمى المرزم (كمنبر) ويقال : مرزم الجوزاء لأن نوأه يأتي بمطر بارد في

١٤٩

فصل الشتاء فاشتق له اسم آلة الرّزم وهو شدة البرد (فإنهم كنّوا ريح الشّمال أمّ رزم).

وكان كوكب الشعرى عبدته خزاعة والذي سنّ عبادته رجل من سادة خزاعة يكنى أبا كبشة. واختلف في اسمه ففي «تاج العروس» عن الكلبي أن اسمه جزء (بجيم وزاي وهمزة). وعن الدار قطني أنه وجز (بواو وجيم وزاي) بن غالب بن عامر بن الحارث بن غبشان كذا في «التاج» ، والذي في «جمهرة ابن حزم» أن الحارث هو غبشان الخزاعي. ومنهم من قال : إن اسم أبي كبشة عبد الشعرى. ولا أحسب إلا أن هذا وصف غلب عليه بعد أن اتخذ الشّعرى معبودا له ولقومه ، ولم يعرج ابن حزم في «الجمهرة» على ذكر أبي كبشة.

والذي عليه الجمهور أن الشّعرى لم يعبدها من قبائل العرب إلّا خزاعة. وفي «تفسير القرطبي» عن السدّي أن حمير عبدوا الشعرى.

وكانت قريش تدعو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا كبشة خيل لمخالفته إياهم في عبادة الأصنام ، وكانوا يصفونه بابن أبي كبشة. قيل لأن أبا كبشة كان من أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمه يعرّضون أو يموّهون على دهمائهم بأنه يدعو إلى عبادة الشعرى يريدون التغطية على الدعوة إلى توحيد الله تعالى فمن ذلك قولهم لما أراهم انشقاق القمر «سحركم ابن أبي كبشة» وقول أبي سفيان للنفر الذين كانوا معه في حضرة هرقل «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر».

قال ابن أبي الأصبع «في هذه الآية من البديع محسن التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسده مسد لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه فقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها».

وتخصيص الشعرى بالذكر في هاته السورة أنه تقدم ذكر اللّات والعزّى ومناة وهي معبودات وهمية لا مسميات لها كما قال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) [النجم : ٢٣] وأعقبها بإبطال إلهية الملائكة وهي من الموجودات المجردات الخفية ، أعقب ذلك بإبطال عبادة الكواكب وخزاعة أجوار لأهل مكة فلما عبدوا الشعرى ظهرت عبادة الكواكب في الحجاز ، وإثبات أنها مخلوقة لله تعالى دليل على إبطال إلهيتها لأن المخلوق لا يكون إلها ، وذلك مثل قوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) [فصلت : ٣٧] مع ما في لفظ الشعرى من مناسبة فواصل هذه السورة.

١٥٠

والإتيان بضمير الفصل يفيد قصر مربوبية الشعرى على الله تعالى وذلك كناية عن كونه رب ما يعتقدون أنه من تصرفات الشعرى ، أي هو رب تلك الآثار ومقدرها وليست الشعرى ربة تلك الآثار المسندة إليها في مزاعمهم ، وليس لقصر كون رب الشعرى على الله تعالى دون غيره لأنهم لم يعتقدوا أن للشعرى ربّا غير الله ضرورة أن منهم من يزعم أن الشعرى ربة معبودة ومنهم من يعتقد أنها تتصرف بقطع النظر عن صفتها.

[٥٠ ـ ٥٢] (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢))

لما استوفي ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وطعنهم في القرآن ، ومن عبادة الأصنام ، وقولهم في الملائكة ، وفاسد معتقدهم في أمور الآخرة ، وفي المتصرف في الدنيا ، وكان معظم شأنهم في هذه الضلالات شبيها بشأن أمم الشرك البائدة نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم : عاد ، وثمود ، وقوم نوح ، وقوم لوط.

فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التي قبلها في احتمال كونها زائدة على ما في صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح ، وكان معاصرا للمؤتفكة عالما بهلاكها.

ولكون هلاك هؤلاء معلوما لم تقرن الجملة بضمير الفصل.

ووصف عاد ب (الْأُولى) على اعتبار عاد اسما للقبيلة كما هو ظاهر. ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكرا وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح.

وأما القول بأن عادا هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى تعرف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت في زمن العماليق فليس بصحيح.

ويجوز أن يكون (الْأُولى) وصفا كاشفا ، أي عادا السابقة. وقيل (الْأُولى) صفة عظمة ، أي الأولى في مراتب الأمم قوة وسعة ، وتقدم التعريف بعاد في سورة الأعراف.

وتقدم ذكر ثمود في سورة الأعراف أيضا.

وتقدم ذكر نوح وقومه في سورة آل عمران وفي سورة الأعراف.

وإنما قدم في الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عادا

١٥١

وثمودا أشهر في العرب وأكثر ذكرا بينهم وديارهم في بلاد العرب.

وقرأ الجمهور (عاداً الْأُولى) بإظهار تنوين (عاداً) وتحقيق همزة (الْأُولى). وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو عاد لولى بحذف همزة (الأولى) بعد نقل حركتها إلى اللام المعرّفة وإدغام نون التنوين من (عاداً) في لام لولى. وقرأه قالون عن نافع بإسكان همزة (الْأُولى) بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة (عاد لؤلى) على لغة من يبدل الواو الناشئة عن إشباع الضمة همزا ، كما قرئ (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) [الفتح : ٢٩].

وقرأ الجمهور (وَثَمُودَ) بالتنوين على إطلاق اسم جد القبيلة عليها. وقرأه عاصم وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) تعليل لجملة (أَهْلَكَ عاداً) إلى آخرها ، وضمير الجمع في (إِنَّهُمْ كانُوا) يجوز أن يعود إلى قوم نوح ، أي كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود. ويجوز أن يكون عائدا إلى عاد وثمود وقوم نوح والمعنى : إنهم أظلم وأطغى من قومك الذين كذبوك فتكون تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الرسل من قبله لقوا من أممهم أشد مما لقيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه إيماء إلى أن الله مبق على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يهلكها لأنه قدّر دخول بقيتها في الإسلام ثم أبنائها.

وضمير الفصل في قوله (كانُوا هُمْ أَظْلَمَ) لتقوية الخبر.

[٥٣ ، ٥٤] (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

والمؤتفكة صفة لموصوف محذوف يدل عليه اشتقاق الوصف كما سيأتي ، والتقدير : القرى المؤتفكة ، وهي قرى قوم لوط الأربع وهي (سدوم) و (عمورة) و (آدمة) و (صبوييم). ووصفت في سورة براءة [٧٠] بالمؤتفكات لأن وصف جمع المؤنث يجوز أن يجمع وأن يكون بصيغة المفرد المؤنث. وقد صار هذا الوصف غالبا عليها بالغلبة.

وذكرت القرى باعتبار ما فيها من السكان تفننا ومراعاة للفواصل.

ويجوز أن تكون المؤتفكة هنا وصفا للأمة ، أي لأمة لوط ليكون نظيرا لذكر عاد وثمود وقوم نوح كما في قوله تعالى : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) في سورة الحاقة [٩]. والائتفاك : الانقلاب ، يقال : أفكها فاتفكت. والمعنى : التي خسف بها فجعل عاليها سافلها ، وقد تقدم ذكرها في سورة براءة.

١٥٢

وانتصب (الْمُؤْتَفِكَةَ) مفعول (أَهْوى) أي أسقط أي جعلها هاوية.

والإهواء : الإسقاط ، يقال : أهواه فهوى ، ومعنى ذلك : أنه رفعها في الجو ثم سقطت أو أسقطها في باطن الأرض وذلك من أثر زلازل وانفجارات أرضية بركانية.

ولكون (الْمُؤْتَفِكَةَ) علما انتفى أن يكون بين (الْمُؤْتَفِكَةَ) و (أَهْوى) تكرير. وتقديم المفعول للاهتمام بعبرة انقلابها.

وغشاها : غطاها وأصابها من أعلى.

و (ما غَشَّى) فاعل (فَغَشَّاها) ، و (ما) موصولة ، وجيء بصلتها من مادة وصيغة الفعل الذي أسند إليها ، وذلك لا يفيد خبرا جديدا زائدا على مفاد الفعل.

والمقصود منه التهويل كأنّ المتكلم أراد أن يبين بالموصول والصلة وصف فاعل الفعل فلم يجد لبيانه أكثر من إعادة الفعل إذ لا يستطاع وصفه. والذي غشاها هو مطر من الحجارة المحماة ، وهي حجارة بركانية قذفت من فوهات كالآبار كانت في بلادهم ولم تكن ملتهبة من قبل قال تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الفرقان : ٤٠] وقال : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢]. وفاضت عليها مياه غمرت بلادهم فأصبحت بحرا ميتا.

وأفاد العطف بفاء التعقيب في قوله : (فَغَشَّاها) إن ذلك كان بعقب أهوائها.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥))

تفريع فذلكة لما ذكر من أول السورة : مما يختص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك كقوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) إلى قوله : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ٢ ـ ١٨]. ومما يشمله ويشمل غيره من قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) إلى قوله : (هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) [النجم : ٤٣ ـ ٤٩] فإن ذلك خليط من نعم وضدها على نوع الإنسان وفي مجموعها نعمة تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بمنافع الاعتبار بصنع الله. ثم من قوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً) [النجم : ٥٠] إلى هنا. فتلك نقم من الضالين والظالمين لنصر رسل الله ، وذلك نعمة على جميع الرسل ونعمة خاصة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي بشارته بأن الله سينصره ، فجميع ما عدد من النعم على أقوام والنقم عن آخرين هو نعم محضة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين.

و (أي) اسم استفهام يطلب به تمييز متشارك في أمر يعم بما يميز البعض عن البقية

١٥٣

من حال يختص به مستعمل هنا في التسوية كناية عن تساوي ما عدد من الأمور في أنها نعم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ليس لواحد من هذه المعدودات نقص عن نظائره في النعمة كقول فاطمة بنت الخرشب (وقد سئلت : أيّ بنيك أفضل) «ثكلتهم إن كنت أدرى أيهم أفضل» ، أي إن كنت أدري جواب هذا السؤال ، وكقول الأعشى :

بأشجع أخّاذ على الدهر حكمه

فمن أي ما تأتي الحوادث أفرق

والمقصود من هذا الاستفهام تذكير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه النعم.

فالمعنى أنك لا تحصل لك مرية في واحدة من آلاء ربك فإنها سواء في الإنعام ، والخطاب بقوله : (رَبِّكَ) الأظهر أنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المناسب لذكر الآلاء والموافق لإضافة (رب) إلى ضمير المفرد المخاطب في عرف القرآن.

وجوزوا أن يكون الخطاب في قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ) لغير معين من الناس ، أي المكذبين أي باعتبار أنه لا يخلو شيء مما عدد سابقا عن نعمة لبعض الناس أو باعتبار عدم تخصيص الآلاء بما سبق ذكره بل المراد جنس الآلاء كما في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٦].

والآلاء : النعم ، وهو جمع مفرده : إلى ، بكسر الهمزة وبفتحها مع فتح اللام مقصورا ، ويقال : إلى ، وألي ، بسكون اللام فيهما وآخره ياء متحركة ، ويقال : ألو ، بهمز مفتوحة بعدها لام ساكنة وآخره واو متحركة مثل : دلو.

والتماري : التشكك وهو تفاعل من المرية فإن كان الخطاب بقوله : (رَبِّكَ) للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان (تَتَمارى) مطاوع ماراه مثل التدافع مطاوع دفع في قول المنخّل :

فدفعتها فتدافعت

مشي القطاة إلى الغدير

والمعنى : فبأي آلاء ربك يشككونك ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) [النجم : ١٢] ، أي لا يستطيعون أن يشككوك في حصول آلاء ربك التي هي نعم النبوءة والتي منها رؤيته جبريل عند سدرة المنتهى. فالكلام مسوق لتأييس المشركين من الطمع في الكف عنهم.

وإن كان الخطاب لغير معين كان (تَتَمارى) تفاعلا مستعملا في المبالغة في حصول الفعل ، ولا يعرف فعل مجرد للمراء ، وإنما يقال : امترى ، إذا شك.

١٥٤

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦))

استئناف ابتدائي أو فذلكة لما تقدم على اختلاف الاعتبارين في مرجع اسم الإشارة فإن جعلت اسم الإشارة راجعا إلى القرآن فإنه لحضوره في الأذهان ينزل منزلة شيء محسوس حاضر بحيث يشار إليه ، فالكلام انتقال اقتضابي تنهية لما قبله وابتداء لما بعد اسم الإشارة على أسلوب قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [إبراهيم : ٥٢].

والكلام موجه إلى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير ، دون أن يقول : نذير وبشير ، كما قال في الآية الأخرى (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨].

والإنذار بعضه صريح مثل قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [النجم : ٣١] إلخ ، وبعضه تعريض كقوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] وقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢].

وإن جعلت اسم الإشارة عائدا إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور ، أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلا ، ابتداء من قوله : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) [النجم : ٣٦] إلى هنا على كلا التأويلين المتقدمين ، فتكون الإشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلا لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه.

و «النذر» حقيقته المخبر عن حدوث حدث مضرّ بالمخبر (بالفتح) ، وجمعه : نذر ، هذا هو الأشهر فيه. ولذلك جعل ابن جريج وجمع من المفسرين الإشارة إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بعيد.

ويطلق النذير على الإنذار وهو خبر المخبر على طريقة المجاز العقلي. قال أبو القاسم الزجاجي : يطلق النذير على الإنذار (يريد أنه اسم مصدر) ومنه قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٧] أي إنذاري وجمعه نذر أيضا ، ومنه قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) [القمر : ٢٣] ، أي بالمنذرين. وإطلاق نذير على ما هو كلام وهو القرآن أو بعض آياته مجاز عقلي ، أو استعارة على رأي جمهور أهل اللغة وهو حقيقة على رأي الزجاجي.

والمراد بالنذر الأولى : السالفة ، أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقوله النبي : «إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوءة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

١٥٥

أي من كلام الأنبياء قبل الإسلام.

[٥٧ ، ٥٨] (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨))

تتنزل هذه الجملة من التي قبلها منزلة البيان للإنذار الذي تضمّنه قوله : (هذا نَذِيرٌ) [النجم : ٥٦].

فالمعنى : هذا نذير بآزفة قربت ، وفي ذكر فعل القرب فائدة أخرى زائدة على البيان وهي أن هذا المنذر به دنا وقته ، فإنّ : أزف معناه : قرب وحقيقته القرب المكان ، واستعير لقرب الزمان لكثرة ما يعاملون الزمان معاملة المكان.

والتنبيه على قرب المنذر به من كمال الإنذار للبدار بتجنب الوقوع فيما ينذر به.

وجيء لفعل (أَزِفَتِ) بفاعل من مادة الفعل للتهويل على السامع لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تعيين هذه المحادثة التي أزفت ، ومعلوم أنها من الأمور المكروهة لورود ذكرها عقب ذكر الإنذار.

وتأنيث (الْآزِفَةُ) بتأويل الوقعة ، أو الحادثة كما يقال : نزلت به نازلة ، أو وقعت الواقعة ، وغشيته غاشية ، والعرب يستعملون التأنيث دلالة على المبالغة في النوع ، ولعلهم راعوا أن الأنثى مصدر كثرة النوع.

والتعريف في (الْآزِفَةُ) تعريف الجنس ، ومنه زيادة تهويل بتمييز هذا الجنس من بين الأجناس لأن في استحضاره زيادة تهويل لأنه حقيق بالتدبر في المخلص منه نظير التعريف في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ، وقولهم : أرسلها العراك.

والكلام يحتمل آزفة في الدنيا من جنس ما أهلك به عاد وثمود وقوم نوح فهي استئصالهم يوم بدر ، ويحتمل آزفة وهي القيامة. وعلى التقديرين فالقرب مراد به التحقق وعدم الانقلاب منها كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] وقوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧].

وجملة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) مستأنفة بيانية أو صفة ل (الْآزِفَةُ). و (كاشِفَةٌ) يجوز أن يكون مصدرا بوزن فاعلة كالعافية ، وخائنة الأعين ، وليس لوقعتها كاذبة. والمعنى ليس لها كشف.

ويجوز أن يكون اسم فاعل قرن بهاء التأنيث للمبالغة مثل راوية ، وباقعة ، وداهية ،

١٥٦

أي ليس لها كاشف قوي الكشف فضلا عمن دونه.

والكشف يجوز أن يكون بمعنى التعرية مراد به الإزالة مثل ويكشف الضر ، وذلك ضد ما يقال : غشية الضر.

فالمعنى : لا يستطيع أحد إزالة وعيدها غير الله ، وقد أخبر بأنها واقعة بقوله : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) كناية عن تحقق وقوعها.

ويجوز أن يكون الكشف بمعنى إزالة الخفاء ، أي لا يبين وقت الآزفة أحد له قدرة على البيان على نحو قوله تعالى : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧]. فالمعنى : أن الله هو العالم بوقتها لا يعلمه أحد إلا إذا شاء أن يطلع عليه أحدا من رسله أو ملائكته.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله ، و (مِنْ) مزيدة للتوكيد ، وهو متعلق بالكون الذي ينوى في خبر ليس قوله : (لَها).

[٥٩ ـ ٦١] (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١))

تفريع على (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) [النجم : ٥٦] وما عطف عليه وبيّن به من بيان أو صفة ، فرع عليه استفهام إنكار وتوبيخ.

والحديث : الكلام والخبر.

والإشارة إلى ما ذكر من الإنذار بأخبار الذين كذبوا الرسل ، فالمراد بالحديث بعض القرآن بما في قوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١].

ومعنى العجب هنا الاستبعاد والإحالة كقوله : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٧٣] ، أو كناية عن الإنكار.

والضحك : ضحك الاستهزاء.

والبكاء مستعمل في لازمه من خشية الله كقوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٩].

ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين حيث حلوا بحجر ثمود في غزوة تبوك «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ، أي

١٥٧

ضارعين الله أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم أو خاشين أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

والمعنى : ولا تخشون سوء عذاب الإشراك فتقلعوا عنه.

و (سامِدُونَ) : من السمود وهو ما في المرء من الإعجاب بالنفس ، يقال : سمد البعير ، إذا رفع رأسه في سيره ، مثل به حال المتكبر المعرض عن النصح المعجب بما هو فيه بحال البعير في نشاطه.

وقيل السمود : الغناء بلغة حمير. والمعنى : فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة الاكتراث بما تسمعون من القرآن كقوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] على أحد تفسيرين.

وتقديم المجرور للقصر ، أي هذا الحديث ليس أهلا لأن تقابلوه بالضحك والاستهزاء والتكذيب ولا لأن لا يتوب سامعه ، أي لو قابلتم بفعلكم كلاما غيره لكان لكم شبهة في فعلكم ، فأمّا مقابلتكم هذا الحديث بما فعلتم فلا عذر لكم فيها.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

تفريع على الإنكار والتوبيخ المفرعين على الإنذار بالوعيد ، فرع عليه أمرهم بالسجود لله لأن ذلك التوبيخ من شأنه أن يعمق في قلوبهم فيكفّهم عما هم فيه من البطر والاستخفاف بالداعي إلى الله. ومقتضى تناسق الضمائر أن الخطاب في قوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) موجه إلى المشركين.

والسجود يجوز أن يراد به الخشية كقوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦]. والمعنى : أمرهم بالخضوع إلى الله والكف عن تكذيب رسوله وعن إعراضهم عن القرآن لأن ذلك كله استخفاف بحق الله وكان عليهم لما دعوا إلى الله أن يتدبروا وينظروا في دلائل صدق الرسول والقرآن.

ويجوز أن يكون المراد سجود الصلاة والأمر به كناية عن الأمر بأن يسلموا فإن الصلاة شعار الإسلام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : ٤٢ ، ٤٣] ، أي من الذين شأنهم الصلاة وقد جاء نظيره الأمر بالركوع في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) في سورة المرسلات [٤٨] فيجوز فيه المحملان.

١٥٨

وعطف على ذلك أمرهم بعبادة الله لأنهم إذا خضعوا له حقّ الخضوع عبدوه وتركوا عبادة الأصنام وقد كان المشركون يعبدون الأصنام بالطواف حولها ومعرضين عن عبادة الله ، ألا ترى أنهم عمدوا إلى الكعبة فوضعوا فيها الأصنام ليكون طوافهم بالكعبة طوافا بما فيها من الأصنام.

أو المراد : واعبدوه العبادة الكاملة وهي التي يفرد بها لأن إشراك غيره في العبادة التي يستحقها إلا هو كعدم العبادة إذ الإشراك إخلال كبير بعبادة الله قال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦].

وقد ثبت في الأخبار الصحيحة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ النجم فسجد فيها ـ أي عند قوله:(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ـ وسجد من كان معه من المسلمين والمشركين إلا شيخا مشركا (هو أمية بن خلف) أخذ كفّا من تراب أو حصى فرفعه إلى جهته وقال : يكفيني هذا. وروي أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يسجدان عند هذه الآية في القراءة في الصلاة.

وفي «أحكام» ابن العربي أن ابن عمر سجد فيها ، وفي «الصحيحين» و «السنن» عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يسجد فيها. وفي «سنن ابن ماجه» عن أبي الدرداء «سجدت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصّل شيء». وعن أبي بن كعب : كان آخر فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك السجود في المفصّل. وعن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة ، وسورة النجم من المفصّل.

واختلف العلماء في السجود عند هذه الآية فقال مالك : سجدة النجم ليست من عزائم القرآن (أي ليست مما يسنّ السجود عندها. هذا مراده بالعزائم وليس المراد أن من سجود القرآن عزائم ومنه غير عزائم ف (عزائم) وصف كاشف) ولم ير سجود القرآن في شيء من المفصل ، ووافقه أصحابه عدا ابن وهب قرأها من عزائم السجود ، هي وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق مثل قول أبي حنيفة. وفي «المنتقى» : أنه قول ابن وهب وابن نافع.

وقال أبو حنيفة : هي من عزائم السجود. ونسب ابن العربي في «أحكام القرآن» مثله إلى الشافعي ، وهو المعروف في كتب الشافعية والحنابلة.

وإنما سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها وإن كان الأمر في قوله : (فَاسْجُدُوا) مفرعا على خطاب

١٥٩

المشركين بالتوبيخ ، لأن المسلمين أولى بالسجود لله وليعضد الأمر القولي بالفعل ليبادر به المشركون. وقد كان ذلك مذكرا للمشركين بالسجود لله فسجدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخ السجود فيها بعد ذلك فلم يرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة ، ولخبر زيد بن ثابت وأبي بن كعب وعمل معظم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل المدينة.

١٦٠