تلخيص البيان في مجازات القرآن - المقدمة

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن - المقدمة

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

١
٢

٣
٤

كلمة الناشر

نبدأ بحمده وشكره عز وعلا على موفقيتنا لإعادة طبع الكتب التراثية الاسلامية النادرة فقد عثرنا على نسخة من كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي وقد وجدنا النسخة محققة ومفهرسة وقد بذل جهد على إخراجها وهي نادرة.

وأضفنا إليها ترجمة المؤلف الذي كتبها الحجة الكبير الشيخ عبد الحسين الحلي قدس الله روحه فانها ترجمة تستحق التقدير والإكبار وقد صدرنا هذه الطبعة عن طبعة مصرية طبعت في سنة ١٩٥٥ ونالت إعجاب اهل العلم من حيث التصحيح والتحقيق والفهارس. راجين من الله الاستمرار في خدمة التراث.

ربيع الثاني ١٤٠٦

كانون الثاني ١٩٨٦

دار الأضواء

٥
٦

ترجمة المؤلف

تمهيد

إني لأرى لنفسي شأنا إذا لبيت دعوة ( منتدى النشر ) لأمر ينصر العلم والامة العربية ، ويقوّم الثقافة الدينية والأدبية. أرى له المنة عليّ في تشجيعه وتثبيته اللذين تغلبا على ما خالط هواجسي بادئ بدء : من الهيبة والإحجام عن ترجمة هذا الامام السيد ذي المنقبتين. رهيب ومهيب لدرجة بعيدة هذا الموقف الذي يوقفني فيه أولئك الأفاضل الأفذاذ رجال المنتدى ، لكي أترجم أشهر رجال العراق في عصره بإتقان العلوم الدينية والأدبية وآداب اللغة العربية وبالشمم العربي الهاشمي.

ولو اقامني العلم لأترجم إماما كالغزالي ، او شاعرا كأبي تمام ، او خطيبا مصقعا من فطاحلة الشرق والغرب ، لم آبه أن أخلق لتراجمهم ألفاظا على قدر ، بلا أن أتكلف في تقييد شوارد المعاني مهما بعدت او استعصت ، ولكن خطورة موقفي أني قمت أعرب عن المزايا الفاضلة الجمة التي قلما اتفق اجتماعها في عظماء القرن الذي عاش فيه الشريف : بتحيل نفسيته واستصفائها من الكدر الذي استقر في أعماق الكتب القديمة. وكيف أستطيع تحليل تلك النفسية الممتنعة الفتانة ، والإفصاح عن شيء من نوازعها الجميلة ، والأفكار تمثل لي كل آن ذلك الهيكل الذي تقوم به قد جللته الكبرياء والعظمة وحاطه من شرف النفس

٧

وكرم الاحساب سياج يمنعه من تسرّب الافكار اليه ، والوقوف على برض من عدّ من غرر الخصال التي تفرّد بها. وكيف لي مع هذا أن أقف على مساويه ـ لو كانت ـ التي أحرص على إبدائها ! ومن لي أن تنفتح أمامي الأبواب التي يتطرق القدح منها إليه ! ولئن كنت لا أعتمد إلا أن أفهم ويفهم القارئ من هو « الشريف الرضي » ، بلا أن أتعرض لمدحه أو ذمه ، لأن المدح والذم ليسا مما يتناوله فن التأريخ ، فلست في سعة من تركهما ، إذا كان المترجم مستأثرا بعمل يستوجب الإطراء ، أو مستبدا بما يستدعي المؤاخذة ؛ وإذا استطعت أن استخلص أفكاري من مصائد عظمة الشريف ، فسوف أقرر حياته كما هي بلا إطراء ولا إزراء.

أترجم الشريف أو أفهرس أدوار حياته بجميع مناحيها ، في صحيفة من صحائف أيامي الأخيرة ، وليس بين يدي من معين سوى ديوان شعره الضخم ، وعدة نزرة من المصادر ، محاطة بذكريات لقدمها وتكررها لم تذهب ذهاب ما هو أهم منها وأنفس ، لأني لا أريد أن أعتمد في غالب ما أتوخاه فيها على أقاصيص السيرة وأقاويل التأريخ الفارط التي هي روايات فقط ، وخالية عن كل فقه تأريخي ، والروايات أجدر أن يتطرق إليها الشك ، ولا يعتمد منها إلا على ما يشهد ذلك الديوان بصدقه ، وإلا ما يتفق منها ونتائجه بظاهره أو قرائن أحوال تتصل به. إذا فهو أوفر المصادر نفعا ، وأشدها الى تحقيق الفقه التأريخي قربا.

ولست بناس مع هذا أن الشعر خيال لا ظل له ، ولا يجدي التعمق فيه في استنباط أيّ قضية مجهولة ؛ كما أني لا أغفل عن أن فهم حياة أيّ

٨

فرد وجماعة فهما منطقيا يتوقف كثيرا على الاستعانة بالمنطق ، وعلى الأخذ بالنصيب الأوفر في علم النفس للأفراد وللجماعات ، للاستظهار بهما على فهم روحه من شعره ، وعلى إتقان فهم ملكاته من آثاره. لكني إذا اقتنعت من هذا بالطفيف ، فان في تكرر الأشياء وتأكدها بالأشباه والنظائر وبقرائن الأحوال ، كفاية في تحليل القضايا المبهمة ، واستيضاح الاحكام الغامضة. وعند ما كمل ما توخّيته كتابا لا يستهان بمقداره ولا يستصغر حجمه ، انتقيت منه بمحضر أفاضل رجال المنتدى الموقر هذه النّبذة التي تتقدم أمام كتاب من اجلّ تصانيفه ، ومنه جلّ شأنه آمل المعونة والتوفيق.

نسبه وتأثيره في نفسيته :

الشريف الأجل الرضى ابو الحسن محمد : ابن أبي احمد الطاهر ذي المنقبتين الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم المجاب بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين السبط الشهيد بن علي امير المؤمنين. لا قعدد مثل أبيه في علوّ النسب وصراحته ورسوخ جذوره إلا الإمام المهدي الذي هو الخامس من ولد موسى بن جعفر. وفي نحو من هذه المرتبة ينتهى نسبه من قبل امه ( فاطمة بنت الناصر نقيب بغداد (١) ) ، الى الامام السجاد ذي الثفنات ، في سلسلة نبيلة ، حلقتها الأولى عمر الأشرف بن على بن الحسين ، والاخيرة

__________________

(١) له كتاب المسائل الناصرية في أبواب الفقه على مذهب الامامية ، مائتا مسألة وسبع مسائل.

٩

ابو محمد الحسن الملقب بالناصر الأصغر.

ومهما جاز الشريف من رفعة الاحساب نصيبا ، فإن لهذا النسب الناسق الكريم أثر بليغ في ترفعه وشممه ومحاولاته ، وفي عواطفه وميوله. وإذا استعرضنا من فخرياته ما يدلّ فيه بنسبه ويتمجد بآبائه ، نزداد بصيرة في أن ذلك هو السبب الوحيد لأن يرى نفسه كفؤا لتسنم عرش الخلافة وتبوّؤ أرائكها ؛ ولقد أغرب حتى خاطر بنفسه في ذلك الإدلال ، حينما يدعو الطائع العباسي أبرّ الخلفاء به وبأبيه ، بالأرعن المتسامي ، ولا يعترف له بأي مزيّة توجب التقدمة ، حيث يقول في مادحة لابيه :

ألا إنني غرب الحسام الذي ترى

و غارب هذا الأرعن المتسامي

كلانا له السبق المبرّ الى العلا

و إن كان في نيل العلاء أمامي

و ما بيننا يوم الجزاء تفاوت

سوى انه خاض الطريق أمامي

وبنحو هذا جابه القادر في أبيات مشهورة ، على ما بينهما من الحال القلقة.

إن الشموخ بذلك النسب الوضاح قد أثر في خيال الشريف وشعوره ، فنفخ فيه روحا فاخرة ، ولذلك لا نجده يتجه بكله مرّة الى نظم شيء من شعره ، إلا وتجتذبه تلك الروح القوية ، فتطبع شعره بطابع الفخر الذي مازج شعوره ، وهذا أحد الأسباب التي خوّلته البراعة في الشعر الفخري الحماسي من بين فنون الشعر ، حتى احتكرت له سرير الامارة الممهد.

بأولى النظرات في ديوانه. تجد البذخ قد أخذ بأطرافه ، وأفعم أجوافه ، حتى غص به. ويدلنا قول المطهر بن عبد الله وزير عضد

١٠

الدولة ، لأبى أحمد ـ وهو يلقي القبض عليه ليعتقله في القلعة بفارس ـ : « كم تدل علينا بالعظام النخرة » ، على صدق المثل السائر ( الولد على سرّ أبيه ) . وإن للشريف من الفخر بنفسه من أخلاق وملكات عالية يمتاز بها عن غيره ما يغنيه عن التمجد بآبائه ، وكفى أن نثبت له في هذه النبذة ما ينبئ عنه قوله :

ملكت بحلمي فرصة ما استرقّها

من الدهر مفتول الذراعين أغلب

فحسبي أني للأعادي مبغّض

و أني إلى غرّ المعالي محبب

وقور فلا الالحان تأسر عزمتي

و لا تمكر الصهباء بي حين أشرب

و لا أعرف الفحشاء إلا بوصفها

و لا انطق العوراء والقلب مغضب

تحلّم عن كرّ القوارص شيمتي

كأن معيد الذم بالمدح مطنب

لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى

إذا نال مني العاضة المتوثب

و لست براض أن تمس عزائمي

فضالات ما يعطى الزمان ويسلب

غرائب آداب حبانى بحفظها

زمانى وصرف الدهر نعم المؤدب

مولده. نشأته. أسرته لابيه. أسرته لامه :

ولد الشريف في مدينة السلام : مدينة الثقافة وعاصمة الشرق ، سنة ٣٥٩ ه‍ ، ذلك الزمن الذي امتدت إليه حضارة عصر المأمون ، وأخذ بنصيب وافر من أبهته وجلالة العمران فيه ؛ فاستهل في حجور سامية ، ودرّت عليه فيها أخلاف العفاف الهاشمي ، ودرج من أحضان الحصانة والامانة الى ظل ووارف من الزعامة والعظمة ، فنشأ كما يقول :

١١

فتى لم تورّكه الإماء ولم تكن

أعاريبه مدخولة بالأعاجم

وشب ، وقد استفاد ثقافته النفسية من ذلك المحيط المفعم بالنقباء والأمراء ، والعلماء والأدباء : هم اسرة أبيه بني « موسى بن جعفر الصادق » امام الفقهاء ، واسرة امه بني الناصر الكبير ابى محمد الحسن الأطروش صاحب الديلم شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم وأديبهم ومالك الأمر في بلاد الجبل كله. ونحن لا نغفل عما للاسرة التي تحيط بالرجل ، وما للبيئة التي يعيش فيها ، من التأثير في تربيته في ناحية العلم والأدب وغيرهما ، بل ليس هو إلا ثمرة من ثمار ذلك العصر الذي ولده ، ونامية من ناميات تلك الأرض التي درج عليها ، ولسنا نحتاج أن نذكر الدين ، فان تأثير التربية والبيئة فيه أظهر من أن نشير اليه. وما عليّ إذا تركت المقال في غير الاسرة لغير هذه النّبذة التي لا تناسبها الاطالة !

أما أسرة امه ، فهم اسرة علم وادب وقضاء وفروسية ونسك ورواية ، ومنهم من دوّخ البلاد بحروبه طمعا في الخلافة والملك ، وتم لبعضهم ذلك في الطالقان وفي جبال الديلم (١) ؛ وإياهم يعني الشريف بقوله في مرثية أمه :

آباؤك الغر الذين تفجرت

بهم ينابيع من النعماء

من ناصر للحق أو داع الى

سبل الهدى او فارج الغماء

وما كان الشريف ـ وهو محاط بالمناوءين والحساد ـ ليقول في

__________________

(١) صاحب الطالقان هو محمد بن القاسم الصوفي الزاهد ، والذي ملك الجبل هو الناصر الأكبر الأطروش.

١٢

هؤلاء ما لا يعرفه لهم الناس او ما ينكرونه ، ولعل الكثير من الناس يومئذ رآهم وعرفهم. أما نحن إذا غمّ علينا أمرهم من التأريخ الذي ينوّه بأقدارهم ، فان الشريف نفسه يجلو لنا الحقيقة الناصعة بقوله من مرثية خاله وقد توفى سنة ٣٩١ :

من القوم حلوا في المكارم والعلا

بملتف اعياص الفروع الأطايب

فما شئت من داع الى الله مسمع

و من ناصر للحق ماضى الضرائب

هم استخدموا الأملاك عزا وأرهفوا

بصائرهم بعد الردى والمعاطب

و هم انزلوهم بعد ما امتدّ غيّهم

جماحا على حكم من الدين واجب

واما اسرة أبيه ، فلقد كانت تقترب كثيرا من اسرة الخلافة في الابهة والسلطان ، ويكفي من ذكرها ـ لمعرفة مقدار تأثره بها في التربية والأخلاق ـ ان نذكر أباه ( أبا احمد ) ، الذي ارتبى في كنفه وفي ظل منعته ، وإذا نحن فتشنا عن حاله اصدق المصادر نجدها تثبت له نسكا مشهورا وهيبة ووقارا ، وإرادة قوية وعصبية شديدة ، وأصالة رأي وجدّ في الأعمال ، يستطيع بها ان يتلاعب بالدولة ، ويتجرّأ على مقدراتها. ولهذه الصفات وهذه الملكات سفر ايام ( معز الدولة ) بينه وبين الأتراك ، الذين يحاولون ان يستردوا صولجان الحكم الذي كان بأيديهم في العاصمة. وتوسط الصلح بينه وبين ابى تغلب بن حمدان ، لما شغب في أطراف الجزيرة. وفي ايام ( بهاء الدولة ) سفر بينه وبين صمصام الدولة ، وهو بفارس. وفي هذه السّفارة يقول ولده في احدى روائعه :

رموا به الغرض الأقصى فشافهه

مرّ القطامي جلّى بعد ما لمحا

١٣

من العراق الى أجبال خرّمة

يا بعده منبذا عنا ومطرحا

وأسندت اليه النقابة مرارا (١) ، وتولي المظالم وإمارة الحج ، ولقب بالطاهر ذي المناقب ، والطاهر الأوحد ؛ ولم يلقب بذلك طالبىّ قبله.

وليست هذه المناصب وتلك المناسب هي التي تأخذ بضبع أبى أحمد الى الطول وتولد له العظمة ، بل هو نفسه من رجال الطالبيين الذين اسهموا بالكرامة والجد بالأعمال الجليلة ، ومن الذين تتصل الملوك بهم لتصريف سياستها كما تريد. وناهيك بندبة الخلفاء إياه لتسكين الفتن التي لم تزل متتالية في العاصمة ايام ملوك الديلم كافة بين العسكرين البغدادي والفارسي. وبين الفريقين الشيعة والسنة ، فان ذلك لا يتولاه ذو الجاه المستفاد من السلطان ، والرهبة المجتلبة من القوة فقط ، لأنه يقع بالرغم على ذلك بكثرة ، بل الرجل الذي له مع السلطة والنفوذ أصالة الجاه والرأي معا ، لتحترمهما الخاصة وتذعن لهما العامة ؛ وإلى بعض هذه الفتن يشير ولده الشريف بقوله :

و خطب على الزوراء ألقى جرانه

مديد النواحي مدلهمّ الجوانب

سللت عليه الحزم حتى جلوته

كما انجاب غيم العارض المتراكب

لولاك عليّ بالجماجم سورها

و خندق فيها بالدماء الذوائب

__________________

(١) في شرح النهج انه ولي نقابة الطالبيين خمس مرات ، ومات وهو متقلدها. وهذا وهم منه ، بل قد تولاها ولده في حياته مرارا وبعد وفاته كما سيمر عليك.

١٤

ولتأييد الأدلة على رفعة أبي احمد في نفسه ، علينا أن نلتفت الى توليه إمارة الحج ، التي لا يكفي في استلامها ، وفي القيام بالواجب من شئونها ، أن يكون الأمير ذا جاه مستفاد وذا قوّة مسلحة ومزوّدة بالمال والعتاد ، فان هذا وحده لا يمكّن الأمير من قطع البوادي المترامية التي يتقلص عند التوغل بها نفوذ السلطان ، ولا تنفع فيها القوة والمال مهما توفّرا ، بل لا بد له مع ذلك ان يكون مهابا في نفسه وشجاعا ذائع الصيت ، وان يكون ذا كرامة شخصية وجاه واسع ، وذا صلات قويّة بسراة العرب المتنفذين بأقوامهم ، في تلك البوادي وتلك المضائق والشعاب ، التي لا تجوزها قافلة تحمل الأزواد والأمتعة إلّا بخراج او إتاوة ، او برجل يجير على كافة أهلها.

انا لا يهمني تحديد كرامة ابى احمد الاجتماعية ، لو لا العبور منها الى تربية ولده ، وقد أستدرك على نفسي الإطناب في استنتاجها من تلك المبادئ المرتبكة. ولكن لو حدّدنا كرامته بمفاخر الأسرة ومآثر البسالة والفتوّة ، وما ينضاف الى ذلك من الترفع عن منازع الأطماع والشموخ بغرر الأيادي ، فقط ، لكان كافيا في الحكم على تربية ولده الشريف بالصحة من كل ناحية ؛ فكيف وقصيدته المستهلة بقوله : « وفوا بمواعيد الخليط وأخلفوا » توسّع الدائرة في كرامة أبيه إلى أبعد من ذلك الحد : ففي القصيدة سفاراته وتوسطاته للاصلاح ، وفيها حروبه وإماراته ، وفيها ما في غيرها من مآثر الفتوة والبسالة وما ينضاف إليها ، ونحن إذا رأينا الشريف يمتن بأبيه كثيرا على شرف الدولة وبهاء الدولة ،

١٥

كما يمتن لنفسه ، او كما يتضرر بقوله للبهاء :

ما كان طوقك في جيدي مكان حلى

و إنما يستعار الحلي للعطل

وقوله :

ولي حق عليك فذاك جدّي

قديما في رضاك وذا ثنائى

نذعن لهما بكرامة ذاتية ومجد عصامي لم تجلبه الإمارة ولا النقابة.

أدوار حياته

[١] الدور العضدي. وهو دور النكبة :

قضى الشريف اربعة عقود من عمره مع أبيه ، وكان يتصل بأعماله اكثر من أخيه « الشريف المرتضى » لأن المرتضى رغب ان يتجرد للحياة العلمية المحضة ، مهما كانت حياتهم الاجتماعية قلقة والسياسة مضطربة ، ولو كان له اتجاه سياسي لم يعز عليه شيء من محاولات أبيه. أما الرضي فيحدثنا جامع ديوانه أنه قال وهو ابن عشر سنين :

المجد يعلم أن المجد من أربى

و لو تماديت في غيّ وفي لعب

إذا هممت ففتش عن شبا هممي

تجده في مهجات الأنجم الشهب

إنى لمن معشر إن جمّعوا لعلا

تفرقوا عن نبي او وصي نبى

إن شعر الشريف في صباه كما ينبؤنا أنه سيكون له مستقبل باهر وحظ وافر في ناحية الإجادة والإتقان ، يمثّل لنا منه عقلية كبيرة نافذة ، وإحساسا نابضا ، ونفسا أبية صعبة المراس ذات اتجاهات واسعة وعالية

١٦

في السياسة. وكانت الأمراء وعامة رجال الدولة تقدمه على أخيه ، وترفعه عليه في الإعزاز والاحترام ورعاية الجانب ، لما تحسه فيه من الإباء والعزة والفتوة ـ او على ما يقوله صاحب العمدة : « لمحله من نفوس العامة والخاصة » ـ وعدم قبول أيّما صلة ؛ وقصته مع الوزير المهلبي المشهورة تشهد بذلك (١) .

ولكنه بالرغم على تلك المخائل والإحساسات القوية ، لما فتح عينيه ينظر الى الحياة الحقيقية وجد عضد الدولة ـ عدوّ أبيه ـ هو المتصرف المطلق في مدينة المنصور ، وعمره يومذاك ثمانى سنين ، قضاها في ظل أبيه وحشمة معز الدولة ، حتى تم له ثماني عشرة سنة هي آخر ملك صمصام الدولة التابع لأبيه العضد في الولاء والعداء مهما خفت وطأته.

وهذا من أسوإ الأدوار التي مرت على الشريف وأشدّها بؤسا ، فان أباه وعمه ( أبا عبد الله احمد ) منفيان بفارس ومعتقلان في قلعة منها ، وأملاكهما مصادرة ، واحباؤه واصحاب أبيه قد فتكت بهم تدابير عضد الدولة وعمل فيهم مكره ، فيهم بين حبيس وقتيل.

وقد ذكر عمه وأباه واطراهما عام الاعتقال بقصيدة : « نصافي الأماني والزمان معاند » فانه في أثناء إطرائه لأبيه يقول :

فأقبل والدنيا مشوق وشائق

و اعرض والدنيا طريد وطارد

و ساعده يوم استقل ركابه

اخوه وقال البين : نعم المساعد

__________________

(١) ذكرها صاحب العمدة في كتاب النسب وشارح النهج عن محمد ابن إدريس الحلي.

١٧

هما صبرا والحق يركب رأسه

عشية زالت بالفروع القواعد

وبعد الإفراج عنهما مدحهما بالمستهلة بقوله : « من الظلم أن نتعاطى الخمارا » ، ومنها قوله :

إذا سالم الموت نفسيكما

فلا حارب الدهر الا اليسارا

أصابتكما نكبة فانجلت

و عاودتما العزّ حتى الديارا

لئن جلتما في مكرّ الزمان

فبوّأ كما من مداه العثارا

فما يقرع الجهل إلّا الحليم

و لا ينكت الخرق إلا الوقارا

تفرّق ما لكما في العدا

و شخصكما واحد لا يمارى

إن أبا احمد في دور المستكفي العباسي كان يتمنى لمرتبة بعيدة استيلاء ( معز الدولة بن بويه ) على عاصمة المنصور ، لما كانت تربطه به وبولده ( عز الدولة بختيار ) وشائج المصاهرة. ولكن هذه العلة بالمرتبة الثانية من بغضه للحكم التركي الذي كان يدير دفّته ( تورون ) وأضرابه البعداء عن ابى احمد وعن العرب ، ولذلك ما كان ابو احمد يلوم نفسه إذا سيّر لمعز الدولة وهو بفارس أنباء العاصمة واستنار همته لامتلاكها وسهل له سبيل ذلك ، او إذا عرّفه وهن الخلافة بمدينة السلام ، وإمكان اصطلام الأتراك الذين استلموا صولجان الحكم فيها بدلا عن المستكفي الذي هو صنيعتهم وله الاسم فقط.

وهذا التدخل في شأن تملك المعز هو الذي كان يحقده عضد الدولة على ابى احمد ، وكان العضد لا يحب أبدا أن يؤثر عليه أحد ولا يتقدم عليه حتى المعز نفسه ؛ كما لا يحب أيضا أن تضم نوادي العاصمة

١٨

كل ذي سطوة ونفوذ ضده وكل مشايع لعز الدولة ، الذي قتله واستلم السلطان منه وفتك بكتّابه ووزرائه ونصحائه وذوي رحمه ، ومنهم الشريف ابو احمد ، فانه لكثرة الوشايات عليه او كما يقول ابن ابى الحديد « لاستعظام امره وامتلاء صدره وعينيه به حين قدم العراق » ، صادر املاكه واعتقله بفارس.

لا تسل عن هذا الشاب ، وهو في شرخ الشباب متوقد الذكاء : ما ذا ثرت عليه قضية القلعة بفارس ! ولأي درجة كانت تقلقه ! وكيف كان يصابر تلك المحنة التي لا يستطيع أن يشكو الحزن الذي لحقه لأجلها خشية عضد الدولة ! وإذا قرأت ما نظمه في تلك الفترة تجد الروعة والرهبة ، وتجد الدموع الجارية تترقرق بين كلماته ، وليس فيها من أمر عضد الدولة إلا الكناية والرمز ، حتى لقد كان يتقي أن يفصح بموته ، ولا يعبّر لأبيه إلا بمثل قوله : « إن ذا الطود بعد بعدك ساخا » . ولكن اندفاعاته الحماسية الملتهبة ظهرت جلية ناصعة فيما نظمه عند الإفراج عن أبيه وفي استقباله وعند عودته الى بغداد ، ولعلما كان أدنى توجع له في ذلك الشأن قوله في إحدى ما نظمه يومئذ :

لو شاب طرف شاب اسود ناظري

من طول ما أنا في الحوادث ناظر

أو أن هذي الشمس تصبغ لمّة

صبغت شواتي طول ما انا حاسر

أو كان يأنس بالانيس أوابد

يوما لزمّ لي النعام النافر

قد أكدت الأرض الخصبة على الشريف ، وأظلمت بعينيه الطريتين آفاقها المضيئة وضاقت الأجواء الواسعة. ولكن من ذا يمونه ، وما ذا

١٩

يموّله واملاك أبيه مصادرة ويده مقبوضة ؟ ولا احسبه لترفعه وشممه يقبل هبات أسرته الكبيرة الطائلة الثروة ، وهو لا يدلنا ولا غيره على مرتزق له من ثراء او مال مدّخر ، سوى انه يشكو الوحشة لأبيه بمثل قوله :

أكدت علي الأرض من أطرافها

و تدرّعت بمدارع الأظلام

أشكو وأكتم بعض ما انا واجد

و أعاف أن أشكوا من الإعدام

وإذا كان الشريف يستشعر الاعدام ولا يشكوه لأحد ، فمن العبث محاولتنا معرفة ما يرفعه يومئذ ، ومن الشذوذ عن الخطة التعرض لما لا يهم ، كأمر الاعالة والاعاشة. والأرجح أن أمه ( فاطمة بنت الناصر ) هي التي كانت تقوم بشأنه وشأن أخيه المرتضى ، مما ادخرته لنفسها او من الاملاك التي ورثتها من آبائها ، وإذا كانت السيرة تنبؤنا بأنها كانت تدأب جدا في إرشادهما لتحصيل العلوم الدينية ، وتتوسل الى رجال العلم والدين أن يعلموهما وهما غلامان حدثان ، فهي جديرة أن تمونهما في سبيل التربية والتهذيب كما هي ـ بلا تردد ـ تقص عليهما مآثر أسرة نفسها وأسرة زوجها حبيس الأحقاد والوشايات ، وتمنّيهما الأماني التي تدل مخايلهما من جهة الذكاء وبعد الهمة على الحصول عليها. ولقد جزع الشريف لوفاتها سنة ٣٨٥ ورثاها بقصيدة تنبئ عن حزنه ولوعته وعما أومأنا إليه من بذل المال والسعي في سبيل تربيتهما ، وذلك حينما يقول :

و من المموّل لي إذا ضاقت يدي

و من المعلّل لي من الأدواء

و من الذي إن ساورتني نكبة

كان الموقّي لي من الأسواء

٢٠