تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

لا يخلو عن شيء.

[ الثالثة : ] أن تكون عبارته واضحة صحيحة ، يعرفها العامّة ، ولا يزدريها الخاصّة ، وليحترز من القلاقة والاستهجان. كذا قاله أيضا في المنية (١) .

ولا بأس به.

[ الرابعة : ] إذا كان في المسألة تفصيل لا يطلق الجواب ، فإنّه خطأ ، ثمّ له أن يستفصل السائل إن حضر ، ويعيد السؤال في رقعة اخرى إن كان السؤال في رقعة ثمّ يجيب.

وهذا أولى وأسلم.

وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنّه الواقع للسائل ، ثمّ يقول : « هذا إن كان الأمر كذا » ، أو « والحال ما ذكر » ونحو ذلك ، وله أن يفصّل الأقسام في جوابه ، ويذكر حكم كلّ قسم ، لكن هذا كرهه بعضهم ، وقال : هذا يعلّم الناس الفجور بسبب اطّلاعهم على ما يضرّ من الأقسام وينفع. كذا ذكره أيضا في المنية (٢) .

ولعلّه لا بأس به وإن كان الحكم بالكراهة ـ ولا سيّما بعنوان الإطلاق كما نسب إلى البعض ـ لا يخلو عن إشكال.

[ الخامسة : ] إذا كان في الرقعة مسائل ، فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ، ولو ترك الترتيب مع التنبيه على متعلّق الجواب فلا بأس ، ويكون من قبيل قوله تعالى : ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ (٣) الآيتين. كذا ذكره أيضا في المنية (٤) .

ولا بأس به.

[ السادسة : ] قال بعضهم : ليس من الأدب كون السؤال بخطّ المفتي ، فأمّا بإملائه وتهذيبه فواسع. كذا ذكره أيضا فيها (٥) .

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩١ ـ ٢٩٤.

(٢) منية المريد ، ص ٢٩٤.

(٣) آل عمران (٣) : ١٠٦.

(٤) منية المريد ، ص ٢٩٤.

(٥) منية المريد ، ص ٢٩٤.

١٦١

ولا بأس به.

[ السابعة : ] ليس له أن يكتب السؤال على ما عمله من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرّض له ، بل على ما في الرقعة ، فإن أراد خلافه قال : « إن كان الأمر كذا ، فجوابه كذا » .

واستحبّوا أن يزيد على ما في الرقعة ما له تعلّق بها ممّا يحتاج إليه السائل ؛ لحديث :

« هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته » (١) . كذا قاله أيضا فيها (٢) .

[ الثامنة : ] إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ، ويصبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه ؛ فإنّ ثوابه جزيل. كذا قاله أيضا فيها (٣) .

ولا بأس به.

[ التاسعة : ] ليتأمّل الرقعة كلمة كلمة تأمّلا شافيا ، وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشدّ ، فإنّ السؤال في آخرها ، وقد يتقيّد الجميع به ويغفل عنه ، قال بعض العلماء : وينبغي أن يكون توقّفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده. كذا قاله أيضا فيها (٤) .

ولا بأس به.

[ العاشرة : ] إذا وجد فيها كلمة مشتبهة ، يسأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها.

وكذا لو وجد لحنا أو خطأ يختلّ المعنى أصلحه ، وإن رأى بياضا في أثناء سطر أو آخره خطّ عليه أو شغله ؛ لأنّه ربما قصد المفتي بالإيذاء ، فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها ، كما نقل أنّ ذلك وقع لبعض الأعيان. كذا قاله أيضا فيها (٥) .

ولا بأس به.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ١٣٦ ـ ١٣٧ ، كتاب الطهارة وسننها ، الباب ٣٨ ح ٣٨٦ و٣٨٨ ؛ المستدرك على الصحيحين ، ج ١ ، ص ١٤١ ـ ١٤٣ ؛ مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٣٦١ وج ٣ ، ص ٣٧٣ ؛ سنن أبي داود ، ج ١ ص ٢١ ، كتاب الطهارة ، ح ٨٣.

(٢) منية المريد ، ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٣) المصدر.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

١٦٢

[ الحادية عشرة : ] يستحبّ أن يقرأها على حاضريه ، ممّن هو أهل لذلك ، ويستشيرهم ويباحثهم برفق وإنصاف وإن كانوا دونه وتلامذته ؛ للاقتداء بالسلف ، ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه ؛ فإنّ لكلّ خاطر نصيبا من فيض الله تعالى ، إلّا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه ، أو يؤثر السائل كتمانه ، أو في إشاعته مفسدة. كذا قاله أيضا فيها (١) .

ولا بأس به.

[ الثانية عشرة : ] ليكتب الجواب بخطّ واضح وبسط ، لا دقيق خاف ، ولا غليظ جاف ، ويتوسّط في سطورها بين توسعتها وتضييقها. واستحبّ بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطّه ؛ خوفا من التزوير ، ولأن لا يشتبه خطّه. كذا قاله أيضا فيها (٢) .

ولا بأس به.

[ الثالثة عشرة : ] إذا كتب الجواب أعاد نظره فيه وتأمّله ؛ خوفا من اختلال وقع فيه ، أو إخلال ببعض المسئول عنه ، ويختار أن يكون ذلك قبل كتابة اسمه وختم الجواب.

كذا قاله أيضا فيها (٣) .

ولا بأس به.

[ الرابعة عشرة : ] إذا كان هو المبتدي ، فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى من الرقعة ، ولا يكتب فوق البسملة أو نحوه بحال. كذا قاله أيضا فيها (٤) .

ولا بأس به.

[ الخامسة عشرة : ] يستحبّ عند إرادة الإفتاء أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ويسمّي الله تعالى ويحمده ، ويصلّي على النبيّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويدعو ويقول : ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... (٥) الآية.

وكان بعضهم يقول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ﴿ سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩٦.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

(٤) المصدر.

(٥) طه (٢٠) : ٢٥.

١٦٣

ما عَلَّمْتَنا (١) ... ﴿ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ (٢) ... الآية ، اللهمّ صلّ على محمّد وآله وصحبه وسائر النبيين والصالحين ، اللهمّ وفّقني واهدني وسدّدني واجمع لي بين الصواب والثواب ، وأعذني من الخطأ والحرمان. كذا قاله أيضا فيها (٣) .

ولا بأس به.

[ السادسة عشرة : ] أن يكتب في أوّل فتواه : « الحمد لله » أو : « الله الموفّق » أو : « حسبنا الله » أو : « حسبي الله » أو : « الجواب وبالله التوفيق » أو نحو ذلك.

وأحسنه الابتداء بالتحميد ؛ للحديث.

وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه ، ثمّ يختمه بقوله : « والله أعلم » ، أو : « وبالله التوفيق » ويكتب بعده : « قاله أو كتبه فلان بن فلان الفلاني » فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو صفة ، ونحوها. كذا قاله أيضا فيها (٤) .

ولا بأس به.

[ السابعة عشرة : ] ينبغي أن يختصر جوابه غالبا ، ويكون بحيث يفهمه العامّة فهما جليّا ، حتّى كان بعضهم يكتب [ تحت أ يجوز ؟ ] : يجوز ، و: لا يجوز ، وتحت : أم لا ؟ : لا ، أو : نعم ، ونحوها. كذا قاله أيضا فيها (٥) .

ولا بأس به.

[ الثامنة عشرة : ] قال بعضهم : إذا سئل عمّن قال : أنا أصدق من محمّد بن عبد الله ، أو : الصلاة لعب ، ونحوها ممّا ينبغي إراقة دمه ، فلا يبادر بقوله : هذا حلال الدم ، أو : عليه القتل ، بل يقول : إن ثبت ذا بإقراره أو ببيّنة كان الحكم كذا. وإذا سئل عمّن تكلّم بشيء يحتمل الكفر وعدمه ، قال : يسأل هذا القائل ، فإن قال : أردت كذا ، فالجواب كذا وكذا. وإن سئل عمّن قتل أو قلع عينا أو غيرها ، احتاط وذكر شروط القصاص.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٣٢.

(٢) الأنبياء (٢١) : ٧٩.

(٣) منية المريد ، ص ٢٩٦ و٢٩٧.

(٤) المصدر.

(٥) منية المريد ، ص ٢٩٧.

١٦٤

وإن سئل عمّن فعل ما يقتضي تعزيرا ذكر ما يعزّر به ، فيقول : يضرب كذا وكذا ، لا يزاد على كذا. كذا قاله أيضا فيها (١) .

ولا بأس به.

[ التاسعة عشرة : ] إذا سئل عن ميراث ، فليست العادة أن يشترط في الإرث عدم الرّقّ والكفر وغيرهما من موانع الميراث ، بل المطلق محمول على ذلك ، بخلاف ما إذا اطلق الإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم ، فلا بدّ أن يقول في الجواب : من أبوين ، أو أب ، أو أمّ.

وإن كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث ، أفصح بسقوطه ، فيقول : وسقط فلان ، وإن كان يسقط بحال دون حال ، قال : وسقط فلان في هذه الحالة ، أو نحو ذلك ؛ لأن لا يتوهّم أنّه لا يرث بحال.

وإذا سئل عن إخوة وأخوات وبنين وبنات ، فلا ينبغي أن يقول : للذّكر مثل حظّ الانثيين ، فإنّ ذلك قد يشكل على العاميّ ، بل يقول : يقتسمون التركة على كذا وكذا سهما ، لكلّ ذكر سهمان ولكلّ انثى سهم مثلا ، ولو أتى بلفظ القرآن فلا بأس به أيضا ؛ لقلّة خفاء معناه ، وإن كان الأوّل أوضح.

وينبغي أن يقول أوّلا : « تقسّم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من وصيّة أو دين إن كانا ... » إلى آخره. كذا قاله أيضا فيها (٢) .

ولا بأس به.

[ العشرون : ] ينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء ، ولا يدع فرجة ؛ لأن لا يزيد السائل شيئا يفسدها ، وإذا كان موضع الجواب ملصقا كتب على موضع الإلصاق ، وإذا ضاق الجواب فلا يكتبه في ورقة اخرى ، بل في ظهرها أو حاشيتها ، وإذا كتبه في ظهرها كتبه في أعلاها ، إلّا يبتدئ من أسفلها متّصلا بالاستفتاء فيضيق الموضع ، فيتمّم في

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩٧.

(٢) منية المريد ، ص ٢٩٨ و٢٩٩.

١٦٥

أسفل ظهرها ؛ ليصل جوابه. كذا قاله أيضا فيها. (١)

[ الحادية والعشرون : ] إذا ظهر للمفتي أنّ الجواب خلاف غرض المستفتي ، وأنّه لا يرضي بكتابه في ورقته ، فليقتصر على مشافهته بالجواب ، وليحذر أن يميل في فتواه أو خصمه بحيل شرعيّة ، فإنّه من أقبح العيوب وأشنع الخلال ، ومن وجوه الميل أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما هو عليه.

وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبيّنات بوجوه المخالص منها ، ولا أن يعلم أحدهما به يدفع به حجّة صاحبه ، كيلا يتوصّل بذلك إلى إبطال حقّ.

وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقا ينفعه ، ولا يضرّ غيره ضررا بغير حقّ ، أن يرشده إليه ، كمن حلف لا ينفق على زوجته شهرا حيث ينعقد اليمين ، فيقول : أعطها من صداقها أو قرضا أو بيعا ، ثمّ أبرئها منه ، وكما حكي أنّ رجلا قال لبعض العلماء : حلفت أن أطأ امرأتي في نهار رمضان ، ولا اكفّر ولا أعصي ، فقال : سافر بها. كذا قاله أيضا فيها (٢) .

ولا بأس به.

[ الثانية والعشرون : ] إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العاميّ بما فيه تغليظ وتشديد ـ وهو ممّا لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ـ جاز ذلك ؛ زجرا وتهديدا في مواضع الحاجة ، حيث لا يترتّب عليه مفسدة ، كما روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنّه سأله رجل عن توبة القاتل ، فقال : لا توبة له. وسأله آخر ، فقال : له توبة. ثمّ قال : أمّا الأوّل فرأيت في عينه إرادة القتل ، فمنعته. وأمّا الثاني فجاء مسكينا قد قتل ، فلم اقنّطه.

لكن يجب عليه التورية في ذلك ، فيقول : لا توبة له ، أي في حالة إصراره على الذنب ، أو : وهو يريد القتل ، ونحو ذلك. كذا قاله أيضا فيها (٣) .

ولا بأس به.

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩٩.

(٢) منية المريد ، ص ٢٩٩ و٣٠١.

(٣) المصدر.

١٦٦

[ الثالثة والعشرون : ] إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا ، ولم يحضر صاحب الواقعة ، قيل : يكتب : « يزاد في الشرح لنجيب عنه » أو : « لم أفهم ما فيها » . وعلى تقدير أن يكتب ، فلتكن الكتابة في محلّ لا يضرّ بحال الرقعة.

وإذا فهم من السؤال صورة ، وهو يحتمل غيرها ، فلينصّ عليها في أوّل جوابه ، فيقول : إن كان قال كذا ، أو فعل كذا ، وما أشبه ذلك ، فالأمر كذا وكذا ، أو يزيد : وإلّا فكذا وكذا. كذا قاله أيضا فيها (١) .

ولا بأس به.

[ الرابعة والعشرون : ] ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه حجّة مختصرة ، قريبة من آية أو حديث ؛ ومنعه بعضهم ؛ ليفرق بين الفتيا والتصنيف ؛ وفصّل بعضهم فقال : إن أفتى عاميّا لم يذكر الحجّة ، وإن أفتى فقيها ذكرها. وهو حسن ، بل قد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدّد ويبالغ ، فيقول : هذا إجماع المسلمين ، أو : لا أعلم في هذا خلافا ، أو : من خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل الصواب ، أو الإجماع ، أو فقد أثم ، أو فسق ، أو : وعلى وليّ الأمر أن يأخذ بهذا ، لا يهمل الأمر ، وما أشبه هذه الألفاظ ، على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال. كذا قاله أيضا فيها (٢) .

ولا بأس به.

البحث الثالث

فيما يتعلّق به من الأحكام

ونذكرها في ضمن مسائل :

[ الاولى : ] الإفتاء من الجامع لجميع الشروط مشروع ؛ بالكتاب ، والسنّة المعتبرة

__________________

(١) منية المريد ، ص ٣٠١.

(٢) المصدر.

١٦٧

القطعيّة وغيرها ، والإجماع ، والعقل ولو في الجملة.

وهل هو واجب ؟

المعتمد : نعم ، بلا خلاف فيه بين القائلين بمشروعيّة التقليد ، كما عن مجمع الفائدة مطلقا (١) ، بل عليه الإجماع القاطع ، كما في صريح المفاتيح (٢) ، ويظهر من كلماتهم (٣) .

وهو الحجّة ، كغيره من الأدلّة القطعيّة وغيرها المعتبرة.

وهل هو واجب عينا ، أم كفاية ؟

المعتمد : هو الثاني ؛ وفاقا للمعظم ، بل ولعلّه لا خلاف فيه بين القائلين بجواز التقليد ، والقائلين بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفاية ، بل ولعلّه موضع وفاق كذلك ، كما صرّح به في المفاتيح مطلقا (٤) ، ويظهر من كلام جماعة يأتي إليهم الإشارة في جواز التقليد للعامي ومن بحكمه وغيرهم من الجماعة أيضا.

وهو الحجّة ؛ مضافا إلى غيره من الوجوه :

منها : العمومات الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٥) ؛ بناء على وجوبهما كفاية ، كما هو الحقّ والمختار ، وكون الإفتاء أيضا من أفراده كما لا يخفى.

ومنها : أنّه لو كان وجوبه عينيّا ، لزم عدم وجوب الإفتاء أصلا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم.

أمّا الملازمة : فلأنّ الإفتاء إمّا للمجتهد والمفتي ، وإمّا للعاميّ ومن بحكمه ؛ ضرورة انتفاء الواسطة ، ولا سبيل إلى [ انتفاء ] الأوّل ؛ لما تقدّم وسيأتي من عدم صحّة الفتوى بالإضافة ، ووجوب العمل على هذا المفتي بما أدّى إليه اجتهاده ،

__________________

(١) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٢ ؛ وهو في مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٧ ، ص ٥٤٦.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٢.

(٣) انظر تحرير الأحكام الشرعيّة ، ج ٢ ، ص ٢٤٣ ، وتذكرة الفقهاء ، ج ٩ ، ص ٤٤٩ ، كلاهما للعلّامة الحلّي.

(٤) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٢.

(٥) انظر وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١١٧ ، أبواب الأمر والنهي وما يناسبها ، الباب ١.

١٦٨

فيتعيّن أن يكون الإفتاء للعاميّ ومن بحكمه ، وعلى تقدير العينيّة وجب على العاميّ ومن بحكمه أيضا الإفتاء والاجتهاد ، ومعهما لا يجوز له العمل بفتوى الغير ؛ لما قد عرفت ، ويلزمه سقوط وجوب الإفتاء رأسا ، كما لا يخفى ، وهل هذا إلّا الملازمة المدّعاة.

اللهمّ إلّا أن يخصّ الوجوب العيني بالمفتين والمجتهدين خاصّة ، وهو كما ترى ؛ فافهم.

وأمّا بطلان اللازم : فلأنّ المفروض وجوبه بحكم ما مرّت إليه الإشارة ؛ فتدبّر.

ومنها : أنّه لو كان وجوبه عينيّا لزم عدم مشروعيّة التقليد للعاميّ ومن بحكمه ووجوب الاجتهاد ؛ واللازم باطل ، فكذا الملزوم.

أمّا الملازمة : فظاهرة ؛ إذ معنى الوجوب العيني إنّما هو وجوب ذلك على كلّ واحد من المكلّفين بخصوصه ، وعدم سقوطه بوجود من يقوم به الكفاية ، ويلزمه ما قلناه.

وأمّا بطلان اللازم : فلما ستقف عليه في محلّه من الوجوه الكثيرة الدالّة على مشروعيّة التقليد وعدم وجوب الاجتهاد والإفتاء عينا مطلقا.

اللهمّ إلّا أن يخصّ الوجوب العيني بالمفتين والمجتهدين خاصّة ، دون المستفتين والمقلّدين ، فيتّجه منع الملازمة.

ولكنّه كما ترى بمكان من الضعف ، لا سيّما بعد ملاحظة الأدلّة الآتية هناك ، الدالّة على عدم وجوبه العيني ، خلافا إمّا لمن سيأتي هناك ، أو لمن قال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عينا ، فالأوّل هو ضعيف في الغاية ، خصوصا بعد ملاحظة ما سيأتي إليه الإشارة ثمّة ؛ فتنبّه.

[ الثانية : ] كما يجب الإفتاء ، فكذا يجب كذلك تحصيل مرتبته ، كما صرّح به شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية (١) .

ولعلّه لا خلاف فيه فيما أعلم ؛ للأخبار الكثيرة المتظافرة ، أو المتواترة بالمعنى ،

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩١.

١٦٩

الدالّة على وجوب طلب العلم ، وكونه فريضة على كلّ مسلم ومسلمة (١) .

مضافا إلى وجوب مقدّمة الواجب ولو عقلا ، وظواهر بعض الآيات والأخبار الآتية.

[ الثالثة : ] إذا انحصر المفتي الجامع للشرائط في واحد ، وتوقّف عمل المقلّد اللازم ـ من عبادة أو معاملة ـ على فتواه بحيث لولاها لم يتمكّن من الإتيان بذلك العمل اللازم ، تعيّن عليه الإفتاء والجواب عن مسألة ، وصار الواجب الكفائي عينيا بالإضافة إليه ، بلا خلاف فيه فيما أعلم ؛ لأنّ الواجب الكفائي إنّما يسقط بفعل بعض المكلّفين وبقيام البعض ، وإلّا خوطب الجميع به اتّفاقا (٢) ـ كما يظهر من الجماعة ـ وأثموا بتركه ، بلا خلاف ظاهر فيه ، فحيث لا يوجد إلّا واحد ، فهو المخاطب به على التعيين ، ولا يجوز له الامتناع حينئذ.

[ الرابعة : ] إذا تعدّد المفتي الجامع للشرائط المعتبرة في الصحّة والوجوب ، وتوقّف عمل المقلّد اللازم ـ من عبادة أو معاملة ـ على الفتوى ، وجب على جميعهم الإفتاء ما لم يعيّن المستفتي واحدا منهم ، بلا خلاف ظاهر أجده فيه ؛ لما مرّ ، فإذا أقام به بعضهم سقط عن الباقين ، بلا خلاف فيه أيضا فتوى ودليلا.

[ الخامسة : ] إذا تعذّر المفتي ولم يتمكّن من الإفتاء إلّا واحد منهم ، أو لم يتمكّن المستفتي من الرجوع إلّا إلى واحد منهم ، وكان عمله اللازم متوقّفا على الاستفتاء والعمل بفتواه ، تعيّن ذلك عليه ، بلا خلاف أجده فيه ؛ لما مرّ.

[ السادسة : ] إذا تعدّد المفتي ، فرجع المقلّد الواجب عليه التقليد إلى أحدهم خاصّة ، مع علمه بوجود الآخر ، ففي تعيين الجواب على المرجوع إليه ، فيكون استفتاء هذا المفتي أيضا سببا لصيرورة الواجب الكفائي عينيّا ، وعدمه فتكون الكفاية

__________________

(١) انظر المحاسن ، ص ٢٢٥ ، ح ١٤٦ ؛ بصائر الدرجات ، ص ٢٢ ، ح ١ ؛ الكافي ، ج ١ ، ص ٢٩ ، باب فرض العلم ، ح ١.

(٢) انظر مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٢. ولتسهيل الخطب انظر كفاية الاصول ، ص ١٤٣.

١٧٠

باقية ؟

قال شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية : وجهان (١) .

وقال السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح : المعتمد : هو الثاني (٢) .

وهو المتّجه ، إلّا فيما أراد المقلّد هذا المفتي بخصوصه ، أو لفقد أعلميّته أو أورعيّته من غيره ، فيحتمل حينئذ قويّا التعيين ، كما فيما لو اعتقد انحصار المفتي الجامع للشرائط فيمن استفتى منه ، مع عدم انحصاره في الواقع.

نعم ، لو قيل بفوريّة هذا الوجوب ، أو قيل بأنّ الواجب الكفائي قبل قيام الغير به إنّما هو عينيّ أو بحكمه ، إنّما يفارقه بعده ـ كما لا يخلو عن وجه ـ لكان هو المتعيّن مطلقا.

[ السابعة : ] هل يختصّ وجوب الإفتاء ـ عينيّا كان أم كفائيّا ـ بما إذا كان المحتاج محتاج إليه في مقام الاستفتاء والعمل من الوجوب والحرمة خاصّة ، أم لا ، بل يشمله والكراهة والاستحباب والإباحة خاصّة ، أو يشمل جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، تكليفيّة كانت أم وضعيّة ، عبادة كانت أم معاملة ؟

أوجه واحتمالات.

أخيرها أحوطها ، بل وأجودها أيضا ؛ لإطلاق ما وقفت عليه من الفتاوى ، وعموم كثير من الأدلّة الآتي إليها الإشارة.

وربما قيل بالأوّل ؛ للأصل المندفع ـ إن تمّ ـ بما مرّ.

[ الثامنة : ] هل يختصّ الوجوب كذلك بما يحتاج إليه المقلّد ، أم لا ، بل يشمله وغيرها أيضا ، حتّى الامور التي هي وظيفة المجتهد ، ككيفيّة قطع الدعوى بين المتخاصمين ونحوها ؟

صرّح السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح بالأوّل (٣) ، ولعلّه

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩١.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٢.

(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٣.

١٧١

المعتمد ؛ للأصل السليم هنا عن المعارض ، المعتضد بالاستصحاب والعمومات.

[ التاسعة : ] هل يختصّ الوجوب بما إذا علم احتياج المقلّد المستفتي في العمل إليه ، فلا يجب الإفتاء في غيره ، أم يشمله وما إذا ظنّ به أيضا ، أم يشمله وما شكّ فيه أيضا ، أم يشمله وما لم يعلم عدمه أيضا مطلقا ؟

أوجه واحتمالات.

أخيرها أحوطها ، وإن كان تعيينه لا يخلو عن إشكال.

اللهمّ إلّا أن يتمّ العموم بحيث يشتمل الأخير ؛ فيتعيّن. ولكنّه محلّ التأمّل.

[ العاشرة : ] هل الوجوب حيثما قلنا به على سبيل الفور ، أم لا ، بل مطلق ؟

لم أقف على من تعرّض له ، ولكن لو قيل بدورانه مدار احتياج المقلّد السائل ـ فمع بلوغ وقت الحاجة وضيقه يكون فوريّا ، ومع عدمهما يكون مطلقا موسّعا ـ لكان حسنا.

[ الحادية عشرة : ] هل الوجوب حيثما قلنا به مشروط بما تمكّن منه بسهولة ، فلو زاد عليه الفتوى بما لا يتمكّن منه أصلا ، أو مع الحرج والعسر الشديدين ، سقط وجوب الزائد ؟

المعتمد : نعم ، بلا خلاف أجده فيه ؛ للاصول ، والعمومات النافية للتكليف بما لا يطاق ، وللعسر والحرج في الشريعة السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، فلو اجتمع رقاع بحضرته ، فاللازم عليه فيما وجب عليه الإفتاء أن يقدّم الأسبق فالاسبق إن علم الترتيب ، والسابق واللاحق ما لم يرض أصحابها بالخلاف ، كما يفعله القاضي في الخصوم ؛ وإن تساووا أو جهل السابق ، قال الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية : اقرع ، وقيل : تقدّم امرأة ومسافر شدّ رحله ، ويتضرّر بتخلّفه عن الرفقة ونحوهما ، إلّا إذا كثروا بحيث يتضرّر غيرهم تضرّرا ظاهرا ، فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة ، ثمّ لا يقدّم أحدا إلّا في فتيا واحدة (١) . انتهى.

ولعلّه لا بأس به إن شاء الله.

__________________

(١) منية المريد ، ص ٣٠٠.

١٧٢

[ الثانية عشرة : ] هل الوجوب أيضا مشروط بالأمن من الضرر الذي يسقط به سائر التكاليف على الإفتاء ، كما لو خاف على نفسه أو ماله الذي يتضرّر بفقده ، أو على أحد المؤمنين ، فلا يجب حينئذ الإفتاء مطلقا ؟

المعتمد : نعم ، وفاقا لصريح جماعة (١) ؛ للأصل ، أو الاصول ، والعمومات النافية للضرر والضرار ، أو الإضرار في الشريعة ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة.

[ الثالثة عشرة : ] هل الوجوب مختصّ بالإفتاء بمذهب الحقّ وفي حقّهم ، فلا يجب بمذهب أهل الخلاف وفي حقّهم حيثما انجرّ الأمر إليه ؟

فيه إشكال ، خصوصا فيما إذا كان الإفتاء بالقتل بغير الحقّ في مذهبنا ، وبالحقّ في مذهبهم.

والذي يقتضيه التحقيق بزعم العبد : أنّه إن تمكّن من السكوت أو التجاهل ، تعيّن عليه هذا ، وإلّا ـ كما لو خاف على نفسه أو ماله المتضرّر بفقده في صورة عدم الإفتاء ـ تعيّن عليه ؛ للضرورة والتقيّة وغيرهما من الاصول ، إلّا في الصورة المشار إليها ، فلا يجوز له الإفتاء ؛ إذ لا تقيّة في الدماء قولا واحدا فتوى ونصّا.

[ الرابعة عشرة : ] هل الوجوب مختصّ بما لا حاجة له في عمله اللازم عليه أو المحتاج إلى حكمه واستنباطه حين السؤال والاستفتاء ، فلا يجب عليه الإفتاء في هذه الصورة إلّا بعد الفراغ من استنباط الحكم لنفسه ؟

المعتمد : نعم ، وفاقا لظاهر السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (٢) ؛ لتقدّم نفسه على غيره إلّا فيما إذا كان الحكم المسئول عنه معلوما له ولو حكما غير محتاج إلى تحصيله ولا يخلّ الإفتاء والجواب عنه كتحصيله مع احتياجه إليه بتحصيله لما احتاج هو إليه ، فحينئذ عليه الإفتاء وتحصيله حيثما احتاج إليه كذلك ؛ لعموم ما دلّ عليه.

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٣.

(٢) المصدر.

١٧٣

[ الخامسة عشرة : ] هل الوجوب حيثما قلنا به مطلق ـ كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، فيجب من باب المقدّمة تحصيل مقدّماته من غير عسر وحرج يشقّ تحمّلها عادة ـ فيجب الاجتهاد وتحصيل مقام الإفتاء فيما لم يعلم ، أو مشروط ـ كالزكاة بالنسبة إلى النصاب ، والحجّ بالإضافة إلى الاستطاعة ـ فلا يجب إلّا بعد العلم بالحكم ؟

قال سيّدنا العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح : فيه إشكال ، ولكنّ الأحوط : الأوّل حيث يتمكّن من تحصيل المقدّمات من غير عسر ولا حرج ، بل لا يخلو عن قوّة (١) . انتهى.

أقول : وما عدّه أحوط وقوّاه هو المعتمد ؛ لظواهر كثير من الآيات والأخبار الآتية ، الدالّة على وجوب الإفتاء والحكم بما أنزل الله بقول مطلق ، مضافا إلى الاستقراء والاعتبار وغيرهما ، ممّا سيأتي إليه الإشارة ؛ فتأمّل.

فلو صلح للإفتاء واحد ، ولكن جهل الناس والمقلّدون به ولم يعرفوه ، وجب عليه ولو من باب المقدّمة الإعلام فيما لو فقد غيره الصالح له ولو باعتقاده ، أو اعتقادهم ؛ لما دلّ على وجوب مقدّمة الواجب المطلق عقلا ، وفي غير ذلك إشكال وإن كان الأحوط حينئذ الإعلام.

ولو صلح جماعة للإفتاء ، والحال هذه ، فهل يكفي إعلام بعضهم بنفسه ؟

المعتمد : نعم إن حصل الكفاية ، وإلّا وجب الإعلام بقدر ما يحصل به الكفاية.

[ السادسة عشرة : ] حيثما يجب على المفتي الإفتاء عينا ، لو ترك لا لعذر أثم بتركه الواجب عليه ، فإن جعلناه كبيرة أو أصرّ عليه فسق وخرج عن أهليّة الإفتاء ؛ لفوات العدالة ، ومع هذا لا يسقط عنه الوجوب ؛ لقدرته على تحصيل الشرط بالتوبة.

مضافا إلى الأصل والعمومات ، فإذا تاب ورجعت العدالة وجب عليه الإفتاء وصحّ ؛ لوجود المقتضي وفقد المانع ، كما هو المفروض.

وكذلك الحال فيما لو وجب كفاية ، كما لو تعذّر المفتي الجامع للشرائط ، فبإخلال

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٣.

١٧٤

الجميع كذلك يأثم الجميع ، ويخرج عن أهليّة الإفتاء إن جعلناه كبيرة أو أصرّ عليه ، ومع هذا لا يسقط عنه كذلك ؛ لذلك ، وإذا تاب وآب العدالة ، وجب عليه الإفتاء وصحّ ؛ لذلك.

[ السابعة عشرة : ] إذا لم يكن في الناحية مفت ، وجب كفاية السعي على كلّ مكلّف بما يمكنه من تحصيل شرائطه ، فإن أخلّوا جميعا بالسعي ، اشتركوا جميعا في الإثم والفسق كما مرّ ، ولا يسقط هذا الوجوب عن البعض باشتغال البعض ، بل بوصوله إلى المرتبة ؛ للأصل ؛ ولجواز أن لا يصل المشتغل إليها بموت وغيره.

وهل يكفي في سقوط الوجوب ظنّ الوصول ؟

المعتمد ـ وفاقا لشيخنا الشهيد الثاني في المنية ـ : لا ، وإن قلنا بالاكتفاء به في القيام بفرض الكفاية (١) ؛ للأصل ، وعدم العبرة بهذا الظنّ.

نعم ، لو ثبت بالظنّ المعتبر الوصول الكافي ، أو أوجب عدم اعتبار الظنّ الوصول في سقوطه الحرج والعسر الشديدان أو الضرر بما يشقّ تحمّله عادة ، احتمل قويّا السقوط حينئذ ؛ فتفطّن.

[ الثامنة عشرة : ] قال شيخنا الشهيد الثاني في المنية : لا يجوز أن يفتي بما يتعلّق بألفاظ الأيمان والأقارير والوصايا ونحوها ، إلّا من كان من أهل بلد اللافظ ، أو خبيرا بمرادهم في العادة ، فتنبّه له فإنّه مهمّ (٢) . انتهى.

وهو جيّد.

[ التاسعة عشرة : ] إذا رأى المفتي الجامع للشرائط رقعة الاستفتاء فيها خطّ من ليس أهلا للفتوى ، فلا يفتي معه ؛ لأنّ في ذلك تقريرا منه بمنكر ، بل له أن يضرب عليه وإن لم يأذن له صاحب الرقعة ، لكن لا يحبسها عنده إلّا بإذنه ، وله نهي السائل وزجره وتعريفه قبيح ما فعله ، وأنّه كان يجب عليه البحث عن أهل الفتوى ؛ وإن رأى اسم من لا يعرفه سأل عنه ، فإن لم يعرفه فله الامتناع من الفتوى معه خوفا ممّا قلناه.

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩١.

(٢) منية المريد ، ص ٢٩٢.

١٧٥

والأولى في هذا الموضع أن يشار إلى صاحبها بإبدالها ، فإن أبى ذلك أجابه شفاها ، ولو خاف فتنة من الضرب على فتيا عادم الأهليّة ولم يكن خطأ ، عدل إلى الامتناع من الفتيا معه ، وأمّا إذا كانت خطأ وجب التنبيه عليه ، وحرم الامتناع من الإفتاء ، تاركا للتنبيه على خطائها ، بل يجب عليه الضرب عليها عند تيسّره ، أو الإبدال ، ويقطع الرقعة بإذن صاحبها ، وإذا تعذّر ذلك وما يقوم مقامه ، كتب جوابه عند ذلك الخطأ ، ويحسن أن يعاود للمفتي المذكور بإذن صاحبها.

وأمّا إذا وجد فتيا الأهل ، وهي خلاف ما يراه هو ، غير أنّه لا يقطع بخطائها ، فليقتصر على كتب جواب نفسه ، ولا يتعرّض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض. كذا قاله شيخنا في المنية (١) .

وهو جيّد ، إلّا أنّه قد يشكل في إطلاق الضرب عليه مع عدم إذن صاحب الرقعة له ؛ نظرا إلى عموم ما دلّ على عدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذنه ورضاه.

اللهمّ إلّا أن يمنع العموم بحيث يشمل محلّ البحث ، أو يخصّص بما دلّ على وجوب الحكم بما أنزل الله (٢) ، وعلى إظهار العالم علمه فيها لو ظهرت البدع (٣) ، وعلى حرمة كتمان ما أنزل الله من البيّنات والهدى (٤) ، وما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أو يتوقّف ؛ لأجل التعارض الواقع بينهما ، مع كونهما عامّين من وجه ، ويرجع إلى الأصل المقتضي للجواز والإباحة ، فيرتفع الإشكال ، ويتّجه الجواز. ولعلّه المعتمد أيضا ؛ فتفطّن.

[ العشرون : ] إذا اجتهد في واقعة على الوجه المعتبر ، فأدّى اجتهاده إلى حكم من الأحكام الشرعيّة ، فهل يكفيه هذا الاجتهاد في عمله وفتواه بها وحكمه ما دام حيّا ، أم لا ؟

__________________

(١) منية المريد ، ص ٣٠٠ و٣٠١.

(٢) انظر دعائم الإسلام ، ج ٢ ، ص ٥٢٩ ، ح ١٨٧٩.

(٣) انظر المحاسن ، ص ٢٣١ ، ح ١٧٦ ؛ الكافي ، ج ١ ، ص ٥٤ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح ٢ ؛ وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٦٩ ، ح ٢١٥٣٨.

(٤) كما في الآية ١٥٩ من سورة البقرة (٢) .

١٧٦

الذي يقتضيه التحقيق بزعم العبد : أنّ للمسألة صورا :

منها : ما كان الحكم المؤدّي إليه اجتهاده السابق غير منسيّ له ، مقطوعا به بعد الاجتهاد الأوّل وحال حدوث مثل تلك الواقعة ثانيا وثالثا فما زاد.

ولا خلاف ولا إشكال حينئذ في عدم وجوب الاجتهاد ثانيا ، ولا تجديد النظر وتكريره ، وصحّة العمل والفتوى والحكم به مطلقا ، بل عليه الإجماع القاطع (١) ، كما لا يخفى على من مارس كلماتهم.

وهو الحجّة ، مضافا إلى الاصول ، والعمومات الدالّة على عدم الوجوب والبراءة عن ذلك ، والدالّة على اعتبار العلم وحجّيّته ولزوم اتّباعه.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذاكرا لسبب القطع ، أم لا ، ولا بين مضيّ زمان زادت القوّة فيه بكثرة الممارسة والاطّلاع ، وعدمه ؛ لعموم الدليل.

ومنها : ما كان الحكم المؤدّي إليه اجتهاده السابق مقطوعا بفساده في اللاحق وحال حدوث مثل تلك الواقعة.

ولا خلاف فتوى ودليلا ولا إشكال في عدم جواز العمل والفتوى والحكم له بما أدّى إليه اجتهاده السابق ، ولا في عدم صحّته ، بل إن كان حكم تلك الواقعة الحادثة حينئذ مقطوعا به بخصوصه ولو حكما ، عمل به وأفتى وحكم به قطعا فتوى ودليلا ، وإن لم يكن كذلك ، فلا بدّ من الاجتهاد ثانيا وتجديد النظر وتكريره ، ثمّ العمل والفتوى والحكم بما أدّى إليه هذا الاجتهاد المعتبر ، بلا خلاف فيه فيما أعلم فتوى ودليلا.

ولا فرق في ذلك هنا أيضا بين ذكر الدليل وعدمه ، ولا بين مضيّ الوقت المذكور وعدمه ؛ لعموم الدليل.

ومنها : ما كان الحكم المؤدّي إليه الاجتهاد السابق منسيّا له في حال حدوث مثل تلك الواقعة.

__________________

(١) انظر مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

١٧٧

ولا إشكال حينئذ ، بل ولا خلاف صريحا أيضا فيما أعلم في وجوب تجديد الاجتهاد والنظر وتكريره حينئذ ؛ لأنّه حينئذ كالجاهل ، بل عين الجاهل بالحكم ، وبحكم من لم يجتهد فيه ، فلا بدّ له من الاجتهاد وتحصيل العلم ؛ لعموم ما دلّ عليهما في حقّه.

ولا فرق هنا أيضا في ذلك بين ذكر الدليل وعدمه ، ولا بين مضيّ الوقت المذكور وعدمه ، ولا بين حصول القطع أو الظنّ له ولو إجمالا بصحّة ما أدّى اليه اجتهاده السابق أو بفساده ، وعدمه ؛ لعموم الدليل.

ومنها : ما كان الحكم المؤدي إليه الاجتهاد السابق غير منسيّ له في هذه الحالة ، ولا مقطوع بصحّته ولا بفساده حينئذ ، ولكن تعسّر عليه ولو شرعا التجديد.

وحينئذ لا إشكال بل لا خلاف أيضا في عدم وجوبه عليه ولا في صحّة العمل والفتوى والحكم بمؤدّى الاجتهاد السابق إلّا فيما يستثنى ؛ للأصول ، والعمومات الدالّة على عدم الوجوب والصحّة وغيرها ممّا دلّ على بطلان التكليف بما لا يطاق.

ولا فرق في ذلك أيضا بين ذكر الدليل وعدمه ، ولا بين مضيّ هذا الوقت وعدمه ؛ للعموم.

ومنها : ما كان الحكم المؤدّي إليه الاجتهاد السابق غير منسيّ في هذه الحالة ، ولا مقطوع حينئذ بصحّته ولا بفساده ، ولكن تعسّر عليه التجديد بما لا يتحمّل عادة.

وحينئذ أيضا لا ينبغي الإشكال والخلاف لا في عدم وجوبه ولا في صحّة العمل والفتوى والحكم بمؤدّى الاجتهاد السابق ، إلّا فيما يستثنى ؛ للاصول ، والعمومات الدالّة على عدم الوجوب والصحّة ، والدالّة على نفي الحرج والعسر في الشريعة وغيرها ، ممّا ستقف عليه ، مع عدم الدليل على الوجوب والمنع ، عدا ما سيأتي مع الإشارة إلى ما فيه.

ولا فرق هنا أيضا بين ذكر الدليل وعدمه ، ولا بين مضيّ الوقت وعدمه ؛ للعموم.

ومنها : ما كان الحكم المؤدّى إليه الاجتهاد السابق غير منسيّ في هذه الحالة ،

١٧٨

ولا مقطوعا حينئذ بصحّته ولا بفساده ، وأمكن التجديد من دون عسر ومشقّة ، ولكن كان ذاكرا لدليله وقاطعا أو ظانّا بالظنّ المعتبر بصحّته وبانحصار دليل الحكم فيه ، وبسلامته عن المعارض المساوي والأقوى.

وحينئذ أيضا لا ينبغي أن يكون محلّا للإشكال والخلاف في عدم وجوب تجديد الاجتهاد والنظر وتكريره.

بل اللائح من كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية (١) أيضا أنّ هذا ليس محلّ الخلاف وإن يأباه ظاهر كلامه في التمهيد (٢) .

وكيف ما كان ، فلا يجب عليه حينئذ تجديد الاجتهاد والنظر وتكريره ، ويصحّ له العمل والفتوى والحكم بما أدّى إليه الاجتهاد السابق ؛ لما ستقف عليه عن قريب.

ولا فرق هنا أيضا بين مضيّ الوقت وعدمه ؛ لعموم الدليل.

ومنها : ما كان الحكم المؤدّي إليه اجتهاده غير منسيّ في هذه الحالة ، ولا مقطوع حينئذ بصحّته ولا بفساده ، ولكن ذاكرا لدليله ، قاطعا بانحصاره فيه ، ولكن ظهر له ما يصير سببا لتزلزله في اعتباره وحجّيّته وصحّة الاعتماد عليه في حدّ ذاته.

وحينئذ أيضا لا ينبغي الإشكال والخلاف في وجوب التجديد وعدم العمل والفتوى والحكم بمؤدّى اجتهاده ؛ لما مرّ وستأتي إليه الإشارة.

ولا فرق هنا أيضا بين مضيّ هذا الوقت وعدمه ؛ للعموم. ولكن هل اللازم عليه حينئذ تجديد النظر في أصل المأخذ والدليل خاصّة ، أم في الحكم خاصّة ، أم فيهما معا ؟ أوجه.

والذي يقتضيه التأمّل : أنّه لا شكّ حينئذ في لزوم التجديد في أصل المأخذ والدليل ، بل ولعلّه لا مجال للإشكال ولا للخلاف فيه أيضا ، لكونه حينئذ بحكم الجاهل أو عينه ، فإن اجتهد فيه وأدّى اجتهاده إلى عدم اعتباره وعدم حجّيّته ،

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩٢.

(٢) تمهيد القواعد ، ص ٣٢٠ ، قاعدة ١٠٠.

١٧٩

فلا إشكال حينئذ في وجوب التجديد في الحكم أيضا ؛ لمثل ما مرّت إليه الإشارة.

وإن أدّى اجتهاده إلى اعتباره وحجّيّته ، فهل يكفي ذلك ، أم لا ، بل يجب عليه التجديد في الحكم أيضا ؟

إشكال ، ولكنّ الاحتياط في التجديد لولاه المتعيّن.

ومنها : ما كان الحكم المؤدّي إليه اجتهاده غير منسيّ في هذه الحالة ، ولا مقطوع حينئذ بصحّته ولا بفساده ، وأمكن التجديد بسهولة أيضا ، ولكن كان ناسيا لدليله ، أو كان ذاكرا له ولكن غير قاطع حينئذ ـ ولو حكما ـ بانحصاره فيه ، أو كان قاطعا بانحصاره فيه أيضا ، ولكن لم يظهر له ما يصير سببا لتزلزله في اعتباره وحجّيّته وصحّة الاعتماد عليه ، أو كان قاطعا ولو حكما بصحّته واعتباره أيضا ، ولكن احتمل وجود المعارض المساوي له أو الأقوى.

وحينئذ ، فإن لم يمض من حين اجتهاده والفراغ منه زمان أصلا ، أو مضى زمان يمتنع أو يستبعد عادة تغيّر الرأي وتفاوت النظر فيه ـ كساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين مثلا ـ فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال ، بل ولا خلاف أيضا في عدم وجوب التجديد والعمل والفتوى والحكم بمؤدّى اجتهاده ؛ لما ستقف عليه.

مضافا إلى أدائه إلى التعطيل واختلال أمر الاجتهاد وارتفاع الأمان والحرج المنفيّ في الشريعة ؛ فتدبّر جدّا.

وإن مضى زمان لا يمتنع ولا يستبعد عادة تغيّر الرأي وتفاوت النظر فيه ، فهذا بزعم العبد هو الذي ينبغي أن يكون محلّا للخلاف والإشكال ، واختلفوا فيه على أقوال :

أحدها ـ وهو الذي اختاره جماعة منّا ومنهم (١) ، وعزاه في بعض العبائر إلى النهاية والتهذيب وغيرهما ، وفي آخر إلى المشهور بين الاصوليّين من أصحابنا والعامّة (٢) ـ : أنّه

__________________

(١) قال به منّا العلّامة في النهاية والتهذيب وصاحب المعالم ، ومن العامّة العضدي في شرح المختصر على ما نسبه إليهم في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

(٢) قال به الفاضل الجواد في شرح الزبدة على ما في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

١٨٠