أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١
وكذلك غير المالك ؛ لحفظ أرواح المواشى ، والملك المعصوم على مالكه.
وعند هذا : فإما أن يقال : بأن ما أكله السبع يكون رزقا له ، أو ليس رزقا له.
فإن كان الأول : فهو خلاف ما أجمعت المعتزلة عليه ، من أن الممنوع عن الشيء شرعا لا يكون ذلك الشيء رزقا له.
وإن كان الثانى : فقد انتقض الحد ؛ حيث وجد ولا محدود.
والّذي صار إليه متأخروا المعتزلة ـ وهو اختيار صاحب المغنى (١) ـ أن الرزق هو كل ما للحى الانتفاع به ، ولا يجوز منعه منه.
وهو منتقض بالحشيش ، والكلأ فى الموات ؛ فإنه رزق للبهائم بإجماع منهم. ومع ذلك يجوز منعهم عنه بإحياء الموات. وينتقض أيضا بالملك المباح / الّذي (٢) لمالكه الانتفاع به ؛ فإنه رزق له بإجماع منهم مع أن للرب ـ تعالى ـ منعه من الانتفاع به.
إما بأن يفوته عليه ، أو بإخراج المالك بالمرض ، أو بسبب آخر عن التمكن من الانتفاع به ؛ وفيه وجود المحدود دون حده.
والّذي عليه معول أهل الحق من الأشاعرة (٣) : أن الرزق كل ما انتفع به حىّ ، وسواء كان بالتعدى ، أو بغيره. مباحا ، أو حراما ، مملوكا ، أو غير مملوك.
وربما ذهب بعض أصحابنا إلى أن الرزق هو ما تتربى به الحيوانات من الأغذية ، والأشربة لا غير.
__________________
(١) هو قاضى القضاة : عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذانى الأسدآبادي ، كان شيخ المعتزلة فى عصره ، وكانوا يلقبونه قاضى القضاة ، بدأ حياته فقيها على مذهب الإمام الشافعى ، ثم انصرف إلى الكلام بعد أن وجد قلة الإقبال عليه من طلاب الدنيا. وكان مؤرخا يلم بالفرق المختلفة وعلى الأخص الأشاعرة الذين قضى شبابه بينهم ، له تصانيف كثيرة من أهمها المغنى ، وقد توفى بالرى سنة ٤١٥ ه (انظر مقدمة الجزء الثانى عشر من المغنى ومقدمة شرح الأصول الخمسة وطبقات الشافعية ٣ : ٢١٩ والأعلام ٤ : ٤٧).
(٢) اللوحة رقم ٢٠٩ ليست موجودة فى (الميكروفيلم) الموجود بجامعة الدول العربية تحت رقم ١ توحيد ، ويبدو أن المصور قد نسى تصويرها ، لذا فقد اعتمدت على نسخة ب ، ج فقط.
(٣) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي :
انظر الإبانة للأشعرى ص ٥٦ ، ٥٧ وأصول الدين للبغدادى ص ١٤٤ ، ١٤٥ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٣٦٤ ـ ٣٦٦ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١٥ ، ٤١٦.
ومن المتأخرين المتأثرين بالآمدي :
انظر شرح المواقف ٢ / ٣٨٩ ، ٣٩٠ وشرح المقاصد ٢ / ١١٩ ، ١٢٠.
والمذهب هو الأول ؛ فإن الإطلاق من أهل العرف سائغ ذائع ، بأن ما انتفع به الحيوان ؛ فهو رزقه ، وأن ما لم ينتفع به ليس رزقا له ، وإن كان مملوكا له ؛ بل رزق من انتقل إليه ، وانتفع به.
والنزاع فى هذه المسألة ليس فى غير التسمية ؛ فكان صحة الإطلاق كافيا فيه ؛ فإنه لو كان الرزق هو المنتفع به ؛ لكان ما أخذه الغاصب وانتفع به ، رزقا. ولو كان رزقا له ؛ لما كان ممنوعا من الانتفاع به ، ولا ملوما عليه ، ولا معاقبا.
ويدل على أنه ليس رزقا له النص ، والإطلاق.
أما النص : فقوله ـ تعالى ـ : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١) أثنى على المنفق من رزقه ؛ وذلك غير متحقق فى حق الغاصب بما ينتفع به ؛ فلا يكون رزقا له.
وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) (٢). أمر بالانفاق من الرزق ، والغاصب منهى عن الإنفاق مما اغتصبه ؛ فدل على أنه ليس رزقا له.
وأما الإطلاق : فهو أن من أخذ مال غيره ، وأحال بينه وبين ملكه ، يصح أن يقال أحال بينه وبين رزقه. وإن لم يكن قد انتفع به ؛ فدل على أن مسمى الرزق غير المنتفع به ؛ وهو الرزق.
والجواب :
أما الحل وانتفاء اللوم ، والعقاب ؛ فغير داخل فى مسمى الرزق ، حتى إذا لم يكن الانتفاع حلالا ، أو كان ملوما معاقبا عليه ، لا يكون رزقا ؛ بل مسمى الرزق : هو المنتفع به لا غير ، وهو متحقق فى حق الغاصب ، واللوم والعقاب والحرمة ، إنما كان لازما فى حق الغاصب من مخالفة نهى الشرع ، وتفويت ملك المعصوم عليه دون إذنه ، ولا منافاة بين الأمرين.
وأما ما ذكروه من الآيتين : فإنما يصح الاحتجاج بهما أن لو اشتملتا على صيغة العموم ؛ ونحن لا نسلم أن العموم له صيغة.
__________________
(١) سورة البقرة ٢ / ٣.
(٢) سورة المنافقون ٦٣ / ١٠.
وإن سلمنا أن للعموم صيغة ؛ ولكن لا نسلم وجودها فى الآيتين المذكورتين ؛ إذ المذكور فيهما حرف من ؛ وهى للتبعيض لا للعموم.
وإن سلمنا صيغة العموم فيهما ؛ ولكن لا نسلم أن ما اغتصب الغاصب ؛ يكون رزقا له ، قبل الانتفاع به حتى يصح منه الإنفاق ؛ وأنه يصير رزقا له بالانتفاع.
وعند ذلك : يتعذر الإنفاق منه ؛ فلا يكون الأمر بالانتفاع ، والتحريض على الإنفاق من الرزق تناولا له.
وإن سلمنا إمكان تناول الآيتين له ؛ ولكنه مخصوص ، بأرزاق البهائم والأطفال ، والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة لتردده بين أقل الجمع ، وما عدا محل التخصيص.
وبتقدير أن يكون حجة ؛ ففى أقل الجمع ؛ لتيقنه. وبتقدير أن يكون حجة فيما عدا محل التخصيص ؛ فيجب تخصيصه ، لما ذكرناه من النهى عن تفويت ملك المالك المعصوم عليه.
وأما إطلاق الرزق على الملك الّذي لم ينتفع به ؛ فليس حقيقة لما أسلفناه ، وإنما هو بطريق المجاز من حيث أنه بحال ينتفع به فى الغالب ، ولا منافاة بينه وبين ما ذكرناه من الإطلاق.
كيف : وأنه يلزم مما ذكروه أن يكون من اغتذى بالحرام من أول عمره إلى منتهاه كأولاد القصاب ، أن يكون قد عاش ومات ، ولم يرزقه الله رزقا ؛ وهو خلاف إجماع المسلمين ، قبل ظهور المعتزلة.
وأما الرازق :
فقد اتفقت المعتزلة : على أن الحرام لا يكون رزقا من الله ـ تعالى ـ وما كان حلالا مباحا ، فما أتى العبد منه بنصب ، وتعب ؛ فالعبد هو الرازق لنفسه والله ـ تعالى ـ ليس برازق له ذلك الرزق. وما أتاه منه بغير فعله ؛ فهو من الله ، والرازق له ذلك الرزق هو الله ـ تعالى.
ثم منه ما هو واجب على الله ـ تعالى ـ : وهو ما فيه صلاح المكلفين.
ومنه ما يجب المنع عنه : وهو ما فيه فساد المكلفين.
ومنه ما يجوز الرزق به ، والمنع منه : وهو ما استوى فيه صلاح المكلف وفساده.
وأما أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم : فقد أجمعوا أنه لا رازق إلا الله ؛ إذ الرزق مخلوق ، ولا خالق غير الله ـ كما يأتى تقريره فى الأصل الثانى من هذا النوع (١) ـ وأنه لا يجب عليه أن يرزق أحدا ؛ لتعاليه وتقديسه ، عن أن يجب عليه شيء على ما سبق تقريره (٢) ؛ بل إن رزق فبفضله ، وإن منع فبعد له ، والعبد ليس له غير الكسب ـ على ما يأتى تحقيقه فى خلق الأعمال (٣) ، ثم ما يكسبه العبد من الرزق : إن كان منهيا عنه ؛ فمحرم ، وإلا فمباح. وليس اكتساب الرزق وطلبه من المحرمات ، إذا تجنب فيه ارتكاب المنهيات ، خلافا لشذوذ من العوام ـ لا يؤبه بهم ـ / فى ظنهم أن اكتساب الرزق وطلبه من المحرمات.
ويدل على إباحة ذلك نصوص الكتاب ، وإجماع الأمة.
أما نصوص الكتاب :
فقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) (٤). وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٥). وقوله ـ تعالى ـ (الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) (٧). وقوله ـ تعالى ـ (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٨) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على جواز طلب الرزق ، واكتسابه.
وأما الإجماع : فهو أن الأمة من الصحابة ، ومن بعدهم مجمعون على جواز اكتساب الرزق ، وأنه ما زال الناس يكتسبون ، ويجتهدون فى طلب الأرزاق برا وبحرا ، فى زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، والصحابة ، ومن بعدهم ، ولم يزل ذلك مألوفا معروفا من النبيين ، والأولياء ، والصالحين ، من غير نكير.
__________________
(١) انظر ل ٢١١ / ب وما بعدها.
(٢) انظر ل ١٨٦ / أوما بعدها.
(٣) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.
(٤) سورة الجمعة ٦٢ / ١٠.
(٥) سورة المائدة ٥ / ٢.
(٦) سورة الجاثية ٤٥ / ١٢.
(٧) سورة المزمل ٧٣ / ٢٠.
(٨) سورة النساء ٤ / ٢٩.
ولو كان ذلك محرما ؛ لما ساغ من النبي عليهالسلام ، ومن الصحابة ، وأهل الحل والعقد من بعدهم ، أن يتواطئوا على الخطأ ؛ إذ هو متعذر عادة ، وممتنع شرعا.
فإن قيل : طلب الرزق ، والاجتهاد فى اكتسابه ، يلزم منه أمر محرم ؛ فكان محرما.
وبيان ذلك : هو أن طلب الرزق ، يشعر بعدم الإيمان بالله ـ تعالى ـ وقلة الثقة (١) فيما أخبر به ؛ وذلك حرام ؛ فكان طلب الرزق حراما.
وبيان لزوم قلة الثقة بخبره ، بتقدير طلب الرزق : هو أن قوله ـ تعالى ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٢). وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) (٤). وقوله عليه الصلاة والسلام : «لو اتكلتم على الله حق اتكاله لكنتم كالطير ، تغدوا خماصا ، وتروح بطانا» (٥).
وذلك كله يدل على أن الله ـ تعالى ـ متكفل بأرزاق عباده بخبره ؛ فالطلب لما أخبر بوقوعه ، يدل على قلة الثقة بخبره ؛ وهو حرام.
وأيضا : فإن الأرزاق مشوبة بالمحرمات ، وبالسعى لا يأمن من مصادفة المحرم بالتصرف فيه ، وأكله ؛ وذلك حرام ، وإذا وقع الاشتباه والتردد بين الحرام ، وما ليس بحرام ؛ فالتجنب ، والكف ؛ واجب. كما لو اختلطت ميتة بمذكاة ، وأخت من الرضاع بأجنبية.
والجواب :
أنا لا نسلم أن طلب الرزق يشعر بعدم الإيمان ، وقلة الثقة فيما أخبر به الله ـ تعالى ـ / من الرزق لعباده ، وإلا كان ذلك موجبا للقدح فيمن سلف من الأنبياء ، وغيرهم من
__________________
(١) فى ب (الثقة به).
(٢) سورة هود ١١ / ٦.
(٣) سورة الاسراء ١٧ / ٣١.
(٤) سورة الذاريات ٥١ / ٥٨.
(٥) ورد فى ب (لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقتم كما ترزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا). وقد أورده أحمد فى المسند ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم كلهم عن عمر بلفظ «لو أنكم توكلون على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ورمز له السيوطى بالصحة.
(الجامع الصغير ج ٢ حديث رقم ٧٤٢٤).
الأولياء ؛ فإن أكثرهم كانوا محترفين مكتسبين بأسباب مختلفة ، حتى أن داود كان يكتسب بالدروع ، وإدريس بالخياطة ، وموسى بالرعاية ، والنبي عليه الصلاة والسلام بالتجارة قبل المبعث ، وعلى هذا كان الأولياء من السلف ، والخلف.
ثم لو كان كما ذكروه ؛ لحرم النظر فى معرفة الله ـ تعالى ـ والسعى فى الاتيان بالعبادات ، وتخليص النفس من الهلاك ، عند الوقوع فى المهالك ، وأن يمد أحد يده إلى ما حضر بين يديه من الطعام لتناوله ، وأن يتصرف فى شيء من مهمات الدنيا ، والآخرة ؛ لأن ذلك يدل على عدم الإيمان ، وقلة الثقة بالله ـ تعالى. فيما ثبت من محتوم قضائه وقدره ، وأن كل حادث يحدث بإحداثه ؛ وأنه لا دافع ، ولا مانع لما قضاه ، وأمضاه.
فلئن قالوا : حيث قيل بانتفاء الحرمة عن السعى ؛ كان السعى مأمورا به ، ومأذونا فيه.
قلنا : واكتساب الرزق أيضا ، مأذون فيه ، بدليل ما ذكرناه من نصوص الكتاب ، وإجماع الأمة ؛ فإن ذلك وإن لم يدل على الوجوب ، فأدنى درجاته الإذن ، والإباحة.
وما قيل من أن الأرزاق مشوبة بالمحرمات.
قلنا : الأصل فى الكل الإباحة ، واحتمال مخالطة المحرم لكل واحد من الأموال ، وإن كان قائما ، إلا أنه بعيد. وبتقدير أن يكون مشكوكا فيه ؛ فلا يكون دافعا للأصل بخلاف ما ذكروه من الأمثلة ؛ إذ ليس الأصل هو الحل فى الكل ، والاجتهاد غير جار فيها ؛ لعدم العلامة المبيحة ، حتى إنه لو انقدح احتمال وجود العلامة الدالة على الإباحة كما فى الميتة والمذكاة.
قلنا : منع بالإباحة على وجه لنا فى المذهب. ثم يلزم من ذلك تحريم تناول الأغذية مطلقا. كما قيل بتحريم الاكتساب.
ولا يخفى ما فى ذلك من الوقوع فى المحرم ، وهو إلقاء النفس فى التهلكة ؛ وهو خلاف إجماع الأمة ، وخلاف قوله ـ تعالى ـ (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١).
__________________
(١) سورة البقرة ٢ / ١٩٥.
المسألة الثالثة عشرة»
«فى السعر ، والغلاء ، والرخص ، وأنه من الله ـ تعالى»
أما السّعر : فهو عبارة عن تقدير أثمان الأشياء. وارتفاعه غلاء ، وانحطاطه رخص. وهل هو من الله ـ تعالى ـ أو من العبيد؟
قالت المعتزلة (١) : إنه مستند إلى أفعال العباد (٢). بتواضعهم على تقدير / أثمان الأشياء ، وتراضيهم بذلك فى كل وقت على حسبه ، وأن ارتفاع السعر ، وانحطاطه ؛ غير خارج عن أفعالهم.
ولهذا يصح أن يقال لمن حاصر (٣) بلدة ، وضيق على أهلها مدة ، ومنعهم من الامتيار بحيث قلت عليهم الأشياء ، وتوفرت رغباتهم فيها حتى ارتفعت الأسعار : إنه أوجب الغلاء ، ورفع السعر ، وأنه فى وقت الغلاء ، وارتفاع الأسعار ، إذا فتح أهراءه ، وأفاض ما فيها على الناس ، ومكنهم من الامتيار منها (٤) بحيث انحط السعر ؛ فإنه (٥) يقال : أوجب بفعله ذلك الرخص ، وانحطاط السعر ، حتى إنه يمدح على ذلك ، ويذم على الأول. ولو (٦) لم يكن (٦) من فعله ؛ لما كان كذلك.
ومذهب أهل الحق (٧) : أن ذلك كله من الله ـ تعالى ـ ومستند إلى فعله ، وتقديره ، وقضائه ، وقدره ؛ لأنه أمر حادث ، وكل حادث ، فلا يكون إلا بإحداث الله ـ تعالى ـ وخلقه ، وإرادته على ما سيأتى بعد (٨). غير أن ذلك قد يكون بأسباب سماوية ظاهرة غير مكتسبة للعباد : كانقطاع الغيث ، وجدب الأرض ، وقلة الزروع وهلاكها ؛ بحيث تتوفر الرغبات على شر المطعوم ؛ لقلته ، وشدة الاحتياج إليه ؛ فيرتفع سعره ، على حسب قلته ، وتوفر الدواعى عليه ، والرخص بأسباب أخرى مقابلة لهذه الأسباب.
__________________
(١) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٨٨ ، ٧٨٩.
(٢) فى ب (العبيد).
(٣) فى ب (حصر).
(٤) فى ب (عنها).
(٥) ساقط من ب.
(٦) فى ب (ولو أنه).
(٧) انظر الإرشاد لإمام الحرمين ص ٣٦٧ وشرح المواقف ٢ / ٣٩٠ وشرح المقاصد ٢ / ١٢٠.
(٨) انظر ل ٢١١ / ب وما بعدها.
وقد يكون ذلك بأسباب مكتسبة للعباد كما ذكروه من الأمثلة ، غير أنه لا معنى لاكتسابهم أنهم الفاعلون لتلك الأشياء ، والخالقون لها ؛ بل الخالق هو الله ـ تعالى ـ ، والقدرة الحادثة ؛ فغير مؤثرة فى الخلق على ما سيأتى تعريفه (١).
وقد يكون ذلك من اجتماع الأمرين.
وقد يكون بأسباب (٢) سماوية مخفية غير ظاهرة لنا ؛ وذلك كما نشاهده من الرخص تارة ، مع وجود أسباب ظاهرة مقتضية للغلاء (٣). ومن الغلاء تارة ، مع وجود الأسباب المقتضية للرخص.
وأما ما ذكروه من إضافة الغلاء ، والرخص إلى فعل السلطان ؛ فلا يدل على أنه من فعله ، وخلقه ؛ فإنه كما يصح أن يقال : أوجب الرخص ، والغلاء ، يصح أن يقال : أحيا الناس ، وأماتهم. مع أن الإحياء ، والإماتة غير مقدورة له بالإجماع ؛ إذ هو خارج عن محل قدرته ، وما وقع فيه الخلاف أنه مخلوق لله ، أو للعبد ؛ فإنما هو الفعل القائم بمحل قدرة العبد ؛ بل إضافة ذلك إلى فعله ، إنما كان بطريق المجاز ، من حيث أن الغلاء ، والرخص وقع بحكم جرى العادة ملازما / لفعله المكتسب له ، القائم بمحل قدرته ، وإن كان حادثا بخلق الله ـ تعالى ـ له ، كما يضاف إليه الموت ، والإحياء ، والله ولى التوفيق.
__________________
(١) انظر ل ٢٣٩ / أوما بعدها.
(٢) فى ب (من أسباب).
(٣) فى ب (لوجود الغلاء).
«الأصل الثانى»
فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ، ولا مؤثر فى حدوث الحوادث
سواه
ويشتمل على : مقدمة ، ومقصد ، وفروع
أما المقدمة : ففى بيان معنى الخلق ، والمخلوق.
أما الخلق : فقد يطلق فى اللغة ويراد به إيجاد الشيء ، واختراعه لا من شيء.
وقد يراد به الهم بالشيء ، والعزم على فعله. ومنه قول الشاعر.
فلأنت تفرى ما خلقت |
|
وبعض القوم يخلق ثمّ لا يفرى (١) |
والمراد من قوله : فلأنت تفرى : أى تمضى ، ما خلقت : أى هممت به.
ومنه قول الحجاج : إذا هممت أمضيت ، وإذا خلقت فريت.
وقد يراد به التقدير بمعنى الظن ، والحسبان ، ومنه يقال : خلقت زيدا فى الدار : أى قدرته فيها ، ومعنى قدرته : ظننته.
وقد يراد به التقدير بمعنى المساواة بين شيئين. ومنه يقال للحذّائين الذين يقدرون بعض طاقات النعل ببعض ، ويسدون بينها خالقين. ومنه يقال : خلقت الأديم : أى قدرته. وفى معنى هذا إطلاق الخلق على إيجاد شيء على مقدار شيء آخر سبق له الوجود.
وقد يطلق الخلق : بمعنى الكذب ، والافتراء ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٢) : أى أكاذيب الأولين. ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣) : أى تكذبون.
وعلى هذا : فإضافة الخلق إلى الله ـ تعالى ـ بمعنى الاختراع والإيجاد ، وبمعنى القصد إلى الشيء ، وبمعنى التسوية صحيح ، دون الخلق بمعنى الظن والكذب ، ويكون مشاركا للعباد فى الاتصاف بالخلق بمعنى القصد إلى الشيء. وبمعنى التقدير والتسوية دون الخلق بمعنى الإيجاد ، والاختراع ؛ إذ هو المنفرد به دون غيره كما يأتى (٤).
__________________
(١) القائل : زهير بن أبى سلمى (ديوان زهير ص ٩٤) والبيت من قصيدة قالها فى مدح هرم بن سنان. وأول البيت (ولأنت) وليس كما جاء هنا (فلأنت).
(٢) سورة الشعراء ٢٦ / ١٣٧.
(٣) سورة العنكبوت ٢٩ / ١٧.
(٤) انظر ل ٢٢٨ / ب وما بعدها.
وإذا عرف مدلول اسم الخلق ، واختلاف اعتباراته ؛ فقد اختلف المتكلمون فيما هو جهة الحقيقة منه.
فذهب أئمتنا ، وأكثر المعتزلة : إلى أنه حقيقة فى الإيجاد ، والاختراع ، ومجاز فيما عداه.
وذهب الجبائى ، وابنه (أبو (١) هاشم) : إلى أنه حقيقة فى التقدير بمعنى الظن ، والحسبان ، ثم بنيا على هذا الأصل أن الرب ـ تعالى ـ لا يوصف بكونه خالقا حقيقة ؛ لاستحالة الظن والحسبان ، الّذي هو مدلول اسم الخلق حقيقة فى حقه ، وإن كان موجدا ومخترعا حقيقة (٢).
والحق فى هذه المسألة : أن إطلاق اسم الخلق بإزاء ما ذكرناه من الاعتبارات / واقع ، وكونه حقيقة فى البعض (٣) مجاز فى البعض ، أو أنه مشترك : أى (أنه (٤)) حقيقة فى الكل ؛ فمن جملة الوضع ، والوضع على أصول أرباب الأصول دون من لا اعتبار له من الشذوذ ـ لا يثبت بغير الدليل القاطع : وهو النقل المتواتر عن أرباب الوضع ، أو السمع القاطع من جهة الشرع ، ولم يوجد شيء من ذلك. وإن كان الأشبه ، والأغلب على الظن ما ذهب إليه أهل الحق من أئمتنا ؛ إذ هو الشائع ، الزائع ، المتبادر إلى الأفهام من إطلاق اسم الخلق دون ما عداه من الاعتبارات علي ما لا يخفى.
ثم الخلق بمعنى الإيجاد ، والاختراع ، هل هو نفس المخلوق ، أو غيره؟ اختلفوا فيه :
فذهبت الأئمة من المتكلمين ، وأهل الحق : إلى أن الخلق هو نفس المخلوق ، والإيجاد هو نفس الموجود ، والإحداث (٥) نفس المحدث.
ثم بنوا على هذا الأصل رسم الخلق بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة. وربما عبروا عنه بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة ، الخارج عن محل القدرة. وذهبت الكرامية إلى أن : الخلق والإحداث صفات حادثة قائمة بذات الرب ـ تعالى ـ ؛ وهو باطل ؛ بما سبق من بيان امتناع قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى (٦) ـ.
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) فى ب (فى حقه).
(٣) فى ب (الكل).
(٤) ساقط من أ.
(٥) فى ب (والحادث).
(٦) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.
وأما أهل الحق : فقد احتجوا بالنص ، والإطلاق ، والمعقول.
أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (هذا خَلْقُ اللهِ) (١). وأراد به المخلوق.
وأما الإطلاق : فالعرف شائع ذائع بقولهم : انظر إلى خلق الله. وهذا خلق الله. إشارة إلى المخلوق.
وأما المعقول : فهو أن الخلق لو كان صفة زائدة على نفس المخلوق ، لم يخل : إما أن يكون وجودا ، أو لا وجود.
لا جائز أن يكون لا وجود. فإن نقيض الخلق لا خلق. ولا خلق عدم ؛ لاتصاف المعدوم المستحيل به ؛ فكان الخلق وجودا. وإذا كان وجودا : فإما قديم ، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما : وإلا لزم قدم المخلوق ؛ ضرورة استحالة الخلق ، ولا مخلوق.
وإن كان حادثا : استدعى خلقا آخر ، والكلام فيه ، كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ، أو دور ممتنع.
فإن قيل : إذا كان الخلق هو نفس إيجاد الشيء ، واختراعه ؛ فنحن نعقل التفرقة بين وجود الشيء فى نفسه ، وإيجاده بإيجاد غيره له ، وبيانه من وجهين :
الأول : أنا قد نعقل وجود الشيء فى نفسه ، ونجهل إيجاده / بالغير حتى نعرفه بالدليل ؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم.
الثانى : أنه يصح أن يقال : هذا موجود بإيجاد الغير له ؛ فنصف الوجود بالإيجاد ، والصفة غير الموصوف. وإذا كان كذلك ؛ فلا يكون الخلق هو المخلوق ، ولا الإيجاد هو نفس الموجود.
وأما إطلاق الخلق بإزاء المخلوق : فلا يدل على أن الخلق فى الحقيقة هو نفس المخلوق ؛ بل إنما ذلك تعبرة باسم الخلق عن المخلوق بطريق التجوز بكونه سببا له ، أو ملازما له كما فى إطلاق القدرة على المقدور فى قولهم : انظر إلى قدرة الله : أى مقدوره ، ودليل التأويل : ما ذكرناه من الدليل على كون الخلق حقيقة زائدة على المخلوق.
__________________
(١) سورة لقمان ٣١ / ١١.
وما قيل من المعقول ؛ فهو لازم على القائل به فى تعلق القدرة بالمقدور ، والعلم بالمعلوم. مع أن التعلق زائد على القدرة ، والمقدور ، والعلم ، والمعلوم.
والجواب :
قولهم : إنا ندرك التفرقة بين الإيجاد والموجود ، والخلق والمخلوق.
قلنا : لفظا ، أو معنى. الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ؛ بل التفرقة إنما هى بين الإيجاد ، والموجد. (١) والخلق ، والخالق (١). أما بين الخلق ، والمخلوق ، والإيجاد ، والموجود ؛ فلا. وبهذا يندفع ما ذكروه من الوجه الأول.
وأما الوجه الثانى : فمندفع أيضا ؛ إذ لا مانع من وصف الشيء بنفسه ، وإضافته إلى نفسه عند اختلاف اللفظ ، كما (٢) تقدم تقريره (٢).
قولهم : إن التعبرة بالخلق عن المخلوق مجاز ؛ ليس كذلك ؛ إذ الأصل فى الإطلاق الحقيقة ، ولا يلزم من التجوز فيما ذكروه من القدرة والمقدور ، التجوز فيما نحن فيه.
كيف وأن التجوز بالخلق عن المخلوق ، يستدعى المغايرة بين مسمييهما ؛ وهو ممتنع بما بيناه من المعقول.
وأما تعلق القدرة ، بالمقدور ، والعلم ، بالمعلوم ؛ فقد بينا أيضا أنه لا يزيد على كون المقدور موجودا بالقدرة ، وكون المعلوم ؛ معلوما بالعلم ، وحققنا ذلك بما فيه كفاية.
__________________
(١) فى ب (والخالق والخلق).
(٢) فى ب (تقرر).
وأما المقصد :
فهو أن جميع الممكنات مقدورة للرب ـ تعالى ـ من غير واسطة ، وأن (١) حدوثها ليس إلا عنه. هذا هو مذهب أهل الحق.
خلافا للفلاسفة ، والطبائعيين ، وأصحاب التولد ، والصابئة ، والمنجمين ، والثنوية ، والمعتزلة ، والشيعة على ما سيأتى تفصيل مذهب كل فريق فى موضعه (٢).
وقد احتج الأصحاب بمسالك :
الأول : أنه لو كان شيء سوى الله ـ تعالى ـ / موجدا لشيء من الممكنات الحادثة ؛ لكان علة لكل حادث ، واللازم ممتنع ؛ والملزوم مثله.
بيان الشرطية : هو أنه إذا كان شيء علة لوجود بعض الحوادث ؛ فالمعلول من كل حادث وجوده ، ومسمى الوجود متحد فى جميع الحوادث ، فما كان علة له فى البعض ، كان علة له فى الباقى ؛ ضرورة اتحاد المعلول.
وبيان امتناع اللازم : هو أن كل من خالف فى هذه المسألة معترف بأن ما أوجد بعض الحوادث ليس علة لكل حادث ، على ما سيأتى تحقيقه فى مواضعه بعد.
ولقائل أن يقول :
هذا إنما يلزم أن لو كان مسمى الوجود مشتركا بين الحوادث ؛ وليس كذلك على ما (٣) سلف.
وإن سلمنا أن مسمى الوجود مشترك ، فما المانع من أن يكون تأثير العلة فى وجود بعض الحوادث مشروطا بما به التعين؟ ، وما به التعين غير مشترك ؛ فلا يلزم الاشتراك فى المعلومية لتلك العلة الواحدة.
وإن سلمنا عدم الافتراق ؛ ولكن غاية ما فيه إلزام الخصم ، بإبطال الملزوم ؛ ضرورة تصويبه فى اللازم ، وليس ذلك أولى من التخطئة فى اللازم ؛ ضرورة تصويبه فى الملزوم.
__________________
(١) فى ب (ولا).
(٢) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.
(٣) فى ب (ما سيأتى). انظر ل ٥٠ / ب وما بعدها.
المسلك الثانى :
أنه قد ثبت فى مسألة إثبات واجب الوجود انتهاء جميع الممكنات فى الوجود إليه ، ضرورة قطع التسلسل ، والدور الممتنع ، وبينا أن إيجاده لما يوجده من الممكنات ، لا يكون (١) إلا بالقدرة والاختيار ؛ فصحة كون ذلك الحادث مقدورا لله ـ تعالى ـ دون الواجب والممتنع ، حكم لا بد له من علة ، وعلته إنما هى الإمكان ، والإمكان مشترك بين جميع الممكنات ، ويلزم من الاشتراك فى العلة ، الاشتراك فى المعلول ؛ وهو صحة المقدورية ، ويلزم من كون جميع الممكنات مقدورة للرب ـ تعالى ـ امتناع إسناد شيء من الحوادث إلي غير الله ـ تعالى ـ وإلا لزم عند اجتماع المؤثرين ، ما ألزمناه (٢) من المحال فى مسألة التوحيد (٣) ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
وإن سلمنا صحة المقدورية للرب ـ تعالى ـ بالنسبة إلى بعض الممكنات ، غير أنه لا معنى لصحة المقدورية ، غير إمكان المقدورية ، والإمكان عدم ؛ والعدم لا يكون معللا على ما سبق فى مسألة الرؤية ، ولا جواب له إلا بالعود إلى تعليل المقدورية نفسها.
وإن سلمنا إمكان التعليل بصحة المقدورية ؛ ولكن لا نسلم أن الإمكان صالح للتعليل ؛ لكونه عدما كما تقدم بيانه فى الرؤية.
وإن سلمنا إمكان التعليل / بالإمكان ؛ ولكن إنما يلزم التعليل به أن لو لم يوجد غيره.
ولا نسلم أنه لا متحقق سواه ، والبحث والسبر فلا يدل على عدم ما سواه يقينا على ما أسلفناه فى تعريف أقسام الدليل (٤).
وإن سلمنا دلالته على عدم ما سواه ؛ ولكنه معارض بما يدل على وجود غيره ؛ وذلك لأن ما وقع الاتفاق على كونه مقدورا ـ للرب ـ تعالى ـ وإن كان مشاركا لباقى الحوادث فى الإمكان ؛ فمفارق لها بخصوص ذاته وتعينه.
__________________
(١) ساقط من ب.
(٢) فى ب (ما لزمنا).
(٣) انظر ل ١٦٧ / ب وما بعدها.
(٤) انظر ل ٣٩ / ب.
وعند ذلك : فلا مانع من القول بأن خصوص تعينه هو العلة لصحة المقدورية ، أو أن العلة مجموع الأمرين ، أو أن العلة خصوص التعين ، (١) والإمكان شرط ، أو أن الإمكان شرط علة (١) ، وخصوص التعين جزء شرط. وعلى كل تقدير فيمتنع تعدى الحكم إلى غيره ضرورة عدم الاشتراك فيما به التعين.
وإن قيل بأن الإمكان كان فى التصحيح ؛ فدعوى مجردة عن الدليل ، وليس ذلك أولى من القول بأن خصوص التعين كاف ، وأن (٢) ذلك لا يتم إلا بالجموع.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الإمكان هو العلة المصححة ؛ ولكن لا يلزم من الاشتراك فيه بين الحوادث ، الاشتراك فى المقدورية لله ـ تعالى ـ وإلا للزم (٣) من كون بعض الحوادث ـ وهى أفعال العباد المختارين ـ مقدورة لهم ، أن تكون صحة المقدورية للعبد أيضا معللة بالإمكان ؛ لاستحالة تعلق القدرة الحادثة بالواجب والممتنع ، كما ذكرتموه ، ولا بد لها من علة مصححة ، ولا مصحح غير الإمكان ، وهو مشترك بين مقدور العبد ، وما عداه من الأجسام ، والأعراض الخارجة عن محل قدرة العبد ، وما لزم من ذلك أن تكون الأجسام والأعراض الخارجة عن محل قدرة العبد مقدورة له ، فكذلك فيما نحن فيه.
وما وقع به الافتراق من تأثير القدرة القديمة فى مقدورها دون القدرة الحادثة ؛ فخارج عن محل الجمع ؛ فإن القدرة الحادثة ، وإن لم تؤثر فى مقدورها فيصح أن يقال بأن الفعل القائم بمحلها هو مقدور لها دون غيره ، وصحة هذه المقدورية ، تستدعى مصححا كما فى المقدورية بجهة التأثير.
وربما وردت عليه أسئلة أخرى يمكن الانفصال عنها نبهنا عليها فى مسألة الرؤية ؛ فلا حاجة إلى ذكرها.
المسلك الثالث :
هو أنه قد ثبت أن الإمكان صفة مشتركة بين الممكنات ، وأنه هو المحوج إلى المؤثر.
__________________
(١) فى ب (بالإمكان شرط ، أو أن الإمكان شرط ، أو أن الإمكان جزء علة).
(٢) فى ب (أو أن).
(٣) فى ب (لزم).
وعند ذلك : فإما أن يكون الإمكان محوجا إلى مؤثر معين ، أو غير / معين.
لا جائز أن يكون غير معين ؛ لأن ما لا يكون معينا فى نفسه ، لا يكون موجودا ، وما لا يكون موجودا ، لا يكون علة لوجود غيره.
وإن كان معينا : فذلك المعين : إما أن يكون ممكنا ، أو واجبا.
لا جائز أن يكون ممكنا : وإلا كان (١) إمكان ذلك الشيء يحوجه إلى نفسه ؛ فيكون موجدا لنفسه ، وكل ما وجد بنفسه ؛ فهو واجب ، وليس بممكن ؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان واجبا ؛ فهو المطلوب.
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن الإمكان هو المحوج إلى المؤثر ؛ بل هو شرط الاحتياج إلى المؤثر ، ولا يلزم من الاشتراك فى شرط التأثير الاشتراك فى المحوج إلى المؤثر.
وإن سلمنا أن الإمكان هو المحوج إلى المؤثر ، وأن المؤثر فى الوجود لا بد وأن يكون معينا ؛ ولكن معينا واحدا ، لإيجاد جميع الممكنات ، أو لكل ممكن (٢) معينا بحسبه (٢) ، الأول ؛ ممنوع (٣). والثانى ؛ مسلم (٣).
وعند ذلك : فلا يلزم من كون الإمكان محوجا فى كل حادث إلى معين يخصه ، أن يكون كل معين بتقدير أن يكون ممكنا موجدا لنفسه ؛ بل جاز أن يكون وجوده بإيجاد غيره له ، وإن كان هو موجدا لغيره.
المسلك الرابع.
هو أنه قد ثبت أن البارى ـ تعالى ـ قادر : إما بذاته ، أو بواسطة قيام القدرة بذاته ؛ فذاته مستلزمة لكونه قادرا : إما بواسطة ، أو بغير واسطة. وعلى كلا التقديرين ؛ فنسبة ذاته إلى جميع الجائزات نسبة واحدة ؛ فيلزم أن يكون قادرا على جميع الممكنات. وإذا كان قادرا على جميع الممكنات ؛ فلو أمكن إسناد بعض الممكنات إلى غيره فى
__________________
(١) فى ب (لكان).
(٢) فى ب (معين بجنسه).
(٣) فى ب (مسلم ، والثانى ممنوع).
الوجود ، فعند اجتماع المؤثرين إما أن يوجد بأحدهما ، أو بهما ، أو لا (١) بواحدة (١) ، منهما ؛ والكل محال.
أما الأول : فلما فيه من تعطيل تأثير أحدهما من غير أولوية.
وأما الثانى : فلما سلف فى امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين.
وأما الثالث : فلما فيه من تعطيل المؤثرين.
وهذه المحالات : إنما لزمت من فرض وجود الحوادث بغير الله ـ تعالى ـ فيكون محالا.
ولقائل أن يقول :
ذات الرب ـ تعالى ـ وإن كانت مستلزمة لقادريته ؛ ولكن لا نسلم أن نسبة ذاته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة ؛ إذ الممكنات متمايزة بذواتها ، ومختلفة بتعينها ، وما هذا شأنه ؛ فلا يلزم أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ بالنسبة إليها (٢) متساوية ، وليس العلم بذلك من الضروريات ، وإذا كان نظريا فلا بد له (٣) من دليل (٣).
وإن سلمنا أن نسبة / ذاته إلى جميع الممكنات واحدة ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن تكون جميع الممكنات مقدورة له ؛ فإنه لا مانع من أن يكون تعين بعض الممكنات شرطا فى تعلق القدرة القديمة به ، أو أن تعين البعض يكون مانعا من ذلك.
المسلك الخامس :
هو أن كل ممكن فهو قابل للوجود ، والعدم ، فلو كان مؤثرا فى وجود غيره ؛ لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا ؛ وهو محال.
ولقائل (٤) أن يقول (٤) :
هو ضعيف أيضا ؛ إذ هو مبنى على أن وجود الممكن زائد على ذاته حتى يصح القول بالقابلية ، والمقبولية ؛ إذ القابل يجب أن يكون غير المقبول وإلا كان الشيء قابلا
__________________
(١) فى ب (أو لا يوجد بواحد).
(٢) فى ب (إليه).
(٣) فى ب (من إقامة دليله).
(٤) (لقائل أن يقول) ساقط من ب.
لنفسه ؛ وهو محال. وهو غير مسلم على ما سيأتى فى مسألة المعدوم هل هو شيء أم (١) لا؟
وإن سلمنا صحة كونه قابلا للوجود ؛ ولكن لا نسلم الإحالة فى كونه مع ذلك مؤثرا فى وجود غيره على ما عرف من مذهب المعتزلة من قبولية العبد للأفعال القائمة بذاته مع كونه فاعلا لها ، ومؤثرا فيها.
كيف وأنه لا معنى للمقبولية ، والتأثير غير نسب خاصة ، وإضافة معينة ، ولا مانع من اتصاف الذات الواحدة ـ وإن كانت بسيطة لا تركيب فيها ـ بالنسب المتعددة ، والإضافات المختلفة كما سبق تعريفه. فكيف إذا كانت مركبة؟.
والمعتمد هاهنا أن نقول :
قد ثبت أن الله ـ تعالى ـ قادر بقدرة قديمة ـ على ما سبق في الصفات.
وعند ذلك : فإما أن يكون قادرا على كل الحوادث الممكنة ، أو أنه غير قادر على بعضها.
لا (٢) جائز أن يكون غير قادر على بعضها (٢) مع كونه ممكنا فى نفسه ـ وإلا كان الرب ـ تعالى ـ عاجزا ـ بالنسبة إلى ذلك البعض الممكن ـ والعجز على الله ـ تعالى ـ محال ؛ كما سبق تحقيقه (٣).
وإن كان قادرا على كل الممكنات فلا يخلو : إما أن تفتقر فى حدوثها إلى مؤثر ، أو لا تفتقر إليه (٤).
لا جائز أن يقال بالثانى : لما بيناه فى مسألة إثبات واجب الوجود (٥).
وإن كانت مفتقرة إلى المؤثر : فإما أن يكون المؤثر هو الله ـ تعالى ـ أو غيره ، أو هما معا.
__________________
(١) انظر الجزء الثانى ص ٤٠٥ وما بعدها.
(٢) من أول (لا جائز أن يكون ...) ساقط من ب.
(٣) انظر ل ١٦٤ / ب وما بعدها.
(٤) فى ب (إلى مؤثر).
(٥) انظر ل ٤١ / أ. وما بعدها.