تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

١
٢

٣
٤

سُورَةُ البَقَرة

مدَنيَّة

وَآياتَها مئتَان وَسَبع وَثمانون

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤)

* * *

معاني المفردات

(بِعَهْدِي) : العهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا (١).

__________________

(١) الأصفهاني ، الراغب : معجم مفردات ألفاظ القرآن ، دار الفكر ، ص : ٣٦٣.

٧

(فَارْهَبُونِ) : الرهبة : الخوف ، وتقابلها الرغبة.

(فَاتَّقُونِ) : التقوى في تعارف الشرع : حفظ النفس عما يؤثم ، وذلك بترك المحظور.

(وَلا تَلْبِسُوا) : لا تخلطوا.

* * *

في أجواء هذا الفصل

هذا فصل جديد من فصول السورة ، يخاطب به الله سبحانه بني إسرائيل الذين وقفوا أمام الرسالة والرسول ، ليعطلوا المسيرة ويشوّهوا الصورة ويخلقوا البلبلة والارتباك في الذهنية المسلمة ، من أجل أن يزلزلوا عقيدة المسلمين ويهزّوا قناعاتهم. وفي هذا الجو ، يدخل القرآن في قضية الصراع الفكري مع اليهود من أهل الكتاب ، الذين كانوا يمثّلون القوّة الكبيرة في المنطقة التي انطلق فيها الإسلام ، وكان لهم من خلال ذلك التأثير الكبير على المجتمع ، باعتبار أنهم القوة الدينية المرتبطة بالكتاب ، الحاملة للرسالات.

وقد كان اهتمام الإسلام بالحوار معهم لتحقيق هدفين :

الأول : بيان الأسس التي تجمع بين الإسلام وبين غيره من الديانات ، للانطلاق من ذلك إلى إقامة الحجة على اليهود ، من خلال القواعد والقضايا المشتركة المسلّمة لديهم ، مما يفسح المجال لارتكاز الحوار على أسس واضحة وعملية ، ويوفّر المناخ الملائم له. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، لتصحيح الانحرافات الطارئة التي أدخلها اليهود في الكتاب مما لم ينزل به وحي الله.

٨

الثاني : تعرية هؤلاء اليهود من خلال كشف الواقع العملي الذي يعيشون فيه ، وذلك بفضح أساليبهم الملتوية ، وتوضيح انحرافهم عن الخط الذي يدعون الناس إليه ويهملونه في سلوكهم العملي.

وربما يثأر هنا سؤال :

لماذا هذا التركيز في القرآن الكريم بالكلام على اليهود وبني إسرائيل ، على نحو لا نجده مع عموم أهل الكتاب؟

وفي الجواب يمكن الإشارة إلى ما يلي :

أولا : إن اليهود كانوا يمثلون القوة الدينية الكبرى المتحركة التي وقفت ضد الإسلام منذ انطلق كقوّة في حياة الناس في المدينة. أما النصارى من أهل الكتاب ، فلم يكن لهم دور كبير في مواجهة الإسلام من ناحية عملية ، بل ربما كان لهم دور إيجابي في بداية عهد الدعوة ، إذا لاحظنا هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة ، واحتضان ملكها النجاشي المسيحي لهم ، وانسجامه مع الآيات القرآنية التي تلاها المسلمون المهاجرون عليه في ما يتعلق بشأن المسيح وأمّه ، فلم يبق هناك إلا المشكلة الفكرية في موضوع فهمهم للتوحيد ولشخصية السيد المسيح وعلاقته بالله ، فكانت مساحة الحوار بالمستوى الذي تمثله المشكلة الفكرية من خطورة.

ثانيا : إن المستقبل الذي سيتحرك فيه الواقع اليهودي ، يمثل الخطر السياسي والاجتماعي والأمني والثقافي على واقع المسلمين ، من خلال أطماعهم في الأرض الإسلامية من جهة وفي الثروات الإسلامية من جهة أخرى ، لأن طريقتهم في التفكير والحركة سوف تؤدي إلى الكثير من المشاكل الصعبة للعالم الإسلامي ، الأمر الذي يفرض على المسلمين التفكير في عناصر الشخصية اليهودية الاستعلائية وخططها العدوانية.

٩

ثالثا : التأكيد على المسلمين رفض موالاة اليهود بالمعنى الروحي والسياسي ، واعتبار ذلك بمثابة ارتداد عملي عن الإسلام يوحي بتراخي الالتزام العقيدي الداخلي للمسلمين ، بما من شأنه أن يؤسس لتمكين اليهود من إسقاطه في الواقع. ثم التركيز على تحذيرهم من الاتصاف بصفاتهم كما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) [البقرة : ٨٣ ـ ٨٤].

* * *

القضايا المثارة مع اليهود غيرها المثارة مع المشركين

وقد ينبغي لنا أن نلفت النظر إلى الفارق في طبيعة الحوار وأهميته ، بين حوار الإسلام مع اليهود وحوارة مع المشركين ، فقد لا نجد في تفاصيل القضايا المثارة مع اليهود ما يتناسب والقضايا المثارة مع المشركين.

* * *

الشرك ليس فكرا دينيا

ولعل الفارق في ذلك ، هو أنّ الإسلام لا يعتبر المشركين قوة دينية ، لأن الشرك ليس فكرا دينيا ، بل هو ضد المنهج التوحيدي للدين ، فليس هناك أية قواسم مشتركة بين الإسلام والشرك حول المفاهيم العامة عن الكون والحياة ، وحول القيم التاريخية المنطلقة من خلال الرسالات ، أو تلك الحاضرة

١٠

المطروحة في ذلك الوقت ، أو التشريعات المتعلقة بحياة الفرد والجماعة ، ولذلك ، لا يجد الإسلام أية قضايا مشتركة مع الشرك يتحرك الحوار في تفاصيلها ، فلم يبق إلا مواجهة الشرك في جانبه الفكري من أجل إرجاع المشركين إلى عقلهم وتفكيرهم ، بدعوتهم إلى استخدام واستثمار كل ما رزقهم الله من وسائل التفكير ، سواء منها الأدوات التي تصنع مادة الفكر أو الأدوات التي يبدع منها الفكر الجديد. ثم تمتد المواجهة القرآنية معهم في الفكرة والحركة والأسلوب.

* * *

المسلمون في مواجهة اليهود

أما بالنسبة لليهود ، فهناك التاريخ المشترك بين الرسالات السماوية التي يؤمن بها الإسلام ، كما تؤمن بها اليهودية ، مما يستدعي التوفر على إثارة خطوات هذا التاريخ في التصور المنحرف والمستقيم ، وعلى إثارة القضايا الأساسية في العقيدة والأسلوب والتشريع والأشخاص ، من أجل البقاء على أرض مشتركة وتصوّر موحّد ، الأمر الذي يخلق كثيرا من التشابك والتعقيد بين الفريقين ، ويفرض بعضا من المرونة والحساسية في مواجهة الحوار ، تبعا للحاجة إلى الانفتاح على أهل الكتاب في الوصول معهم إلى مواطن اللقاء.

* * *

تحدث القرآن في هذا الفصل عن اليهود وحياتهم وممارساتهم الاجتماعية وأوضاعهم ومواقفهم التي اتخذوها من دعاة الإصلاح من الأنبياء وغيرهم ، وبلغت آيات هذا الفصل أكثر من مائة ، نظرا إلى أن هذه السورة من السور المدنية التي أريد لها أن تنظم للمسلمين في المدينة طريقة حياتهم

١١

وتفكيرهم وأساليبهم في الصراع ، مما يجعل من القضايا المثارة فيها نموذجا حيا يحتذي في كل زمان ومكان.

* * *

العمق الإنساني للأسلوب القرآني

ونلاحظ في هذا الفصل روعة الأسلوب القرآني في عمقه الإنساني وامتداده الروحي والفكري ، فلم يلجأ إلى المواجهة الشديدة القاسية التي تهاجم خصومها من موقع العداوة ، ولم يتعقّد من الأساليب الملتوية التي كانوا يمارسونها ضد الرسالة والرسول ، بل انطلق من موقع القاعدة الإسلامية الصلبة التي تحاكم أعداءها من خلال خطواتهم العملية ومواقفهم العدوانية في التاريخ ، وتمتد هذه المواقف إلى بدايات الرسالات السماوية التي انطلقت في حياة الناس لتجعل من بني إسرائيل الأنبياء والرسل ، مما يحقق لهم الفضل الكبير والميزة الفضلى ، لكنهم لم يشكروا ولم يتحركوا في هذا الخط المستقيم ، بل تمردوا وانحرفوا وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وعاثوا في الأرض فسادا ، وظنوا أن هذه الامتيازات مرتكزة على أساس مقوّماتهم الذاتية التي يتميزون بها عن بقية الشعوب ، باعتبارهم الشعب الأقرب إلى الله ، المختار لديه ... ثم تلتفت الآيات القرآنية إلى الحاضر ، لتحصي عليهم زلاتهم وجرائمهم ووقوفهم في الواجهة العريضة من خصوم الدعوة وأعدائها.

ونجد ، في هذه المحاكمة الطويلة ، الروح السمحة التي تنفتح على هؤلاء ، لتدعوهم ، بكل حنان ، إلى التراجع عن الموقف الخطأ ، والرجوع إلى الموقف الصحيح ، والانفتاح على تقوى الله بكل وداعة وحنان وواقعية ، للإيحاء بأن الإنسان مهما ابتعد عن الله ، ومهما انحرف عن خطه المستقيم ، فإن الله لا يهمله ولا يتركه لهواه ، بل يتعهده بالرعاية ، فيدعوه إليه ليفتح قلبه وروحه على الحق.

١٢

ونحن ، هنا ، في محاولة دراسية لهذه الآيات ، لنبحث فيها عن دور بني إسرائيل ، وملامحهم ، وأساليبهم الملتوية ، وعقدهم النفسية العميقة ، ثم نتوقف عند المواقف النبوية العظيمة التي كانت تواجه هذا الواقع المملوء بالتحديات والصعوبات بصبر الرسول وقوة الرسالة ووعيها العميق ، ونحاول الاستفادة منها في أسلوبنا العملي في دعوتنا إلى الله.

* * *

اذكروا نعمة الله وأوفوا بعهده

إن الله يريد في هذه الآيات أن يذكّر بني إسرائيل بنعمه عليهم ، ليقودهم إلى الشعور بمسؤوليتهم إزاءها ، فيقفون منها موقف الشاكر للنعمة في مجالها العملي بطاعة الله ، ويقدمون للرسالات الإلهية الدعم والقبول والانقياد. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) لتعرفوا أن سلوككم المتعنّت مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس موقف الشاكر ، بل هو موقف الكافر للنعمة ، لأنكم تعرفون أنه رسول الله حقا. أما ما هي النعم التي أنعمها الله عليهم ، فهذا ما تحدثت عنه سورة البقرة في ما يأتينا من آيات.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) إن هذه الفقرة توحي بأن ثمة عهدا بين الله وبينهم ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأن ينسجموا مع الخط الذي يريده للإنسان ، بتصديق رسله ونصرهم ، ولكن ، هل هو عهد خاص بين الله وبين بني إسرائيل ، لتنطلق المطالبة من خلال هذه الخصوصية التي تميزهم عن الآخرين؟ الظاهر أن القضية أوسع من ذلك ، فنحن لا نلمح وجود عهد خاص ببني إسرائيل ، بل هو عهد الله مع كل عباده في كل زمان ومكان ، في ما أخذه الله عليهم من خلال فطرتهم التي تدعوهم إلى عبادته. وقد تحدث الله في أكثر

١٣

من آية عن هذا العهد والميثاق فيما بينه وبين عباده ، ولم يكن الحديث عن العهد مع بني إسرائيل ، إلا لأن القصة تتضمنهم وتسير في اتجاه تاريخهم.

وهناك عهود أخرى ذكرها القرآن في ما أخذه الله عليهم مثل قوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة : ٦٣] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ...) [المائدة : ١٢].

ونستوحي من مفردات هذا الميثاق تأكيدا على ما ذكرناه من أنه ليس هناك عهد خاص بهم ، بل هو العهد الذي أخذه الله على عباده كافة.

(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) لقد تعهد الله لعباده بأن ييسر لهم سبل الحياة ، ويسخّر لهم ما فيها من نعم وطاقات ، ويدخلهم جنات عدن التي وعد بها عباده المتقين. ونخرج من هذه الفقرة بفكرة حاسمة ، وهي أن الله عند ما وعد عباده بالجنة في الآخرة ، وبالنصر ، والمعونة ، والرعاية ، وبجميع المعاني الكبيرة ، اعتبر ذلك في مقابل عهد عباده له في ميثاقه الذي أخذه عليهم ، بأن ينسجموا مع خط الإيمان والعمل الصالح ، فليس لهم أن يطالبوه بشيء ما لم يقدّموا في مقابل ذلك وفاء بالعهد والميثاق. وينبغي أن نلاحظ في هذا المجال ، أن العباد لا يستحقون على الله شيئا ـ أيّ شيء ـ لأنهم مخلوقون مملوكون له ، ولكنهم استحقوا ذلك بوعده ولطفه ورحمته ، فهو استحقاق بالوعد والتفضل له بالذات.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فإذا كنتم تخافون وتنحرفون عن الخط خوفا من الناس ، ورهبة من فقدانكم لامتيازاتكم في ما تحصلون عليه من مال وشهوة ونفوذ ، فاعلموا أن أحدا لا يستطيع أن يضركم إلا بإذن الله ، فلتكن الرهبة له في قضايا الدنيا والآخرة ، لأنه هو مالك الدنيا والآخرة جميعا ، فهو وحده

١٤

الذي يرهب من سطوته وعقابه. وقد قدم المفعول هنا لإفادة الحصر كما في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

* * *

لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) آمنوا بما أنزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته وفي قرآنه ، الذي يصدق ما معكم من التوراة ، لأن الأنبياء لا يأتون ليكذّبوا من قبلهم ، بل ليصدّقوه وليكملوا ما نقص بفعل تقدم الحياة وتطورها وحاجتها إلى الأشياء الجديدة. (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، لأن الكفر به لا ينسجم مع معرفتكم بصحة دعوته ورسالته ، من خلال البراهين التي تملكونها في ما بين أيديكم من الدلائل والبراهين.

وقد يسأل سائل : كيف يقول الله سبحانه : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، مع أنهم ليسوا أول الكفرة به ، لأن مشركي قريش قد سبقوهم إلى الكفر والإنكار؟

والجواب : إن من الممكن ورود هذا التعبير على سبيل المبالغة لتأكيد ضرورة الإيمان بالقرآن قبل الآخرين ، وربما كان الأساس في ذلك ، أن المشركين لا يملكون القوة الفكرية المؤثرة في المجال العملي للدعوة الإسلامية ، بالمستوى الذي يملكه الكتابيون من التأثير ، مما يجعل لهم أهمية بالغة بالنسبة إلى غيرهم ، حتى أن كفر غيرهم ممّن سبقهم إلى الكفر بمنزلة العدم لقلة أهميته.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ، الشراء هنا بمعنى البيع ، كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [البقرة : ٢٠٧] (وَلا تَشْتَرُوا) وذلك بأن لا تتركوا الآيات الحقة في مقابل ما تحصلون

١٥

عليه من الآخرين من امتيازات مالية أو معنوية ، فإن هذا الثمن الذي تأخذونه في مقابل محاربتكم للإسلام لا يمثل شيئا أمام المكاسب الدنيوية والأخروية التي تحصلون عليها بالسير مع آيات الله وشرائعه. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أي لا تخافوا غيري ، لأنه لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ، بل اتقون في ما تفعلون وفي ما تتركون ، لأني القوة الوحيدة التي تملك مصير الإنسان في دنياه وفي آخرته. پوالتقوى ليست هي الخوف ، كحالة طارئة تعيش في مشاعر الإنسان الداخلية ، بل هي ملكة في وجدانه وضميره ، توجهه نحو الانضباط أمام أوامر الله ونواهيه ، فإذا انفتح له باب من الحرام لم يدخل فيه ، وإذا انفتحت له أبواب الطاعة سار إليها بإخلاص وإيمان.

* * *

بنو إسرائيل بين الخديعة وكتمان الحق

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

كان اليهود يتبعون في مواجهة الإسلام أسلوبين :

الأول : أسلوب الخداع والتمويه ، وذلك بتلبيس الحق بالباطل ، وإثارة الشبهات والالتباسات في قضايا الإيمان والتشريع ، حتى يجعلوا الحق خفيا على الناس ، بحيث يقف الإنسان بين الحق والباطل ، فلا يقدر على التمييز بينهما ... وهذا ما يحاول الكثيرون إثارته وممارسته في حياتنا الآن ، في ما يحركونه من أساليب التشكيك في فكر الإسلام وطبيعته ، وفي انتصار الإسلام وإمكانيات وصوله إلى الهدف الكبير في الحياة ، وقد مارسه اليهود في الماضي ولا يزالون يمارسونه في الحاضر بأساليبهم المتنوّعة.

الثاني : أسلوب كتمان الحقيقة وإخفائها ، فقد كانوا يملكون الكثير من

١٦

المعلومات والأدلة التي تؤكد صدق الرسول في رسالته ، ولكنهم كانوا يخفونها عن الناس لأنهم لا يريدون للإسلام أن يأخذ مكانه الطبيعي كقوة رسالية إلهية في الحياة ، حسدا وبغيا من عند أنفسهم. وهذا الأسلوب هو ما نواجهه تماما في صراعنا مع الكفر والإلحاد ، عند ما ينكرون كثيرا من دلائل الحق التي يعلمونها ، لئلا يكون منه حجة عليهم في ما يقبلونه وفي ما يرفضونه منه.

ولا بد لنا من الإشارة إلى نقطتين لتوضيح معنى الآية :

النقطة الأولى : إن الفرق بين حالة كتمان الحق وحالة تلبسه بالباطل ، هو أن هناك قضايا لا يستطيعون اللعب عليها ، لعدم قابليتها لذلك في مدلولها الفكري والعملي ، فكانوا يلجأون إلى كتمانها عن الناس لئلا يعرفوا وجه الحق فيرتبطوا به ، وهناك قضايا لا تخلو من الغموض والخفاء في تفاصيلها الدقيقة ، فكانوا يلجأون إلى خلطها بالباطل من عند أنفسهم ، ليلبسوا على الناس دينهم ، ويلعبوا من خلال ذلك في ما يريدون من شؤون اللعب بالحق والباطل.

النقطة الثانية : إننا نلاحظ في القرآن أنه يتوجه إلى أهل الكتاب لا إلى الأمّة في قضية كتمان الحق أو تلبيسه بالباطل ، مع أن من المفروض ـ في ما يبدو ـ أن يطلب من الأمّة أن تتعرف وجه الحق وخلوصه من الباطل من خلال قراءة التوراة والتدبر فيها ، ولكن الظاهر أن الناس كانوا لا يملكون سبيلا إلى الاطلاع على التوراة ليطلعوا على ما فيها ، لأنهم كانوا يحتكرونها ويخفونها عن الناس ، ولا يظهرون لهم إلا ما يريدون إظهاره ، كما أنها لم تكن معرّبة حتى يعرف الناس لغتها لو قدروا على الحصول عليها ، فكانت طريقة المعرفة الوحيدة هي طريقة الأخذ من علماء أهل الكتاب ، ولهذا رأينا القرآن الكريم يتجه إليهم ليتحداهم أن يظهروها للناس ليكشف لهم ما فيها من حقائق ، وهذا

١٧

ما تظهره الآية الكريمة : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣].

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فإن الركوع هو غاية الخضوع لله الذي يجب أن تعيشه الخليقة في كل مظهر من مظاهر وجودها الحي الفاعل ، لتكون الحياة كلها في خدمة الله وطوع إرادته ، فينبغي للإنسان أن يكون مع الناس في ركوعهم لله ، فلا يكون في جانب والذين يسيرون مع الله في جانب آخر.

* * *

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟!

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

إن هذه الآية تواجه اليهود بالواقع العملي المنحرف الذي كانوا يعيشونه في عصر الدعوة ، فقد جعلوا من أنفسهم حماة الكتاب والشريعة ، ودعاة الاستقامة على الحق ، وقادة الناس إلى الخير ، وذلك من خلال الدور الذي فرضوه لأنفسهم ، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا خائنين لهذا الدور في ممارساتهم العملية ، فكانوا بمنزلة الذين ينسون أنفسهم في حساب المسؤولية ، فلا يعيشون القلق أمام قضية المصير في الدنيا والآخرة ، بينما نراهم يثيرون قلق الناس وخوفهم من مواجهة ذلك في حياتهم العامة ، وتلك هي الطريقة التي يفقد فيها الإنسان عقلانية التحرك ويستسلم لسذاجة العاطفة والغريزة في ما يقوم به من أعمال ، لأن العاقل هو الذي يفكر في نجاة نفسه عند ما يتحرك في إثارة الآخرين نحو نجاة أنفسهم. إن قيمة العقل هي في إدراكه الفوارق العملية بين حسن الأشياء وقبحها ، ثم الاتجاه نحو التطبيق العملي لمدركاته ،

١٨

ونلاحظ في كلمة (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أنها ليست مجرد جملة اعتراضية يراد بها تصوير حالتهم أمام الارتباط بالكتاب ، بل هي لفتة نقدية للواقع في معرض الإيحاء لهم بالاستغراق في ما يتلونه من آيات الله من أجل وعي أعمق وسلوك أفضل ، لما في ذلك من التأنيب والتبكيت حيث يعيشون الغفلة العميقة عن أنفسهم في الموقف الذي يملكون فيه حضور الوحي الذي يهز الغفلة في أعماق النفس ، بصرخة الحق ويقظته.

ونلاحظ في كلمة : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن الآية تريد أن تثير في أنفسهم الشعور بأن المشكلة لديهم ليست مشكلة علم ، ليصار إلى توجيههم نحو الأخذ بأسباب العلم ، بل هي مشكلة تجميد للعقل في المسائل التي تدخل في حساب التمييز العملي بين الحسن والقبيح. وقد يثأر هنا سؤال :

هل نفهم من الآية أنّ على الإنسان الذي لا يملك الإرادة القوية في إخضاع خطواته العملية لمبادئه ، أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لئلا يكون ممن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه ، مما يجعل من هذه الفريضة فريضة على الذين يملكون العصمة في العمل في ما يجب وفي ما يحرم؟

والجواب : إن الآية ليست واردة في هذا الاتجاه ، بل كل ما هناك أنها تريد أن تثير في نفوس العاملين في سبيل الدعوة إلى الله ، بأسلوب التوبيخ والتأنيب ، الشعور بضرورة التخلص من هذه الازدواجية بين موقف الداعية وموقف المؤمن ، للتوصل إلى الوحدة بين الكلمة والموقف ، لأن ذلك يتصل بنجاح الدعوة عند ما يعظ الداعية الناس بأقواله وأفعاله ، وبشخصية الداعية عند ما تستقيم خطاه في اتجاه خطوات فكره وإيمانه.

أمّا قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي من القضايا الواجبة التي لا ترتبط بالممارسة العملية لما يأمر به الإنسان ولما ينهى عنه كشرط للوجوب لتكون فريضة للمعصومين عمليا ، لأن من واجب الإنسان أن

١٩

يخوض صراع الإيمان والضلال على جبهتين : داخلية يصارع فيها الانحراف في خطواته ، وخارجية يصارع فيها الضلال في حياة الآخرين ، وعلى ضوء ذلك ، كان الجهاد الأكبر جهاد النفس ، والجهاد الأصغر جهاد أعداء العقيدة بالحرب ، يسيران جنبا إلى جنب كفريضتين شرعيتين. إن المسلمين الذين جاهدوا الكفار بالسلاح وجاهدوا الكفر بالدعوة ، لم يكونوا معصومين ، بل كانوا يعصون الله وينحرفون عن الخط في بعض الحالات ثم يرجعون إلى هداهم عند ما ينتبهون ويتذكرون.

وخلاصة الفكرة : أن الآية ليست في معرض عدم جواز الجمع بين سلبية العمل وإيجابية الدعوة ، بل هي في مقام التوبيخ والإثارة ضد هذا الواقع من أجل تصحيح السلوك واستقامة المسيرة ، ليجتمع للداعية وعي الدعوة وسلامة التطبيق ، لئلا يتخذ الآخرون من انحراف الداعية مبررا للعذر في الانحراف ، ووسيلة لمحاربة الدعوة.

* * *

٢٠