تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

الثاني : إن الأمّة مخاطبة بأن تأخذ ما آتاها الله من الكتاب بقوّة ، فلا تستسلم للضعف الذاتي الذي تفرضه الشهوات على الإنسان عند ما تضغط عليه في الداخل ليترك الالتزام بمبادئه ومفاهيمه أمامها ، ولا تضعف أمام عوامل الضغط الخارجية التي تفرض نفسها على مصالحه لتهدده بالإساءة إليها فيما إذا حاول التمرد عليها لمصلحة إيمانه ، ممّا يجعل من قضية الموقف القوي معها قضية يفرضها الوفاء بالميثاق بين الله وبين عباده.

وقد نستوحي من ذلك ضرورة أن يعمل العاملون على تحقيق القوّة لوحي الله المنزل في الحياة ، من خلال العمل على الدعوة إليه لتحقيق امتداده في أكبر مساحة بشرية ، لأن إيجاد القوة البشرية للدعوة إلى الله يمنح الموقف قوّة في داخل الإنسان عند ما يشعر بالتماسك أمام الضغوط المتنوعة من خلال شعوره الذاتي بالقوة المستمدة من الجو العام ، كما يعطيه قوّة في ساحة الصراع حين يقف المؤمنون بقوتهم الإيمانية ليرهبوا أعداء الله ويدعموا المستضعفين من أوليائه.

الثالث : إن الإيمان يفرض على الإنسان مواجهة الأعمال الواجبة والمحرّمة في مقام الإطاعة بعمقها الفكري والروحي والعملي ، لا بشكلياتها الساذجة ، ممّا يجعل من محاولة تطويق الفكرة بالشكليات التي تعطي للطاعة معناها الحرفي على حساب أهدافها الواقعية ، قضية تشبه اللعب على الفكرة باسم الفكرة ، ولهذا اعتبر الله عملهم في السبت اعتداء على الميثاق مع أنهم لم يخالفوا حرفيّة الأمر ، فإن المطلوب هو أن لا يصطادوا في السبت ، وقد فعلوا ذلك ، ولكن بعد أن طوّقوه بإيجاد الطريقة التي تجعلهم يحصلون على نتيجة الصيد بشكل غير مباشر ، وعلى هذا الأساس ، كانت عقوبتهم قاسية في الدنيا والآخرة ، لأن هذه الطريقة التي تفرّغ الطاعة من روحيتها تتحول إلى ما يشبه السخرية والاستهزاء بالتشريع وصاحبه ، للإيحاء بقدرة المكلف على أن يتجاوز

٨١

أهداف التشريع بالأسلوب الذي لا يستطيع المشرّع معه أنه يسجّل عليه نقطة مخالفة قانونية.

* * *

٨٢

الآيات

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣)

* * *

٨٣

معاني المفردات

(هُزُواً) : سخرية.

(فارِضٌ) : الفارض : المسنّة التي انقطعت ولادتها.

(بِكْرٌ) : صغيرة لم تحمل بعد.

(عَوانٌ) : وسط.

(فاقِعٌ) : شديد الصفرة.

(ذَلُولٌ) : الذلول : الريّض الذي زالت صعوبته ، والمراد هنا بقوله (لا ذَلُولٌ) البقرة التي لم تعتد العمل في الأرض.

(مُسَلَّمَةٌ) : خالية من العيوب.

(شِيَةَ) : علامة.

(فَادَّارَأْتُمْ) : أصلها تدارأتم على وزن تفاعلتم ، ومعنى التدارؤ التدافع.

* * *

بنو إسرائيل وقصة البقرة

في هذه الآيات ، قصة مثيرة من قصص بني إسرائيل ، وذلك من جهتين ؛ فهي من جهة تشتمل على جانب من الإعجاز ، من حيث إحياء الله الميت القتيل الذي انطلقت القصة في أجواء الخلاف في قاتله ؛ وهي من جهة ثانية تشتمل

٨٤

على صورة مجتمع بني إسرائيل من الداخل ، وتوضح لنا الطريقة التي يواجه بها أفراده الأوامر الصادرة من موسى إليهم ، مما يوحي بطبيعة المشاغبة التي تجعلهم يواجهون القضايا من موقع التعقيد ، لا من موقع البساطة ، فيحوّلون مهمة النبي في قيادته الفكرية والعملية إلى مهمّة صعبة ، لأن هناك فرقا في حركة القيادة ، بين قيادة تتحرك في جمهور يطيع الأوامر كما ترد في صيغة الأمر ، وبين قيادة يقف جمهورها ليسأل عن كل صغيرة أو كبيرة من دون أن يكون ذلك داخلا في حساب مسئوليته ، فإن ذلك يعطل الحركة وينذر بالهزيمة في أصعب المواقف وأكثرها تعقيدا عند ما تكون بحاجة إلى الحسم والتحرك السريع.

ولا بد لنا من وقفة أمام هذا الحوار بين موسى وبين قومه ، لنستجلي بعض خصائصه الموضوعية ، فقد طلب منهم ـ باسم الله ـ أن يذبحوا بقرة ، فاستغربوا الطلب ، لأنهم لم يفهموا علاقته بالقضية المتنازع عليها ـ أو هكذا حاولوا أن يصوّروا الموضوع ـ فاعتبروا ذلك هزءا وسخرية بهم من موسى ، فدلّلوا على أنهم لا يعرفون مقام النبوّة ولا شخصية النبي بأبعادها الروحية التي تمنعه من أن يوجّه إليهم طلبا باسم الله على سبيل العبث والسخرية بهم ، فإن ذلك يعتبر إساءة لله باستخدام اسمه في هذا المقام وبالكذب عليه ، لأنه يخبرهم بأن الله يأمرهم بذلك من دون أساس.

* * *

أمر بني إسرائيل بذبح البقرة

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أية بقرة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) لأن مثل هذا الأمر لا يخضع لأية مناسبة تتصل بحياتنا في أوضاعنا الخاصة والعامة ، فليس المورد مورد قربان نقدمه إلى الله في مناسباته الخاصة

٨٥

لنعتبرها قربانا له ، وليس المقام مقام دعوة للإطعام لنقدم لحمها للآكلين الفقراء ، وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصور الواقعي المعقول.

وكان جواب موسى في مستوى المدلول السيئ لردود قومه عليه ، ولذا جاء جوابه زاخرا بالمرارة (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، فقد استعاذ بالله أن يكون من الجاهلين ، لأن مثل هذا التصرف ـ على حسب مفهومهم الخاطئ ـ يجعل موسى في موقف الجاهل الذي لا يعرف كيف يتصرف وأين يضع كلماته ، ولا يعقل مركز النبوّة ومنطلقاتها العملية ، كما أنه لا يمكن أن يحدثهم عن الله بما لم ينزله عليه ، ومما لم يأمرهم به ، لأن ذلك يعتبر خيانة من الرسول وكذبا على الله ، وكيف يمكن أن يسخر موسى ـ النبي ـ بالناس الذين جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدي في مواقع المسؤولية في الحياة ، لا سيما إذا كانت المسألة مرتبطة بالعمل الذي يكلفهم الكثير من الجهد والمال والتعقيدات الاجتماعية.

* * *

سؤالهم عن حقيقة البقرة

وعادوا من جديد إلى المشاغبة ، ولكن من موقع اتهامه بأنه يحمل أمرا مبهما لا وضوح فيه ، فسألوه عن حقيقة البقرة ، وقد كان بإمكانهم أن يأخذوا بإطلاق الكلمة في مقام البيان ـ كما يقول الأصوليون ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). وبدأ الموقف يتجه اتجاها آخر يشبه العقوبة ومواجهة التحدي بمثله ، فتحوّل الجواب إلى التضييق عليهم بفرض قيود لم تكن داخلة في حساب التشريع في ذاته ... (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) إنها بقرة لا هرمة ، (وَلا بِكْرٌ) صغيرة ، (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) وسط بين ذلك ، وهي أقوى ما يكون ، (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) واستجيبوا لهذا الأمر الإلهي في حدوده الجديدة ،

٨٦

مما يعني أن القضية لا تحتاج إلى سؤال جديد ، فبإمكانهم أن يكتفوا بما ذكر لأنه لم يذكر لهم زيادة في التفاصيل ، وأن يسكتوا عما سكت الله عنه ، لأن الله لا يحاسب العباد إلا على ما يبيّنه لهم ، فلا عقاب بلا بيان.

ولكنهم لم يكتفوا بذلك ، بل عادوا يثيرون كل ما يتصورونه من خصائص البقر ممّا يمكن أن يقع موضعا للسؤال (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) لأن ألوان البقر تتعدد ، فهل يفرض علينا الله لونا معينا لنلتزم به ، لأنك لم تحدد لنا ذلك. وجاء الجواب الثاني ليحدّد ويضيّق ، ردّا على هذا الفضول الذي لا معنى له ؛ (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ... وعاد السؤال من جديد ، فهم لا يعرفون كيف يحصلون عليها لأنّ أنواع البقر تتشابه ، فلا يملكون الحصول على المطلوب المحدّد ، فطلبوا الصفات التي يمكن أن يجدوها بسهولة ، على الطبيعة ، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) في خصائصها وصفاتها الواضحة التي تجعلها أكثر وضوحا ، وكأنهم شعروا بأنهم قد ذهبوا بعيدا في هذا المجال ، فابتعدوا عن الخط في هذا الإلحاح الفضولي الذي لا يتناسب مع موقفهم من النبي كما لا ينسجم مع طبيعة المسؤولية ، فوعدوه بأنهم سيسلكون طريق الهدى في نهاية المطاف ؛ (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) بالهدى الذي ترشدنا إليه في حدود المسؤولية المتصلة بالواقع العملي للطاعة في انقيادنا لأوامر الله.

وجاء الجواب أكثر تحديدا وتضييقا (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) ، لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها ، (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) لا يستقى عليها الماء للزرع ، (مُسَلَّمَةٌ) من العيوب ، (لا شِيَةَ فِيها) لا علامات فيها تخالف لون جلدها. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) فإن هذه الأوصاف المتعددة تضعنا في موقع الوضوح الذي لا مجال فيه للحيرة والاشتباه .. ولم يملكوا سؤالا جديدا ، (فَذَبَحُوها) لأنهم لا يجدون حجة على الامتناع (وَما كادُوا

٨٧

يَفْعَلُونَ) لأنهم لا يعيشون في أنفسهم روح الطاعة والانقياد.

* * *

معجزة إحياء الميت

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ولم يتبيّن لكم القاتل ، (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي اختلفتم ، فكان التوجيه الإلهي لموسى عليه‌السلام ـ بعد أن سألتموه ـ في إظهار الحق في القضية التي كادت أن تخلق لكم مشاكل صعبة مدمّرة ، أن تذبحوا بقرة ، ليظهر الحق من خلال ذلك في نهاية المطاف ، (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من الحقيقة المعروفة لديكم في الباطن ، الغامضة في الظاهر ، نتيجة كتمانكم لمعلوماتكم. (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) أي اضربوا القتيل ببعض البقرة ، ليحيي فيحدثهم عمن قتله ويرجع بعد ذلك ميتا ، فيكون ذبح البقرة قربانا يقدمونه إلى الله ليستجيب لهم في دعائهم بأن يكشف لهم سرّ القاتل لتحل مشكلتهم الاجتماعية بذلك ، حتى لا يتبادلوا الاتهامات التي تثير الخلاف والشحناء ، وربما تؤدي إلى القتال وسفك الدماء ، وليكون ذلك تقليدا دينيا لديهم في تقديم القربان إلى الله في كل حاجة يريدون قضاءها ، وفي كل مشكلة يطلبون حلها ، وفي كل سرّ يتطلعون إلى معرفته ، ولينطلقوا من خلال ذلك إلى تأكيد فكرة الحياة بعد الموت من خلال التجربة الحسية التي تركّز المبدأ في حياتهم ، ليزداد إيمانهم به بعد الموت. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) كما أحيى هذا الميت ، (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ودلائل قدرته كما في هذه الحادثة التي تمثل معجزة إحياء الميت ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وتحركون عقولكم في التفكير في تخطيط المنهاج الفكري العقيدي في قضية الإيمان باليوم الآخر ، على أساس المقارنة بين عملية الإيجاد التي هي دليل على القدرة في عملية البحث ، وبين التجربة الحية الماثلة أمامهم التي تكون دليلا على طبيعة التجربة الكبرى التي جاءت بها

٨٨

النبوّات في قضية يوم القيامة.

وهذا تأكيد لدور العقل في مسألة العقيدة التي تستطيع أن تأخذ من حركته في القضايا الفكرية الأساس القوي الذي يركز الفكرة على قاعدة ثابتة لا تهتز تحت تأثير الأهواء والعواصف.

* * *

من وحي الآيات

ويمكن أن نخرج من هذا الموقف القلق بانطباعين :

الأول : أنهم كانوا يبحثون عن الحجة التي تبرر لهم الامتناع عن أداء الأوامر وامتثالها ، وذلك بإثارة الفضول أمام النبي مما يدخل القضية في نطاق المناقشات الجدلية التي تفقد الموقف روحانيته وحيويته وجديته ، وتؤدي بالنتيجة ـ في زعمهم ـ إلى انسحاب النبي من الساحة وإلغاء الأمر من خلال الحالة النفسية التي تثيرها هذه الأجواء في نفسه.

الثاني : أن يأخذ القادة درسا عمليا في المسؤوليات العادية الموجهة إلى الأشخاص ، التي لا تنطلق من حكم شرعي محدّد ، بل من مهمّات عمليّة عامة تدخل في حركة العمل ، فإذا واجهتهم مثل هذه النماذج ، فإن عليهم أن يواجهوها بطريقة تأديبية هادئة ، كدرس عملي لهؤلاء بأن يمتنعوا عن الأسئلة التي لا معنى لها ، لئلا يعودوا إلى مثلها في المستقبل عند ما يشعرون بأن ذلك قد كلفهم مسئوليات ثقيلة لم تكن واردة في الحساب ..

وهذا ما نستوحيه من الحديث المأثور عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب أصحابه فقال : إن الله كتب عليكم الحج ، فقام عكاشة (ويروى سراقة بن مالك) فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض

٨٩

عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله ولو قلت نعم لوجبت ؛ ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم كفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (١).

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٨ ، ج : ٢٢ ، باب : ٣٧ ، ص : ٢٩١.

٩٠

الآيات

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٩١

الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢)

* * *

معاني المفردات

(يَشَّقَّقُ) : أصله يتشقق : وهو أن ينقطع من غير أن يبين.

(بِغافِلٍ) : الغفلة : السهو عن الشيء ، وهو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره ، ويقال : تغافلت على عمد أي عملت عمل الساهي.

(خَلا) : انفرد.

(فَتَحَ) ؛ الفتح في الأصل يستعمل للشيء المغلق ، والمراد به هنا الحكم ؛ يقال : اللهم افتح بيني وبين فلان ، أي احكم بيني وبينه.

(لِيُحَاجُّوكُمْ) : ليغلبوكم بالحجة.

(يُسِرُّونَ) : يتحدثون سرّا أو يفضون إلى بعضهم البعض سرّا.

(أُمِّيُّونَ) : جمع أميّ ، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة.

(أَمانِيَ) ؛ «واحدها أمنية ، ومن معانيها تمني القلب ، وهو أظهرها وأكثرها استعمالا ، وتستعمل في التلاوة أيضا» (١).

(فَوَيْلٌ) : الويل : في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة ، وأصله العذاب والهلاك ، ومثله : الويح والويس ، وقال الأصمعي : هو التقبيح ، ومنه :

ولكم الويل مما تصفون (٢).

__________________

(١) مغنية ، محمد جواد ، التفسير الكاشف ، دار العلم للملايين ، ط : ٤ ، حزيران ١٩٩٠ م ، م : ١ ، ص : ١٣٣.

(٢) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٩١.

٩٢

(يَكْسِبُونَ) : أصل الكسب العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر ، وكل عامل عملا بمباشرة منه له ومعاناة فهو كاسب له.

* * *

بنو إسرائيل في مراحل التحجّر والتحريف والنفاق

مرحلة التحجّر

ثم جاءت مرحلة جديدة من تاريخ بني إسرائيل ، ولكنها تختلف عن المراحل السابقة ؛ فقد كانت تلك المراحل تمثل جانب التمرد الذي يلين بعد ذلك إلى التوبة والإنابة والطاعة ، وتعيش طبيعة المشاغبة التي تثور ثم تتطامن وتهدأ وتفيء إلى الاستقامة.

أمّا هذه المرحلة الجديدة ، فإنها تمثل التحجر الذي أصاب عقولهم وأرواحهم ، فأغلقها عن الانفتاح على كل وحي إلهي ، أو فكر إنساني ، أو شعور روحي ، فليس هناك مجال للحق ، لأن النوافذ كلّها مشرعة على الباطل ، وليس هناك مجال للرحمة ، لأن الآفاق كلها قد امتلأت بالحقد والعداوة والبغضاء ، وبالأنانية التي لا تعرف غير الذات في أطماعها وشهواتها مجالا للتفكير وللتعاطف.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). ويتصاعد الأسلوب القرآني في تصوير المدى الذي بلغته القسوة التي تطبع شخصيتهم بطابعها ، فلا يجد في الحجارة مثلا صالحا لإعطاء الصورة الصارخة ، بعد أن بدأ الموضوع من هذا الجانب ، لأن التشبيه يفرض أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أقوى من المشبّه ، كما تقول : زيد كالأسد ، باعتبار أن الشجاعة التي هي وجه الشبه في الأسد أقوى منها في زيد ، مما يعطي التشبيه دورا في إيضاح

٩٣

صورة الشجاعة في زيد بشكل أقوى ... أمّا هؤلاء ، فإن قلوبهم أقسى من الحجارة ، (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) فينتشر منها الخصب والجمال في كل مكان ... (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أي الينابيع الصغيرة ، التي تسقي من حولها وما حولها ... (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، وهي تعبير عن انفعال هذه الحجارة التي تتساقط بفعل العوامل الطبيعية ، بالخضوع التكويني لإرادة الله في إطار العظمة الكونية الخاضعة له ، نظير التعبير بالطاعة في السماء والأرض ، والسجود والتسبيح في سائر المخلوقات الحيّة والجامدة ... هذه هي قصة الحجارة التي تبدو قاسية في ملامحها ، صلبة في تكوينها. أمّا هؤلاء ، فإن قلوبهم لا تنفتح للرحمة ولا للعطاء ، فهم يقتلون الأنبياء بغير حق ، ويبخلون بأموالهم وعلومهم وقواهم على المستضعفين ، ولا يعيشون الخشوع الروحي الذي تستسلم فيه القلوب والأرواح والعقول لله استسلام الخاشعين.

ولعل هذه المرحلة هي مرحلة قتل الأنبياء وتكذيبهم واضطهادهم ، وتحويل تاريخهم الديني إلى واجهة لاستغلال المستضعفين باسم الدين ، وهو ما يحدثنا القرآن عنه في ما نستقبل من حديث.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) في انحرافكم العملي عن خط الاستقامة ، وفي تمردكم على الرسالة والرسول ، وفي وحشيتكم القاسية في قتل الأنبياء بغير حق.

* * *

التاريخ في خطى الحاضر

وقد نستوحي من هذه الصورة القاتمة القاسية لهؤلاء ، أن علينا أن نتطلع

٩٤

في مسارنا العملي إلى النماذج الحية المتمثلة في واقعنا المعاصر ، ممن يقفون ضد المؤمنين والمصلحين الذين يدعون الناس إلى السير في الحياة على الخط المستقيم ، وضد الشعوب التي تطالب بالعدل والحق والحرية ، فيضطهدونهم ويواجهونهم بالقتل والتشريد والسجن والتعذيب ، لا لشيء إلا لأنهم يخافون على امتيازاتهم وأطماعهم واستغلالهم من الدعوات الإصلاحية والثورية ، سواء في ذلك الفئات الحاكمة الطاغية التي تقف في مراكز الحكم ، أو الفئات المترفة التي تملك زمام الثروة في المجتمع فتمنعها عن الطبقات المحرومة الضعيفة ، أو الفئات الكافرة الضالّة التي تملك قوّة النفوذ والسلاح ... إننا نستطيع أن نجد في كل أساليبهم وتصرفاتهم هذه الصورة التي يقدمها القرآن لبني إسرائيل ، وبهذا لا يعود التاريخ الإسرائيلي الذي قصه علينا القرآن مجرد مرحلة من مراحل الماضي ، بل يتحول ـ في وعينا ـ إلى صورة حيّة للإنسان القاسي الموجود في كل زمان ومكان. أمّا سبيلنا إلى استحضار هذه الصورة في وعي الناس ، فهو التركيز على طبيعة السلوك الإسرائيلي في المرحلة التي تحدث عنها القرآن ، ودراسة الخصائص الذاتية والعملية في شخصية أولئك الناس ، ثم البدء في عملية مقارنة مع النماذج المعاصرة المشابهة لها في طبيعتها وخصائصها وتصرفاتها ، لتتعمق الصورة القرآنية من خلال الخطوط العامة ، لا من خلال الحالة الخاصة ، لئلا نقع في ما يقع فيه الكثيرون ممن يلعنون التاريخ في نماذجه الشريرة ، ثم يباركون النماذج نفسها التي تأخذ في الحاضر صورة أشخاص ذلك التاريخ ، انطلاقا من الاستغراق في الشخص بعيدا عن العوامل الذاتية التي تثير فينا الشعور معه أو ضدّه ...

إنها قصة الوعي القرآني المتحرك الذي يجعل الآية تتحرك في مدى الزمن في صورها الحيّة ، وتطلعاتها الواسعة ، وخطواتها التي تطبع الخير والرحمة والبركة في كل مكان وزمان ...

* * *

٩٥

مرحلة التحريف

ويقف القرآن مع النبي والمؤمنين معه ، في معالجة قضية الدعوة أمام اليهود ؛ فقد كان النبي والمؤمنون معه يستشيرون مختلف الأساليب الفكرية والعاطفية في إقناعهم بالإسلام ، من أجل أن يؤمن اليهود المعاصرون للدعوة الإسلامية ، لأنهم كانوا يرون بعض ملامح الأمل في بعض كلماتهم وأوضاعهم العامة ، وكانوا يبذلون في ذلك جهدا كبيرا ، لما يمثله اليهود في المدينة من قوة روحية ومادية ، ممّا يجعل من إيمانهم بالإسلام قفزة كبيرة إلى الأمام في مجال القوة الإسلامية المتقدمة.

* * *

الطمع في إيمان اليهود أمل ضائع

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) وهذا خطاب للنبي وللمؤمنين معه الذين كانوا يطمعون في إيمان اليهود في المدينة لأنهم أهل كتاب ، فقد اطلعوا على ما في التوراة من حقائق العقيدة والشريعة والبشارة بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما جاء القرآن مصدّقا له ، الأمر الذي يجعل الحقيقة الإسلامية واضحة أمامهم بحيث لا مجال فيها لأية شبهة ، بل قد تكون المسألة في الوجدان الإسلامي للمسلمين في علاقتهم باليهود أنهم قد يتحولون إلى دعاة للإسلام من موقع الوعي العقيدي المرتكز على العلم الذي حصلوا عليه من التوراة ، ولكن القرآن يؤكد للمسلمين أن المشكلة لدى هؤلاء ليست كالمشكلة لدى غيرهم من الكافرين ، وهي مسألة جهلهم بالإسلام وبالحقائق الكامنة فيه ، ليحتاج النبي إلى جهد كبير في تعليمهم الكتاب والحكمة والدخول معهم في حوار طويل ،

٩٦

بل المشكلة مشكلة عناد مع سبق الإصرار ، انطلاقا من أن قضية الدين لم تكن لديهم قضية التزام فكري وعملي ، بل هي قضية تأكيد للذات على مستوى ذهنية المهنة التي تمنح صاحبها موقعا اجتماعيا متقدما ، وربحا ماديا كبيرا ، مما يؤدي بهم إلى تحريف النص الديني إلى غير ما يوحي به من الحقائق ، ليسخّروه في خدمة أطماعهم وشهواتهم ، ويوظفوه لهذا الطاغية وذاك المنحرف ، ويؤوّلوه على حسب الأوضاع الطارئة الموجودة في واقعهم ، كما كانوا يقولون عن المسلمين في حديثهم عن المشركين : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١] مع وضوح الضلال الإشراكي في عبادتهم للأوثان ، والهدى الإسلامي في توحيد الله في العقيدة والعبادة ، لذلك فإن قضية الكفر عندهم لم تكن منطلقة من الفكر المضاد ، بل من الذاتيات المنحرفة الغارقة في الأطماع والشهوات ، وهذا هو النموذج الذي تمثله القوى المتقدمة فيهم.

(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) ويدركون معانيه وإيحاءاته ودلالاته التي تقودهم إلى معرفة الحق في الدين الجديد والصدق في النبي المرسل ، (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) ويؤوّلونه ، ويبتعدون به عن ظاهره إلى معنى آخر ، لا علاقة له بالحقائق العقيدية الإيمانية (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وعرفوه في عمقه وامتداده بحيث لم تكن هناك شبهة ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ويجعلون الحرام حلالا والحلال حراما ، ويقولون : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥] فيحلّون لأنفسهم نهب أموال العرب الذين يطلقون عليهم اسم الأميين ، بحجة أن التوراة تبيح لهم ذلك.

فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم بعد ذلك ، لأن الإيمان لا بد من أن يتحرك من موقع قلق المعرفة الباحثة عن الحق ، وإرادة الإيمان المنطلقة في خطّ الفكر.

٩٧

وقد كان هذا الاتجاه المتحرك من موقع الأمل الكبير يشكّل خطورة على مسار العمل الإسلامي ، لأن ذلك يضيّع كثيرا من الجهود الفكرية والعملية التي يحتاج الإسلام إلى بذلها في مجال آخر نافع ، باعتبار أن إيمانهم ليس واردا في حسابهم في واقع الحال ، ولأن ذلك يسلم المسلمين إلى السذاجة الروحية ، وفقدان الحذر اللازم ، عند ما يدخل بعض اليهود في الإسلام ، فيحصلون على الثقة التي تمنحهم حرية التحرك في تخريب الإسلام من الداخل ، انطلاقا من صفة الإيمان التي حصلوا عليها ، ولأن إغفال المعرفة الحقيقية لما هم عليه ، يعطّل على المسيرة الإسلامية التحرك الفعلي ضد المخططات التي كانوا يرسمونها في الخفاء للقضاء على الإسلام والمسلمين.

وعلى ضوء ذلك ، نشعر بأن عملية تعرية الواقع الحاضر ، بعد عملية تعرية التاريخ ، ضرورة لحفظ الدعوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي من أخطار السذاجة والتضليل ؛ وذلك بالالتفات إلى أن هداية أيّ شخص لأية فكرة تتوقف على شرط الاستعداد النفسي لتقبّل هذه الفكرة أو الإيمان بها ، وخاصة في الحالات التي يعيش فيها البساطة الذهنية والقلق الروحي إزاء معرفة المجهول ، فعندها يكون مستعدا للأخذ والرد والدخول في عمليات الحوار في مختلف الجوانب ... أمّا هؤلاء ، فقد أغلقوا نوافذ أفكارهم عن كل شيء جديد ، لأنهم لا يتعاملون مع الحق بروحية الإيمان الذي يبحث عن الفكرة ليرتبط بها ، بل بعقلية التاجر الذي يريد أن يحقق لنفسه الربح المادي الوفير من خلاله ، فإذا فقد هذه الفرصة اتجه إلى التحريف ، ليستطيع أن يحقق لنفسه رغباتها على أساس ذلك ، وهذا ما عرفوه من آيات الله في التوراة ، فقد عرفوا الحق من خلالها كأوضح ما يكون ، ولكنهم حرفوه عند ما وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يحققوا لأنفسهم فيه مكسبا ومطمعا ذاتيا ... وفي ضوء ذلك ، لا مجال لأي تفكير أو طمع رسالي بهدايتهم أمام هذه الروح الغارقة في الضلال.

٩٨

نفاق بني إسرائيل

يمكن للبعض أن يدخل في الإيمان ظاهرا من أجل التوصل إلى مكاسب ذاتية أو تحقيق مخططات تخريبية ضد الإسلام والمسلمين ، وقد يدفعه ذلك إلى إبراز ما تشتمل عليه التوراة من دلائل وبراهين على صدق النبي في رسالته للتدليل بذلك على إخلاصه للإسلام ، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض ، وأفاضوا في الحديث عمّا قالوه للمسلمين وما قاله المسلمون لهم في نطاق الخطط المرسومة لديهم ، وقف أصحابهم للتنديد بهم على هذا الاسترسال في الحديث بما فتح الله عليهم من التوراة ، لأن ذلك سيكون حجة للمسلمين عليهم أمام الله يوم القيامة ، انطلاقا من إقرارهم بأحقية الإسلام ، وذلك خلاف الحكمة والعقل. ولكن الله يواجههم بسذاجة تفكيرهم في ما يخافونه من الاحتجاج عليهم بذلك ، لأنهم إذا كانوا يؤمنون بالله ، فينبغي أن يدفعهم إيمانهم إلى الشعور بأن الله مطّلع على سرهم وعلانيتهم ، فلا يحتاج إلى إقرارهم ليقيم الحجّة عليهم.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بما جاء به النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأننا نجد صدقه في ما لدينا من التوراة التي بشرت به ، كما نجد فيها الكثير من تفاصيل الشريعة الإسلامية التي تلتقي مع الكثير من أحكام شريعتنا ، ولذلك فإننا لا نجد أي مبرر لإنكار الإسلام ، (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) وتحادثوا بما قالوه للمسلمين من حقائق الإسلام في حقائق التوراة ، (قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من العلم الذي يمكن أن يكون حجة عليكم ، إذا انفتح الصراع بينكم وبينهم في ساحاته ، كما يكون حجة لهم عليكم عند ربكم ، من خلال إقراركم بأنهم على الحق ، على أساس ما تملكونه من حقائق التوراة المصدّقة لما يدعون إليه أو يؤمنون به ... (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) إذا لم تلتزموا الدين الذي يلتزمونه ، بعد إقراركم به ؛ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتفكرون بالنتائج السلبية

٩٩

التي تحصل لكم من ذلك كله. (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، فليست المسألة في قيام الحجة عليهم عند الله أنهم يحدثون المسلمين بما في التوراة ، بل المسألة هي المعرفة التي يملكونها ، فيتحملون مسئولياتها تجاه أنفسهم وتجاه الناس الآخرين في الإقرار بالحق ، والإيمان به ، والدعوة إليه في كل مكان وزمان ... وقد جاء في مجمع البيان : روي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه قال : كان قوم من اليهود ، ليسوا من المعاندين المتواطئين ، إذا لقوا المسلمين ، حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد ، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد ، فيحاجّوكم به عند ربكم ، فنزلت هذه الآية (١).

* * *

التوراة والمحرفون

ثم يتحدث الله عن بعض نماذج أهل الكتاب المعاصرين للدعوة الإسلامية ، فمنهم «أميّون» لم يأخذوا من العلم بشيء ، ولا يملكون أيّة معرفة بالكتاب إلا من خلال التمنيات التي تجعلهم يشعرون بالتفوق على الآخرين في الدنيا والآخرة ، لأنهم «شعب الله المختار» من دون أيّة معرفة يقينية ، وليس لهم من ذلك إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) لا يملكون المعرفة الواسعة العميقة التي تربطهم بالحقائق التي يحتويها الكتاب ، لأنهم يقفون عند المعاني الساذجة للكلمات ، ولا ينفذون إلى أعماقها (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ). ربما يراد من كلمة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٨٦.

١٠٠