تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

يقتلون الأنبياء بغير حق ، ويعصون ربهم ويعتدون على الناس بغير حق ... وتلك هي النهاية الطبيعية لكل شعب يفقد إيمانه ووعيه للقيم الروحية الكبيرة التي تغمر حياته بالقوة وروحه بالسكينة وتعمر كيانه بالقوة والحياة.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ويقال : إنه المن والسلوى ، باعتبار أنه الطعام الذي لا يتغير ولا يتبدل ، مما يعطيه معنى الوحدة حتى مع تعدده ، فنحن نريد التنوّع أو العودة إلى طعامنا الذي اعتدنا عليه بالإضافة إلى ما رزقنا الله من الطعام ، (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) وهو كل ما اخضرّت به الأرض من البقول والخضروات ، (وَقِثَّائِها) وهو الخيار ، (وَفُومِها) وهو الثوم ، (وَعَدَسِها وَ (١) بَصَلِها) وهما معروفان. (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أقلّ مرتبة في الخصائص والعناصر الشهية مما تطلبونه (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وهو المنّ والسلوى ، فلا ترتفعون في مزاجكم الغذائي إلى المستوى الأفضل؟ الأمر الذي قد يوحي بالجمود الذاتي في عاداتكم وتقاليدكم الذي يمتد إلى أفكاركم ، فلا تتحرك نحو التطوّر في اكتشاف الجديد في خصائصه ، أو الجديد لدى الشعوب الأخرى ، الذي قد يتميز عن القديم المألوف للناس ، حتى لو كان الجديد طيبا والقديم خبيثا ، بحيث يتعقّد الإنسان من الطيب ويرفضه لمصلحة الخبيث الذي يطلبه ، ولكن المسألة مهما كانت طبيعتها في ما تطلبون ، فإن هناك فرصة للحصول على ذلك في البلد الذي تتوفر فيه هذه المآكل ، لأن الصحراء التي تتيهون فيها لا توفر لكم ذلك.

(اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) من مشتهياتكم. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) من خلال خضوعهم للأطماع الذاتية ، التي تبتعد بهم عن القضايا الكبيرة في مواقع التحدي والتمرد على الذات ، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى الضعف النفسي والسقوط الروحي أمام الآخرين الذين يملكون حاجاتهم ويفرضون عليهم سيطرتهم ، من خلال نقاط الضعف المتحكمة فيهم

٦١

الكامنة في داخل شخصياتهم. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي عادوا بحصيلتهم العملية بغضب الله عليهم لعصيانهم له وتمردهم على رسوله ورسالاته ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بعد قيام الحجّة عليهم وإدراكهم للحقّ الصادر من الله ، (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) من خلال العقدة المتأصّلة في نفوسهم ضد الحق وأهله ، من الرسل الذين جاءوا ليحرروا الإنسان المستعبد من عبوديته والشخص المستضعف من استضعافه ، وليربطوه بالله الذي خلقه وأراد له أن يكون عزيزا حرّا ، وبالقيم الروحية التي أراد الله للإنسان أن ينطلق بها في كل خطواته في الحياة ليرتفع إلى الدرجات العليا في الروح والفكر والحركة والحياة ، ولكن هؤلاء الناس الذين تعودوا على الخضوع للاستعباد وأهله ، لا يريدون الانفتاح على الرسالة الجديدة الحرّة ، ولا يحترمون الرسل الذين يحملونها ، ولا يملكون في الوقت نفسه مواجهتهم بالحجّة ، فيعمدون إلى اضطهادهم وقتلهم لئلا يكونوا شهودا على الواقع الشرير الذي يتقلبون فيه ويتحركون من خلاله. (ذلِكَ بِما عَصَوْا) ربهم وخالفوا أو امره ونواهيه في اتباع الصراط المستقيم ، (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي يتجاوزون الحدّ في الظلم والبغي والفساد.

* * *

وقفة استيحاء للآيات

تستوقفنا في هذه الآيات التي تحدث الله فيها عن النعم التي أغدقها على بني إسرائيل فقابلوها بالجحود والنكران ، عدة نقاط :

* * *

٦٢

اليهود المعاصرون للنبي امتداد لمن سبقهم

١ ـ إنّ الله يخاطب بهذه الآيات اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ هذه القضايا التي أثارتها الآيات حدثت مع القوم الذين كانوا معاصرين لموسى ، فكيف يخاطب الله بها غير أصحابها؟!

والجواب على ذلك : أن الجماعة التي عاصرت النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت امتدادا لتلك الجماعة في مفاهيمها وقناعاتها وتمردها وبغيها ، لأنها مارست الأساليب التي مارسها أولئك مع موسى من اللف والدوران وارتباك المواقف. وعلى ضوء هذا ، نستفيد الفكرة التالية : إن كل فئة من الفئات التي تكون امتدادا لتأريخ معيّن تتبناه وترضى به ، تعتبر شريكة للفئات التي مارست ذلك التاريخ. وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن نحاسب أيّة فئة في مجتمعنا مشدودة إلى أيّ تاريخ انشدادا نفسيا أو فكريا أو عمليا ونخاطبها تماما بكل السلبيات المتحركة فيه ، لأن الرضى والانتماء يجعلانها في الموقف نفسه وفي الاتجاه ذاته ، مما يجعل الماضي قاعدة للمستقبل في مركز الوحدة الفكرية والروحية للفكرة وللحركة.

* * *

بنو إسرائيل ... صورة التمرد المستمر

٢ ـ إنها تعطينا صورة مجملة عن بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون التمرد والقلق والطفولة الفكرية التي تقفز من طلب إلى طلب ، ومن حاجة إلى حاجة ، لأنهم لم يرتكزوا على قاعدة فكرية أو روحية ، بل كانوا يتحركون

٦٣

بوحي شهواتهم وأطماعهم ونزواتهم ، فكانوا يقدمون الطلبات التي تستجاب لهم حتى على سبيل المعجزة ، لإفساح المجال لكل نقاط الضعف الكامنة فيهم أن تتحرك وتظهر لتأخذ مجالها في التوجيه والتربية دون جدوى.

* * *

مواجهة التمرد بالهدوء والثقة

٣ ـ إن هذه الآيات وغيرها تعطينا فكرة واضحة عن القوة الرسالية الروحية التي كان يتميز بها موسى النبي عليه‌السلام ، حينما كان يواجه كل مواقف التمرّد والطغيان والدلع والطفولة الفكرية والعملية ... برحابة الصدر وهدوء الرسالة الواثقة بنفسها ، ككل الأنبياء الذين حملوا الرسالة بقوّة وواجهوا كل أشكال التمرد والطغيان بروح واثقة برسالتها ، ومنسجمة مع مسئولياتها في الأسلوب والهدف ، لأنهم يشعرون بأن دور الرسول هو أن لا يعيش لمزاجه بل للرسالة ، وأن يشعر بأن عليه أن يتابع كل إمكانات الهداية ليطرحها في الساحة ويجربها في مجال الدعوة والعمل.

وهذا ما نحتاجه في عملنا الرسالي عند ما تواجهنا كل مواقف التمرد والطغيان ، ونكران الجميل ، والاتهام الكاذب ، والسباب ... وغير ذلك من التحديات التي تقابل الرسل والرسالات ؛ أن نقف في خط الرسالات الهادىء الواثق بالله ، المنطلق أبدا من موقع الرسالة لا من موقع الذات.

* * *

بنو إسرائيل أول جمهور رسالي

٤ ـ لماذا أفسح الله لبني إسرائيل هذا المجال الواسع في النعم والألطاف

٦٤

والرعاية؟ والجواب : لعلّ رسالة موسى كانت أولى الرسالات المتحركة في نطاق جمهورها ، الذي عملت من أجله على صعيد الرسالة وعلى صعيد الواقع ، فنحن نلاحظ أن الرسالات السابقة كرسالة نوح وإبراهيم عليه‌السلام ، لا تشعرنا بوجود المؤمنين كقوّة تتحرك مع النبي في صراعه ، أو يتحرك معها النبي في خطواته العملية ، بل كان الصراع وحده يتجه إلى الجو الذي يعيش فيه النبي مع الخصوم الرئيسيين للرسالة. ففي إطار رسالة نوح ، لا نشعر بالمؤمنين إلا من خلال وصف الكفار لهم بأنهم (أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] ، ثم لا نجد لهم أيّة حركة ، بل نجد نوحا يواجه كل التحديات كما لو كان وحده. وفي نطاق رسالة إبراهيم ، كان يواجه الكفار وحده ، وكان يواجه طاغية زمانه وحده ... وكانت القضية كلها هي قضية الإيمان والكفر في إطارهما العقيدي ، في حدود المعلومات التي حدّثنا القرآن عنها في شؤون الرسالتين.

أمّا موسى ، فقد كان يحمل قضية العقيدة في صراع الإيمان والكفر ، ويحمل قضية الاضطهاد الذي يعانيه هذا الشعب من حكم فرعون ، وبهذا كانت الرسالة تتحرك في اتجاهين : في صراع الإيمان ضد الكفر ، وفي صراع العدل ضد الظلم ، وبهذا كان للرسالة جمهورها المتحرك ، ولكن هذا الجمهور الذي خرج من جوّ الاضطهاد إلى جوّ الحرية بفضل الرسالة والرسول ، لم يكن في مستوى الرسالة ، فقد كان يناصر الرسول على أساس قضيته الحياتية المباشرة ، لا على أساس قضية الرسالة ، ولهذا كان لا بد للرسالة من الاحتفاظ بجمهورها أو بمقدار منه ، فتمنحه مقدارا كبيرا من الأجواء الهادئة الواسعة التي يتنفس فيها روح الرسالة ـ حياتها وأهدافها ـ ويشعر بأن الأجواء الجديدة هي أجواء الرحمة والرعاية حتى مع أشدّ التحديات قساوة وضراوة. ولعل التجربة كانت ناجحة ، لأننا رأينا انفصال مقدار كبير من الجمهور عن الخط المنحرف إلى الخط المستقيم ، كما نجد ذلك في الآيات القرآنية المقبلة إن شاء الله.

٦٥

باختصار ، إن الخطة كانت تتلخص في أن الرسالة لا تفقد جمهورها لتجعله يشعر بأنها لا تضطهده حتى في حالة تمرّده ، ولهذا أعطته المجالات الرحبة للالتقاء بخط الإيمان فكرا وروحا وحياة.

* * *

تركيز القرآن على بني إسرائيل لتبيين انحرافهم

٥ ـ لماذا ركز القرآن كثيرا على بني إسرائيل ، بحيث شغل جوّ القرآن كله بهم ، حتى نشعر بأننا نلتقي بهم في كل سورة؟

والجواب : إننا نشعر بأن صراع الإسلام مع التحريف في الرسالات السماوية المتقدمة ومع جمهورها المنحرف ، ليس صراعا بسيطا ، بل كان يمثل الصراع حول المفاهيم الأساسية لخط الإيمان العريض ، وللتفاصيل التي تتحرك في هذا الخط ، وكان ـ إلى جانب ذلك ـ يعتبر في موقع الخطورة الكبرى عند ما يواجه رسالة الله التي يؤمن بها ويصدّق بأنبيائها ، وعلى ضوء هذا ، كان لا بد له من أن يعطي كل الفكرة عن هذا الجمهور الضال ، باعتباره القوة الأولى التي تهدد حركته ، ويعطي الفكرة من خلال ذلك للأفكار الصحيحة السليمة التي طرأ عليها الانحراف ، ولذلك لم تكن القضية قضية الاهتمام بهذا الشعب من خلال ما يملك من قيمة ومنزلة ، بل هي قضية الاهتمام بتاريخ الرسالات السماوية في جمهورها المنحرف والمستقيم ، وفي أفكارها المحرّفة والخاطئة ، باعتبار أن الإسلام يمثل الامتداد الحيّ لهذه الرسالات ، مما يجعل لحركتها وتاريخها ومفاهيمها تأثيرا كبيرا على حركة الإسلام في حاضره ومستقبله.

٦٦

ولعل ما يؤكّد الفكرة ، أننا نرى الإسلام يرفض هذا التاريخ ويحاكمه وينقده ، فكيف يجتمع هذا مع نظرة القداسة والتكريم التي يطرحها السؤال أو يوحي بها البعض في المفهوم الخطأ؟!

* * *

٦٧

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢)

* * *

معاني المفردات

(هادُوا) : اليهود نسبة إلى يهوذا أكبر أبناء يعقوب. وإسرائيل اسم يعقوب بالذات.

(وَالنَّصارى) : جمع مفرده المذكر نصران والمؤنث نصرانة ؛ كسكارى جمع لسكران وسكرانة. وقيل إنها نسبة إلى بلدة الناصرة في أرض فلسطين.

(وَالصَّابِئِينَ) : الصابئون : جمع صابئ ، وهو من انتقل إلى دين آخر ، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر ، سمي في اللغة صابئا.

* * *

٦٨

(الَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ)

المعنى في هذه الآية واضح ، فهي تؤكد أن النجاح في الآخرة تناله كل هذه الفئات الدينية المختلفة في تفكيرها وتصورها الديني للعقيدة والحياة ، بشرط واحد وهو التقاؤها على قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.

وقد تعترضنا مسألة وهي : أن هذا الاتجاه المذكور في الآية يعني التنازل عن الإسلام ، وهو الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالمعنى المصطلح ، كشرط للنجاة في الآخرة وللحصول على رضى الله ، لأنها تؤكّد بقاء الصفة المميزة لكل فريق كمنطلق للعمل ما دام الشرط حاصلا.

* * *

هل الآية منسوخة؟

حاول بعض المفسرين الإجابة عن ذلك باعتبار أن الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) آل عمران : ٨٥].

ولكننا نتحفّظ على هذا الجواب ، لأن مدلول هذه الآية لا يتنافى مع مدلول تلك حتى نفرض نسخ الثانية للأولى ، لأن الظاهر إرادة الإسلام بمعناه العام الشامل للرسالات السماوية في الآية الثانية ، لا الإسلام بمعناه المصطلح كما يلوح ذلك من صدرها (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ،

٦٩

بقرينة الآيات المتعددة التي اعتبرت الإسلام دين إبراهيم ، (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣١ ـ ١٣٢] ، (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].

أما جوابنا على السؤال ، فهو أن الآية واردة في مجال تأكيد العناصر الأساسية التي تلتقي عليها الأديان واعتبارها أساسا للحصول على ثواب الله ورضاه في النطاق الفكري والعملي للدين ، بحيث ترجع كل مفرداته إليها ، وذلك كردّ على الأجواء الاستعراضية التي يحاول كل فريق أن يعتبر نفسه في خط النجاة في الآخرة بعيدا عن الالتزام الفكري والعملي بالعقيدة ، حتى كأنّ القضية قضية أسماء وواجهات ، لا قضية عقيدة وعمل ، فهي في جوّها الداخلي ، واردة مورد الآية الكريمة: (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] إنما هي واردة لمعالجة جانب واحد من القضية ، وليست لمعالجة كل الجوانب ليؤخذ بإطلاقها اللفظيّ. وعلى هذا الأساس ، فلا مانع من أن تكون الآيات الكثيرة المتنوعة في القرآن مكمّلة لمدلول هذه الآية ، باعتبار أن الإيمان بالرسول هو من شؤون الإيمان بالله بعد وضوح البيّنات والدلائل الظاهرة ، لأن الكفر به يكشف عن فقدان الأسس القوية للإيمان ؛ وهذا هو الوجه الذي يمكن أن تنسجم فيه الآية مع الآيات الأخرى التي تندد بالفئات الأخرى وتعتبرهم منحرفين في جانب العقيدة والعمل ، كما نلاحظه في الآيات التي تتحدث عن اليهود والنصارى وعن انحرافهم عن الخط المستقيم في الفكر والعمل.

وربما يخطر في البال أن الإيمان بالرسول يختلف عن الإيمان بالله في مدلوله الإيماني وفي طبيعة موقعه من العقيدة ، فإن الإيمان بالله غاية في نفسه باعتبار أن معرفته وعبادته من أسس العقيدة في ذاتها ، أمّا الإيمان بالرسول ، فقد لوحظ من حيث هو طريق للارتباط بالرسالة والعمل الصالح ، ولذلك لم

٧٠

يؤكده القرآن في كل دعوات الإيمان إلا في هذا النطاق ، وعلى ضوء ذلك ، فقد يكون إغفاله في مجال الحديث عن الأساس في نجاة الإنسان في الآخرة ، من جهة الاكتفاء عنه بكلمة الإيمان بالله والعمل الصالح ، الذي هو كناية عن السير في خط الله بالعبودية له والخضوع لشرائعه وأحكامه الثابتة برسالات الأنبياء. وقد تتضح الفكرة بشكل أعمق إذا لاحظنا أن الإسلام لم يعتبر وجود اختلاف بين الرسالات إلا من خلال بعض الجوانب التفصيلية ، ممّا يجعل القضايا الأساسية واحدة في الجميع ، ويكون الانسجام مع واحدة منها انسجاما مع الكل ، كما يكون الانحراف عن الخط في إحداهما انحرافا عن الخط في الباقي ، وبذلك تعتبر النبوّات منطلقة من قاعدة واحدة كما يوحي به قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وهذا ما يجعل كل صفة طارئة تسقط وتتضاءل أمام القاعدة الصلبة التي تتحرك من خلالها الرسالات.

* * *

من هم الصابئة؟

أطلق هذا الاسم على فرقتين متميزتين تماما :

الأولى : «المنديا ، أو الصبوة ، وهي فرقة يهودية نصرانية تمارس شعائر التعميد في العراق «نصارى يوحنا المعمدان».

الثانية : فرقة صابئة حرّان ، وهي فرقة وثنية بقيت أمدا طويلا في ظل الإسلام ، ولها أهميتها بحكم مبادئها ، ولها أيضا شأنها لما خرج من بين صفوفها من علماء.

ومن الواضح أن الصابئة الذين ذكرهم القرآن إلى جانب اليهود والنصارى من أهل الكتاب يعدّون من المنديا ، ولا شك في أن اسم الصابئة

٧١

مشتق من الأصل العبري (ص ب أ) أي غطس ثم أسقطت الغين ، وهو يدل بلا ريب على المعمدانيين ، أولئك الذين يمارسون شعائر التعميد أو الغطاس ، وربما كان الصابئون الوثنيون الذين لم يعرفوا هذه الشعائر على الإطلاق ، قد اصطنعوا هذا الاسم من قبيل الحيطة مبتغين أن ينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لليهود والنصارى. وذكر كتّاب العرب منذ القرن الرابع الهجري صابئة حرّان في كثير من الأحيان واهتموا بهم في كل حال. وقد أفرد الشهرستاني لهم ولشرح أقوالهم فصلا مسهبا غاية في الإسهاب ، وهو يسلكهم في سلك الروحانيين وبخاصة روحاني الكواكب الكبرى ، والصابئة يقولون إن معلميهم الأوّلين هما النبيّان الفيلسوفان عاذيمون ـ أي الروح الطيب ـ وهرمس ، وقيل إن عاذيمون هو شيث وإن هرمس هو إدريس. وكان أورفيوس من أنبيائهم.

ومذهب الصابئة أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان ، نعجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما نتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم الروحانيون المطهرون المقدّسون جوهرا وفعلا وحالة ، أما تقديسهم جوهرا ، فيراد به تقديسهم عن المواد الجسمانية ، وتبرئتهم عن القوى الجسدية ، وتنزيههم عن الحركات المكانية والتغيّرات الزمانية ، وهؤلاء هم الأرباب والآلهة والوسائل والشفعاء عند الله رب الأرباب. وأما نحن فلتحصل لنا مناسبة بيننا وبين الروحانيات ، فيجب علينا أن نطهّر نفوسنا من دنس الشهوات الطبيعية ، ونهذّب أخلاقنا من علائق القوى الشهوانية والغضبية. وأما تقديسهم فعلا ، فقد قال الصابئة : الروحانيات هي الأسباب الوسائط في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية القدسية ، ويفيضون الفيض على المخلوقات السفلية ، ويوجهون المخلوقات من مبدأ إلى كمال.

ومن الروحانيات مدبرات الكواكب السبع السيّارة في أفلاكها ، وهي هياكلها ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به

٧٢

نسبة الروح إلى الجسد. وكانوا يسمّون الكواكب أحيانا آباء والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها ، ليحصل من تحريكها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركّبات ، فيركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات والحيوان ، ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي ، فمع كل جنس من المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك. ومنها مدبرات الظواهر الطبيعية كالرياح والعواصف والزلازل وهي مدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات ، وهذه المدبرات روحانية خالصة ، تشبه في طبيعتها الملائكة.

ويذكر الشهرستاني في «الملل والنحل» ، أن للصابئة جميعا صلوات ثلاثا ، وهم يغتسلون إذا لا مسوا جثة ، ويحرمون أكل لحم الخنزير والكلاب والطيور ذات المخالب والحمام ، وهم لا يختتنون ، ولا يبيحون الطلاق إلا بحكم من القاضي ، وينهون عن تعدد الزوجات (١).

وقد اختلف فقهاء المسلمين في أنهم من أهل الكتاب أو من غيرهم ، بين من أطلق الحكم فيهم بالإيجاب ، ومن أطلقه بالسلب ، ومن تردد فيهم على أساس دراسة واقعهم العملي في التزامهم بالنصرانية في الأصول الدينية وعدمه وغير ذلك.

* * *

المؤمنون بالله لا خوف عليهم

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم المسلمون الذين اصطلح القرآن الكريم على

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية «الصادرة بالألمانية والإنجليزية والفرنسية» ، ج : ١٤ ، ص : ٨٩ ـ ٩٠.

٧٣

إطلاق هذه الكلمة عليهم عند التعريف بهم والحديث عنهم وعمن يقابلهم من الفئات الأخرى ، (وَالَّذِينَ هادُوا) وهم اليهود الذين انتسبوا إلى موسى عليه‌السلام وإلى التوراة ، (وَالنَّصارى) الذين انتسبوا إلى السيد المسيح عليه‌السلام ، (وَالصَّابِئِينَ) الذين هم فئة مميزة قد يلتقون باليهود أو النصارى وقد يختلفون عنهم ؛ (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) من موقع الالتزام العقيدي بالإيمان بالله وباليوم الآخر بكل مستلزماته الفكرية والعقيدية ، من حيث المبدأ والتفاصيل الرئيسة المنطلقة منه ، ومن قاعدة العمل الصالح الذي يتحول فيه الالتزام الفكري إلى التزام بالخط العملي المنفتح على أوامر الله ونواهيه (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في لقائهم بالله وموقفهم في الدار الآخرة ، فهم الآمنون من كل خوف من تهاويل العذاب ، وهم المسرورون بما أعدّه الله لهم من رضوانه ونعيمه ، فابتعدوا بذلك عن أيّة حالة نفسية مضادة تجلب لهم الحزن الروحي. فليست المسألة مسألة أسماء وعناوين تمثّل الانتماءات الدينية ، بل هي مسألة العمق العقيدي الذي يعيشه الإنسان في وجدانه الفكري وانفتاحه الروحي ، والاستقامة العملية على خط التوحيد في كل التزاماته في الواقع العملي للإنسان.

* * *

٧٤

الآيات

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٦٦)

* * *

معاني المفردات

(مِيثاقَكُمْ) : الميثاق : العهد.

(الطُّورَ) : الجبل الذي ناجى الله عليه موسى عليه‌السلام.

(بِقُوَّةٍ) : القوة : القدرة.

(خاسِئِينَ) مطرودين ، وقيل : صاغرين.

٧٥

(نَكالاً) : النكال : الإرهاب والعقاب ؛ وقيل : هو ما يفعل من الإذلال والإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.

* * *

بنو إسرائيل وحرفية الطاعة

في هذه الآيات ، عودة إلى بني إسرائيل ليذكّرهم الله بالوضع القلق الذي كانوا يعيشونه تجاه التزامات العقيدة الإيمانية والعملية ، فقد أخذ الله ميثاقهم بعد إنزال التوراة ، وطلب منهم أن يتحملوا مسئولية الوحي الذي أنزل عليهم ، وأن يأخذوه بقوة في الالتزام به وفي الدعوة إليه ، وأن يتذكروا ما فيه فلا ينسوه مهما كانت الأوضاع ، لأن ذلك هو السبيل للحصول على ملكة التقوى التي تتيح لهم الانضباط أمام الله في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ، ولكنهم أعرضوا بعد ذلك ، فلم يلتزموا بالميثاق. وربما كان هذا الخط المنحرف معرّضا للامتداد في حياتهم فيؤدي بهم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، ولكنّ فضل الله عليهم ورحمته بهم ، أنقذاهم في آخر لحظة ، فرجعوا وتابوا إلى الله. ثم يذكّرهم من جديد بالقوم الذين اعتدوا منهم في قصة السبت التي ابتلاهم الله بها ، كأسلوب من أساليب اختبار طاعتهم ، فحاولوا أن يتلاعبوا بذلك بأن يحبسوا السمك يوم السبت ليجتمع في محل واحد ، فلا يخرج منه ليصطادوه في يوم آخر ، ليحققوا بذلك حرفية الطاعة مع نتائج المعصية. فكان من نتيجة ذلك أن الله مسخهم قردة صاغرين ، ليكون ذلك عقوبة وعبرة لبقية المجتمعات المعاصرة لهم التي تنظر إليهم فترتدع عن السير في ما ساروا فيه ، ولمن خلفها من الأمم التي جاءت من بعدهم ... وموعظة للمتقين الذين يأخذون الدروس والعبرة من ذلك كله. وقد جاء ذلك في الحديث عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام وولده الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنهما قالا : (لِما بَيْنَ

٧٦

يَدَيْها) أي لما معها ينظر إليها من القرى ، (وَما خَلْفَها) نحن ، ولنا فيها موعظة (١).

وروى العياشي في تفسيره أنه سئل الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أبقوّة الأبدان أم بقوة القلوب؟ فقال : بهما جميعا (٢). أمّا طبيعة هذه القوة فهي العزيمة والجد واليقين الذي لا شك فيه. أمّا الطّور ، فهو الجبل الذي رفعه الله فوقهم لإرهابهم بعظمة القدرة ، كما ورد في الميزان (٣).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) في توحيد الله والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ، والقول الصالح ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، واجتناب سفك الدماء ، والانفتاح على الأنبياء جميعا ، واتباعهم ، والالتزام بكتبهم وبرسالاتهم ، والابتعاد عن تشريد الناس من ديارهم والعمل في سبيل الله ... وغير ذلك من الأمور التي جاءت بها التوراة في خط العقيدة والشريعة ، وانطلقت بها كتب الله في الماضي والحاضر والمستقبل.

(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي الجبل الذي انتصب فوقكم ، حتى خيّل إليكم أنه سوف يقع فوق رؤوسكم تخويفا وإرهابا ، لتبتعدوا عن التمرد الذي تحركتم فيه في أجواء العناد ، بعد قيام الحجة عليكم ، مما جعل الموقف بحاجة إلى معجزة خارقة تقف بكم في خط الاستقامة لتؤمنوا بالتوراة وتلتزموا بها ، ولا تنقضوا الميثاق بعد أن كنتم سائرين في هذا الاتجاه.

وفي ضوء ذلك ، نعرف أن المسألة لم تكن إكراها على العقيدة ـ كما أثاره البعض ـ لتكون قضية الإيمان بعيدة عن دائرة الحرية الفكرية والاختيار

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٦٥.

(٢)(. م. ن) ، ج : ١ ، ص : ٢٦٢.

(٣) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٩٧.

٧٧

الإرادي مما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦] وفي قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩].

والوجه في ذلك ، أن العقيدة كانت ثابتة بأدلتها وبراهينها التي قدمها لهم موسى عليه‌السلام منذ بداية صراعه مع فرعون إلى نهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة الدخول في تفاصيل الشريعة والميثاق الذي يمثل الجانب العملي للإيمان ، وكانت الحاجة ماسّة إلى صدمة قوية تدفعهم بعيدا عن حالة التمرّد التي كانت تمثل التحدّي العدواني ، والسلوك الطفولي في مواجهة موسى عليه‌السلام ، ليشعروا بأن هناك خطرا يتهددهم بالمستوى الذي لا يملكون فيه مواجهته ، وهذا هو إيحاء هذه الفقرة من هذه الآية ومن الآية الواردة في سورة الأعراف : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف : ١٧١]. (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) من خلال مسئوليتكم الرسالية التي حمّلكم الله أمانتها التي لا بد من أن تؤدّوها للناس بقوة في دعوتكم إياهم للإيمان بها والسير عليها ، وللجيل الذي يأتي من بعدكم في تقوية الموقع الفكري والعملي الذي يتحول إلى قاعدة فكرية وعملية يرتكز عليها المستقبل الإنساني في حركته في الحياة. وهذا يفرض عليكم تحريك قوتكم الذاتية ، وتنمية عناصرها ، وتقويتها ، وتطويرها في هذا الاتجاه ، ولا سيما أن الرسالة لا بد من أن تدخل ساحة الصراع مع التيارات الأخرى المضادة ؛ الأمر الذي قد يحتاج إلى المزيد من الطاقات المتحركة في ساحة المواجهة. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من المفاهيم العقيدية والأخلاقية والشرائع العملية ، واحفظوه ولا تنسوه ، وتدبروا معانيه ، ليكون ذلك كله حضورا لكم في وعيكم وفي الواقع (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، لأنه يرسم لكم الخط المستقيم الذي يفتح لكم أبواب التقوى في الالتزام التوحيدي الذي يتحرك بكم في خط الاستقامة في جميع المجالات. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، ونبذتم العهد وراء ظهوركم ، وأعرضتم عن كل التزاماته ومعطياته

٧٨

(فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتوفيق للتوبة من خلال تهيئة الظروف الملائمة للوعي الروحي الذي جعلكم تواجهون الموضوع بالمزيد من الإحساس بالمسؤولية من خلال ما ينتظركم من النتائج ، فرجعتم إليه وسلكتم خط الاستقامة ، فتاب عليكم وعفا عنكم ، ولو لا ذلك (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وذلك هو الخسران المبين.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) وتلاعبوا بأمر الله ونهيه ، فابتعدوا به عن غايته وحوّلوه إلى مسألة شكلية لا تحمل في داخلها أي مضمون ، وذلك أن الله سبحانه نهاهم عن الصيد يوم السبت ، فكانت الأسماك والحيتان تأتي يوم السبت لشعورها بالأمان ، فما كان منهم إلّا أن استعملوا طريقة يحبسون فيها الأسماك في ذلك اليوم ، فلا تملك الخروج من الطوق الذي نصبوه لها ، فيأتي يوم الأحد الذي لا نهي فيه ، فيحصلون فيه على ما أرادوا الحصول عليه في يوم السبت ، فلم يعد للنهي أيّة قيمة عملية من ناحية النتائج الواقعية. وهذا ما جعل القضية في سلوكهم هذا تتحول إلى اعتداء على الشريعة ، فكان عقاب الله لهم شديدا لا عهد لهم به (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي مسخناهم على شكل القردة ، وطردناهم من رحمة الله ، وأبعدناهم عن كل مواقع الإنسانية والكرامة.

وقد اختلف الرأي في هذا المسخ هل هو حقيقي ، أم هو معنوي تمثيلي؟ فالمعروف هو الأول ، لأن ظاهر القرآن هو ذلك من دون ما يمنع من إرادته من اللفظ ومن دون قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وأما الرأي الثاني ، فهو ما ذهب إليه مجاهد حيث قال : «لم يمسخوا قردة وإنما هو مثل ضربه الله كما قال : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] ، وحكي عنه أيضا : أنه مسخت قلوبهم فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظا ولا تتقي زجرا». ويقول صاحب مجمع البيان تعليقا على ذلك : «وهذان القولان يخالفان الظاهر الذي

٧٩

أكثر المفسرين عليه من غير ضرورة تدعو إليه» (١).

(فَجَعَلْناها) هذه الجماعة الممسوخة ، أو العقوبة ، أو القرية التي اعتدى أهلها فيها ، (نَكالاً) أي عقوبة للتذكرة والعبرة ، (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي للقرى المحيطة بها من خلال ما يستفيده أهلها من رؤيتهم لهؤلاء الذين كانوا بشرا فتحولوا إلى قردة كنتيجة لتمردهم على الله ، وللناس الذين يأتون من بعدها أو للمناطق التي تبتعد عنها. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الذين يخافون الله فيعتبرون بما يحدث للمذنبين من العذاب الدنيوي ، فيدفعهم ذلك إلى الانضباط في الخط المستقيم.

* * *

وقفة تأمل مع هذه الآيات

ويستوقف نظرنا في هذه الآيات عدة أمور :

الأول : إن إنزال الكتاب على أيّة أمّة من الأمم يعتبر إلزاما لها به من قبل الله كميثاق بينه وبين عباده ، فيطالبهم بالالتزام به والوفاء بمضمونه ، كأيّ عهد شخصي يلزم به الإنسان نفسه تجاه الآخرين. أما عظمة هذا الميثاق ، فهي أنه لا يختص بحالة دون أخرى ، بل يشمل كل حياة الإنسان في كل منطلقاتها وتطلعاتها ، لأن الكتاب ينظّم حياته الفكرية والعملية بمفاهيمه وتشريعاته ، ولهذا يعتبر الإخلال بأيّ حكم من الأحكام إخلالا بالميثاق ، وربما يرشد إلى ذلك تعقيبه بذكر حادثة الاعتداء على ميثاق الله في قصة السبت.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٦٤.

٨٠