تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

الآيتان

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦)

* * *

معاني المفردات

(بِالصَّبْرِ) : قيل : المراد بالصبر منع النفس عن محابّها وكفّها عن هواها.

(لَكَبِيرَةٌ) : الكبيرة : تستعمل في ما يشق ويصعب.

(الْخاشِعِينَ) : الخشوع والخضوع معناهما التذلل والانكسار ، إلّا أن الخضوع مختص بالجوارح ، والخشوع بالقلب ، و «الخاشعين» ، «قال مجاهد : أراد بالخاشعين المؤمنين ، فإنهم إذا عملوا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها لم يثقل عليهم ذلك ، كما أن الإنسان يتجرّع مرارة الدواء لما يرجو به

٢١

من نيل الشفاء ، وقال الحسن : أراد بالخاشعين الخائفين» (١).

(يَظُنُّونَ) : يعتقدون ، والعرب قد تسمّي اليقين ظنا والشك ظنّا.

* * *

الاستعانة بالصبر والصلاة

قد يواجه الإنسان في حياته العملية ضغط الشهوة ، التي تلح عليه في ما يشبه الحريق الداخلي ، كي يستسلم لنداء الغريزة ، ويترك نداء الله. وقد يقع تحت ضغط الطمع ، الذي يدعوه إلى أن يترك إيمانه ومبادئه للحصول على مال أو جاه. وقد يواجه الضغوط الخارجية التي تقتحم حياته لتهدد وجوده ، فيستسلم لتأثيراتها المنحرفة بعيدا عن خط الله ... فكيف يواجه ذلك كله؟

إنّ هاتين الآيتين تستثيران في الإنسان إيمانه بالله من خلال الوسائل العملية للإيمان ، ليثبت الإنسان على خط الحق في المنحدر الخطر ، ويتحدث الله عن وسيلتين هما : الصبر والصلاة.

أما الصبر ، فيمثل الموقف القوي الذي يحكم الإنسان فيه نفسه انطلاقا من إرادته وإيمانه ، وهو من الأخلاق الإيجابية الإسلامية التي تبني للإنسان القاعدة النفسية القوية المتماسكة ، التي تمنعه من الانهيار والانسحاق تحت وطأة نوازع الضعف البدنية والنفسية والخارجية ، فيقوده ذلك إلى الالتزام بكل متطلبات الإيمان ومسئولياته ، لأن الانحراف ينطلق غالبا من فقدان القوة الذاتية للإرادة ، وقد ورد في الحديث المأثور : «إن الصبر من الإيمان بمنزلة

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ـ بيروت ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ ، م ، ج : ١ ، ص : ٢١٨.

٢٢

الرأس من الجسد ، ولا جسد لمن لا رأس له ، ولا إيمان لمن لا صبر له» (١).

أما الصلاة ، فهي معراج المؤمن إلى ربّه ، تعرج فيها روحه وضميره وقلبه وفكره ... فتلتقي بالله في لحظات ابتهال وانفتاح ، وتتصل بالمعاني الكبيرة الممتدة في رحاب الله. إن الإنسان إذا اتصل قلبه بالله انفتحت روحه على أخلاقه العظيمة التي أرادنا أن نتخلّق بها في الحياة ؛ ومتى تحقّق للإنسان هذا الانفتاح ، وعاش في هذه الأجواء الفسيحة ، انخفض عنده مستوى الاهتمام بالقضايا الصغيرة ، وعندها لن تثير في نفسه أيّ شيء مما اعتاد الناس أن يستثيروا به وجدانهم وحياتهم.

وفي ضوء ذلك ، نستوحي أجواء الآية التي تتجه إلى المنحرفين عن الخط من اليهود وغيرهم لتقول لهم : إن مشكلتكم تتحدد في نقطتين أساسيتين من نقاط الضعف ، فأنتم تنسون الله من جهة ، وتضعفون أمام الضغوط والإغراءات من جهة أخرى ، فإذا نسيتم الله استسلمتم للشيطان وفقدتم الأجواء الروحية التي توحي لكم بالخير والانفتاح على القضايا الكبيرة في الحياة ، وتحوّلت الحياة لديكم إلى اهتمامات صغيرة محدودة تلاحق الصغائر التي تثير العداوة والبغضاء ، وتبعث على الخصومة والنزاع ... وإذا ضعفتم أمام الإغراء والضغط الداخلي والخارجي ، تركتم قيمكم وراء ظهوركم ؛ فإذا هاجمتكم حبائل الشيطان ومكائده وعوامل الإغراء ونوازعه ، فاستعينوا بالصبر لتحصلوا من خلاله على الإرادة القوية التي تثبت أقدامكم في الأرض ، فتستقيم لكم قضاياكم ومبادئكم وأخلاقكم في خط الإيمان ، وإذا نسيتم الله ، فاستعينوا بالصلاة ، لترتفعوا بروحكم إليه ، فتعيشوا في أجوائه وتسبحوا في ألطافه ونعمائه.

* * *

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر : بحار الأنوار ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ / ١٩٩٢ م ، م : ٢٨ ، ج : ٧٩ ، باب : ٦٢ ، ص : ٥٣٩ ، رواية : ٢٢.

٢٣

هل الصلاة عبء ثقيل؟!

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). لعل المراد أنها ثقيلة على الناس الذين لا يعيشون روح الخشوع لله والخضوع لربوبيته ، لأن صلاتهم تتحول إلى عبء ثقيل لا يدركون معناه ولا يرتفعون إلى آفاقه ، بل يمارسونها ـ لو مارسوها ـ كواجب جامد وضريبة مفروضة عليهم. أمّا الخاشعون الذين تخشع قلوبهم لذكر الله ، وتتلذذ به ، وترتاح إليه ، فإنهم يقبلون عليها بكل ما في قلوبهم من حب وطمأنينة وانفتاح ، وبكل ما في نفوسهم من التطلعات الروحية التي يحملونها إلى الله سبحانه في أمر دنياهم وآخرتهم ، وبكل ما في ضمائرهم من شعور بالمسؤولية أمام الله في ما يفكرون به ويقومون به من عمل ، وذلك عند ما يعيشون الإيمان باليوم الآخر في عمق الإحساس بالعقيدة وروعة الإيمان بقضية المصير ، فيتمثل ذلك في انضباطهم العملي ، لأنهم (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

والحديث عن لقاء الله لا يراد منه اللقاء الحسّي المادي ، لأن الله لا يتجسد كما تتجسّد المخلوقات بالأشكال المادية ، بل هو كناية عن يوم القيامة الذي يلتقي الناس فيه بالله ، في حسابه وثوابه أو عقابه ، باعتبار أنه اليوم الذي لا مظهر فيه لسلطة أحد ولو بالشكل ، إلا لله ، كما قال سبحانه : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] ، فكأنّ الإنسان يلتقي بالله هناك من خلال تمثل وجوده تعالى ، من خلال الإحساس ، على نحو أقوى بقدرته المطلقة.

وقد يبرز أمامنا سؤال عن السرّ في استبدال كلمة اليقين المناسبة للمقام ، باعتبار أنها تمثل وضوح الرؤية لدى الإنسان ، فتزيد من تقواه ، بكلمة «الظن»؟

والجواب : إن من الممكن إيراد الإيحاء بأن قضية الاستعداد للآخرة

٢٤

يكفي فيها الظن ولا يحتاج فيها إلى اليقين ، لأن الإنسان يتحرك بشكل غريزي إلى دفع الضرر المحتمل أو المظنون عن نفسه ، سواء في ذلك قضايا الدنيا والآخرة ؛ وكأن الآية تريد أن تثير في الإنسان هذا الشعور بالحاجة إلى الانضباط من خلال الطبيعة الوقائية للأشياء إزاء الفكرة المحتملة ، فلا يقف أمامها موقف اللامبالاة ، بحيث لا يفكر في المسؤولية إلا من خلال الحاضر بعيدا عن تطلعات المستقبل وإمكاناته. وربما نستوحي ذلك من بعض أساليب أهل البيت في الحوار مع بعض الزنادقة حول الآخرة : «إن يكن الأمر كما تقول ـ وليس كما تقول ـ نجونا ونجوت ، وإن يكن الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ نجونا وهلكت» (١). يقول الشاعر :

قال المنجم والطبيب كلاهما

لا تحشر الأجساد قلت : إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

وقد اتبع القرآن هذا الأسلوب في أكثر من آية ، فعبّر عن المؤمنين بأنهم يرجون لقاء ربهم (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ..) [الكهف : ١١٠].

ومن الطبيعي أن لا يكون هذا الأسلوب مقتصرا على إبقاء القضية في نطاق الاحتمال ليتجه العمل على أساس الاحتياط ، بل هو وارد في اتجاه الإيحاء بالانطلاق منه إلى اليقين ، من خلال إخراج الإنسان من أجواء اللامبالاة إلى أجواء المواجهة المسؤولة للفكر والعمل. وقد جاء في مجمع البيان «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أحزنه أمر ، استعان بالصلاة والصوم» (٢) ، باعتبار أن الصوم مظهر للصبر. وجاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : كان علي عليه‌السلام إذا هاله أمر فزع إلى الصلاة ثم تلا هذه

__________________

(١) البحار ، م : ٢ ، ج : ٣ ، باب : ٣ ، ص : ٣٤ ، رواية : ٢٠ ،

(٢) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢١٧.

٢٥

الآية : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١).

* * *

استفادات عملية من وحي ما تقدم

ذلك هو بعض الحديث في الجانب التفسيري للآيتين ، فما ذا عن المعطيات العملية التي نخرج بها في واقعنا الإسلامي المعاصر؟ هنا يمكننا استيحاء نقطتين :

النقطة الأولى : إننا نستفيد من الآية الأولى ، تأكيد الجوانب العبادية كالصلاة والصوم ، والعناصر النفسية الأخلاقية كالصبر ونحوه في بناء شخصية الإنسان المسلم ، من أجل إبعاده عن أجواء الانحراف الفكري والعملي ، لأن ذلك ما يحقق له قوة الاندفاع في الجانب العملي ، ويعينه على مواصلة السير في الطريق المستقيم.

إننا نشعر بالحاجة إلى الإلحاح على ذلك في أساليبنا التوجيهية ، وعدم الاكتفاء بالأساليب الفكرية التي تدفع الإنسان إلى الدخول في متاهات الجدل الفكري من دون أن يتحرك في الاتجاه العملي ، لأن ذلك قد يفيد بالنسبة للأشخاص الذين يختلفون معك في أسس الإيمان ، أما المؤمنون الذين انحرفوا عن الخط ولم ينحرفوا عن الإيمان ، فإنهم يحتاجون إلى التربية العملية التي تهيئ لهم سبل الانضباط في نطاق تقوية إيمانهم ، ولا فرق في ذلك بين المؤمنين التقليديين الذين يعيشون الإيمان الفطري ، وبين المؤمنين الذين يحملون الإيمان ، المشوب ببعض الانحرافات الطارئة .. فالأسلوب الأفضل

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ م ، ج : ١ ، ص : ١٥٣.

٢٦

معهم هو أسلوب التربية العملية التي تعمق ملكة الصبر والخشوع التي تربطهم بالله. أما أسلوب إثارة القضايا الفكرية التي يراد من خلالها تعميق الجانب الفكري من الإيمان ، فقد يعطي عكس النتيجة عند ما يؤدي ذلك إلى إثارة مشاكل جديدة في الإيمان ، مما لم يكن داخلا في الحسبان ؛ ولذلك فلا بد من الانتظار ريثما يقوي المؤمن ارتباطه بالله ، فلا يزلزله عن الخط شيء من شبهة أو مشكلة فكرية.

النقطة الثانية : إننا نستفيد من الآية الثانية التركيز على أسلوب الوعظ الذي يعتمد على التذكير بالآخرة في مجال الحث على العمل ، وإرجاع الإنسان إلى الله ، لأن لدى الإنسان منطقة شعورية ترتبط بالانفعال والعاطفة ولا ترتبط بالفكر المجرد ، فقد لا يكفي في إثارتها الحديث عن حل الإسلام لمشاكل الحياة ، وعن طبيعة الفلسفة التي تشمل مختلف النواحي الكونية ، بل لا بد من ربط ذلك كله بقضية المصير ، وموقف الإنسان من الله ، ومواجهته له في يوم القيامة في لحظات الحساب الشامل الذي يحاسبه فيه على كل ما عمل من خير أو شر ، فإن ذلك يحقق للنفس خشوعها الروحي بين يدي الله كوسيلة من وسائل خشوع حياته لله سبحانه.

إن الدراسة الواعية للأساليب القرآنية في الدعوة ، تهدينا السبيل إلى ملاحظة التركيز العميق في القرآن على هذا الأسلوب ، حيث لا نجد أية مناسبة للوعظ إلا وقد انطلق القرآن في استثارتها ، والإفاضة فيها بمختلف الجوانب الفكرية والعاطفية ، مما يدعونا إلى اعتباره طابعا إسلاميا مميزا في أسلوب الدعوة إلى الله.

* * *

٢٧

الآيتان

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨)

* * *

تذكير وتحذير لبني إسرائيل

تبدأ هذه الآيات في جو رحيم نابض بالعاطفة ، يدعو فيه الله بني إسرائيل إلى أن يتذكروا نعمه التي أنعمها عليهم بالرسالات الكبيرة التي جعلتهم في مركز القيادة للناس ، من خلال الفكرة الممتدة في الكون امتداد الحياة ، والروح المنفتحة على مشاعر الناس وآمالهم وآلامهم ، حتى تحس به يضمهم في عناق حالم واحتضان لذيذ ، ليربط على قلوبهم ويخفف من عبء الحياة وجهدها عنهم ، ويسير بهم إلى الجو العابق بالطهر النابض بالحنان ، المتحرك بالحق والخير والجمال ، وذلك في لحظات اللقاء به. وهذا الجو الذي تثيره هاتان الآيتان هو ما يجب أن تعيشه القيادة فكرا ومسئولية وقدوة ، ليتمثل في حياة الآخرين حياة مليئة بالفاعلية والحركة والإيمان ، فكان الأنبياء منهم هم قادة الناس وهداتهم.

ولم تقتصر النعم على ذلك ، بل انطلقت إلى حياتهم كلها لتملأها بالخير

٢٨

والبركة والأمن والطمأنينة والخلاص من كيد الظالمين ، من الطغاة والفراعنة ، بعيدا عن كل ذلّ وامتهان.

إنها الدعوة إلى التذكر الواعي المنطلق من دراسة الماضي والحاضر ، في واقع النعمة بجميع أشكالها وألوانها وأوضاعها التي جعلت حياتهم منفتحة على الخير ، في كل شؤونهم ، وعلى الرفعة الاجتماعية في كل مظاهرها.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ولا تغفلوا عنها كما يعيش الناس الغفلة عن الواقع من خلال استغراقهم فيه ، فلا يتحسسونه بشكل واع ، لتتعرفوا من خلال ذلك الامتيازات الحياتية التي منحكم الله إياها ، (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بالنعمة التي قد تتحول إلى تفضيل بالقيمة ، إذا أخذتم بأسباب الاستقامة في خط الله على أساس التقوى.

وفي ضوء ذلك ، نفهم أن التفضيل ليس تفضيلا طبقيا يمنحهم القيمة الذاتية التي يشعرون معها بالعلو على الناس ، بل هو تفضيل النعمة بما أغدقه الله عليهم من ألطافه وفيوضاته ، مما يستوجب الشكر والطاعة والتقوى. ولعل هذا الجو الذي يريد القرآن الكريم أن يضع التفضيل فيه في موقع النعمة ، هو الذي جعل الآية الثانية تمثل الدعوة إلى التقوى والخوف من اليوم الآخر ، الذي يقف فيه كل إنسان أمام عمله ومسئوليته ، ليواجه مصيره بعيدا عن كل الامتيازات الطبقية والعائلية ، وعن كل البدائل التي يمكن أن يفكر بها الإنسان في التخلص من مسئوليته ... إنه الموقف الذي يحس الإنسان فيه بإنسانيته في مسارها الروحي والعملي عند ما تلتقي بالله ، ليعرف أنها طريق الخلاص الوحيد.

وربما كان في هذه الآية بعض الإيحاء إلى هؤلاء اليهود الذين عاشوا في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن وقفوا ضد الرسالة ، بأنّ عليهم أن ينسجموا مع خط الدعوة الجديدة ، باعتبارها مظهرا للتقوى والانقياد إلى الله ، كونها تمثل إرادته

٢٩

الحقيقية الأخيرة في خط الرسالات.

وهذا ما نستوحيه من الآية : (وَاتَّقُوا يَوْماً) حاسما في مسألة المصير ، وهو يوم القيامة الذي يواجه فيه الناس حساب المسؤولية عما قاموا به في الدنيا ، بعيدا عن كل الذاتيات الشخصية والعلاقات الاجتماعية (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ، لأن القضية لا تتصل بأية علاقة شخصية في امتيازاتها الطبقية ، مما كان الناس يتعاملون به في سلوكهم العام والخاص ، مثل قيام شخص بإبعاد العقاب عن شخص آخر ، بحيث يتخفف من ثقل المسؤولية لقرابته له ، أو لعلاقته به ؛ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] ، وموقع خاص يحدد له حساباته التي لن تتعداه إلى غيره.

* * *

هل في الآخرة شفاعة؟

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ).

قد تستوقفنا هذه الفقرة من الآية الكريمة ، لأنها لا تعترف بوجود الشفاعة وتأثيرها في يوم القيامة ، ولا ينسجم هذا مع الفكرة الإسلامية المعروفة الثابتة في بعض الآيات الأخرى التي تتحدث عن إمكانات الشفاعة ضمن شروط معينة ، كما في قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] وبعض الأحاديث المأثورة ـ كما في الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قوله : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١) ، وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم مرفوعا إلى

__________________

(١) البحار ، م : ٣ ، ج : ٨ ، باب : ٢١ ، ص : ٤٥١.

٣٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إني أشفع ، يوم القيامة فأشفّع ، ويشفع عليّ فيشفّع ويشفع أهل بيتي فيشفّعون ، وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه ، كلّ قد استوجب النار» (١).

ولكننا نرى ـ في تحليل هذه الفقرة ـ أن الآية لا تواجه القضية من حيث المبدأ ، بل تواجهها من ناحية رفض الذهنية البشرية في الدنيا التي يواجه بها الإنسان قضية المصير في الآخرة ، من خلال العلاقات الذاتية والتمنيات الشخصية في محاولة التخلص من نتائج المسؤولية ، تماما كما هي الحال في قضايا الناس بعضهم مع بعض ، عند ما تحلّ المشكلة بقيام شخص مقام شخص ، أو بواسطته ، أو بدفع بدل مالي أو غير مالي ، ممّا يدخل في حساب التسويات الشخصية التي لا تعتمد على قاعدة عامة ، أو تعتبر مبررا للخروج عن القانون من خلال تدخل أصحاب الشفاعة من الوجهاء والرؤساء.

أمّا قضية الشفاعة كمبدإ ، فإنها تبتعد عن هذا الجو ، لتدخل في جو آخر ، حيث نلمح في القرآن والسّنّة التأكيد على وجود قواعد أساسية تحكمها ، من حيث طبيعة الأشخاص والمواقع والقضايا ، مما يجعلها لا ترتبط بالعلاقات الذاتية التي تتبع الحب الذاتي ـ كما يفهمه العامة من الناس ـ حيث يحاولون التقرب إلى الأنبياء والأولياء بالمبادرات الذاتية من النذور وغيرها ، كما يتقربون إلى الزعماء والوجهاء بالهدايا والمصانعات بالروحية نفسها ، من أجل الوصول إلى الشفاعة ، مع فارق واحد وهو الشعور بالقداسة في عالم الأولياء والأنبياء.

ولكن هذا لا يمنع أن يطلب الناس الشفاعة من الأنبياء والأولياء من موقع الطلب إلى الله بأن يجعلهم شفعاء لهم ، لقربهم من الله الذي منحهم الكرامة وأراد أن يظهر ذلك. ولا يلتقي هذا الاتجاه بمعنى الوساطة التي تقف

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٣١

لتربط بين الله وبين عباده على أساس الفكرة التي تقول : إننا لا نقف في المستوى الذي يؤهلنا للاتصال بالله مباشرة لبعدنا عن ساحة قربه وقدسه ، فنحاول أن نتوسط لذلك بالاتصال بهم مباشرة ليصلونا بالله في نهاية المطاف.

إننا نتحفظ حول هذه الفكرة من موقع الأسلوب القرآني الذي يخاطب الناس بشكل مباشر ، ويدعوهم إلى الاتصال بالله من دون وساطة أحد ، كما في الآيات التي توحي للإنسان بأن الله قريب إلى الناس ، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦]. وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦].

أمّا الأحاديث التي تتحدث عن الأنبياء أو الأوصياء بأنهم وسطاء بين الله وبين خلقه ، فالظاهر أن المقصود بها الوساطة في حمل الرسالة وتبليغها إليهم من الله لا الوساطة في الاتصال به.

* * *

هل هناك علاقة بين طلب الشفاعة والشرك؟

إن قضية طلب الشفاعة لا تستدعي الكثير من الجهد والجدل الفكري الذي أثاره بعض علماء المسلمين ، إذ اعتبروها ذات علاقة بموضوع صفاء العقيدة التوحيدية ، لأنها ترتبط بالفكرة التي كانت تحكم المشركين في علاقتهم بالأصنام ، حيث برّروا ذلك بقولهم في ما حدثنا الله عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

أمّا تعليقنا على ذلك ، فهو أن القضية ليست قضية عبادة موجهة إلى الأنبياء أو الأولياء ، بل تنطلق من موقع تكريم الله لهم بإظهار مكانتهم لديه.

٣٢

وقربهم منه ، بطريقة منحهم حق الشفاعة في حدود ما يعلمون أنه رضى لله ، فتعود قضية التوسل بهم إلى الله تماما كالتوسل بأسمائه الحسنى ، في اعتبارها دعاء إليه تعالى أن يجعلنا ممن تنالهم تلك الشفاعة ، وأن يغفر لنا ببركتهم ، فيمن يغفر له على أساس إرادته في ذلك ، كما جرت سنّة الله أن يغفر لنا بسبب بعض الأعمال ، أو بعض المواقف والحالات النفسية.

إن ما ندعو إليه هو أن نلتزم بالتوحيد على أساس المفاهيم القرآنية التوحيدية ، وأن نحافظ على صفائه في أجواء الصفاء التي أرادنا الله أن نعيشها في الخطوط الفاصلة بين خط التوحيد وخط الشرك ، وأن لا نلجأ إلى العمق الفلسفي في ما نقبله وفي ما نرفضه في هذا المجال ، بعيدا عن حدود الشريعة وأحكامها. وربما نعود إلى هذا البحث في ما يستقبلنا من آيات الشفاعة ـ إن شاء الله تعالى ـ لنتحدث هناك عن الجوانب الفلسفية للموضوع.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) وهو البدل الذي يقوم مقام المذنب في تحمل العقوبة ، كما هي الحال في الدنيا ، إذ قد يقدّم الإنسان شخصا آخر بدلا عنه في مواجهة نتائج المسؤولية ، بحيث ينجو من آثارها الصعبة. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من قبل أنصارهم وأصحابهم وأقربائهم ، لأنهم لا يملكون شيئا أمام الله.

أمّا ما نستوحيه من جوّ الآية ، فهو الإيحاء بأن على الإنسان أن يتحرك في حياته من موقع التفكير بأن خلاصة لا يرتبط بأي شيء مما تعارف عليه الناس من أساليب اللف والدوران من المصانعات والمجاملات والتسويات ، بل يرتبط بالخط العملي الذي يتحرك في حدود الشعور بالمسؤولية العملية ، في التصور الإنساني للموقف الحاسم في يوم القيامة الذي يقف فيه الإنسان ليواجه مصيره من خلال عمله ، فلا شيء إلا العمل مع رحمة الله ؛ مما يدعونا إلى التركيز في خطوات الحياة ، على أساس الخط العملي المستقيم ، وعلى الرجوع الخاشع إلى الله ، والارتباط الوثيق به في صفاء العقيدة وحيويتها.

* * *

٣٣

الآيات

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥٤)

* * *

معاني المفردات

(يَسُومُونَكُمْ) : يكلفونكم ويذيقونكم ، وقيل معناه : يديمون عذابكم.

٣٤

(وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : أي يتركونهن أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهنّ ؛ فالاستحياء: طلب الحياة.

(بَلاءٌ) : البلاء والنعمة والإحسان نظائر في اللغة ، ويستعمل في الخير والشر.

(فَرَقْنا) : شققنا.

(واعَدْنا) : واعده مواعدة : عاهده على أن يوافيه في وقت وموضع معينين.

(بارِئِكُمْ) : البارئ : الخالق ، من برأ يبرأ برءا ، وأصل الباب : انفصال الشيء من الشيء ، ومنه برأ الله الخلق ، أي فطرهم كأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود.

* * *

نعم تتوالى ، وألطاف تتحرك في التاريخ

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

هذه إحدى النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل ، فقد كانوا يرزحون تحت حكم الطغيان الفرعوني الذي كان يعمل على إبادة رجالهم بكل وسيلة مهما كانت وحشية قاسية ، فقد كان يذبح الأولاد الذكور الذين يولدون خوفا من أن يكونوا قوة مضادة ، ويبقي النساء لحاجته لهنّ في خدمته وخدمة قومه. وقد ذكر في كلمة «يستحيون» وجهان :

٣٥

الأول : أنها مشتقة من الحياة بمعنى أنهم يطلبون الحياة لهن.

الثاني : أنها مشتقة من الحياء أو الاستحياء ، بمعنى أن الحياء يبعثهم على الإبقاء عليهن بعلاقة المجاز ، لأن الاستحياء يمنع الإنسان عن عمل ما يستحي منه عادة.

وهناك أحاديث متعددة لا نستطيع الوثوق بها لإمكان أن تكون مستمدة من بعض رواة اليهود الذين جعلوا من أنفسهم مفسرين للقصص القرآني ، وهو ما نسميه بالإسرائيليات ، ولا مانع من أن يكون لها نصيب من الواقع في بعض الحالات ... وعلى كل حال ، فإنها قد تعطينا ظلالا على الأجواء التي تحدثنا عنها الآية الكريمة ، وذلك ما نحتاجه من القصص القرآني ، فإننا لسنا في حديث يربطنا بالتاريخ من خلال التفاصيل ، بل نحن في حديث يربطنا بالعبرة الحية من خلال التاريخ ، وبذلك فلا نخضع للقصص المروية في استيحاء الآيات القرآنية ، بل نعمل على أن نعيشها ونحاكمها في الأجواء التي نستوحيها من الآية في قراءتنا لها.

وخلاصة ما ترويه هذه الأحاديث ، أن فرعون رأى في منامه أنه سيموت على يد شخص من بني إسرائيل ، فأراد أن يعطّل مفعول المنام في المستقبل بإفناء كل الذكور منهم وذلك بقتل كل وليد ذكر ، الأمر الذي أدى ـ كما تقول القصة ـ إلى أن قومه ضجوا إليه ، فقالوا له : يوشك أن نفقد العمال ونكلّف نحن بالعمل ، لأن بني إسرائيل كانوا يمثّلون اليد العاملة في ذلك المجتمع ، فبادر إلى ذبح أبنائهم سنة وتركهم سنة. وربما كانت قصة ولادة موسى وإلقاء أمه له في البحر دليلا على صدق بعض هذه التفاصيل في القصة.

وربما كان الأساس في هذا السلوك الفرعوني ، خوف الفراعنة من تكاثر هؤلاء المستضعفين من الناحية العددية ، وتطوّرهم في قوتهم النامية ، بحيث يتحولون إلى خطر يتهدد ملكهم وجبروتهم ؛ الأمر الذي يفسر ذبح الأولاد

٣٦

الذين هم شباب المستقبل القوي ورجاله ، بينما لا تمثل النساء أيّ عنصر قوّة اجتماعي أو اقتصادي أو عسكري ، ولا سيما في ذلك الزمان ، بل ربما يحتاج إليهن كقوة عاملة للخدمة في تقوية ملك الفراعنة.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الذين كانوا يستعبدونكم ويضغطون على حريتكم ، فلا يملك أحد منكم أمامهم أي حول أو قوّة ، فلا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حماية وجوده ، فكانوا (يَسُومُونَكُمْ) أي : يذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ الشديد في وحشيته وقسوته ، في استخدامهم لكم في أعمالهم العمرانية والزراعية والخدماتية ، وفي فرض الجزية عليكم من دون أساس. ويشتد ذلك ويتعاظم في صورة أكثر قسوة ووحشية ، فهم (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ولا يبقى منكم في المستقبل شباب يملكون القوة ورجال يعملون من أجل الحرية ، كوسيلة من وسائل مصادرة وجودكم القوي في المستقبل ، (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) فيبقونهنّ للخدمة وللّذّة ولغير ذلك. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) لأنه يمثل الموت الجسدي للذكور والموت المعنوي للإناث. وقد نجّاكم الله من ذلك كله ببركة موسى عليه‌السلام الذي جاهد في رسالته جهاد الأبطال من أجل حريتكم ، التي هي رمز حرية الإنسان المستضعف.

وقد جاءت هذه الآية لتقول لهم ـ للبقية الباقية منهم ـ في زمن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله قد رفع عنكم هذا البلاء العظيم بفضل موسى عليه‌السلام ورسالته ، وأنعم عليكم بنعمة الامتداد في الحياة بعيدا عن كل طغيان مدمّر وحشي ، فلما ذا لا تشكرون؟

* * *

٣٧

ضرورة استحضار الله في كل شيء

ويمكن لنا أن نستوحي هذه النعمة في كل موقف يقفه أفراد أيّ شعب من الشعوب تحت سلطة الحكم الظالم الذي يقهرهم ، ويضطهدهم ، ويقتل الأبرياء من أبنائهم ، ويستغل خيراتهم وثمراتهم ، ويكبت حرياتهم ، ويعطل طاقاتهم عن الحركة والانطلاق ، وذلك عند ما يرتفع عنهم هذا الكابوس الثقيل بما يصنعه الله لهم من الظروف والأوضاع والوسائل الداخلية والخارجية ، فلا بد لهم من الوقوف أمام ذلك موقف المؤمن الواعي الشاكر لنعمة الله ، عند ما يلتفت ـ بعمق ـ إلى ألطاف الله وآلائه ، في تيسير ذلك كله بشكل مباشر ، فيواجهون الحياة من موقع إرادة الله الأصيلة العميقة في الأشياء ، لا من موقع الأسباب الظاهرية فقط ، لأن ذلك ما يربطهم بالله دائما من خلال الوعي الأعمق والفهم الأرحب ، فلا يتصورون شيئا إلا ويرون الله معه ، ولا يواجهون شيئا إلا ويرون الله خلفه.

* * *

إغراق آل فرعون وإنجاء بني إسرائيل

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

هذه هي النعمة الثانية التي أنعمها الله عليهم ، وذلك في صورة المعجزة ، فقد خرج موسى ببني إسرائيل ليخلصهم من طغيان فرعون ، بعد أن أعيته الوسائل الطبيعية التي حاول من خلالها إقناع فرعون بالسماح لهم بالخروج معه ، حتى إذا عرف فرعون بذلك ، لحقهم بجنوده ليمنعهم من

٣٨

التقدم ... وهنا كانت المفاجأة الإلهية التي أنقذت الموقف بمعجزة حطمت كبرياء فرعون ، كما استطاعت أن تحطم زهوه في معجزة العصا ، فشق الله البحر لموسى وقومه وفتح لهم طريقا يابسا ـ كما يحدثنا القرآن في ما نستقبله من آياته ـ وعبروا إلى الجانب الآخر ، وأراد فرعون أن يلحقهم في هذا الطريق اليابس نفسه الممتد أمامه بعد عبورهم ، فدخلت خيوله البحر فغمره الماء الذي غطّى الطريق ، وهم ينظرون إليه في حيرته الذليلة ، زيادة في إذلاله وفي إعزاز المستضعفين الذين انطلقوا في طريق الرسالة والرسول.

إن الموقف قد تحرك هنا من خلال المعجزة ، لأن الوسائل العادية قد استنفدت ، ولم يبق هناك من سبيل لإنقاذ الموقف الرسالي إلا ذلك ، فلو أن فرعون استطاع أن يدركهم لدمّرهم ودمّر موسى معهم ، مما يجعل القضية تمثل انتصارا ساحقا للكفر على الإيمان ، وهذا ما لا يريده الله في تلك المرحلة التي تحولت إلى موقف للتحدي المباشر له.

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي : فلقناه وجعلنا فيه جسرا تعبرون عليه هربا من عدوكم ، (فَأَنْجَيْناكُمْ) من ظلم فرعون وطغيانه ، (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) الذين خيّل إليهم أنهم قادرون على ملاحقتكم ، من خلال الأرض اليابسة التي جعلها الله بقدرته في قلب البحر ، فاندفعوا إليه ، واندفع الماء إليهم ، فغمرهم بعد أن تجاوزتم البحر إلى البرّ ، (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إليهم ، وهم يلاقون جزاء طغيانهم في مصيرهم المحتوم.

وتلك هي قصة المعجزة في كل زمان ومكان في مسيرة النبوّات ، فهي تأتي لتنقذ الموقف حيث لا مجال للموقف البديل ، وهي ليست حدثا يوميا يأتي بمناسبة وبغير مناسبة ، كما قد توحي بذلك بعض الأقاصيص المنقولة في قصص الأنبياء والأئمة والأولياء ، فإن الله قد أقام الحياة على أساس السنن

٣٩

الطبيعية التي أودعها في الكون ، فلا يغيّر سننه الطبيعية إلا لأمر عظيم.

* * *

عفو الله عن بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

هذه هي الحادثة الثالثة التي واجه الله بها بني إسرائيل في مجال تعداد ممارساتهم السيئة أمام نعمه عليهم ، فقد أراد لهم أن يبدءوا حياة جديدة في ظل شريعة شاملة تنظم لهم حياتهم ، وترعى لهم شؤونهم وعلاقاتهم ، وتفتح لهم أبواب الحياة الواسعة على أساس من الحكمة والمصلحة. وفي هذا الجو ، استدعى الله موسى لميقاته لينزل عليه التوراة في مدى أربعين ليلة ؛ وهنا كانت المفارقة ـ المفاجأة ، فلم يكد موسى يغيب عنهم حتى نسوا الرسالة والرسول ، ونسوا الله سبحانه ، فعبدوا العجل في قصة طويلة سيذكرها القرآن أكثر من مرة ، ولم ينفتحوا على الآفاق الواسعة التي أراد الله لهم أن ينفتحوا عليها ، لينطلقوا إلى العالم كحملة للرسالة الشاملة ، فيكون لهم المركز الكبير في ظل هذه الرسالة.

ولكن الله لم يعاملهم بظلمهم ، بل عفا عنهم ليفسح لهم المجال للتراجع ولتصحيح الفكر والمسيرة ، ليهيئ لهم الجو الروحي والنفسي الذي يعينهم على الرجوع إليه والشكر له على نعمائه من ناحية عملية.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ليتلقى الوحي الإلهي الذي فيه الهدى للناس في كل قضاياهم العامة ، في مسئولياتهم اتجاه أنفسهم ، واتجاه الناس من

٤٠