تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

(قانِتُونَ) : دائمو الطاعة والانقياد.

(بَدِيعُ) : خالق على غير مثال سبق ؛ ومعنى المبدع : المنشئ والمحدث ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد.

* * *

أبشع الظلم الاعتداء على مساجد الله

إن من أبشع أنواع الظلم هو الاعتداء على مساجد الله وعلى حرية المؤمنين فيها ، وذلك بمنعهم من الصلاة والدعاء وذكر اسم الله. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) في منع المصلين من الصلاة فيها (وَسَعى فِي خَرابِها) ماديا بتهديمها أو معنويا بالمنع من عمارتها بالعبادة.

أمّا أنّه من أقوى أنواع الظلم ، فلأنه يجمع بين الاعتداء على حرمة الله بالاعتداء على بيوته وإبطال دورها في العبادة ، وبين الاعتداء على حرمة الإنسان بالاعتداء على حريته في ممارسة شعائره وعباداته ؛ (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) وقد أراد الله للمسلمين أن يأخذوا بموقف القوّة ضد هذا الظلم والظالمين ، فيمنعوهم من دخولها إلا كدخول الخائفين ، وذلك على سبيل الكناية في تدمير قوتهم وإضعافهم ، حتى يتحركوا في المجتمع تحرّك الخائف الذي إذا أراد أن يدخل المسجد ، فلا يدخله إلا خائفا ، ثم يتوعدهم الله الذي يملك القوة في الدنيا والآخرة بالخزي في الدنيا (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وذلك من خلال ما يصيبهم فيها من ضعف وهوان وذلّ بسبب تصرفاتهم الظالمة الباغية ، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

* * *

١٨١

ما معنى خراب المساجد؟

وللمفسرين خلاف في هؤلاء المقصودين بالآية ؛ هل هم الروم الذين «غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه ، حتى كانت أيام عمر ، فأظهر الله المسلمين عليهم وصاروا لا يدخلونه إلا خائفين» ، كما روي عن ابن عباس ومجاهد ؛ أم أنهم قريش حين منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخول مكة والمسجد الحرام ، كما روي عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام ، وبه قال البلخي والرماني والجبائي؟ (١).

وقد علّق الطبري في تفسيره على هذا الرأي بأن قريشا لم يسعوا في تخريب المسجد الحرام ، وبأن هذا لا يتناسب مع الآيات المتقدّمة الواردة في سياق ذمّ أهل الكتاب ، بينما ينسجم الرأي الأول معه (٢). ولكنّنا نرى مع صاحب مجمع البيان ، أنّ من الممكن أن يكون المراد من خرابها تعطيل دورها في العبادة ، لأن ذلك هو الأهم في وجودها ، وهذا ما نستوحيه من التركيز على المنع عن ذكر اسم الله فيها في بداية الآية ، مما يوحي بأن القضية تعيش في هذا الجو. وقد ورد في التفسير في قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨] ، أنّ المقصود بالتعمير ، هنا ، تعميرها بالعبادة. وقد جاء في بعض الكلمات المأثورة في أخبار آخر الزمان في صفات الناس آنذاك : «مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى» (٣) ، مما يقرّب إرادة هذا المعنى في نطاق هذا التعبير.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٢) راجع : الطبري ، ابن جرير ، جامع البيان ، دار الفكر ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٥ م ، ج : ١ ، ص : ٦٩٧.

(٣) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، باب : ١٥ ، ص : ٤٠٧ ، رواية ١٤.

١٨٢

وربما كان من القريب أن يكون السعي بالخراب لا يعبّر عن واقع مباشر في حياة قريش في مكة ، بل يعبر عن نتائج السعي في تخريب الإسلام وتدميره بما أثاروه من حروب ضده وحاولوه من إضعاف لقوّته ، وقد يتأيّد ذلك بالتعبير بكلمة «المساجد» بصيغة الجمع ، مع أنها ليست متعددة في مكة أو في بيت المقدس ، مما يرجّح أن الآية لم تجر مجرى الحديث عن القصة في نطاقها الخاص ، بل جرت مجرى الانطلاق منها كنموذج للتحدث عن الفكرة العامة ، مما يجعل أجواء الآية قريبة من التعبير عن الروح التي يعيشها أمثال هؤلاء ممن يحملون عقلية قريش وروحيتها ، فتدفعهم إلى خنق حرية المؤمنين وإلى السعي في خراب المساجد.

وقد روى صاحب مجمع البيان ، أن الرواية قد وردت بأن القرشيين قد قاموا بهدم مساجد كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتخذونها أماكن للصلاة لما هاجر النبي إلى المدينة ، وبذلك لا يبقى مجال لاعتراض الطبري (١).

ولكننا لا نستقرب هذا الوجه ، لأن الآية تتحدث عن حالة قائمة يتحرك فيها هؤلاء القوم للمنع من ذكر اسم الله والسعي في خراب المساجد ، لا تخريبها بعد رحيل المسلمين إلى المدينة. أمّا قضية الانسجام مع سياق الآيات المتقدمة ، فإننا لا نرى رأيه في اختصاص الحديث بأهل الكتاب ؛ بل الظاهر أن الحديث قد تعداه إلى غيرهم من المشركين ، لأن السياق قد تحرك في اتجاه توعية المسلمين في ما يتعلق بأوضاع الفئات التي تقف ضدهم ، كما لاحظناه في الآيات التي تحدثت عن المشركين وأهل الكتاب معا.

ونلاحظ في الآية أنها لم تتحدث عن دخولهم خائفين كواقع حيّ ليشار إلى القصة في تفسير الآية ، بل إنها تحدثت عما ينبغي أن يبلغه المسلمون من القوة التي تخيف الكافرين ؛ فإذا جاءوا إليها ـ وهي مراكز المسلمين القيادية

__________________

(١) راجع : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٦١.

١٨٣

والاجتماعية ـ دخولها دخول الخائف ، سواء كان مجيئهم إليها لأجل الدخول في الإسلام أو لغير ذلك من الأغراض الأخرى.

* * *

لله المشرق والمغرب

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) إنّ الآية تعبّر عن حقيقة توحيدية ، وهي أنّ الله ليس جسما ليوجد في مكان دون مكان كما توجد الأجسام ، بل هو فوق المكان والزمان ، مالك كلّ شيء وخالقه ، فلا يختصّ به مكان أو جهة ؛ فله المشرق والمغرب ، فأينما وجّهتم وجوهكم فإنكم ستجدون الله أمامكم ماثلا في خلقه من خلال دلالة الخلق على عظمة الخالق. فإن الله واسع في ملكه وقدرته ، عليم بما في قلوبكم حيث تتوجه في عبادتها وإخلاصها.

هذا هو الجوّ الذي توحيه الآية ، ولكن ماذا خلفها ، وماذا في مجالاتها من حدود؟

هل نزلت في توجّه الإنسان إلى الصلاة ، لتكون واردة في مورد تحديد القبلة كما ينقل عن ابن عباس ، فقد روي عنه أنها نزلت في اليهود الذين أنكروا تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، أم أنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة ، كما روي عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، أم نزلت في حالات الجهل والتحيّر إذا صلى المصلون إلى جهة غير القبلة باعتقاد أنها القبلة ، كما روي عن جابر في قصة حدثت في زمن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ (١).

ليس في الآية ما يدل على اختصاصها بحالة الصلاة أو صلاة معيّنة ،

__________________

(١) يراجع : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٦٣.

١٨٤

ولكن جوّها يوحي بذلك ، وبأن هناك حديثا دار بين المسلمين ، فجاءت الآية لتضع القضية في نطاقها الطبيعي الذي يلغي أسس الخلاف ؛ فإذا كان الله قد أراد منا التوجه إلى جهة من الجهات في وقت ما ، فإن بإمكانه أن يوجهنا إلى جهة أخرى في وقت آخر ، لأن الجهة الأولى لم تشرّع باعتبارها مكانا لله ، بل لحكمة يعلمها الله في ذلك ، فلا مانع من أن تكون هناك حكمة أخرى في جهة أخرى. أمّا قضية الاختصاص بصلاة معيّنة ، فإنها تخضع للتدقيق في المقارنة بين الآيات والروايات التي عرضت لتشريع القبلة في قضايا الإطلاق والتقييد ، مما يختص الحديث التفصيلي عنه في البحث الفقهي ، وربما كان لنا أن نسجّل في لفتة سريعة ، أنّ الآية مطلقة في جواز التوجّه إلى الله في أي مكان في كل مورد من الموارد التي يشترط فيها التوجه إليه ، إلا ما دلّ الدليل على اختصاصه بجهة معينة كصلاة الفريضة مثلا. فيبقى الباقي كصلاة التطوّع ونحوها في مجرى الإطلاق ؛ وبهذا تفسّر الروايات الواردة في اختصاصها بصلاة التطوّع أو بحالة الشك. وعلى أي حال ، فإن هذا لا يمنعنا من التأكيد على ما ذكرناه في بداية الحديث من أن الآية واردة في مقام التعبير عن حقيقة توحيدية عامّة والتركيز على الانطلاق منها في مقام الالتزامات التشريعية العملية.

* * *

وقالوا اتخذ الله ولدا

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). في هاتين الآيتين معالجة ومناقشة للفكرة الخاطئة التي سيطرت على تفكير اليهود والنصارى والمشركين عن علاقة الله ببعض مخلوقاته ، فقد حكى لنا القرآن في

١٨٥

آيات لاحقة أنّ اليهود يعتقدون أنّ عزيرا ابن الله ، وأن النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله ، كما حكى لنا عن المشركين أنهم يرون الملائكة بنات الله ؛ ولعل السرّ في هذه العقائد هو استغراقهم في صفات العظمة لهذه المخلوقات ، من خلال ما لاحظوه من قيامهم ببعض الأعمال التي قد لا يستطيعها غيرهم ، أو ما اعتقدوه فيهم من قدرتهم على الأشياء التي لا يقدر عليها الآخرون ، مما أوحى إليهم بأنهم يمتازون على المخلوقات الأخرى ، لأن فيهم سرّا ليس موجودا فيها ، ولولا اعتقادهم بوحدانية الله في الوجود ، لخيّل إليهم أنهم شركاء الله في الألوهية ، ولكنهم وضعوهم في مرتبة قريبة منه بالمستوى الذي يجعلهم أقرب من غيرهم ، وهل هناك قرابة أقرب من علاقة الإنسان بأولاده؟! إذا فلا بد أن يكونوا أبناء الله ، ليكون ذلك مبرّرا لهذا الامتياز الذي منحهم إياه ، وهكذا انطلقت هذه العقيدة في تاريخ هذه الشعوب في تعقيد فكري لدى البعض ، وفي سذاجة فكرية لدى البعض الآخر.

(وَقالُوا) أي اليهود والنصارى ـ وقد يشمل مشركي العرب ـ (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) كما يتخذ الإنسان ولدا ليأنس ويقوى به ، فيمنحه الامتيازات الكبرى التي لا يمنحها لغيره ، فتكون له القداسة التي قد تبلغ درجة الألوهية. وجاء القرآن ليناقش هذه العقيدة ببساطة ، فبدأ الحديث بالتسبيح والتنزيه لله وذلك بكلمة (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن هذه العلاقات ، لأنها تعني الحاجة ، باعتبار أنّ البنوّة تمثل في وعي الآباء تلبية لرغبة ذاتية ، كنتيجة للشعور بالفراغ الداخلي من هذه الجهة ، كما تمثل الحاجة إلى المرور بمراحل زمنية وعملية ، في سبيل الوصول إلى هذه النتيجة ، لو أريد للنسبة أن تتحقق بشكل طبيعي كما تتحقق في سائر الأشياء ، وهذا يعني العجز إلى جانب الحاجة ، مما يستحيل على الله ويتنزه عنه.

ثم يناقش القضية من موقع الحقيقة الإيمانية التوحيدية ، (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مطيعون خاشعون ، فلا يملك أحد منهم أيّ

١٨٦

تفوّق ذاتي في نفسه ، أو أية علاقة بالله تميزه عن العلاقة بالآخر من حيث طبيعة الخلق. فما حاجة الله إلى الولد ، وهو مالك السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات ، ولكلّ من هذه المخلوقات خصائص وميزات ، ولكنها لا تخرج بذلك عن مملوكيتها ومخلوقيتها لله ، من دون أن يكون أحد منها أقرب من الآخر من حيث جهة الملك أو الخلق ، أو يكون انتسابها إلى الله بمستوى أعلى من الآخر ، وأضاف إلى ذلك أنه : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومنشئها من خلال إرادته التي لا تختلف في كل شيء يريده ، من دون حاجة إلى توسط شيء بين الإرادة والمراد ، فإذا أراد شيئا خلقه.

(وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قول الإرادة لا قول الكلمة ، على هدى

ما جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام في الصحيفة السجادية : «فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».

وقد جاء المفسرون ليناقشوا الوجه في تفسير قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وذلك من منطلق القاعدة الفلسفية التي تمنع من مخاطبة المعدوم ؛ فكيف يخاطب الله الشيء قبل وجوده ليطلب منه أن يوجد؟! فقال بعضهم : إنه بمنزلة التمثيل ؛ وقال بعض آخر : إنه رمز بين الله وبين الملائكة في الدلالة على أن هناك شيئا جديدا قد خلق ؛ وقال آخرون : إن المعدوم لمّا كان معلوما عند الله صار كالموجود.

والذي يبدو لنا ، أنّ إثارة هذه المشكلة في وعي هؤلاء ينطلق من محاولة تفسير القرآن في كلماته ، تفسيرا حرفيا يستنطق الكلمة من خلال معناها اللغوي من دون ملاحظة للجانب البلاغي الذي تتّسع له اللغة العربية في مرونتها التعبيرية التي تشتمل على الحقيقة والمجاز والكناية ، وهذا ما درج عليه القرآن الكريم في توضيح الصورة للناس بطريقة الحوار ، لأنها أقرب الوسائل في الإيضاح ، كما ورد في قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا

١٨٧

طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] وغير ذلك من الآيات ، فلن نحتاج إلى مثل هذا التكلف في توجيه الآية ، بل الظاهر أنها واردة على سبيل تقريب الفكرة بطريقة الحوار.

* * *

معنى «كن فيكون»

ولا بد من الملاحظة في حكمة «كن فيكون» ، فقد يخيل إلى البعض أن المقصود هو أن الشيء يوجد فورا إذا أراد الله وجوده ، ولكن ذلك غير المراد ، لأن بعض الأشياء قد تكون لها شروط توجب تأخيرها ، ولذلك فإن المقصود هنا ، أن مراد الله لا يختلف عن إرادته ، فإذا أراد الله للإنسان أن يوجد بعد تسعة أشهر من الحمل ، فهو الذي يتحقق لا وجوده كيفما كان.

* * *

١٨٨

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١٢٣)

* * *

١٨٩

معاني المفردات

(بَشِيراً) : مبشّرا بالخير.

(وَنَذِيراً) : منذرا ومحذّرا من العاقبة قبل حلولها.

(مِلَّتَهُمْ) : الملّة : الديانة ، ومثلها النّحلة.

* * *

طلبات المشركين التعجيزية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

اختلف المفسرون في طبيعة الفئة التي عبّر عنها القرآن بالذين لا يعلمون ، فقال بعضهم : إنها النصارى ، وقال بعضهم : إنها اليهود ، وهو قول ابن عباس ، وقال بعضهم إنهم مشركو العرب ، كما عن الحسن وقتادة (١) ، ولعلّه الأقرب ، لأنه أشبه بالمصطلح القرآني في الحديث عنهم كما جاء في الآية السابقة (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) [التوبة : ٦]. وقد يتأكد ذلك من خلال دراستنا للطلبات التعجيزية التي كانت تقدم إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في استحداث آيات جديدة مقترحة من قبل المشركين ، مما يلتقي بهذه الطلبات المذكورة في هذه الآية ، وهي أن يكلمهم الله وجها لوجه أو تأتيهم آية من الآيات التي كانوا يسمعون عنها في قصص الأنبياء.

__________________

(١) يراجع : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٧٠.

١٩٠

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) لنسمع كلامه ، فنؤمن به من خلال حاسة السمع ، إذا لم نتمكن من معرفته من خلال حاسة البصر ، (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) معجزة لا يقدر البشر عليها لنعرف أن محمدا رسول من الله ، وليس بشرا عاديا كبقية بني البشر. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) كما حدث ذلك لليهود ، (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الكفر والتعنت والعناد والمشاعر القلقة ، التي لا تنفتح على الحقائق من موقع الجديّة الواعية التي تثير علامات الاستفهام في هذا الجانب أو ذاك للوصول إلى الحقيقة ، بل تتحرك من العقدة المرضية التي تعمل على التنفيس عن ذاتها بالأساليب التعجيزية ، لأنهم لو عقلوا المسألة بطريقة واعية ، لعرفوا أن الله لا يستجيب للهو اللاهين ، أو عبث العابثين الذين يقدمون الاقتراحات من دون حاجة إليها في المجرى الكوني العام ، أو في الخط الرسالي الشامل ، لأن خرق القوانين المألوفة مخالف لحكمة الله المتحركة في السنن الطبيعية التي أودعها الله في الكون ، أو في الوسائل الضرورية لإثبات صدق الأنبياء مما لا مجال فيها للتصديق العام.

فقد حفل تاريخهم بمثلها ، إذ قال الذين من قبلهم من اليهود لموسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] وغير ذلك ، ويضيف الله إلى ذلك قوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، ليثير أمامنا القضية التالية : وهي أن المشكلة التي تواجه الأنبياء أمام شعوبهم ، هي أنهم ـ أي شعوبهم ـ لم يكونوا في موقف الذين يريدون الحصول على القناعات الذاتية في قضايا الرسالة الإلهية ، ولهذا كانوا لا يفكرون في ما يقدّم إليهم من آيات وبيّنات وبراهين ، بل كانوا ينتقلون من طلب إلى آخر في عملية الهاء وإشغال وتحديات لا معنى لها ، لأن النبي لم يأت ليغير ناموس الكون في قوانينه المودعة في الآفاق ليكون دوره الاستجابة لهم في كل ما يقترحونه عليه من هذه الأمور ، ولم تجعل له هذه القدرة الذاتية لو أراد ذلك ، بل الأمر لله في ما يفعل وفي ما لا يفعل تبعا لما يعلمه من الحكمة في ذلك كله ، بل كان دور النبي الأساس هو أن يكون بشيرا

١٩١

ونذيرا بالحق ليهتدي الناس من خلال التبشير والإنذار ، وليس عليه إلّا أن يقدم للناس ما فيه الحجة على الحق ثم يتجه إلى الحق في كل تفاصيله بشيرا ونذيرا ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) وتلك هي مهمته ، وتلك هي مسئوليته ، فإذا استجاب الناس له ، فذلك هو ما يريده ويتمناه ، وإذا انحرف الناس عنه فاختاروا الجحيم على النعيم باختيارهم الضلال على الهدى ، فلا (تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ، فهذا ما لا يسأل عنه النبي لأنه لم يحدث عن تقصير منه ، بل عن عناد منهم واختيار للطريق السيئ في قضية المصير.

* * *

حدود المسؤولية

وقد حاول المفسرون أن يعتبروا هذه الآية وأمثالها تسلية للنبي ، كما جاء في مجمع البيان ، حيث قال ـ تعليقا على الآية ـ : وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ قيل له إنما أنت بشير ونذير ولست تسأل عن أهل الجحيم وليس عليك إجبارهم على القبول منك ، ومثله قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) [البقرة : ٢٧٢](١).

أمّا نحن فلا نرى هذا الرأي ، بل نعتقد أن هذه الآيات واردة في مورد وضع القاعدة الثابتة للمسؤولية التي يتحملها النبي من حيث هو رسول وداعية ، وتحديدها بالعناصر الاختيارية لأساليب الدعوة ووسائلها التي يملكها ، من حيث طبيعة الفكرة والكلمة والأسلوب والجو العام ؛ أما الجوانب الأخرى التي تخرج عن اختياره ، وترجع إلى أشياء ذاتية في حياتهم النفسية ، أو إلى ظروف

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٧٢.

١٩٢

موضوعية أخرى ، فهذا ما لا يدخل في حساب مسئوليته ، وبذلك فلا مجال لأي حزن أو خوف أو حسرة ، لأن الله لم يرسل رسوله ليغيّر الكون تغييرا تكوينيا بشكل غير طبيعي ، بل كل مهمته هي السير في عملية التغيير من خلال وسائلها الطبيعية التي لا يملك كل عناصرها ، فلا يكلف إلا بما يملكه في نطاق قدرته ، وليس هذا مختصا بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بالأنبياء من قبله ، بل يشمل كل داعية إلى الله ، في أي موقع من مواقع الدعوة ، فليس عليه إلا أن يفجر كل طاقاته ويستخدم كل الأساليب والوسائل التي يملكها للوصول إلى قناعة الآخرين وتغيير الواقع ، فإذا فعل ذلك فقد قام بمسؤوليته ... وتلك هي الطريقة الواقعية العملية التي تفرغ داخله من كل انفعال غير طبيعي ، مما يجعله يواجه الفشل والهزيمة مواجهة هادئة لا تنسحق أمام نتائج الهزيمة وعناصرها ، بل تقف في ساحة الواقع لتجمع العناصر الجديدة الممكنة التي يمكن لها أن تحوّل الهزيمة إلى نصر ، والفشل إلى نجاح ، من خلال دراسة الأسباب الواقعية لما حدث ومحاولة التغلب عليها في حركة المستقبل.

* * *

وعي هوية الصراع

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قال المفسرون في أسباب نزول هذه الآية : إن النبي كان مجتهدا في طلب ما يرضيهم ليدخلوا في الإسلام ، فقيل له : دع ما يرضيهم إلى ما أمرك الله به من مجاهدتهم. وقالوا ـ في مجال آخر ـ : كان اليهود يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الهدنة ويرونه أنه إن هادنهم

١٩٣

وأمهلهم اتبعوه ، فآيسه الله تعالى من موافقتهم (١).

إننا نعتقد أنّ ما يذكره هؤلاء المفسرون هو نوع من أنواع الاجتهاد في استيحاء القصة التي يفرضون وجودها في كل آية من الآيات التي يخاطب الله فيها نبيّه في كل قضية من القضايا المتعلقة بموقف النبي من العلاقات المتصلة بالآخرين ، ولكننا لا نرى ضرورة في ذلك ، بل الظاهر هو أن الله كان يريد أن يقدم للمسلمين ـ من خلال النبي ـ الوعي العميق للواقع الذي يحيط بهم ، سواء في ذلك الواقع المتمثل بالأشخاص الذين يخالفونهم في الدين ، أو المتمثل بالأحداث والأوضاع المحيطة بهم ، ليكونوا على معرفة عميقة شاملة لما حولهم ، مما يجنّبهم خطر الوقوع في تجربة المعرفة التي قد تعرضهم للهلاك ، وتدفعهم إلى السير في وضوح الرؤية بعيدا عن الانفعالات السريعة والأوهام الطائرة.

وقد يكون الأساس في اختيار النبي للخطاب ، ثم اتباع أقسى الأساليب شدّة في خطاب الله له ، هو الإيحاء بأن هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة من الأهمية والخطورة ، بالمستوى الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص ، وإن كان في مستوى عظمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدة من طاعتهم لله في ما يريد وفي ما لا يريد ، فإذا انحرفوا عن الخط ـ ولن ينحرفوا عنه ـ سقطت عظمتهم وتحوّلوا إلى أشخاص عاديين خاطئين ، لا يملكون لأنفسهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

ويعتبر هذا الأسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتخذ جانب الخطورة على أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف ، وذلك كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ، وقوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٧٣.

١٩٤

الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧].

أمّا هذه الآية ، فقد عالجت قضية من أخطر القضايا التي قد تواجه العاملين في سبيل الله في علاقتهم بالكافرين والمنافقين والفاسقين ، فقد يستسلم العاملون لحالة نفسية طاهرة يعيشون فيها الأمل الكبير بهداية هؤلاء المعادين للإسلام من خلال الأساليب التي يتبعونها إزاء المسلمين في ما يقدمونه من تبريرات ، وفي ما يثيرونه من انفعالات وعواطف ، وفي ما يوحون به من أفكار حميمة توحي بقربهم إلى الحق ، وذلك من خلال بعض المواقف التي يتقدمون بها في بعض مراحل الطريق ، مما يخلق انطباعا بأنهم يتقدمون إلى الحق ، وقد تخلق هذه الحالة حالة أخرى ، وهي الرغبة في إرضاء هؤلاء ببعض الكلمات والمواقف طمعا في الحصول على صداقتهم أو رضاهم ، مما يستدعي من المسلمين تقديم تنازلات فكرية أو عملية في حالات معينة.

وقد وقع الكثيرون من العاملين في هذا الشرك الشيطاني الذي ينصبه أعداء الله ، فاستطاعوا أن يجروهم إلى تقديم بعض التنازلات على حساب سلامة الإسلام في عقيدته وشريعته ومواقعه ، مما أعطاهم ـ في نظر البسطاء من المسلمين ـ صفة الشرعية لمبادئهم ، وأغراهم ـ بالتالي ـ بالمطالبة بتنازلات جديدة تبعا لحاجة الظروف الموضوعية لذلك ، وكانت النتيجة هي إعطاء أعداء الدين فرصة للتقدم وللحصول على الشرعية ، وخسارة المسلمين لكثير من المواقع الفكرية والعملية ، من خلال الفكرة التي أوحت بها هذه التنازلات ، وهي أن من الممكن للمسلم المحافظة على إسلامه ، مع التنازل عن بعض جوانب عقيدته وشريعته. وما زال الأعداء يساومون ، وما زال الكثيرون منا يقدمون التنازلات ، ليحصلوا على رضاهم من أجل الحصول على هدايتهم ، ثم تحوّلت القضية إلى الهزيمة النفسية التي عاشها المسلمون ، من خلال الهزيمة الفكرية والسياسية والعسكرية ، مما جعلنا نلهث في سبيل الحصول

١٩٥

على رضاهم ، كما يلهث الضعفاء في الحصول على رضى الأقوياء للحصول على الحماية والمكاسب والحاجات الصغيرة في الحياة.

وتلك هي النتيجة التي حذّر منها القرآن في أسلوبه الحاسم في خطابه للنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ، إن عليك ـ يا محمد ـ أن لا تجعل هدفك في مسيرتك هو الحصول على رضاهم ، لأن القضية ليست قضية خصومة شخصية طارئة ليمكنك الوصول إلى تبديل حالة الخصومة بحالة الصداقة من خلال بعض التنازلات الشخصية ، بل هي قضية اعتبار هؤلاء أنهم على الحق وأنك على الباطل ، مما يجعل من تقديم التنازلات تشجيعا لهم على موقفهم وإغراء لهم بالثبات على عقيدتهم ، ليجرّوك إلى مواقع جديدة من التنازلات ، وهكذا ، لارتباط الحصول على رضاهم بالوصول إلى التنازل الأخير وهو اتباع ملتهم ، فذلك هو السبيل الوحيد لربح ثقتهم بك ...

ثم يثير الله القضية من قاعدة المبدأ الذي لا يحتمل مساومة أو مجاملة أو تنازلا (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) وهي الصراحة في الإعلان عن الحق والهدى والإيحاء إلى الآخرين بأنه لا مجال لطريق غير طريق الله ، ولهدى غير هدى الله الذي يجب أن يتبع وحده ، ليعرفوا أن الموقف حاسم لا مجال فيه للتراجع وللتنازل ، مهما كلف ذلك من خصومات ومن عداء ومن انفصال في العلاقات العامة والخاصة.

ثم يتصاعد الأسلوب قوّة وشدة ، ليخاطب الأمة من خلال النبي بأسلوب القسوة الذي يوحي بالحسم في ما لو استسلم لنقاط الضعف النفسية ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) فانجذبت إلى جوّ الإغراء العاطفي الذي يثيرونه في نفسك ، وسرت معهم في ما يريدونه (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأنك على الحق وأنهم على الباطل ، (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) وإذا فقد الإنسان رعاية الله ونصرته

١٩٦

فمن ذا الذي ينصره من الله ، ومن ذا الذي يرعاه بعده؟!

* * *

القراءة الواعية

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يختلف المفسرون هنا ، كما اختلفوا في آيات مشابهة في من هم المقصودون بهذه الآية ؛ فقال بعضهم : إنهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ؛ وقيل : هم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ؛ وقيل : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أن يكون المراد بالكتاب القرآن ، بينما يكون المراد منه في القولين الأوّلين التوراة ، كما جاء في مجمع البيان (١).

ولكننا نحسب أن هذه الآراء المذكورة اجتهادية تنطلق من الاستنتاجات والملاحظات الذاتية لأصحابها ، وليست نقلية كما نلاحظ من الآراء ؛ ولعل الأغلب في الظن أنها ليست في مورد التركيز على جماعة معينة ، بل هي في مجال التنبيه على قاعدة أساسية عامة في باب الإيمان والكفر ، وهي تلاوة الكتاب حق تلاوته التي يريد بها القراءة عن تدبّر وتفكير وروحية واعية تتحرك من موقع البحث عن الحق لا من موقع التعصب الأعمى ، فإن ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات الله وما تشتمل عليه من دلائل الحق وبراهينه ، حيث يقود ذلك إلى الإيمان.

ومن خلال ذلك ، نفهم أن الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادة ، بل من حالة اللامبالاة والغفلة الناشئة من عدم التوفر على القراءة الواعية والفكر المسؤول ، مما يجعل من الإنسان إنسانا يتحرك في جو التعنت والتعصب

__________________

(١) يراجع : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٧٤.

١٩٧

والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحق من قريب أو بعيد. وقد اكتفى القرآن بالحديث عن خسارة الكافرين ولم يتحدث عن السبب في كفرهم ، لأن ذلك كان واضحا في الحديث عن سبب الإيمان ، وذلك كمحاولة للإيحاء لهم بضرورة التوفر على السير في خط القراءة الواعية للحصول عي فرص النجاح في الدنيا والآخرة.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وانطلقوا من خلاله إلى آفاق المعرفة ، وتحركت علامات الاستفهام في وجدانهم ، ليلاحقوا كل مفردات القضايا الفكرية والعملية ، ليحصلوا على الأجوبة الشافية من خلال القراءة الواعية : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) في فهم عميق للمضمون الفكري ، وفي استيحاء للمشاعر الروحية ، وفي دراسة لكل جوانبها المتصلة بالله وبالحياة والإنسان ، ليحصلوا من ذلك على الثقافة الإيمانية في أجواء الإيمان المنفتح الباحث عن الحقيقة ، لا الإيمان الأعمى الغارق في ضباب التقليد ، فلا يقتصرون على الأداء اللفظي الذي يشغل البعض من الناس أو على العنصر الأدبي البلاغي ، بل يتحركون معه ككتاب عمل ووعي وحركة ومنهج للحياة ، كما جاء في الإرشاد للديلمي «يرتلون آياته ، ويتفقهون به ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأمره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه ، وأضاعوا حدوده ، وإنما هو تدبر آياته ، والعمل بأركانه ، قال الله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) [ص : ٢٩].

وربما كان المراد بالكتاب التوراة ، وربما كان المراد به ما يشمل القرآن. وعلى كل حال ، فإن الفكرة تنطلق من وظيفة الكتاب في الوعي الإيماني الذي يخرج به الناس من الظلمات إلى النور ، فلا فرق ـ في ذلك ـ بين كتاب وكتاب ، فإن كل كتاب يصدق الكتاب الذي بين يديه والرسول الذي أنزل به. (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) لأن القراءة الواعية للكتاب الذي يتضمن إشراقه المفاهيم

١٩٨

الروحية والفكرية والعملية ، لا بد أن تعود إلى الإيمان للذين يتطلعون إلى حقائقه وآفاقه ، ليلتزموها عقيدة وسلوكا وانتماء. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) من الناس الذين لا يعيشون مسئولية المعرفة ، ولا جدية الحوار ، ولا وعي القراءة ، بل يعيشون الحياة على أساس الغفلة واللامبالاة واللاانتماء ، ويسيرون مع كل ريح ، فلا يتدبرون الكتاب ، ولا يتفهمون آياته ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا الدنيا التي يخطط الكتاب لها في خط التوازن الفكري والعملي ، وخسروا الآخرة التي يريد الكتاب للإنسان أن يجعلها الهدف في حركته في الدنيا ، لينال الدنيا والآخرة معا.

* * *

تذكير الله بني إسرائيل بنعمه عليهم.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) تقدمت هاتان الآيتان في ما سبق وتقدم الحديث عنهما ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو السبب في إعادتهما وتكرارهما ، والظاهر هو أن الحديث الذي بدأه القرآن مع بني إسرائيل كان محاولة لتذكيرهم بالميثاق وبنعم الله عليهم وبمسؤوليتهم عن هذه النعم بالسير مع الإسلام في دعوة النبي ، وكانت الآيات المتتابعة بمثابة استعراض للنعم وانحرافهم عن الخط المستقيم للمسؤولية ، من أجل تعميق الشعور بالمسؤولية في داخلهم في استحضار التاريخ الطويل المفعم بالحركة ، ومن الطبيعي أن ختام هذا الفصل بالتركيز على هذا الجانب يعتبر عنصرا فعالا في تحقيق ذلك ؛ والله العالم بحقائق آياته.

* * *

١٩٩
٢٠٠