تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

التعليل على ما ذكره ، لأن الحديث عن قدرة الله يكفي في مناسبته وجود موضوع له في مسألة التشريع أو التكوين.

* * *

نسخ الآيات للإتيان بخير منها

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي نزيلها من التشريع ، باعتبار أن تبديل مضمونها من التداول في حياة الناس إلى مضمون آخر وحكم آخر يمثل إزالة عملية للآية حتى لو بقيت في القرآن لفظا ، لأنها خرجت منه عملا ، لتبقى في مضمونها مجرد تاريخ في التشريع ؛ أو نزيلها من الوجود كظاهرة كونية تتبدل بظاهرة أخرى ، أو معجزة تنتهي لتأتي مكانها معجزة أخرى. أما معنى «الآية» ، فهو العلامة الظاهرة وحقيقته لكل شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره ، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته ، إذ كان حكمهما سواء ، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات ، فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهج ، ثم وجد العلم علم أنه وجد الطريق ، وكذا إذا علم شيئا مصنوعا علم أنه لا بدّ له من صانع ، كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني (١).

وقد تطلق على كل جملة من القرآن دالة على حكم أية سورة كانت أو أي فصل من فصول السورة ، وقد يقال لكل كلام منفصل بفصل لفظي ، وعلى هذا ، اعتبار آيات السورة التي تعدّ بها السورة ؛ وقد تطلق على المعجزة وعلى الظواهر الكونية الدالة على وجود الله والمعاد وعلى الأشياء البارزة الملفتة للأنظار.

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢٨.

١٦١

(أَوْ نُنْسِها) أي نهملها من الذاكرة أو نتركها ، فلا يكون لها أيّ أثر أو اعتبار في الواقع. (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) في العناصر التشريعية التي قد تمنح الناس نتائج أكبر من الأولى على مستوى حياتهم العامة أو الخاصة في التسهيل أو التيسير ، أو في ملاءمتها للمرحلة الثانية بشكل أفضل من الأولى التي كانت تنسجم مع المرحلة الأولى ، (أَوْ مِثْلِها) في مستوى العناصر الكامنة في الآية الأولى ، وإن اختلفت في طبيعتها من حيث خصائصها ، كأي شيئين متماثلين في الدرجة مختلفين في الخصائص.

وبهذا يجاب عن السؤال الذي يفرض نفسه أمام الكلمة ، وهو أنه إذا كان هناك تماثل بين الحكم الناسخ والمنسوخ فما فائدة التغيير ، بأنّ الخصائص قد تختلف لتكون في زمن منتجة للغاية التي كانت من أجلها ، وغير منتجة في زمن آخر لحاجتها إلى خصائص أخرى ، لأن للزمن دورا في فعلية الخصائص مع وحدة الغاية. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فمن يخلق الآية ويحرّكها في الوجود أو في التشريع الإنساني لمصلحة معينة في فترة معينة ، ومن يبدع آية أخرى في مكانها بعد إزالة الأولى ، أو يشرع حكما تضمنته الآية بعد نسخ الحكم الأول؟! فإن الله لا يعجزه شيء في خلقه ، فإذا كان قادرا على الإيجاد ، فهو القادر ـ في الوقت نفسه ـ على إعدام فعلية الوجود وتبديله بوجود آخر ، فإن الموجودات خاضعة له في البداية في أصل وجودها ، كما هي خاضعة في النهاية بعد وجودها ، فلا يعطّل الوجود قدرته.

* * *

الحضور الدائم لله في حياة الإنسان

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا

١٦٢

نَصِيرٍ) ربما كانت هذه الآية تأكيدا للجوّ الروحي الإيماني الذي يريد القرآن ملء نفس الإنسان المؤمن به ، في ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فكانت هذه الآية من أجل دفع الإنسان إلى عيش هذه الحقيقة الإيمانية ، من خلال توجيهه إلى التفكير في ما حوله وفي ما فوقه من السماوات والأرض ، ليعرف أنها ملك الله الذي يحب أن يذعن له العباد ، ويخضعوا له ، ويرجعوا إليه في كل أمورهم ، ولا يتمردوا عليه ، ولا ينحرفوا عن سبيله مهما كانت درجة قوتهم ومهما كانت قوة الآخرين ، لأنهم سوف يواجهون الحقيقة الصارخة ، وهي أنهم لا يملكون من دون الله وليا يرعاهم ويقوم بأمورهم ، لأنه القائم على الخلق كله ، ولا يملكون من دونه نصيرا ينصرهم منه ، لأنه خالق القوة كلها ، فلا قوة أمامه مهما بلغت ... وهذه طريقة قرآنية جديرة بالوعي والتأمل ، وهي الإيحاء الدائم بعظمة الله ، بالإفاضة في ذكر صفاته المليئة بأجواء العظمة في كل مورد يذكر فيه اسمه في القرآن ، ليظل الإنسان مشدودا إلى عظمته في عملية تفكير وتدبر وتأمل ، وليعيش الحضور الروحي الدائم ، فلا ينفصل عنه في أية حالة من الحالات.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) يا محمد ، أو أيها الإنسان المؤمن ، (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من موقع أنه الخالق لها والمدبر لأمورها والمهيمن عليها ، فهو ـ وحده ـ الذي يملكها بالخلق والسيطرة والقدرة المطلقة التي تحتويها وتحيط بها من كل جانب وتملك كل حركتها وكل ما فيها من المخلوقات ... فكيف تعصونه وتعبدون غيره وتتمردون عليه ـ أيها الناس ـ ولا تخافون عقابه كأنكم تملكون الولي الذي يتولى حمايتكم ، والناصر الذي ينصركم إذا أراد الله أن يأخذكم أخذ عزيز مقتدر؟! ألم تعلموا أيها الناس أنه ما لكم من إله إلا الله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)؟!

* * *

١٦٣

الطلبات التعجيزية ظاهرة تاريخية للكفر

(أَمْ) هنا منقطعة بمعنى «بل» ، في مقابل المتصلة التي لا بد من أن تعادلها الألف ، لتكون واردة في مجال التسوية بين شيئين. وتدل الآية على أن قوم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سألوه شيئا مشابها لما سأله قوم موسى ، ولكنها تجمل طبيعة ذلك الشيء ، فهل هو أن يروا الله جهرة كما عن بعض ، أم هو أن يضع لهم إلها على صورة آلهة الكفار كما ذكره بعضهم ، أم أن يحقق لهم بعض الطلبات التعجيزية التي لا تبلغها قدرته الذاتية ، أو مما يستحيل حدوثه بصفة طبيعية ، كما حدثنا الله عن ذلك في بعض الآيات التي أفاضت في الحديث عما كان يقدّم إلى النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من طلبات تعجيزية؟.

ونحن لا نريد أن نسترسل كثيرا في ما استرسل فيه المفسرون من الحديث عن هذا الأمر ، لأننا لا نجد الجانب التفصيلي في هذه القضايا موضع أهمية لاستحياء الفكرة أو أخذ العبرة ، فنجمل ما أجمله الله من القصة التي لم تتحدث إلا عن طبيعة هذا السؤال ، وعلاقته باستبدال الإيمان بالكفر ، مما يوحي بأن الطلبات تتحرك في اتجاه يقترب بهم إلى الكفر ، ويخرجهم من خط الإيمان ، فلنأخذ منها هذه الفكرة التي يريدنا الله أن نعرفها ، لنعرف شدة معاناة الرسول من قومه في ما أثاروه من قضايا تدخل في حساب الخطة الشريرة التي استهدفت إشغاله عن مهمته ، وتحديهم لشخصه أمام الجاهلين الذين لا يعرفون موازين الدور النبوي في حياة الناس ، أو محاولتهم السخرية منه بهذه الطريقة ، ولندرك ـ من خلال ذلك ـ طبيعة المجتمع الذي عاش فيه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما عاشه الأنبياء من قبله ، ومدى الجهد الذي بذله الأنبياء في تصحيح مسار الفكر ، وتقويم منهج التفكير ، وفي رفع مستواهم ... ثم نعرف مسئوليتنا ونحن نسير في طريق الدعوة إلى الله ، أن نصبر حيث صبروا ، وأن نعاني حيث عانوا ، وأن نواجه ما واجهوه من أساليب التعنّت والتعصب

١٦٤

والسخرية ، بالعقلية الواعية التي تدرس خلفيات المجتمع الفكرية والعاطفية ، لتقف أمامه من موقع هذه المعرفة بالحجة القوية ، والكلمة الحكيمة ، والموقف المرن ، كما وقف القرآن أمام ذلك المجتمع ، فلم يخاطبهم في هذه الآية بالحكم الذي يترتب على العقلية التي أطلقت هذه الأسئلة ، بل وضعهم وجها لوجه أمام القاعدة الكلية ، وهي أن كثيرا من الخطوات التي يسير عليها الإنسان في طريقة التفكير والممارسة هي خطوات تتحرك في طريق الكفر ، فلا بدّ له أن يعي جيدا ، وهو يسير في هذا السبيل ، أن هذا يعني استبدالا للإيمان بالكفر ، ولا بدّ له أن يعي أن من يتبدل الكفر بالإيمان ـ في ما يوحيه كل منهما أو في ما يحققه للإنسان ـ فقد انحرف عن الطريق المستقيم وانطلق يتخبط خبط عشواء في مجال لا يعرف فيه أين يقف وأين يسير.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) محمدا الأسئلة التعجيزية التي لا تمثل انفتاحا على المعرفة ، بقدر ما تمثل حركة لإثارة الغبار من حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو لجلب الاستهزاء به وبرسالته ، أو لإعطاء المبرر العلني للجحود من خلال ما يعلمونه من أن النبي لن يجيب على مطالبهم بالإيجاب ، لأن الرسول لا يملك القدرة الذاتية عليه ، ولن يستجيب الله لهم بذلك ، لأنه قد يكون محالا من جهة وقد يكون نوعا من العبث من جهة أخرى. (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) من الأسئلة المتعلقة بالمحال انطلاقا من كفرهم وعبثهم به. إن هذا يمثل انفتاحا على الكفر في إيحاءاته وطروحاته (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) فيخرج عن خط الانتماء إلى الإيمان إلى خط الكفر بشكل مباشر أو غير مباشر ، (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) وابتعد عن خط الاستقامة الذي يؤدي إلى النجاة ، ووقع في التيه الفكري والعملي الذي يؤدي به إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.

أمّا العبرة من ذلك ، فهي أن يدرس المؤمنون المسلمون إيمانهم في خط الإسلام ، ليتعرفوا عمقه وامتداده ، وليلتزموا كل مفرداته العقيدية والمنهجية والشرعية ، ليتحركوا في كل أوضاعهم من خلال هذا الوعي العميق الواسع ،

١٦٥

وليحددوا أسئلتهم في حركة المعرفة ، بحيث لا تنحرف عن أصول العقيدة التي تمثل العمق الوجداني في الانتماء ، فإذا عرضت لهم شبهة طرحوها كمشكلة يبحثون عن حلّها بعيدا عن حالة التعنت والتمرّد والاستهزاء ، لأن ذلك يمثل الانتقال العملي من الإيمان إلى الكفر ، ويبتعد بهم عن صفاء إنسانيتهم في التصور والمنهج ، لأن الإنسان الذي لا يتحرك من موقع الحاجة إلى المعرفة بطريقة جديّة ، هو إنسان لا يحترم معنى الإنسان في ذاته ، وطبيعة التوازن في حياته.

* * *

الموقف من حسد أهل الكتاب

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

في هذه الآية جانب من التوعية العملية ، وجانب من الأسلوب الرسالي في التخطيط السليم لحركة الدعوة الإسلامية في علاقة المسلمين بأهل الكتاب ، فقد أراد الله لهم أن يفهموا أن أهل الكتاب لم ينطلقوا في معارضتهم لهم من موقع الشبهة الفكرية التي تجعلهم يقفون موقف الرفض للدعوة التي يعتقدون خطأها ، أو موقف الحيرة التي تجعلهم يترددون بين القبول والرفض ، بل كان الدافع لذلك الحسد القاتل الذي يتحرك من موقع المحافظة على الامتيازات الذاتية القديمة التي يخافون عليها من الزوال أمام قوّة الرسالة الإسلامية وتقدمها ، ولهذا فإنهم يودون ـ في داخل أنفسهم ـ لو يستطيعون إرجاعكم إلى الكفر والشرك والوثنية مما يتنافى مع عقيدة التوحيد التي يزعمون الإيمان بها ، فلو كانوا منسجمين مع هذه العقيدة ، لكان خط الإسلام

١٦٦

أقرب إلى خطهم في أغلب الأمور التي يؤمنون بها ، ويؤكد القرآن ـ في هذا المجال ـ أن الحق قد تبيّن لهم بأسلوب لا يرقى إليه الشك ، الأمر الذي يبطل كل حجّة مضادّة لديهم في العقيدة.

ثم أراد الله للمسلمين أن يعفوا ويصفحوا ، وذلك من موقع التخطيط العملي الذي يعتمد على سياسة المراحل في حركة القوة ، فلا يمارس القوة إلا بعد استنفاد الوسائل السلمية التي تفتح للكافرين والمعارضين باب الدخول في الإيمان والسير في خط السلم ، وعرّفهم أن عليهم أن لا يتشنجوا ويستسلموا للانفعال النفسي المنطلق من الرغبة في التدمير على أساس ما يملكون من قوّة ، فإن للقضية حدا لا بد أن تبلغه ، وذلك عند ما يأتي الله بأمره في تشريع القتال ، سواء في ذلك المشركون وأهل الكتاب ، فإنّ الله لا يفوته أحد مهما امتدّ في قوّته وطغيانه لأنه على كل شيء قدير.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من الذين لم ينفتحوا على الرسالة من موقع الإيمان ، ولم يعملوا على مواجهة الوحي بذهنية الحوار ، ولم يرتاحوا إلى الدين الجديد الذي لا يبقى معه مجال لدين آخر سابق ، باعتبار أنه الدين الذي يجمع خلاصة الأديان السابقة ويزيد عليها بما يحقق للحياة المتجددة الحل للمشاكل الطارئة التي اقتضاها تغيّر الزمن وتطوّره ، والذي يضع حلولا جديدة للمشاكل السابقة التي لم يعد الحل الموضوع لها متناسبا مع مرور الزمن ، الأمر الذي يفرض تغييرها إلى الأفضل ، وهذا ما يؤدي إلى زوال سلطانهم وتأثيرهم على المجتمعات ، باعتبار أنهم من أهل الكتاب الذين هم المرجع للناس الذين يلتزمون الدين ممن يؤمنون بالله ، ليعودوا إليهم في كل ما يجهلونه من أمور الدين الذي يملك هؤلاء علمه. وهذا ما جعلهم يفكرون (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) لتعودوا إلى الشرك الذي كنتم فيه ، لأن المسألة لديهم لا تنطلق من التزامهم الواقعي بالإيمان بالله وبالرسالات وبالرسل مما يدعو إليه الإسلام ويؤمن به المسلمون ، ليكون الإيمان أقرب

١٦٧

إليهم في واقع المؤمنين من الشرك ، بل هي عقدة ذاتية تربط الإيمان بهم في كل خصوصياته ؛ فمن كان معهم كان خروجه من الشرك فضيلة ، ومن لم يكن معهم كان خروجه مشكلة لا بد أن يواجهوها بالرفض حتى لو كانوا مؤمنين من ناحية المبدأ.

(حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) كأي شخص يجد النعمة لدى غيره فيتمنى أن تكون له ، فلا يقبلون أن تنتقل النبوّة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون كل مجدها وشرفها وحركيتها له ولأتباعه. إنها عقدة الحسد الذي ينهش قلوبهم فيتحوّلون إلى واقع العداوة ، كما نقل في أسباب النزول عن حييّ بن أخطب وأخيه أبي ياسر اللذين دخلا على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قدم المدينة ، فلما خرجا قيل لحييّ : أهو نبي؟ فقال : هو هو. فقيل : ما له عندك؟ قال : العداوة إلى الموت (١). وقد تطور أمره حتى أنه نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب. (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) ممّا عرفوه من دلائل نبوّته في التوراة ، وكانوا يستظهرون به على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) ولا تدخلوا معهم في حرب ، بل سالموهم على أساس السلم الذي فرضته المعاهدة التي دخلتم فيها معهم ، مما يلزمكم بالتغاضي عن كل نياتهم السيئة وعقدتهم العدوانية ، على الرغم من قوتكم في المجتمع المسلم المدني الذي تملكون فيه القوة التي تستطيعون من خلالها أن تنتصفوا منهم. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) عند ما تأتي الساعة التي يأذن الله فيها بجهادهم من خلال نقضهم العهد من الناحية العملية ، وإعلانهم العداوة للمسلمين بالتحالف مع المشركين ضدّكم ، لتكون لكم الحجة عليهم في صعيد الواقع. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يمهل عباده ، فلا يعجل لهم العقوبة ولا يؤاخذهم بالعذاب من خلال أنه لا يخاف الفوت الذي يوحي لصاحب الحق بالاستعجال ، ولأن

__________________

(١) البحار ، م : ٤ ، ج : ٩ ، باب : ١ ، ص : ٤٤.

١٦٨

الحكمة قد تدعو إلى ذلك من خلال المصالح العامة المترتبة على ذلك في واقع التعايش الطبيعي بين المسلمين وأهل الكتاب ما داموا سائرين على العهد في خطواتهم العملية ، لأن الدوافع السيئة لا تكون أساسا للعقاب.

* * *

أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في هذه الآية ، يعقّب الله على أمره بالعفو والصفح عن أهل الكتاب ، بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وبالوعد الحق بأنهم سيجدون عند الله كل ما يقدّمونه أمامهم من خير ، فإنه بصير بما يعملونه ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. وهذه طريقة قرآنية تربوية ، في كل مورد من الموارد التي يوجّه فيها الله بعض الأوامر أو النواهي للناس ، فإنه يتبع ذلك بتكاليف أخرى تؤكد جانب الشخصية الإيمانية العملية في نفس المؤمن ، وبالحديث عمّا يلاقيه أمامه من الثواب الموعود لدى الله ، من أجل أن يظل منفتحا على أعمال الخير بقوة روحية تندفع إلى تحقيق إرادة الله من موقع الطاعة الواعية التي تواجه العقبات والمصاعب الداخلية والخارجية بروح إسلامية تعرف النتائج سلفا ، فلا تتزعزع ولا تضعف ولا تنهار. وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد ، لنعرف انسجام الصلاة وإيتاء الزكاة مع الأمر بالعفو والصفح ، لأنهما يفتحان قلب المؤمن على الله من نافذة العبادة ، وعلى الإنسان من نافذة العطاء ، فيحصل له ـ من هنا وهناك ـ الجوّ الروحي الداخلي الذي يعرف كيف يعفو ويصفح ويتسامح قربة إلى الله تعالى.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) التي تقوّي عنصر الخير وتدفعكم إلى الصبر ، وتفتح عقولكم وقلوبكم على الانقياد لله في ما يأمركم به من العفو والصفح ، لأن

١٦٩

الصلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله ، فيلتقي به في روحانية العبودية الخالصة التي تقربه منه ، وترتفع به إلى الدرجات العلى ، وتسمو به في آفاق الله حيث يتخفف من كل المشاعر الذاتية الانفعالية ، ليعيش التأمّل والتفكير في تركيز العلاقات مع الآخرين على القاعدة الروحية الثابتة. (وَآتُوا الزَّكاةَ) التي تعيشون فيها روحية العطاء في تأكيد العلاقات المسؤولة بالآخرين ، في مواجهة المشاكل الصعبة التي يعانون منها ، فتزدادون وعيا لمتابعة الواقع العام من حولكم في نظرتكم إلى هؤلاء ، فلا تتحركون من داخل العقدة بل من داخل المصلحة العامة في مواقع رضى الله ؛ وذلك هو ما تقدمونه بين أيديكم لله امتثالا لأوامره ، (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) من الطاعة والإحسان والخير المتحرك في الإنسان الآخر ، (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) ثوابا ورضوانا وجنة ونعيما. (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لأنه الذي يعلم ما تسرّونه وما تعلنونه من قضايا الخير في الواقع الداخلي أو الخارجي من ذواتكم ، فيمنحكم جزاء ذلك خيرا وإحسانا.

* * *

١٧٠

الآيات

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣)

* * *

معاني المفردات

(هُوداً) : جمع مفرده المذكّر هائد والمؤنث هائدة ، ومعنى الهائد : التّائب الرّاجع إلى الحق.

١٧١

(أَمانِيُّهُمْ) : الأماني جمع واحدها أمنية من التّمنّي.

(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) : أخلص له في العمل.

* * *

أهل الكتاب بين الأماني والحقائق

هذا فصل جديد من السورة ، يدخل فيه القرآن معهم في حوار غير مباشر ، أو يوحي للنبي بالدخول معهم في ذلك ، وهو جزء من حملة التوعية العملية للمسلمين لمعرفة ما حولهم ومن حولهم ، وأسلوب من أساليب التعرية للواقع الداخلي لهذه الجماعات من خلال الأوهام الساذجة التي يحملونها عن مصيرهم ومصير غيرهم من الناس من دون استناد إلى ركن وثيق ، فهم يحسبون أن الجنة محجوزة لليهود وللنصارى ، فهذا هو ما يقوله اليهود عن أنفسهم ، وما يقوله النصارى عن أنفسهم.

* * *

طلب البرهان على صدق دعواهم

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ولكن القرآن يواجه هذه الأوهام بتعليق ساخر مهذّب : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) ، ولكلّ إنسان مطلق الحرية في تمني ما يشاء لنفسه ، فإن مساحة الأماني الذاتية واسعة سعة الخيال ، فإذا كانت كلماتهم هذه من وحي التمنيات ، فلتكن لهم حريتهم في إطلاقها كما يريدون ، وإذا كانت من وحي العقيدة التي تحدد للإنسان مصيره الذي يبني

١٧٢

عليه حياته ، فلتكن المواجهة من باب النصيحة والتحدي. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك ، بتقديم الأسس العقيدية التي تحدد للإنسان قضية المصير في الآخرة من الجنة والنار ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذه الدعوى ، لأنّ الصدق يتطلّب الإثبات الذي ترتكز عليه القناعة العقلية والوجدانية ، وهذا ما يفقده هؤلاء في ما يملكونه من وسائل الإقناع والإثبات.

ثم يتابع القرآن تحديد الأسس التي تنطلق من خلالها الحجّة : (بَلى) ، ليس الأمر كما تقولون يا أصحاب الأماني ، فلستم أهل الجنة ، لكن أهلها (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ). فالآمنون يوم القيامة هم الذين يسلمون وجوههم لله في الفكر والعقيدة والعبادة ، فلا ينطلقون في فكر أو عقيدة إلا إذا كان ينسجم مع الحقيقة المنسابة من وحي الله ، ولا يدخلون في عبادة إلا من خلال تجسيدها للمعنى الحقّ لعبودية الإنسان لله ، فلا يشركون بعبادته غيره ولا يعبدون سواه. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، وهم الذين لا يعيشون هذا الإسلام في حياتهم الداخلية فحسب ، ليتجمد في لحظات التأمل والفكر والخشوع الروحي المناسب في أجواء صوفية غامضة حالمة ، بل يتحول في حياتهم العملية إحسانا للحياة وللآخرين في كل ما يستطيعون أن يقدّموه من أعمال وخدمات ، وفي كل ما يملكون تفجيره من طاقات ، فلا يعيشون الأنانية في قواهم التي يملكونها ولا في فكرهم الذي يعيشونه ، بل يعتبرونها ملكا لهم وللحياة والإنسان ، لأنها هبة الله ونعمته الملتزمة بحدود المسؤولية ، فلا بد من أن تتصاعد في حياتهم صلوات عملية خاشعة في رحاب الله. (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بما قدّموه من عمل ، وبما عاشوه من إيمان ، لأن الإنسان الذي يسلم وجهه لله في كل توجّهاته في الحياة ، وفي كل تطلّعاته المستقبلية ، وفي كل علاقاته الإنسانية ، يرتبط بالله بأوثق الروابط ، ويرتفع إليه بأعلى درجات

١٧٣

القرب ، مما يجعله محبوبا من الله ، قريبا إليه ، مرضيّا عنده ؛ وهذا ما يشكل الأساس لكي لا يخاف الإنسان من أيّ شيء مما يخافه الناس عادة ، فالمتقون في حرز من الخوف في الدنيا والآخرة معا ، كما أن الحزن لا معنى له في وعي الإنسان الذي تتجمّع في روحه كل عناصر السرور والفرح الروحي ، انطلاقا من حصوله على رضوان الله الذي هو مصدر كل سعادة من خلال خوفه من الله وحده دون سواه ، فحصلوا من ذلك على محبته ورضاه ونعيمه ، ولعل التعبير بعبارة : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدلا من لا يخافون ، للإيحاء بأن الخوف لا وجود له في ذاته بعيدا عن الجانب الذاتي للشخص. وقد يستوحي الإنسان من إحساس المؤمن بمستقبله البعيد عن الخوف والحزن أمام واقع المصير بالآخرة ، أن ذلك يزيده قوة واطمئنانا ، فلا يخاف ولا يحزن من ضغط الآخرين في ساحة الصراع ، لأنه يملك الثقة بالله في خط رعايته له ، على هدى الآية الكريمة في الحديث عن مشاعر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة الهجرة : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] وفي الحديث عن المسلمين : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران : ١٧٣].

فهل يملك هؤلاء الذين يحتكرون لأنفسهم الجنة مثل هذه الركائز الفكرية والعملية ، أم ماذا؟ إن القرآن يوحي للإنسان بكل ما تحمله كلمة «ماذا» من استفهام إنكاري يبحث عما يطرح عليهم ، فلا يجد له جوابا إلا الصمت المشبع بالشعور العميق بالذنب في أعماق المجرمين.

* * *

١٧٤

نظرة اليهود والنصارى بعضهم لبعض

وتستمر عملية التوعية والتعرية ، ليعرف المسلمون طبيعة العلاقات الداخلية التي تربط بين أفراد الجبهة المضادّة ، فليست هناك وحدة في المواقف ، ولا وحدة في المشاعر ، بل هناك التناقض والتنافر الذي تشعر فيه كل فئة منهم بالذاتية المطلقة التي تفصلها عن الفرقاء الآخرين. وتقف الفواصل الفكرية والشعورية لتشكل حاجزا معنويا داخليا يفصل كل فريق عن الآخر ؛ فلا أرض موحّدة يقفون عليها ، ولا قواسم مشتركة يلتقون عليها ، مما يجعل كل فريق منهم يجرّد الفريق الآخر من كل الصفات أو الأفكار التي تبعث على الاحترام والتقدير ، سواء في ذلك اليهود والنصارى والمشركون الذين وصفهم القرآن بكلمة «الذين لا يعلمون» ، للإيحاء الدائم بأن الجهل هو أساس كفرهم وشركهم ... وهكذا يعرض القرآن هذه الصورة القلقة للواقع الذي يعيشه هؤلاء ، ليعرف المسلمون كيفية مواجهة كل فريق بمفرده ، والاستفادة من ذلك في اتباع سياسة المراحل في قضايا الصراع بتفجير الخلافات فيما بينهم والتعامل معهم من ذلك الموقع ، وليشعر المسلمون في هذا الاتجاه بالقوّة الذاتية المتفوّقة أمام قوة الآخرين ، فلا يستسلمون للرهبة التي توحيها الكثرة ، لأنها كثرة ممزّقة مبعثرة ، وليست وحدة متماسكة تثير الرعب والخوف في النفوس.

ثم يختم القرآن الآية بإعطاء الصورة مزيدا من الوضوح في ما يوحيه من الجوّ الذي نشاهد فيه كل هؤلاء الفرقاء وقد اجتمعوا بين يدي الله في موقف الخلاف والنزاع والخصومة ، حيث يدلي فيه كل واحد بحجته ، ليثبت أنه على الحق وأن الآخرين على باطل ... ويختصر الموقف ويسدل الستار على الصورة (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، فليس المجال

١٧٥

مجال إعطاء الحكم وتحديد الموقف ، بل هو مجال التوعية والتعرية الذي يكتفى فيه بالصورة الواضحة التي يبصر فيها المؤمنون مواقع أقدامهم في الطريق الطويل. وقد نجد في كلمة : «وهم يتلون الكتاب» إشارة إلى التنديد بهم بأنهم يصدرون الأحكام بالتخطئة والرفض لبعضهم البعض ، مع أنهم يؤمنون بالكتاب الواحد ويتلونه ، ويمكنهم الرجوع إليه بإخلاص لتدبّر الحوار في آياته ، وللوصول إلى النتيجة الحاسمة فيما هو الحق لأي واحد منهما أو لغيرهما مما يمكن أن يحكم الكتاب له.

وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون الذين يتلون القرآن الذي يؤمنون به جميعا ، ولكنهم يكفّر بعضهم بعضا من دون تدبّر في آياته ، بسبب افتقادهم الروحية التي تضفي على الخلاف جوّا من السعي إلى الحقيقة للوقوف معها مهما كانت النتائج ، بعيدا عن كل تعصب وتعقيد. إن الموقف هو الموقف نفسه ، والنتائج السلبية والإيجابية هي النتائج ذاتها ، لأن الإطار في الحالتين واحد.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) فهم لا يؤمنون بالسيد المسيح ورسالته ، ولا يرون أن الإنجيل كتاب الله الذي ترتكز عليه النصرانية في شرعية معتقداتها ، فهم ـ في نظر اليهود ـ مزيّفون ، من خلال الادعاء بأن عيسى عليه‌السلام ليس المسيح الموعود بل هو شخصية مزيفة ، ولذلك فإنهم ليسوا على شيء من الدين الحق. (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) لأنهم ينكرون السيد المسيح عليه‌السلام ورسالته ، فلا ينفعهم إيمانهم بالتوراة وبموسى ، لأن المؤمن الحق من يؤمن بالكتاب كله توراة وإنجيلا ، مما يجعلهم مثل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، لتكون المسألة في طريقة تديّنهم هي الخلط بين الإيمان والكفر ، (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الذي يجسّد الحقيقة في آياته ، فيزيل الشك ويرفع الشبهة ، ليكون الخط الفاصل بين الحق والباطل ، فيمكن لهم أن يدخلوا الحوار من خلاله ويديروا الجدل حول تفسيره وتأويله ،

١٧٦

ليعرفوا أن التوراة تبشر بالسيد المسيح وبكتابه ورسالاته ، وأن الإنجيل يتحدث عن التوراة وعن النبي موسى عليه‌السلام ، مما يجعل الدينين منطلقين من قاعدة واحدة ، لو درسوهما دراسة دقيقة واعية.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهم المشركون الذين انطلق شركهم من موقع جهلهم (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) في احتكارهم الحق لأنفسهم وإبطالهم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه ليس على شيء ، بل هو ساحر أو كاهن أو شاعر ، أو نحو ذلك من الاتهامات التي وجهت إليه فأنكرت رسالته ، ووجهت إلى القرآن فأنكرت نزوله من عند الله كوحي يوحى وقالوا عنه إنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥].

وربما كانت مشكلة هؤلاء جميعا أنهم ليسوا مستعدّين للدخول في نقاش فكري وحوار علميّ ، ليصلوا من خلال ذلك إلى العقيدة المشتركة والموقف الواحد ، لأن الانتماء إلى عقيدتهم لم يعد حالة فكرية ، بل تحوّل إلى حالة ذاتية ، مما يجعل التنازل عنها تنازلا عن الذات نفسها ، وهذه سمة من سمات التعصّب والتخلف والجهل ، ولذلك فإن من الصعب الوصول إلى مواقع اللقاء حتى في التفاصيل الصغيرة ، وهذا ما يجعل حوار الأديان من أكثر أنواع الحوار صعوبة ، لانطلاقه من حالة شعورية لا من حالة فكرية ، فلا مجال للوصول إلى موقع تحكيم يحدّد لكل منها مواقعه من ناحية الواقع. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، ويعرّفهم الحقيقة الحاسمة (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، فقد يرى بعضهم ـ كالمشركين ـ أنهم ليسوا على شيء في المبدأ والتفاصيل ، وقد يرى بعضهم ـ كاليهود والنصارى ـ أنهم يملكون بعض الحقيقة بطريقة مختلفة ، وأنهم ليسوا على الخط المستقيم في إنكارهم الإسلام وشرعيته.

* * *

١٧٧

من وحي الآية

ونستطيع أن نستوحي من هذه الآية في حياتنا معطيين :

أولا : التركيز الواعي على دراسة طبيعة العلاقات التي تحكم الفئات المعادية للإسلام والمسلمين ، في نظرة كل منها إلى الأخرى ، للاستفادة من ذلك في عملية المواجهة التي يقوى فيها الموقف أو يضعف تبعا لتماسك القوى المضادّة أو اهتزازها ، حتى نعي طبيعة عناصر القوة عندنا وعناصر الضعف عندهم ، ليتوازن الموقف لدينا في حركة واقع الصراع بيننا وبينهم ، فننفذ إلى داخلهم لنرى أن اجتماعهم لم ينطلق من قاعدة فكرية واحدة ، فهم يكفّر بعضهم بعضا ، بل هو يتحرك من خلال المصالح المشتركة المضادة للإسلام والمسلمين ، لنحدد موقفنا منهم ، فلا نتّخذهم أولياء وإن اختلف اليهود عن النصارى في مستوى عداوتهم للإسلام ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [المائدة : ٥١] في مواجهتهم للإسلام والمسلمين ، الأمر الذي يفرض علينا الوعي العميق للساحة وللقوى المضادّة فيها ، لنحمي أنفسنا من الخطط التي يعدّونها في مواجهة واقعنا كله.

ثانيا : استيحاء الآية في محاولة الاستغراق الذاتي داخل العلاقات الفكرية والعملية بين المسلمين الذين قد يختلفون ـ كما اختلفوا ـ في أكثر من جانب من جوانب العقيدة والتشريع ، وقد يتبادلون النظرة السلبية ـ كما تبادلوها ـ ، فيشعر كل فريق منهم بالفواصل الجزئية التي تفصله عن الآخرين كما لو كانت فواصل كلية ، لا يصيرون فيها إلى اجتماع ، ولا ينتهون إلى لقاء ، لنعرف من ذلك كله الأساس القويّ الذي يجمعهم ويوحّدهم ، لتبقى الخلافات

١٧٨

في نطاقها الجزئي ، وتتحدد النظرة السلبية في تلك الحدود الضيّقة التي لا تعزل أيّ فريق عن الفرقاء الآخرين ، بل تشير إلى الأفق الواسع الذي تتحرك فيه الخطى المؤمنة نحو الهدف الكبير في رحاب الله.

* * *

١٧٩

الآيات

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

* * *

معاني المفردات

(الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) : الشرق والمشرق معناهما واحد ، وهو مطلع الشمس والقمر ؛ والغرب والمغرب والمغيب بمعنى واحد أيضا وهو موضع الغروب.

(تُوَلُّوا) : توجّهوا وجوهكم.

(سُبْحانَهُ) : تنزيها له ، وحاشا له.

١٨٠