تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

(بِبابِلَ) : بلد في العراق.

(فِتْنَةٌ) : بلاء.

(خَلاقٍ) : الخلاق : النصيب من الخير.

(لَمَثُوبَةٌ) : ثواب وأجر.

* * *

الممارسات اليهودية المنحرفة

وهذا لون جديد من ألوان الممارسات المنحرفة الضارة ، التي كان يقوم بها اليهود لتخريب حياة الناس ، فينشرون فيها الضرر والخرافة والفساد ، وهي الممارسات التي تتمثل في اللعب على أعين الناس وعقولهم في تخييل ما لا حقيقة له ، وفي الإيحاء بما لا واقع له ، وفي الوسائل التي تفرق الناس بعضهم عن بعض. وقد جاءت هاتان الآيتان لتوضحا هذا الجانب من الصورة ، في طريقة موحية تشير في مثل اللمحة الخاطفة إلى الموقف الإسلامي من السحر كمبدإ ، من خلال معالجتهما للسلوك اليهودي المنحرف ، فقد اعتبر السحر الذي يمارسونه لونا من ألوان البدع الشيطانية التي ينسبها الشياطين إلى ملك سليمان ، من أجل أن يمنحوها جوّا من القداسة النبوية لدفع الناس إلى ممارستها كأسرار مقدّسة. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، ليعطوا الملك سليمان طابعا سحريا يضفي عليه نوعا من الغموض والإبهام الذي يبتعد به عن الجانب الروحي المتجسّد في شخصيته ، لتكون له شخصية الملك الساحر بعيدا عن شخصية النبي المؤيّد من الله.

١٤١

ويؤكد القرآن القضية في موقف حاسم ، أن السحر فصيلة من فصائل الكفر الذي إذا لم يتصل بالجانب العقيدي في دائرة الفكر الكافر والمؤمن ، فإنه يتصل بالجانب العملي الذي يقترب من الكفر بمدلوله ولوازمه ، وهذا ما يرتفع عنه المستوى الروحي الإيماني لسليمان ، فليس له أية علاقة به من قريب أو من بعيد ، لأنه لم يتحرك في ملكه من موقع التحكّم بالناس واللعب عليهم ، بل انطلق فيه من قاعدة الحكم العدل والإيمان الفصل المرتبط بالله ، ولكن الشياطين هم الذين مارسوا الكفر في السحر ، فأضلوا الناس وأفسدوا حياتهم ، عند ما انطلقوا يعلّمون الناس السحر ، ليثيروا الخلافات والمنازعات ، ويؤججوا نار العداوة والبغضاء من خلاله.

* * *

هاروت وماروت وتعليم السحر

وينطلق الحديث ليربطنا ـ في السحر ـ برافد آخر هو : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) ، هذان اللذان كانا يعلّمان الناس السحر للمعرفة والثقافة ودفع الضرر ، لا لاستلام زمام المبادرة العملي فيه ، ولهذا كانا يرشدان الإنسان الذي يتعلم منهما إلى أنهما فتنة للناس وامتحان لهم على الانضباط والالتزام الديني في عدم الإضرار من موقع القدرة والمعرفة لا من موقع العجز ، لأن هناك فرقا بين أن تلتزم بترك الشيء لأنك لا تعرف حدوده وقواعده التي تملك من خلالها إمكانية التصرف ، وبين أن تتركه وأنت تعرف كيف تتلاعب به وتوجهه الوجهة التي تريدها في طريق الخير والشرّ ، ولكن الناس ـ ومنهم اليهود ـ لا ينجحون في الامتحان غالبا ، فيوجّهون المعرفة التي يكسبونها في طريق الإضرار بالناس (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) والظاهر أن المراد من ذلك ما يستعمل لهذا الهدف ، لا ما يحدث منه

١٤٢

ذلك بشكل حتمي ، وذلك بقرينة قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، ويطلق إذن الله عادة على الظروف والأسباب الطبيعية التي أودعها الله في خصائص الأشياء ، مما يساهم في حدوث الظاهرة في حركة الوجود الإنساني والكوني ؛ وفي هذا إيحاء بأن الإنسان لا يملكها ما لم يكن ذلك بإرادة الله الذي يملك القدرة على كل شيء من خلقه.

ثم يدخل القرآن في الأجواء الروحية التي يريد للإنسان أن يستحضرها في وعيه ووجدانه عند ما يواجه حدود الحلال والحرام ، فيفكر بالله وبالدار الآخرة في ما ينتظره من سخط الله وعذابه ، وفي ما يخسره من حظ الدنيا والآخرة ، لينفصل الإنسان عن الدوافع الذاتية الشريرة التي تربطه بالأرض بعيدا عن آفاق السماء ، والتي تزيّن له الانحراف وتهوّن عليه المعصية ، طمعا في إرضاء نوازعه المنحرفة الضيّقة. (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) أي السحر في وسائله الضارة (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب ، (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي باعوها ، لأنه ثمن بخس لا يحصلون منه على شيء ، لأنهم سيتركونه في الدنيا في عمر اللحظة ويواجهون الآخرة صفر اليدين ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ولكنهم لا يعلمون لغلبة الغفلة عليهم من خلال سيطرة الشهوة على تفكيرهم ووجدانهم ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فلو وقفوا عند حدود ما أحلّه الله وما حرّمه عليهم ، واتقوا ربهم ، فإن المثوبة تنتظرهم من عند الله لو عرفوا قيمة المثوبة المنطلقة في أجواء رضاه ورحمته ، ولكنهم لا يعلمون.

* * *

المفسرون والسحر

هذه صورة كلامية عن أجواء هاتين الآيتين ، وقد أفاض المفسرون في

١٤٣

عدة جوانب من الآية ، فتحدثوا عن اليهود الذين اتبعوا السحر ، هل هم الذين كانوا على عهد سليمان ، أم غيرهم؟ وتحدثوا عن كلمة «تتلو» هل هي بمعنى تقرأ أم تكذب أم تتبع؟ وعن كلمة «على ملك سليمان» هل هي في عهده أم في ملكه نفسه؟ وعن «وما أنزل على الملكين» هل هو متعلق بكلمة «واتبعوا» أم بكلمة : «يعلّمون الناس السحر» ليكون معطوفا على السحر؟ وعن شخصية هاروت وماروت ، هل هما ملكان أم شيطانان أم آدميان؟ وغير ذلك من الأبحاث ...

وإننا لا نجد مجالا مفيدا للإفاضة في ذلك في ما سيقت له الآية ، لأن البحث عن شخصية اليهود أو شخصية الملكين لا يجدينا شيئا ما دامت القضية في الآية واردة في سياق إعطاء الصورة للسلوك اليهودي كطابع عام يطبع الشخصية التاريخية والمعاصرة ، أمّا الملكان ، فإن المقصود من حديثهما هو اعتبارهما مصدرين خيّرين ، أو غير شريرين على الأقل ، من دون دخل لشخصيتهما في الموضوع. وقد لا نريد أن نلغي أهمية معرفة ذلك في بعض الجوانب الأخرى التي تتصل بعصمة الملائكة وطبيعتهم من ناحية فكرية مجردة ، ولكن مثل هذه المعرفة لا تمثل شيئا كبيرا في الطبيعة العامة للعقيدة.

أمّا كلمة «تتلو» ، فالظاهر بقرينة المقام ، أنها كناية عن النسبة الكاذبة ، إذ لا معنى للقراءة المجردة في هذا المجال ، كما أن معنى الاتباع لا ينسجم مع كلمة «واتبعوا» ؛ أما كلمة «وما أنزل» فهي معطوفة ـ ظاهرا ـ على كلمة «ما تتلو» ، لأن ذلك أقرب إلى الانسجام مع طبيعة الآية ، لأن ما أنزل على الملكين ليس شيئا آخر غير السحر ، ليكون معطوفا على الكلمة نفسها.

* * *

١٤٤

هل للسحر حقيقة؟

أما عن السحر ، ما حقيقته ، وما تأثيره ، وهل له أساس من الحق يركن إليه؟

لا يبعد أن نستوحي من القرآن الكريم في آياته المتفرقة ، ولا سيما في ما جاء من حديث موسى مع السحرة ، أن السحر عملية تخييل ولعب على الأعين والحواس الأخرى ، وذلك في قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] ، وقوله تعالى في حديث موسى معهم : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) [يونس : ٨١] ، كدلالة على أنه لا يرتكز على أساس من الحق الذي يمكن له أن يتماسك ، وقوله : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩] ، لأن عمله لا يؤدي إلى نتيجة حاسمة ، بل ينتهي إلى الخيبة والخسران والفشل الذريع .. وقد نجد هذا المعنى في ما كان الكفار يواجهون به الأنبياء من اتهامهم بالسحر ، باعتبار أنهم يفقدون الإنسان قدرته على مواجهة الدعوة بحرية الإرادة والاختيار بما يملكون من وسائل السحر.

وقد وردت الأحاديث الكثيرة في التنديد بالساحر والسحر والتشديد على عقوبة الساحر في الدنيا والآخرة ، فقد جاء في الحديث : «الكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار» (١) ، و «ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفار لا يقتل ، فقيل : يا رسول الله ، ولم ذاك؟ قال : لأن الشرك والسحر مقرونان» (٢).

__________________

(١) البحار ، م : ١١ ، ج : ٣٣ ، باب : ٢٣ ، ص : ٢١٨ ، رواية : ٥٩٦.

(٢) البحار ، م : ٢٧ ، ج : ٧٦ ، باب : ٩٦ ، ص : ٦٥٤ ، رواية : ١٣.

١٤٥

ولعل الوجه في ذلك هو طبيعة الخطورة التي يمثلها السحر في ربط الناس بالخرافة والتضليل والتمويه والابتعاد عن طبيعة الأشياء تحت ستار الأسرار الغامضة المقدّسة ، أو الاعتقاد ببعض المؤثرات في خصائص الأشياء بالمستوى الذي يتنافى مع وحدانية الله وعظمته.

وإننا لا ننطلق ، في تحفّظنا في موضوع اعتبار السحر شيئا حقيقيا ، من فكرة استبعاد علاقة الأشياء غير الملموسة أو غير المادية بالتأثير بالواقع ، لأننا لا نؤمن إلا بالجانب الحسي في قضايا الحياة الواقعية ، بل لأننا لا نملك أدلة وجدانية أو شرعية ـ في ما نعرفه من أدلة ـ على ذلك ، فتبقى القضية في طور الاحتمال الذي يحتاج في جميع تفاصيله إلى دليل.

وقد اختلف في ماهية السحر على أقوال. فقيل : إنه ضرب من التخييل وصنعة من لطيف الصنائع ، وقد أمر الله بالتعوذ منه وجعل التحرز بكتابته وقاية منه ، وأنزل فيه سورة الفلق ، وهو قول الشيخ المفيد ...

وقيل إنه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة ؛ وقيل إنه يمكن للساحر أن يقلب الإنسان حمارا ويقلبه من صورة إلى صورة ، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع .. وهذا لا يجوز ، ومن صدّق به فهو لا يعرف النبوّة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع ، ولو أن الساحر والمعزّم قدرا على نفع أو ضرر وعلما الغيب لقدرا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من معادنها ، والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه أو ضرر ، فلما رأيناهم أسوأ حالا وأكثرهم مكيدة واحتيالا ، علمنا أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك. فأمّا ما روي من الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سحر ، فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله أو أنه لم يفعل ما فعله ، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها ، وقد قال الله سبحانه وتعالى ـ حكاية عن الكفار ـ : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الإسراء : ٤٧]. حاشا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٤٦

من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله ، فإنه خيرة الله من خليقته وصفوته من بريته.

وإننا نعقّب على ما استفاده الشيخ المفيد من سورة الفلق ، في قوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق : ٤] ، أن من الممكن أن تكون الاستعاذة أسلوبا من أساليب التخلص من الحالات النفسية التي يعيشها الإنسان من خوف أو قلق إزاء هذه الحالات ، وذلك بسبب العقلية الشعبية التي درجت على اعتقاد وجود آثار حقيقية لمثل هذه الأمور ، وقد يكون قريبا من هذا الجوّ الأحاديث الواردة في الاستعاذة بالله من أسباب الطيرة والتشاؤم إذا حدث في النفس شيء بسببها ، مما يوحي بأن المعالجة ليست معالجة لشيء حقيقي يخاف من خطره ، بل هي معالجة لحالة نفسية تحدث من خلال العقائد الموروثة ، وقد لا يعني هذا أن نلغي من الحساب كل التأثيرات الروحية بسبب بعض الكلمات المقدسة من أسماء الله الحسنى وآياته ، فقد ورد في كثير من الأحاديث تأثيرها في بعض القضايا التي تبقى من اهتمامات الأديان المرتكزة على وحي الله الذي يعلم حقائق الأشياء في خصائصها الروحية والمادية.

ولكن هذه الأمور ليست مساحة مفتوحة للجميع ، بل هي من صلاحيات أهل المعرفة الدينية الواعية الذين يميزون بين الخرافة والحقيقة ويعرفون صحيح الحديث من فاسده ، فلا يأخذون من هذه القضايا إلا ما ثبت لهم صحته مما لا يخالف المنطق وطبيعة الأشياء ، ولا يمكن الاستسلام فيها إلى أشباه الأميين الذين لا يملكون من المعرفة إلا قليلا ، فيعتمدون على الصدفة في ربح ثقة الناس ، مما لم يكن لهم فيه أي دخل من معرفة أو تأثير ، فيتبعهم الناس لذلك ويعتذرون عنهم في غير ذلك مما يخطئون فيه ، لأن شأن الناس أن يحبوا التصديق السهل في الأمور ، فذلك يجعلهم في حالة استسلام للحل السهل الذي لا يكلّفهم عناء في مواجهة الأشياء.

* * *

١٤٧

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠)

* * *

١٤٨

معاني المفردات

(راعِنا) : أرعيته سمعي : إذا أصغيت إليه ، وراعيته بعيني : إذا لاحظته. والمراعاة التّفقّد للشيء ونقيضها الإغفال.

(انْظُرْنا) : أمهلنا.

(نَنْسَخْ) : نبدّل ؛ وقيل : نمحو ؛ وقيل : ننقل من حكم إلى غيره فنبدّله ونغيّره ، ولا يكون ذلك إلّا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

(حَسَداً) : كراهية النعمة للغير ، وحبّ زوالها عنه ، بخلاف الغبطة التي تكون في تمني الإنسان ما عند غيره من نعمة دون أن يتمنى زوالها عنه.

* * *

وقفة مع سبب نزول الآية

لقد كانت هذه الآية ـ في ما يقول المفسرون في أسباب النزول ـ من أجل توجيه المسلمين إلى استبدال الكلمات التي يمكن أن تعبر عن معنى سيئ في لغة أخرى ، مما يمكن أن يستغلّه أعداء الإسلام في الانتقاص من الإسلام والمسلمين ، من دون أن يكون لنا حجة عليهم في ذلك ، لأنهم يحاولون الإيحاء بأنهم يريدون بها المعنى الظاهر الذي يقصده منها سائر الناس ، وهذا ما حدث في عهد الرسالة الأوّل في المدينة في كلمة : «راعنا» التي كان المسلمون يخاطبون بها النبي طالبين منه أن يصغي إليهم بسمعه ، فقد ورد في

١٤٩

اللغة : «أرعيته سمعي» إذا أصغيت إليه ، ولكن لها معنى آخر عند اليهود يوحي بالسب والانتقاص ، فقد ورد أن معنى «راعنا» لديهم من الرعونة يريدون بها الوقيعة والنقيصة ، وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام ـ كما في مجمع البيان ـ أن «هذه الكلمة سبّ بالعبرانية ، إليه كانوا يذهبون» (١). فلما عوتبوا قالوا : نقول كما يقول المسلمون ، فأراد الله للمسلمين أن لا يتركوا لليهود مجالا للتنفيس عن حقدهم بهذه الطريقة ولا يدعوا لهم بابا للاستهزاء ، فعلّمهم أن يقولوا : «انظرنا» أي انظر إلينا أو أقبل علينا ، أو ما شاكل ذلك من معان.

* * *

توعية القرآن للمؤمنين في حركة الواقع

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ممن التزموا الإيمان في أقوالهم وأفعالهم ، (لا تَقُولُوا راعِنا) وأمثالها من الكلمات التي قد توحي بمعنى مختلف عن المعنى المقصود ، فيوحي بالإساءة من حيث يريد المتكلم الإحسان ، فإن كلمة «راعنا» التي تطلقونها في حديثكم مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لتقصدوا منها معناها الظاهر عندكم في اللغة العربية ، أي راعنا سمعك ، بمعنى أعطنا سمعك واسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ، أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا ، فإنّ اليهود يقصدون بها السبّ لأنهم يستقونها من الرعونة وهي الجهل والحمق ، بحسب مدلولها في لغتهم ـ كما يقال ـ ولكن (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي انظر إلينا أو انتظرنا وتأنّ علينا ، (وَاسْمَعُوا) أيها المؤمنون كلام الله بتأمل وتدبر وتفكير ، لتفهموا مقاصده ، ولتعرفوا إيحاءاته ، فذلك ما يثبت إيمانكم وينطلق بكم في خط الاستقامة ، أمّا الكافرون الذين لا يسمعون كلام الله ، وإذا سمعوه أعرضوا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٤٣.

١٥٠

عن الانفتاح عليه أو حرّفوه عن مواضعه ، فإنهم يسقطون في عذاب الله ، (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) جزاء لهم على جحودهم وإنكارهم بعد قيام الحجّة عليهم.

* * *

دقة المصطلحات وإيحاءاتها

وهذه قاعدة إسلامية توحي للمسلمين في كل زمان ومكان بالتدقيق في مداليل الكلمات والمصطلحات التي يستعملونها ، ودراسة الآفاق التي يمكن أن تثيرها في ما لها من مفاهيم ضيّقة أو واسعة لدى الناس ، مما قد يلتقي بالمعنى الإسلامي الأصيل ، ومما قد لا يلتقي به ، لئلّا يساء استغلالها من قبل الآخرين في مقاصد شرّيرة ضالّة أو كافرة يراد بها تمييع المفاهيم الإسلامية وإرباكها ، كما نلاحظ في بعض الكلمات التي أخذت في حياة الناس أبعادا معينة لا تنسجم مع التفكير الإسلامي ، كما في كلمة «الحرية» التي أصبحت تحمل من المعاني الكثير الكثير مما قد لا يتوافق مع الحدود التي يقف التشريع الإسلامي عندها في أوضاع الإنسان وأفعاله وعلاقاته وأقواله ... فقد أخذت هذه الكلمة بعضا من أفكار الاتجاه الرأسمالي الذي يعطي الفرد مساحة واسعة في تصرفاته بعيدا عن كل مضمون أخلاقي أو إنساني ، فأصبح من ملامحها البارزة أن يسمح الإنسان الفرد لنفسه بأن يفعل ما يشاء في علاقاته الجنسية ، أو الاقتصادية ، أو السياسية ... بشرط أن لا يعتدي على حرية غيره ، بل ربما امتد ذلك إلى حرية الانتحار مما لا يوافق عليه الإسلام. وهكذا القول في كلمة الديمقراطية التي يستعملها بعض المسلمين في الأسلوب الذي يضادّ الاستبداد والفردية والتسلط في الحكم والتشريع والعلاقات العامة ، ويتناسب مع الطريقة السمحة المتواضعة في صفات الناس ، فيقال : إن الإسلام

١٥١

ديمقراطي ، للتدليل على ما فيه من معاني الشورى والتسامح ، ويقال إن فلانا ديمقراطي في أخلاقه بمعنى أنه متواضع ؛ ولكن الكلمة تحمل في داخلها معنى يختلف عن ذلك كله في حدوده الفكرية والتشريعية والاقتصادية ، مما يوجب اختلالا في المفهوم الأساسي ، الأمر الذي قد يتجه بالتفكير إلى غير ما نريد ، فيخلق في حياتنا ذهنية غريبة لا ترتضي التشريعات أو الأفكار التي لا تنسجم مع الاتجاه الديمقراطي للحكم والتشريع في ما تعنيه كلمة الديمقراطية ... ولهذا ، فإننا نتحفظ على مثل هذا التعبير ، ولا نرى صلاحا في استعماله في حديثنا عن الإسلام وعن المسلمين.

ويمكن لنا أن نضيف إلى هاتين الكلمتين كلمة «الاشتراكية» ، التي شاع استعمالها في أحاديثنا عن الإسلام في مفهومه لحل مشكلة الفقر وفي تشريعاته المالية ، فقد رأينا البعض يعطي الإسلام صفة الدين الاشتراكي كطريقة من طرق إعطاء الإسلام طابعا إنسانيا عادلا ، ولكن هذه الكلمة تحمل في داخلها معنى آخر يختلف مع الإسلام في حدوده التشريعية والعملية ، لأنه يلتقي باعتبار الدولة صاحبة الحق الشرعي في ملكية وسائل الإنتاج وتحديد الملكية في مصادرها ومواردها وغير ذلك مما قد لا يتفق الإسلام معه في أكثر مجالاته.

إن القضية التي نستوحيها من الآية ، هي أنّ علينا أن لا نفسح في المجال لاستغلال الكلمة

في غير مدلولها الذي نؤمن به ، حتى لو كان المدلول المضاد مرتبطا بها من خلال لغة أخرى أو عرف آخر ، أو أجواء معينة تضفي عليها طابعا خاصا ، كما في كلمة السلام أو «أنصار السلام» ، التي حملت جوّا حزبيا يوحي بالانتماء إلى بعض المبادئ على أساس اعتبارها مصطلحا جذابا للكسب والاستغلال الحزبي ، وإن لم يكن للكلمة هذا المعنى بحسب طبيعتها ومعناها اللغوي.

* * *

١٥٢

عقدة الكافرين من المسلمين

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) في هذه الآية يريد الله أن ينفذ بالمسلمين إلى أعماق الكفّار من أهل الكتاب والمشركين ، ليعرّفهم أن القضية قد تحوّلت في وعي هؤلاء إلى عقدة ذاتية مستعصية يختلط فيها البغي والحسد ، فلم تعد القضية لديهم قضية الإيمان والكفر كشيء يتصل بالحقيقة في العقيدة والحياة ، بل عادت مجرّد حالة نفسية معقدة ضد المسلمين كجماعة تواجه جماعة من مواقع السلطة والغلبة ، فلا يريدون لهم أن ينزّل عليهم خير من الله ، ولا سيما النبوّة التي ورد في بعض الروايات تفسير الخير بها ، ولكننا نعتبر ذلك من التفسير التطبيقي الذي يراد به الإيحاء بأفضل المصاديق أو أبرزها في الدلالة على المعنى ، فإن من البديهي هنا اعتبار النبوّة من أبرز مجالات الخير النازل من الله عليهم إن لم يكن أبرزها ، لأنها تمثل المركز الأسمى الذي يعتبر فيه الإنسان ـ الرسول صلة الوصل الروحي والرسالي بين الله وبين عباده ، كما تتحول الجماعة المؤمنة ـ من خلاله ـ إلى قائدة للمجتمعات الأخرى وشاهدة على الناس. أمّا في مجال الحياة الواسع ، فإنها تجمع للإنسان كل خطوات الخير ووسائله وموارده ومصادره مما يحقّق له السعادة في الدنيا والآخرة ، وهذا ما لا يريده الكفّار للمسلمين بفعل حقدهم وعداوتهم وحسدهم ، ولكنّ الله لا يتّبع أهواءهم في ما يريد وفي ما لا يريد ، بل هو الحكيم الرحيم الذي يجري الأمور على وفق الحق ويختص برحمته من يشاء ، فلا ينسى عباده المؤمنين من فضله ، والله ذو الفضل العظيم.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) والمراد بهم هنا اليهود ، على

١٥٣

حسب ما ورد في أسباب النزول ، ومن خلال الأجواء الإسلامية المتحركة في واقع المسلمين في مرحلة نزول الآية التي كانوا يواجهون فيها الصراع مع المنطق اليهودي الذي كان يعمل على إرباك الدعوة ، (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) الذين كانوا يتربصون بالإسلام وبالمسلمين الدوائر ليكيدوا لهم ، وليسقطوا مواقعهم ، وليدخلوهم في أجواء الاهتزاز والزلزال النفسي الذي يؤدي بهم إلى التراجع عن دينهم ، (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، لأن المسألة لم تنطلق لديهم من حسابات فكرية دقيقة ، ولا من شبهات معقّدة ، ولا من موقع يوحي بالرفض ، بل كانت منطلقة من عقدة مرضية مستعصية ، لأنهم اتّخذوا منكم موقف العداء ؛ الأمر الذي جعلهم يحسدونكم على ما أنعم الله به عليكم من رسالته التي أنزلها على رسوله ليبلّغها لكم ، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) ، فهو يملك العطاء والمنع وهو يعلم مصالح عباده في ما يعطيهم أو يمنعهم ، ويطلع على خصائص أوضاعهم الداخلية والخارجية ، فيصطفي من رسله من يشاء وينزل رسالته على من يشاء ، تفضلا منه وكرما ، في خط الحكمة الإلهية التي يختص بها عباده (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي لا ينكر أحد فضله في كل نعمه التي يفيض بها على عباده الصالحين.

* * *

من وحي الآية في حركة الحاضر والمستقبل

وإذا كان لنا استيحاء شيء من هذه الآية يتصل بحياتنا العملية في الحاضر والمستقبل ، فقد نجد أنّ بإمكاننا الانطلاق إلى الواقع الذي يواجهه المسلمون في كل زمان ومكان في صراعهم مع الفئات الأخرى ممن ينتمون إلى الأديان الأخرى أو إلى المبادئ الكافرة الملحدة ، فنلاحظ أنّ علينا النفاذ إلى الأعماق في دراستنا للحالة النفسية التي يعيشونها تجاهنا ، ومدى ما تمثله

١٥٤

من مواقف عملية في السرّ والعلن ، مما يدخل في عداد المخططات التي تعد ضد تقدم المسلمين وتطورهم وامتدادهم في الآفاق الواسعة الصاعدة في الحياة ، وبذلك نستطيع الوصول إلى النتائج الملموسة التي توضح لنا كيف يشعر الآخرون بالخطورة من قوّة الإسلام والمسلمين ، لما في ذلك من انعكاسات خطيرة على موقعهم الفكري والسياسي وعلى النطاق الحضاري بشكل عام ، تماما كما هي الحال في الكفار القدامى من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخافون من قوّة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وتعاظم الإسلام ، على امتيازاتهم الذاتية والطبقية ومواقعهم الفكرية.

وفي هذا الجو ، نشعر بالحاجة إلى الحذر الإيجابي الواعي إزاء كل الأساليب المتنوّعة المغلّفة بغلافات ناعمة من اللطف والرقة والعاطفة ، الملوّنة بألوان من الحضارة والتقدم والتنمية والتطوير ... وما إلى ذلك من الأساليب التي يريد الآخرون من المستعمرين والكافرين ، بشكل عام ، أن ينفذوا منها إلى حياة الأمة ، ليدمروا قيمها الروحية من الداخل ، وليسيطروا على مقدّراتها المادية والمعنوية كسبيل من سبل إضعاف كل طاقاتها الحضارية التي تتحرك من أجل صنع حضارة إسلامية جديدة في المستقبل ، كما صنعت حضارة الإنسان في الماضي البعيد.

ومن النقاط المهمة التي ينبغي التركيز عليها في هذا المجال ، هي أن الحذر لا يعني السلبية التي تبعدنا عن الارتباط بالعالم من حولنا ، بل يعني اليقظة والوعي والمراقبة لكل الأساليب والأوضاع والتحركات المحيطة بنا ، بعين يقظة نفّاذة ناقدة ، وبروح واعية لا تعيش بساطة الفكر وسذاجته في عالم لا يتعامل مع الحياة إلا من خلال التعقيد ، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نعيش عفويّة الروح وبساطتها في جوّ يحقق للإنسان معنى إنسانيته في رحاب الله.

١٥٥

كيف نفهم النسخ؟

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تدل هذه الآية على أن الله عند ما يرفع آية أو يزيلها لفظا أو حكما أو تلاوة حسب اختلاف أنواع النسخ وأشكاله ، أو عند ما ينسيها فلا يتذكرها الناس ليبعدها عن الوجدان الفكري لهم ، لانتهاء دورها في المرحلة الجديدة ، لأنّ مضمونها كان صالحا لفترة سابقة على صعيد التشريع والتوجيه ؛ فإنه لا يترك الناس بدون هداية جديدة ، ولا يفوّت عليهم ما فيها من فوائد ومصالح ؛ بل يأتي بخير مما رفعه عنهم أو أنساهم إيّاه ، أو يأتي بمثلها في ما تفتح لهم من أبواب المعرفة ، لأنه قادر على كل شيء.

ذلك هو المفهوم الحرفي من اللفظ ، ولكن ماذا وراء ذلك؟ وما المناسبة فيه؟.

قد تكون القضية واردة في الأجواء الفكرية التي كان يعيشها اليهود في استنكارهم لنسخ الكتب والشرائع السماويّة بكتاب جديد أو شريعة جديدة ، كما ينادي به أتباع عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، في ما جاء به عيسى من كتاب ، وفي ما جاء به محمد من كتاب وشريعة ، وكانوا ينطلقون في ذلك مما زعموه أساسا لاستحالة النسخ ، لأن ذلك يؤدي إلى نسبة عدم الحكمة إلى الله إذا رفع الحكم أو الآية مع بقاء الموضوع على ما هو عليه من المصلحة ، أو يؤدي إلى نسبة الجهل إليه إذا كان يرى دوام المصلحة فتبيّن عدم دوامها في حالة ارتفاع المصلحة السابقة. وعلى هذا الأساس ، كانوا يستنكرون فكرة النسخ بشكل كلّي ، فجاءت هذه الآية لتبيّن لهم وللمسلمين أنّ الله يمكن أن يجري التشريع على مراحل ، فيجعل الحكم على أساس مصلحة موقتة بزمان من دون أن يبيّن

١٥٦

ذلك للناس ، بل يتركهم لتصورهم ليتخيّلوا استمراره لحكمة في ذلك ، ثم تنتهي المصلحة السابقة لتبدأ مصلحة جديدة بحكم آخر ، أو لينزل آية أخرى مماثلة لما سبق في المصلحة أو أفضل منها فيرفع ما كان ، وذلك على قاعدة الحكمة البالغة التي اقتضت الجعل في البداية والنهاية.

وربما تكون الآية واردة في نطاق الأجواء الإسلامية في نسخ آيات القرآن ، بإزالتها حكما وتلاوة كما يدعيه البعض ، أو تلاوة لا حكما كما يدعيه بعض آخر في آيات الرجم ، أو حكما لا تلاوة كما ورد في بعض الآيات التي ادّعي نسخها في القرآن ؛ وعلى هذا تكون الآية واردة في تبرير ذلك ، وبيان أن الله بيده رفع الآيات ووضعها ، وأن الذي أنزل الآية قادر على أن ينزل مثلها أو أفضل منها.

ونحن لا نوافق على نسخ التلاوة مع نسخ الحكم أو بدونه ، لأن ذلك يؤدي إلى الالتزام بتحريف القرآن ونقصانه ، كما أنه لم يثبت إلا بخبر الواحد الذي لا يثبت النسخ به على ما هو رأي جمهور المحققين مما هو مذكور في محله.

أما نسخ حكم الآية ، فهو ممكن في ذاته ، ولكنّ هناك كلاما بين العلماء في وقوعه في القرآن وعدمه ، وهذا ما لا مجال لتفصيل الحديث فيه هنا لأن مجاله في أبحاث علوم القرآن لا تفسيره ، ويمكن للقارىء الرجوع إلى كتاب «البيان في تفسير القرآن» لأستاذنا المحقق السيد أبي القاسم الخوئي ، فقد وفّى هذا الموضوع حقه.

* * *

١٥٧

علاقة الآية بالعصمة في سهو الأنبياء

وقد ثار جدل كلامي حول الجانب المتعلق بالنسيان في الآية ، فتباينت الآراء ، بين رأي لا يجوّز ذلك لأنه يؤدي إلى التنفير عنه وعدم الثقة بكلامه ، لإثارته الاحتمال في كل ما يبلغه للناس ، فلا يبقى مجال للطمأنينة به ، وهذا ما ذهب إليه المحقق الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في تفسيره «التبيان» ، على ما نقله صاحب «مجمع البيان» (١) ؛ وبين رأي يجوّز ذلك ، وهو رأي جماعة من المحققين ، فقد قالوا إن من الممكن أن يكون النسيان لحكمة واستدلوا عليه بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) [الأعلى : ٦ ـ ٧] أي إلا ما شاء الله أن تنساه ... وهذا بحث من أبحاث الكلام المتصلة بعصمة النبي عن الخطأ والسهو والنسيان في الموارد التي أريد له أن يزيلها من التشريع في حياة الناس ، ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث ، لأن له مجالا آخر. أما رأينا في هذا الموضوع ، فهو أن الآية بعيدة عن هذا البحث ، لأن النسيان وارد هنا على سبيل الكناية في ما يريد الله أن يزيله من التشريع بشكل غير مباشر ، في مقابل ما يريد إزالته بشكل مباشر ، وهو إبلاغ النبي بذلك عن طريق الوحي ، ولهذا فإن إنساء الله إيّاه ، ليس فيه محذور حتى على رأي من يرى عصمة النبي عن السهو والنسيان ، لأنه يعتقد ذلك في الموارد التي تدخل في نطاق الشريعة والحياة العامة الطبيعية ، لا في ما يدخل في نطاق الإرادة الإلهية التي تتدخل في نسخ الحكم بهذه الطريقة ، مما يعدّ جزءا من حركة الرسالة وطريقتها في إبلاغ الشريعة سلبا أو إيجابا.

وهناك قراءة أخرى : «أو ننسأها» ، من الإنساء وهو التأجيل والتأخير إلى

__________________

(١) يراجع : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٣٤٧.

١٥٨

أجل معين ، وهذا ما نستبعده لأنها واردة في سياق الاستبدال الذي يعني الإزالة في المبدل منه أساسا ؛ والله العالم.

وقد يخطر بالبال أن المراد بالآية في هذا الموضوع ، هو الآية التكوينية مما يدخل في عداد الظواهر الكونية ، أو المعاجز الإلهية التي يرسل بها الأنبياء. وربما يكون ذلك أوفق بمفهوم الآية عرفا ، وأقرب إلى مدلول كلمة النسخ من حيث تعلقها بالذات بينما هي متعلقة بالحكم على المعنى المتقدم مع فرض بقاء الآية في موقعها من القرآن ، كما أنها أكثر صلة بقدرة الله التي كانت ختام الآية ... وعلى ضوء هذا ، يكون مدلول الآية هو أن الله قادر على أن يزيل الآيات التي يخلقها أو يرسل بها رسوله ويأتي بخير منها أو مثلها في الكون ، أو على يد الرسل ؛ وبذلك تكون بعيدة عن جوّ النسخ بمعناه المصطلح ، ولكن كلمة «ننسها» قد لا تتناسب كثيرا مع هذا التفسير إلا ببعض الوجوه البعيدة ؛ والله أعلم بمعاني آياته.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الآية

وهناك وجه آخر في فهم الآية يرتكز على شموليتها للجانب التشريعي والتكويني والإنساني ، فقد جاء في تفسير الميزان في تفسير كلمة الآية ، قال : «إن كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء والحيثيات والجهات ، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه ، باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله ، والأحكام والتكاليف الإلهية آيات له تعالى ، باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى ، والموجودات العينية آيات له تعالى ، باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه ، وأنبياء الله وأولياؤه تعالى آيات له تعالى ، باعتبار دعوتهم إليه بالقول والفعل ،

١٥٩

وهكذا ، ولذلك كانت الآية تقبل الشدّة والضعف ، قال الله تعالى : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨].

ومن جهة أخرى ، ربما كانت الآية ذات جهة واحدة ، وربما كانت ذات جهات كثيرة ، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة ، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.

وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

وهذا المعنى طريف في ذاته ، ولكن إرادته من هذه الآية غير ظاهر ، لأنها واردة في الأشياء التي هي في معرض النسخ والإزالة مما يتعلق بحياة الناس ، بالمستوى الذي يثير الجدل فيما بينهم ، كما جاء الحديث به عن اليهود في حركة التشريع ، أو في تأكيد قدرة الله في خلقه بحيث لا تجري الحياة على شكل واحد ، بل يمكن أن تتغير وتتبدل لتتحرك ظاهرة في مرحلة معينة لتحل محلها ظاهرة أخرى مماثلة لها أو أفضل منها انطلاقا من قدرة الله.

وقد لا نجد مناسبة للتعبير عن الأشخاص بالآية من خلال نشاطهم ودعوتهم أو الحديث عنهم بعنوان النسخ ونحوه.

إنها ـ والله العالم ـ إشارة إلى ما يكون في معرض الثبات والاستمرار ، ليكون النسخ مفاجئا للناس ، فيحتاج إلى إزالة مضمون المفاجأة من أذهانهم ، لأن الله الذي يملك القدرة على الإيجاد قادر على التبديل ، ولا دلالة في

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٢٤٧.

١٦٠