تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

الآيات

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ

١٢١

الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦)

* * *

معاني المفردات

(وَقَفَّيْنا) : أصله من القفا ، يقال : قفوت فلانا إذا صرت خلف قفاه.

(الْبَيِّناتِ) : جمع بيّنة ، وهي الدليل والحجة.

(وَأَيَّدْناهُ) : قوّيناه.

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبرائيل ، ويطلق عليه الروح الأمين.

(غُلْفٌ) : جمع أغلف ، أي عليها غشاوة.

(يَسْتَفْتِحُونَ) : يطلبون الفتح ويستنصرون.

(بَغْياً) : عدوانا.

(فَباؤُ) : استوجبوا واستحقّوا واستقروا بغضب على غضب.

(خالِصَةً) : صافية.

١٢٢

(يُعَمَّرُ) : يعيش طويلا ، يمتدّ عمره.

* * *

القرآن يفضح أساليب اليهود

في هذه الآيات ، يتابع القرآن الكريم حملة التعرية لتأريخ بني إسرائيل ، من أجل مواجهة اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية ، فهم يعتبرون امتدادا تاريخيا وعمليا لهم ، ولهذا كان الهدف القرآني هو تعرية واقعهم الروحي والفكري والعملي ... وفي ضوء ذلك ، تتلاحق الآيات الكريمة لتشرح أساليبهم الملتوية مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولتواجههم بالموقف الذي كانوا يقفونه قبل الرسالة عند ما كانوا يستفتحون على الناس في المدينة بالنبي الموعود الذي ينصرهم على الآخرين ، حتى إذا جاءت الرسالة التي اصطدموا من خلالها بالواقع ، كانوا أوّل المحاربين لها والمقاومين لتقدّمها. وجاء القرآن في أسلوب عقلاني هادئ يفضح واقعهم وينقد المبررات والحجج التي كانوا يبررون من خلالها مواقفهم المعادية للإسلام.

* * *

موقف اليهود من الأنبياء

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ).

ما هو موقف اليهود من الأنبياء؟ إن القرآن الكريم يجمل القضية في هذه

١٢٣

الآية التي يستعرض فيها النبوّات من لدن موسى الذي جاء وبيده كتاب الله ، مرورا بالرسل الذين جاءوا من بعده ، وانتهاء بعيسى الذي أرسله الله ، ومعه البينات التي تثبت رسالته ونبوّته وأيّده بروح القدس. إن الموقف الذي يحكم سلوكهم من كل نبي هو موافقته لشهواتهم وأطماعهم وأهوائهم أو عدم موافقته لذلك ، فإذا لم يحقق لهم ما يريدون ولم يوافق على ما يشتهون ، فإنهم يستكبرون عليه بما يملكون من جاه ومال وقوة ، ومن تاريخ رسالي ، ومن كتاب سماوي يتبجحون بالانتماء إليه ... ويعبرون عن ذلك بالتكذيب تارة لبعض الأنبياء الذين لا يستطيعون قتلهم نتيجة الظروف الموضوعية الخاصة ، مما يدخل في حساب القوة الذاتية للنبي لكثرة قومه كما في قوم شعيب ، وبالقتل أخرى للأنبياء الذين لا يملكون أيّ نوع من أنواع القوة التي تمنحهم الحصانة في نظر بني إسرائيل. وكأن القرآن يريد أن يعطي الموقف الذي يقفه اليهود من النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدا تاريخيا يدخل في حساب تكوين الشخصية ، وفي العقدة المتأصلة التي يعاني منها هذا الشعب بشكل عام من الأنبياء ورسالاتهم.

* * *

ادعاؤهم عدم الفهم

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي مغلقة عن وعي الأفكار والدعوات والتعاليم التي يدعون إليها ، وهذا ما كانوا يواجهون به الأنبياء الذين يطلبون منهم الفهم والتأمل في ما يقدم إليهم من براهين وحجج وآيات ، فكان ردّ الفعل لديهم تظاهرهم بعدم الفهم أو بعدم القدرة على الإدراك ، لأن قلوبهم لا تملك الذكاء الذي تستطيع من خلاله الوصول إلى أبعاد القضية. وقد يكون هذا الزعم هروبا من الدخول في عملية الحوار ، وقد يكون استهزاء وسخرية بالنبي عند ما

١٢٤

يقابلونه بهذا المنطق ، الذي يجعله حائرا لا يدري كيف يواجه الموقف الجديد الذي لا يحقق أيّ صدى لصوته ، وهذا ما جعل التعليق القرآني عليهم عنيفا قاسيا ، لأنهم لا ينطلقون من مواقع صحيحة ، (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) فقلوبهم كقلوب بقية الناس ، وأفكارهم كأفكارهم في إمكان التقائها بالحقيقة ووعيها للمفاهيم التي تقدم إليها ، وقدرتها على الدخول في عملية الحوار والمناقشة ، ولكنهم فضلوا الكفر على الإيمان. ولمّا لم يجدوا حجة على موقفهم الكافر ، لجأوا إلى هذا المنطق ليبرّروا ذلك ، فأبعدهم الله عن ساحته ، وهذا معنى اللعن لغة ؛ (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) لأنهم لا يريدون الإيمان.

* * *

كفرهم بدعوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وجاء القرآن على لسان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل في آياته التصديق لما في التوراة من عقيدة ومفهوم وتشريع ، ليكون ذلك حجة عليهم من الله ، لأن التوراة لم تكن منتشرة بين الناس ليتهموه بنقلها وتعلّمها ، بل كانت محتكرة عند اليهود بلغة غير عربية ، وكان اليهود قبل الرسالة (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يطلبون الفتح والنصر على الكافرين الوثنيين المقيمين في المدينة عند اشتداد المشاكل والخلافات فيما بينهم وشعورهم بالضعف أمام قوة الآخرين ، ويقولون لهم : إننا سنكون في موقف القوة عند ظهور النبي الموعود في هذه البلاد ، فنقتلكم ونهلككم لأنه سيكون معنا فينصرنا عليكم. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) لأن الرسالة الإسلامية كبقية الرسالات التي سبقتها ، لم تأت لتنسف الرسالات المتقدمة أو تنسخها بل لتكملها ، ولذا جاء الحديث المأثور عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنما

١٢٥

بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١) ، وروي عن عيسى عليه‌السلام أنه قال : جئت لأكمل الناموس. (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بالنبي وبالرسالة ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الرسالة في ما سمعوه من آياتها وعرفوه من شرائعها ، ورأوا الانسجام واضحا بينها وبين ما لديهم من التوراة ، وأيقنوا الحق في موقف النبي ودعوته ، (كَفَرُوا بِهِ) وجحدوه بغيا وحسدا وعدوانا. (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) لأنهم ابتعدوا عن الله بعد أن عرفوا طريقه ، فأبعدهم الله عنه.

* * *

بيعهم أنفسهم بدون ثمن

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ؛ والشراء هنا بمعنى البيع ، كما في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [البقرة : ٢٠٧] ، (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فهم لم يكفروا لشبهة عرضت لهم أو لعدم وضوح الحق لديهم ، بل كان الكفر كفر عدوان وعناد وحسد ، لأنهم عرفوا من تعاليم الإسلام ومن مواقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه لا يمنحهم أيّ امتياز يميزهم عن سائر المسلمين ، فشعروا بأنهم سيتحولون مع هذا الدين الجديد إلى أتباع عاديين ، وبذلك يفقدون المواقع التي كانوا فيها والامتيازات التي حصلوا عليها.

وهنا يقف القرآن ليشجب هذا الموقف ويندد بهم ، ويقول لهم إنهم باعوا أنفسهم بدون ثمن ، لأنهم لم يحصلوا إلا على البغي والحسد الذي لن يؤدي بالإنسان إلى نتيجة محترمة ، بل يؤدي بهم إلى الشعور القاتل الذي

__________________

(١) البحار ، م : ٦ ، ج : ١٦ ، باب : ٩ ، ص : ٤٠٨.

١٢٦

يحوّل داخل الإنسان إلى عقدة ضاغطة تقضي عليه في نهاية المطاف. وقد أوضح القرآن طبيعة هذا الحسد ، فقد كانوا يحبون أن ينزل القرآن عليهم ليكمّل تاريخ النبوّات لبني إسرائيل ، ليعزز من مكانتهم ويرفع من امتيازاتهم ويقوّي من مواقفهم ... (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) ؛ الغضب الأول ما واجهوه عند تمردهم على موسى وعلى الأنبياء من بعده قبل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والغضب الثاني عند ما تمردوا على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) في الآخرة.

ويزداد الموقف وضوحا في ما يكشفه القرآن لنا من ملامح شخصيتهم في هذا الحوار : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، فهذا كتاب الله أمامكم فآمنوا به. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) فنحن أصحاب كتاب سماوي أنزله الله علينا ، فلا حاجة لنا بغيره لأنه يحقق لنا الكفاية في ما نحتاجه من أمور الدنيا والآخرة. (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) من الكتب السماوية من الإنجيل والقرآن ، (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ). وبذلك كان الإيمان بكتابهم مستلزما للإيمان بالقرآن لأنه يصدق التوراة في تعاليمها.

وهنا تتجلى عملية التعرية في أوضح بيان ؛ إن القرآن يتجه إليهم ليقول لهم : هل أنتم جادّون في دعوى الإيمان بما أنزل عليكم من كتاب؟ هل تنطلقون فيها من مواقع الحق والإيمان ، أم أنها مجرّد مبرر استعراضي تحاولون من خلاله تبرير كفركم بالقرآن؟ إنكم كاذبون في ذلك ، لأن المؤمن بشيء لا بد له أن ينسجم مع إيمانه في مجال العمل به من جهة ، وفي مجال التقديس لأنبياء الإيمان من جهة أخرى ، ولكنكم سرتم في غير هذا الاتجاه. (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهم الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى ، يحملون رسالته ، ويدعون الناس إلى العمل بالكتاب ، ويعتبرون امتدادا طبيعيا له؟ ولم يقتصر الموقف المعاند على هؤلاء الأنبياء ، فما ذا عن موقفكم من موسى الذي جاء بالكتاب؟

١٢٧

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم في عبادتكم لغير الله ، مع أن موسى قد دعاكم إلى عبادة الله الواحد الأحد. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) بعد إنزال الكتاب (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الجبل ، حتى ظللنا عليكم به في طريقة إعجازية ، وقلنا لكم في مجال دعوتكم إلى حمل المسؤولية تجاه أنفسكم وتجاه الناس : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) وقناعة ويقين وعزيمة لا ضعف فيها (وَاسْمَعُوا) سماع وعي في الإيمان وطاعة في العمل ؛ فما ذا كان الجواب؟ (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، لقد سمعنا كل ما قلت ولكننا غير مستعدين للانسجام معك في واقعنا العملي ، لأننا لا نريد تغيير واقعنا وعاداتنا وأوضاعنا التي تلتقي بأطماعنا وشهواتنا ومواقعنا في الحياة ، (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) فلا تزال ذكريات العجل تعيش في وجدانهم وقلوبهم ، ولا يزال حبه يجري في مشاعرهم مجرى الدم في العروق. وهنا يوحي القرآن ـ في أسلوبه ـ بالمرارة والسخرية منهم في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإذا كان إيمانكم يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل وإنكار الحق ، فبئس هذا الاتجاه الإيماني الغريب في ما يأمر به ، ممّا يضاد معناه وحيويته ، ولكن الحقيقة هي أنكم غير مؤمنين ، لأن للإيمان وحيه الطاهر الذي يملأ روح الإنسان بالخير ويحرك طاقاته في طريق الطاعة والعبادة والحق والصلاح.

ثم يعود القرآن إلى فكرة «شعب الله المختار» التي يعيشها اليهود في داخلهم كحقيقة دينية عميقة ، فيشعرون معها بالاستكبار والعلوّ والرفعة على الآخرين ، ليناقشها مناقشة تفصيلية بعد أن كان قد أشار إليها ، في ما تقدم ، إشارة مجملة.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) من كل محاسبة

١٢٨

ومسئولية (مِنْ دُونِ النَّاسِ) الّذين يحاسبون على كل ما عملوا من صغيرة وكبيرة ، (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن الدار الآخرة للمؤمنين في التفكير الديني نعيم لا بؤس فيه ، وسعادة لا شقاء معها ، فهي الحياة المثالية التي هي أعلى مستوى للحياة ، لأنها تحقق للإنسان كل أحلامه بل فوق أحلامه ؛ كما ورد في الحديث المأثور عن الجنة : فيها «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١). فإذا كانت لكم هذه المنزلة الرفيعة ، التي تمنحكم مثل هذه الحياة عند الله ، فتمنّوا الموت الذي ينقلكم إليها من دون جهد أو تعب ، فإن الإنسان يتمنى المستوى الأفضل للحياة بشكل طبيعي. (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فهم يعرفون ما قدموا من جرائم يحاسبون عليها يوم القيامة ، فيتعرضون من أجلها لأقصى أنواع العقاب ، فكيف يتمنّون الموت بعد ذلك؟ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أحرص الناس على حياة ، مهما كانت ذليلة أو غير مسئولة ، هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا نهاية المطاف والفرصة الأخيرة للاستمتاع ، إنهم لا يحرصون على هذه الحياة كما يحرص عليها اليهود (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ليبتعد عن أشباح الجريمة والعقاب التي تلاحقه في يقظته ومنامه ، ولكن ما فائدة الألف سنة من العمر لو عمّر ألف سنة؟! إن النتيجة الحاسمة ستكون أمامه (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) لأنه سيلتقي بالعذاب وجها لوجه على أساس ما جنته يداه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٣ ، ج : ٨ ، باب : ٢٣ ، ص : ٤٨٩.

١٢٩

الدروس والإيحاءات ـ النماذج المعاصرة

أما ما نستوحيه من هذا الفصل من السورة ، فهو أن نتابع هذا التاريخ من خلال النماذج الحية الموجودة في الحاضر التي تواجه الدعاة إلى الله بالتكذيب تارة ، وبالسجن أخرى ، وبالقتل في بعض الحالات ، وذلك لعدم انسجام شعارات الدعوة الإسلامية الحقة مع أهوائهم وأطماعهم وامتيازاتهم ، في الوقت الذي نجد هذه النماذج تحمل مع شعاراتها الكثير من كلمات الإصلاح والخير والإيمان بالرسالات السماوية ...

وقد نجد كثيرا من ظلال هذه الصورة في بعض هؤلاء الذين كانوا ينتقدون الأسلوب التقليدي للعمل الإسلامي في أساليب العاملين من التقليديين ، بحجة أنها لا تحقق للإنسان أهدافه في الحياة العملية الكريمة ، التي تبحث عن التنظيم الواسع الدقيق لمطامحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فلا بد للإسلام من أن يتحرك في هذا الاتجاه بعقلية جديدة وأسلوب جديد. فلما تحركت المسيرة الإسلامية الواعية لتقدم الإسلام للناس في صورته الشاملة الكاملة ، بالأسلوب الذي لا يشعرون معه بوجود فراغ في أيّ جانب من الجوانب ، وقفوا أمامها بالعنف والتعسف والجحود والنكران .. إنهم يشبهون كثيرا اليهود الذين جاءهم كتاب مصدّق لما معهم ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا ، على الرغم من أنهم كانوا يستفتحون به على الكافرين.

وقد نجد أمامنا صورة اليهود الذين يكفرون بما أنزل الله بغيا ، وذلك في صورة هؤلاء الذين يرفضون العمل لأنهم لا يؤمنون به إلا إذا كانوا على قمّته ، ولا يتفاعلون معه إلا إذا جاء من طريقهم ، فليسوا مستعدين للإيمان إذا كان من وحي الآخرين. إنهم الأنانيون الذين لا يؤمنون بالدعوة إلا إذا كانت تحقق لهم امتيازاتهم الدنيوية. ثم تمتد الصورة في حياتنا لتكشف لنا عن هؤلاء الذين

١٣٠

يدعون إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ، فيبادرون إلى طرح الدعوات المنحرفة التي تلبس لبوس الكفر تارة ولبوس الإسلام أخرى ، ويقولون إننا نؤمن بما لدينا من مبادئ وأفكار ، من دون أن يكلفوا أنفسهم الدخول في حوار جدي في ما يقدّم إليهم من أفكار الإسلام ومفاهيمه ، ليتعرفوا من ذلك كيف يستطيع الإسلام أن يحقق لهم الشعارات التي يرفعونها بأفضل صورة وأروع أسلوب. إنها الصورة نفسها التي يقدمها القرآن لهؤلاء الذين يقولون : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُ) مع تبديل في المواقع وفي تفاصيل المنظر.

إنّ قيمة التاريخ القرآني تتمثّل في ما يقدّمه لنا من نماذج حيّة متحركة لا تتجمد في زوايا التاريخ ، بل تظلّ تحمل للحاضر والمستقبل الغنى والامتداد في ما يواجهه الإنسان في مراحل تطوّره من مظاهر الانحراف والاستقامة والكفر والإيمان ... وتلك هي مهمّة القارئ للقرآن والدارس له ؛ أن لا يظل يدور حول الصورة القرآنية للإنسان في خطوات التاريخ ، بل يحاول أن يرصد من خلالها الصور القادمة في حركة المستقبل ، ليعطي الحياة للآية في وعيه وفي وعي الآخرين.

* * *

١٣١

الآيتان

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨)

* * *

معاني المفردات

(وَبُشْرى) : البشارة : الخبر يؤثر في البشرة تغيّرا ؛ وهذا يكون للحزن أيضا ، ولكن غلب استعماله في ما يفرح.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مناسبة نزول هاتين الآيتين مرفوعا إلى سعيد بن جبير ما يلي : أقبلت اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك عن أشياء ، فإن أجبتنا فيها اتّبعناك ، أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس نبيّ إلّا

١٣٢

يأتيه ملك من عند ربه عزوجل بالرسالة بالوحي ، فمن صاحبك؟ قال : جبريل ، قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ، ذاك عدوّنا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة اتبعناك ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (١).

* * *

اليهود والاعتراض الطفولي

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الذي هو الملك المقرب عند الله ، المكلّف بنقل رسالته إلى أنبيائه ـ ولا سيما النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) ليكون وعيك له في عقلك فتحفظه وتتفهّم معانيه. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المنزّلة على الرسل السابقين ، لأن القرآن لم يأت ناسخا لما في الكتب كلها ، ولكنه جاء معترفا بها ومصدقا لما فيها ومكمّلا لما يحتاجه الناس مما استجدّ من قضايا ومشاكل بعد نزولها ، فإن قيمة الرسالات الإلهية أنها ـ في مضمونها الفكري ـ يلتقي بعضها مع بعض لتكون حقا (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) في ما ينتظرهم من النتائج الطيبة بالتزامهم بما فيها في حياتهم العملية ...

فإذا كان جبريل برسالته الإلهية التي نزّلها على قلبك ، مما يوحي باصطفاء الله له في حمل الرسالة إليك من بين الملائكة ، وإذا كان قد جاء بها بإذن الله لا من خلال نفسه ، فإن المفروض أن يكون في موقع الإعزاز والمحبة والتقدير لدى المؤمنين ، لأن الإنسان المؤمن يحب من يحبه الله ويبغض من أبغضه ، فكيف تجمعون بين حبكم لله وعداوتكم لحبيبه جبريل؟!

__________________

(١) الواحدي ، أبو الحسن علي بن أحمد (النيسابوري) ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٤ م ، ص : ١٦.

١٣٣

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) لأن الله يريد من عباده الإيمان به وبكل ملائكته ورسله ، وبجبريل وميكال ، والتقدير لهم ، باعتبار أن الإيمان بالحقّ يمثل وحدة في المضمون ، كما أنه يمثل وحدة في الالتزام ، مما يعني أن إنكار بعض مفرداته يؤدي إلى الكفر الذي يعطي صاحبه صفة الكافر الذي لا بدّ له من أن يعدّ نفسه للوقوع تحت سيطرة عداوة الله له.

* * *

جبريل وميكال

وقد جاء الحديث عن جبريل في سورة النحل في الآية ١٠٢ بأنه «روح القدس» (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ...) وفي سورة الشعراء في الآية ١٩٣ بأنه «الروح الأمين» (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ؛ فقد ذكر المفسرون أن المراد بهاتين الكلمتين جبريل ، كما ورد اسم «جبريل» في سورة التحريم الآية (٤) (١). ويتحدث التاريخ القرآني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد جبريل مرتين في عروجه إلى السماء بهيئته الأصلية ، كما ورد ذلك في تفسير سورة النجم ، وينقل صاحب «تفسير الأمثل» عن بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة جبرائيل لهؤلاء القوم (٢) ، وهذا يوحي بأن المسألة لم تكن ـ لدى هؤلاء المعاصرين للنبي ـ متصلة بالجانب العقيدي ، بل هي حركة طفولية مشاغبة لتبرير مواقفهم المضادّة للإسلام ، وتقديم شيء ـ أي شيء ـ

__________________

(١) الآية : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤].

(٢) الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، مؤسسة البعثة ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ م ، ج : ١ ، ص : ٢٦٨.

١٣٤

أمام ذلك. أما ميكال فقد اقتصر ذكره على هذا المورد. وفي هذه الآية دلالة على قربه من الله وتعظيم الله له حتى اعتبرت عداوته كفرا.

* * *

لقد جاءت هذه الآية توبيخا لليهود على هذه العقلية الطفولية التي يحملونها ، لأن جبريل إذا كان عدوّا لهم ، فما دخله بما ينزل به من عند الله مما يكون مصدقا لما بين أيديهم من الكتب ومتضمنا للهدى والبشرى للمسلمين الذين يسلمون قلوبهم ووجوههم لله؟ وهل يكون حال هذا المنطق إلا كمنطق الإنسان الذي يرفض الرسالة التي تحقق له الربح والسعادة والنجاح بحجة أن الناقل لها غير محبوب له ، أو غير مرغوب لديه ... إنه منطق الطفولة الغبية الذي لا يعتمد على أساس فكري ، بل يخضع للانفعالات الساذجة.

ثم أكّد الله أنّ العداوة لله وللملائكة ومنهم جبريل وميكال ، وللرسل ، تستوجب الكفر في مدلولها السلبي في رفض الالتزام بالأسس التي يقوم عليها الإيمان ، وتؤدي بالتالي إلى عداوة الله لهم متمثلة في سخطه وعقابه. أما بالنسبة إلى عداوة الله فواضح ، وأما بالنسبة إلى عداوة الأنبياء والملائكة ، فلأنهم لا يمثلون أنفسهم في ما يدعون إليه أو يفيضون فيه ، بل ينطلقون في سلوكهم من موقع علاقتهم بالله وقربهم منه ، مما يجعل من عداوتهم عداوة لله وحده.

* * *

١٣٥

الآيات

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١)

* * *

معاني المفردات

(نَبَذَهُ) : طرحه ورمى به وألقاه.

* * *

١٣٦

ديدن اليهود نقض العهود

في هذه الآيات عودة إلى توضيح الصورة القلقة في سلوك المجتمع اليهودي آنذاك ، فهم يكفرون بآيات الله التي أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع وضوح دلائل ألوهيتها ، ونراهم ـ في الوقت نفسه ـ يدّعون لأنفسهم الاستقامة والثبات على الخط ، ويتجاهلون مدلول تصرفاتهم المتذبذبة ؛ فالذي يكفر بها مع هذا الوضوح ، لا يمكن إلا أن يكون فاسقا خارجا عن خطّ الإيمان ، وفي هذا إيحاء بأن الكفر والفسق في المدلول القرآني لا يمثّلان مصطلحين متقابلين ، كما هي الحال في مفهوم الفقهاء ، حيث يطلقون الفسق على ما يقابل العدالة ، مع التحفظ على مبدأ الإيمان في العقيدة ، ويطلقون الكفر على ما يقابل الإيمان ، مع عدم ملاحظة جانب العمل في ذلك.

ثم تكمل الآية الصورة في المجال العملي ؛ فنواجه نقض العهود التي كانوا يعقدونها مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع الآخرين. فهذا هو ديدنهم وطريقتهم في علاقاتهم الاجتماعية ، ثم اعتبر القرآن الكريم أن الفريق الذي يمارس هذا السلوك يمثّل الأكثرية المنطلقة من عدم الإيمان ، لأن الإيمان يدعو إلى الحقّ ، والحقّ يدعو إلى الوفاء.

وتتضح الصورة في الجانب التطبيقي للفكرة التي ألمحت إليها الآية مع بعض التفاصيل ، فقد جاء رسول الله ومعه القرآن الذي يصدق ما لديهم من التوراة ، حتى أنهم لا يحتاجون في التعرف على صحته إلا إلى الرجوع إلى التوراة ليقارنوا بينها وبينه ، ولكنهم نبذوا التوراة التي هي كتاب الله وراء ظهورهم ، فلم يعملوا بها ، لأنّ ذلك لا ينسجم مع عصبيتهم وأنا نياتهم ، كأنهم لا يعلمون وجه الحقّ في ذلك ، مع أنهم يعلمونه حقا كما يعرفون أنفسهم

١٣٧

وأولادهم ، وذلك هو الضلال الكبير.

* * *

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) في هذا القرآن الذي بين يديك ، في وضوح الفكرة فيها ، وعمق الحجّة التي تؤدي إلى الالتزام بالإيمان ، (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الذين يتحركون في الحياة من خلال ذهنية التمرد على الله في سلوكهم العملي ، الأمر الذي يصل بهم إلى الكفر ، لأن الإيمان يفرض عليهم الالتزام الدقيق بالمضمون الواسع للتوحيد في حركة الواقع ، فيكفرون هربا من الالتزام من غير عقدة فكرية تفرض عليهم ذلك ؛ ومن هنا نفهم أن الكفر قد يكون نتيجة الفسق كعنصر سلبي من عناصر شخصية الكافرين.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) في ما عاهدوا الله عليه ، أو في ما أبرموه مع الأنبياء أو مع الناس ، (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وطرحوه انطلاقا من فقدانهم للقاعدة الروحية الأخلاقية التي تدعو الإنسان إلى الالتزام بعهوده ، كمظهر من مظاهر التوازن في الشخصية والاحترام للذات والآخرين ، لأن الذي ينقض عهده ويتنكر لكلمته هو إنسان لا يحترم نفسه في التزاماتها ولا يحترم الآخرين في علاقته بهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فليست القضية في الانحراف لديهم حالة جزئية محدودة ، بل هي ظاهرة بارزة في مجتمعهم في حجم الأكثرية الرافضة للإيمان والمؤثرة سلبا على التزامات الإنسان في عهوده. (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة في مفاهيمه وشرائعه (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم الأكثرية ، كتأكيد لما ورد في الآية السابقة ، (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يؤمنوا به ولم يدخلوا مع النبي في حوار حوله ، ليتعرفوا بذلك الدلائل الواضحة على صدقه ، (كَأَنَّهُمْ لا

١٣٨

يَعْلَمُونَ) كما لو كانوا لا يعرفون الحقائق الواضحة التي يعرفونها ، والمتمثّلة في آياته.

وفي الآية دلالة إيحائية على أن هناك أقلّية من أهل الكتاب دخلت في الإسلام ، وانفتحت عليه وعلى رسوله وكتابه ، ولذلك فإنه يشير إليها ولا يلغي دورها.

* * *

١٣٩

الآيتان

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٣)

* * *

معاني المفردات

(تَتْلُوا) : ترويه وتخبّر به.

١٤٠