تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

قال ابن عرفة : هذا عند الأصوليين تخصيص لا ناسخ ، لكن قالوا المخصص إذا ورد على العام بعد العمل به فهو ناسخ ، وإن كان قبل العمل به فهو تخصيص ، في قوله : السنة المتواترة.

قال ابن عرفة : هذا عند الأصوليين مخالفا لما قال ابن الصلاح : لم يتواتر من الأحاديث غير حديثين :

حديث" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" (١).

وحديث" إنما الأعمال بالنيات" (٢).

والباقي أخبار آحاد.

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ١٢١٦ ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٤ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٥٥٥١ ، والحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين حديث رقم : ٢٣٩ ، وأبو نعيم الأصبهاني في المسند المستخرج على صحيح مسلم حديث رقم : ٢٢ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ٢٦٠٣ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ٣١٦٩ ، والنسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٥٧١٨ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٣٦ ، والدارمي في سننه حديث رقم : ٥٩٤ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ٦٦٥٦ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ١٢٤٦٥ ، وأبو داود الطيالسي في مسنده حديث رقم : ٣٥٧ ، وإسحاق بن راهويه في مسنده حديث رقم : ٢٢٠ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ١١١٧ ، وعلي بن الجعد الجوهري في مسنده حديث رقم : ١٢٧٤ ، وابن أبي شيبة في مسنده حديث رقم : ٥١٧ ، وأبو بكر البزار في البحر الزخار بمسند البزار حديث رقم : ١١٦٣ ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده حديث رقم : ٢٥١ ، ومحمد بن هارون الروياني في مسنده حديث رقم : ١٥٠ ، والشاشي في المسند حديث رقم : ٥٩٤ ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية حديث رقم : ٣٢٠٥ ، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة حديث رقم : ٣١٧٩ ، والطبراني في مسنده حديث رقم : ١٢٥٣ ، وابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم : ٢٤٨٠٤.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ١ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ١٨٨٦ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٤٢٢٥ ، والبيهقي في السنن الصغرى حديث رقم : ١٦٨٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ١٣٩١٤ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ٣٠ ، والحسن بن علي الجوهري في مسنده حديث رقم : ٢ ، والشهاب القضاعي في الشهاب في الحكم والآداب حديث رقم : ١٠٨٤ ، والربيع بن حبيب في مسنده حديث رقم : ٢ ، وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء حديث رقم : ١١٥١٦.

٢٢١

ابن عطية : وقالت فرقة : بل الناسخ القرآن الذي ارتفع لفظه وبقى حكمه.

ابن عرفة : وهو الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة.

قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ).

ابن عرفة : هل هذا من باب وروده على النبي من غير المخاطب مثل لأرينك هاهنا للرأفة ، فالأصل أن يقال : لا زان عليهما ، أو يكون من باب النهي عما هو أمر جلي فيرجع إلى ترك أسبابه.

قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

أجمعت الآية العذاب الحسي ، والعذاب المعنوي ، والطائفة اختلفوا في أقل ما يجزي منها.

ابن عطية : عن الحسن البصري عشرة ، وعن ابن زيد أربعة ، وعن الزهري ثلاثة ، وعن عطاء ، وعكرمة اثنان ، وهو مشهور قولهما ؛ لأن ، وعن مجاهد رجل واحد.

ابن عرفة : وقيل : ستة لأنها أول العدد التام الأجزاء.

قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً).

فسره ابن عطية بأربعة أوجه : إما أن النكاح الوطء ، فالزاني لا يطأ إلا زانية ، قال : ورده الزجاج بأن النكاح بمعنى الوطء ، لم يرد في القرآن ، وأجاب ابن عطية بوروده (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [سورة البقرة : ٢٣٠] ، ورده ابن عرفة بأن الصحابة إنما فهموه على العقد ، ولذلك لما أرادت المرأة غير المدخول بها الرجوع لزوجها الأول منعها النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، بقوله : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (١) " ، فلو كان قضى في الوطء لما احتاجت إلى تفسير الآية ، فإن قلت :

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ٤٩٣٣ ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٢٥٩٢ ، وأبو نعيم الأصبهاني في المسند المستخرج على صحيح مسلم حديث رقم : ٣١٥٦ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ١٠٣٤ ، والنسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٥٤١٤ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ١٩٢٢ ، وسعيد بن منصور في سننه حديث رقم : ١٨٦٠ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ٤٠٦٩ ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار حديث رقم : ٤١٧٣ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٢٣٥٠٩ ، وإسحاق بن راهويه في مسنده حديث رقم : ٦١٨ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ٢٢٣ ، والشافعي في مسنده حديث رقم : ١٣٠٥ ، وأبو عوانة ـ

٢٢٢

معلوم أن الزنا لا يكون إلا بزانية ، وأن الزانية لا يطأها إلا زان ، قلنا : قد يزني الزاني بامرأة مكرهة على الزنا ، فهو عام مخصوص ولا يلزم من عطف الزانية عليه تخصيصها ؛ لأن الإكراه في الرجل غير مفهوم ، لكن يقال : قد تكون المرأة عالمة بالزنا ويزني بها الرجل غالطا ظانا أنها زوجة ، فإن قلت : لم بدأ أولا بالزانية في الجلد وبالزاني بالنكاح؟ قلنا : بدأ هنالك بالزانية لأنها هي المادة التي جاءت منها الجناية ، لأنها لو لم تطع الرجل لم يطمع ، والآية سيقت لعقوبة الجاني ، والثانية سيقت لهذا النكاح ، والرجل أصل فيه ؛ لأنه هو الخاطب ، وأيضا فلأن الرجل في الوطء فاعل ، والمرأة منفعلة ، فلذلك بدأ به.

قوله تعالى : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وكان بعضهم يفسره بأمرين : إما أنه لحكم بالتحريم ، وإما إخبار عن الواقع ، أي المؤمنون الكاملون الذين منعوا أنفسهم منه فلا يقعون فيه ، ولا يفعله إلا مشرك أو ضعيف الإيمان ، كما قاله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (١) ".

__________________

الإسفرائيني في مسنده حديث رقم : ٣٦١٦ ، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه حديث رقم : ١٠٨٣ ، وابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم : ١٢٦٠٢ ، والنسائي في سننه حديث رقم : ٣٣٧٤.

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ٦٣٠٤ ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٨٦ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٥٢٨٣ ، وأبو نعيم الأصبهاني في المسند المستخرج على صحيح مسلم حديث رقم : ١٤٨ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ٢٥٦٧ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ٤٠٧٢ ، والنسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٦٨٦٤ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٣٩٣٤ ، والدارمي في سننه حديث رقم : ٢٠٤١ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ١٩١٧٥ ، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى حديث رقم : ٢٣٢ ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار حديث رقم : ٥٦٥٢ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ١٤٤٣٨ ، وإسحاق بن راهويه في مسنده حديث رقم : ٣٦١ ، وعلي بن الجعد الجوهري في مسنده حديث رقم : ٢٣٨ ، وأبو بكر البزار في البحر الزخار بمسند البزار حديث رقم : ٢٨٧٤ ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده حديث رقم : ٦٢٦٥ ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية حديث رقم : ٣٠١١ ، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة حديث رقم : ٢١ ، والهيثمي في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث حديث رقم : ٣١ ، وأبو عوانة الإسفرائيني في مسنده حديث رقم : ١٠٦ ، ويحيى بن محمد بن صاعد في مسنده حديث رقم : ١٦ ، والطبراني في مسنده حديث رقم : ١٢٧٧ ، وعبد بن حميد في مسنده حديث رقم : ٥٣٣ ، والربيع بن ـ

٢٢٣

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ).

قال ابن عرفة : إنما ذكر قذف المحصنات دون قذف المحصنين ؛ لأن لحوق المعرة للنساء أشد ، بدليل قول الإمام مالك رحمه‌الله : قاذف الصبي الذي يطيق الوطء أنه لا يحد ، بخلاف قاذف الصبية المطيقة للوطء ، وما ذلك إلا للحوق المعرة لها.

قوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً).

مع أن مالكا رحمه‌الله ، قال في الضد : إذا قذف أنه يجلد نصف [٥٧ / ٢٧٦] الثمانين وعاقب القذف بثلاثة أمور : حسي : وهو الجلد وعدم قبول الشهادة ، ومعنوي : وهو الحكم عليه بالفسق.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ).

قال ابن عرفة : يؤخذ منها أنه إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم الزوج أن الثلاثة يحدون ؛ لأنه ألغى شهادة الزوج ، بقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، فإذا ثبت إلغاؤها مع انفرادها ثبت مطلقا ، وهي مسألة المدونة في أجزاء المعان.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).

يؤخذ منه في مسألة الغيبة فيمن حلف على طائر أنه غراب ، وحلف الآخر أنها حدأة ، فغاب عنهما أنهما يدينان ولا يحنث واحد منهما ، وكذلك هذان المتلاعنان ؛ لأن أحدهما على الباطل مع أن الله تفضل بأن يستر عليهما ، وقد جاء في حديث ما عز بن مالك والغامدية ، أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قال لهما بعد تمام اللعان : " أحدكما كاذب (١) " ، وتركهما ولم يتعرض لهما ، ولم يقل لهما ذلك قبل اللعان ؛ لأن لعانهما أوجب لهما حرصه يبقيا مهملين من العقوبة.

__________________

حبيب في مسنده حديث رقم : ٨٦٨ ، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه حديث رقم : ١٣٢٩٨ ، وابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم : ٢٢٦٥١ ، والنسائي في سننه حديث رقم : ٥٥٩٤ ، وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء حديث رقم : ٤٤١٣.

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ٤٩٢٨ ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٢٧٤٩ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٤٣٧٧ ، والحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين حديث رقم : ٢٧٤٢ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ٣١٢٣ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ١٩٢٥ ، والنسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٥٤٨٠ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٢٠٥٧ ، وسعيد بن منصور في سننه حديث رقم : ١٤٨٧ ،

٢٢٤

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ابن عرفة : كان بعضهم يقول : إن دل الدليل على الاعتناء بالمخاطب ، فإنه يقال : لا تحسب زيدا قائما ، وإن لم يقصد الاعتناء به ، فيقال : ليس زيد قائما.

قوله تعالى : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

وكان بعضهم يقول : إطلاق الألفاظ على مسمياتها تابع للتركيب الوجودي ، ولا شك إن ظن الخير سبب في قوله : والسبب سابق على المسبب ، هلا عطف بالفاء ، فكان يقال : فقالوا هذا إفك ، قال : لكن يجاب بأنه إذا كانت السببية ظاهرة جلية ، لم يحتج إلى عطفها بالفاء ، وإنما يحتاج ذلك في السببية الحقيقية.

قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).

ابن عرفة : يؤخذ منه أن من قذفه رجل بالزنا ، وعلم من نفسه صدق قاذفه ، وأنه زان فلا ينبغي له السكوت عنه ، بل يرفع أمره إلى الحاكم ، ويقوم بحقه في ذلك حتى يجد قاذفه حد القذف بدليل قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) فكل من لم يأت بالشهادة على صحة قوله فهو عند الله كاذب ، وإن كان في نفس الأمر صادقا ، يؤخذ من الآية أن من رمى عائشة رضي الله عنها ، وكرم وجه أبيها بذلك ، فهو كافر ؛ لأنه كذب بالقرآن ، ومن رمى غيرها من نسائه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ورضى عنهن فهو فاسق ؛ لأن الكل مبرءات ظاهرات غير أن تبرئة عائشة رضي الله عنها ، وكرم وجه أبيها ، وردت في القرآن بخلاف غيرها ، ولم يكن هذا في زوجة نبي قط ؛ لأنه مما يعيب الرجل أن تكون زوجته زانية.

__________________

وابن الجارود النيسابوري في المنتقى من السنن المسندة حديث رقم : ٧٤٢ ، والدارقطني في سننه حديث رقم : ٣٢٥٧ ، والبيهقي في السنن الصغير حديث رقم : ١٢٤٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ١٤١٤٦ ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار حديث رقم : ٤٢٢٦ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٤٣٣٦ ، وأبو داود الطيالسي في مسنده حديث رقم : ٢٧٨٠ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ٦٤٨ ، والشافعي في مسنده حديث رقم : ١١٦٥ ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده حديث رقم : ٥٥٩٤ ، وأبو عوانة الإسفرائيني في مسنده حديث رقم : ٣٧٢٤ ، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه حديث رقم : ١٢١٠٩ ، وابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم : ١٢٩٩٤ ، والنسائي في سننه حديث رقم : ٣٤٣٩.

٢٢٥

قوله تعالى : في امرأة نوح وامرأة لوط : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) [سورة التحريم : ١٠] ، بأن كفرتا فقط لو لا ذلك ما احتيج إلى قوله تعالى : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) [سورة التحريم : ١٠].

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).

قال ابن عرفة : أنعام الله تعالى على العبد له اعتباران : تارة يعتبر من حيث كونه واقعا فهذا يسمى تفضلا ، وتارة يعتبر من حيث كونه مرادا فهذا يسمى رحمة ، كذا كان بعضهم يقول : قال ابن الخطيب : الفضل باعتبار الإمهال في الدنيا ، والرحمة باعتبار تخفيف العذاب في الآخرة.

قوله تعالى : (لَمَسَّكُمْ).

قال ابن عرفة : هذا أبلغ من أن يقول : لأصابكم ، أو لأنا لكم ، أو لوقع بكم ، لأن المس يقتضي تحقيق الإصابة.

قوله تعالى : (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) ، الإفاضة : هي استماع الحديث لإسماعه مع الإجابة ومنه المفاوضة.

قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ).

قال ابن عرفة : الباء للسبب ومعناه قلتموه والسبب مجرد سماعه من ألسنة بعضكم من غير طلب دليل على صحته والإسناد .... (١).

قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا).

فعبر بالكلام والقول أعم من الكلام ، والقاعدة استعمال الأعم في النفي والأخص في الثبوت ، قال : فالجواب : أن الأول في معرض الذم لهم ، فذموا على إشاعة مطلق القول الذي يتناول القيد الخاص ، وما دونه فأحرى أن يذموا على إشاعة القول المتناول للغيب الأخص ، ثم قال تعالى (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ، فنفى ، ولو لا إذ سمعتم هذا القول الخاص سماعا مستكملا لشرائط السماع ، قلتم : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا فأحرى إذ سمعتموه مطلق سماع ، وإن لم يستكمل بعضه أن ترجعوا وتقولوا : لا نتكلم به ، قيل له : إنما هذا لو قيل : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) كلاما فيكون في موضع الثبوت ، وإنما أتى هنا بالكلام في سياق النفي ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ،

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢٢٦

فأجاب باسم الإشارة في قوله ، بهذا يفيد مع قوله : تكلم أنه سماع كلام لا سماع قول ، فلما أثبت الأخص نفاه بقوله : ما (نَتَكَلَّمَ بِهذا).

قوله تعالى : (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

قال ابن عرفة : البهتان أن نقول في الشخص ما ليس فيه ، وهو هاهنا كذلك بزيادة مخالفته للضرورة ، كقولك : الواحد نصف الاثنين لوصف البهتان بالعظم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قال ابن عرفة : يحتمل أن يكون قوله تعالى : (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) كل أركانه.

قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

الرحمة أخص من الرأفة ، فإذا أطعمت فقيرين أحدهما مشرف للهلاك ، والآخر معه بعض زمن يصدق عليك ، أنك رحمت الأول ورأفت على الثاني.

قوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

قال ابن عرفة : المنكر كل ما قبّحه الشرع بما اشتّد قبحه كالزنا ، وشرب الخمر فهو منكر ، وما كان دون ذلك ، كالغيبة ونحوها فهو فحشاء.

قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ).

قالوا : يأتل إما من الإيلاء ، أو بمعنى التقصير.

ابن عرفة : وهو الصواب ؛ لأنه إذا كان من الإيلاء لزم عليه تكليف ما لا يطاق ، ولآن إيلاء أبي بكر كرم الله وجهه وقد وقع وما وقع لا يرتفع ، ولا بد أن يرجح النهي لدوام الإيلاء وتقريره ؛ لأنه إن قاله في قسمته ، فكأنه حدده وهو مجاز وإلا فسد.

قوله تعالى : (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ).

والسعة من عطف الخاص على العام ؛ لأن الفضل هو الزيادة في المال أعم من أن يكون فيه اتساع أم لا.

قوله تعالى : (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

قيل لابن عرفة : هذا دليل على إبطال القول بالإحباط ؛ لأن مسطحا كان ممن خاض في حديث الإفك ، وتولى كبره فلو كان إثمه يحبط لحصل له من ثواب الهجرة لها والمهاجرين في سبيل الله ؛ لأنه من عطف الصفات.

٢٢٧

قوله تعالى : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا).

قال ابن عرفة : العفو عمن قصد الجناية عمدا كان وخطأ ، والصفح بالمتعمد ، بدليل قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [سورة التوبة : ٤٣] ، فإذا شككت في تعدي رجل عليك ثم تركته فهذا عفو ، وإذا تحققت ذلك ثم تركته فهذا صفح.

قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ).

والمراد الكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين ، والفعلات الخبيثات للرجال الخبيثين.

قوله تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ).

قال : عادتهم يوردون : سؤالا ، وهو أن تبرئتهم من هذا يقتضي عدم احتجاجهم للمعرفة ، فيناقض قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ، فأجيب بأنه يغفر لهم لثبوت ما يثبت بسبب رميهم مما هم برآءا منه ، وإما بأن قوله لهم يقتضي الحصر وخصوص هذه المغفرة الخاصة المعنى لهم بها وحدها ، ولذلك قدم المجرور.

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ).

قال ابن عرفة : ذكر القاضي ابن عبد السّلام أنهم اجتمعوا للشهادة في ميدان وفي حقيقة هذه الآية فامتنع الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع من الشهادة عنه حتى يذكر الآية كلها قال .... (١) [٥٧ / ٢٧٧].

قال ابن عرفة : وهذا عندي مستحسن لا واجب.

قوله تعالى : (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ).

ولم يقل : أمر الله أن ترفع ، فالجواب : إن كان المطلق محبوبا للنفس ، فيقال فيه : (أَذِنَ) لأنها بنعتها تطلبه وتفعله ، والإذن خاص مما ترغب النفس في فعله ، والأمر عام فيه وفيما تكرهه النفس وتعظيم هذه البيوت مما تفعله النفوس وتحرص عليه.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا).

إن قيل : ظاهره أنهم يثابون على الأحسن لا على الحسن ، فالجواب هنا : إن قلنا : إن المباح حسن فظاهر ؛ لأن ما فوقه مندوب ، وإن قلنا : إنه ليس بحسن ، فيكون تهييجا على الاتصاف بأعلى الطاعة ، فوعدهم بالثواب على أعلاها دون أدناها.

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢٢٨

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ).

هذه أتباعهم المقلدين ، لأنهم يظنون أن كبارهم على شيء كما يظن الناظر إلى السراب أنه ماء فلا يجده شيئا.

قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ).

هذه في آلهتهم ورؤسائهم المتنوعين ، لأنهم في الظلمات لأنهم يعتقدون أن ما هم عليه حق ، فإذا هم يمشون في الظلمات لا دليل لهم بوجه.

قوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

نقل ابن عرفة هنا كلام المفسرين ، ثم قال : والظلم من معنى الآية أن الشيء بما يثبت بعد نفي الجرم بثبوت نقيضه ، أو نفي الشك في ثبوت نقيضه ، أو نفي لازم نقيضه ، فقوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، راجع لنفي ثبوت الإيمان ، وقوله تعالى : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذا ظلم الكفر لا ظلم المعصية المذكور ، في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [سورة الأنعام : ٨٢].

قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ).

يحتمل أن يكون خص الحلم ، أو بلغوا أن يحتلموا في النوم ، والظاهر الأول ، لأن البلوغ يقضي قطع المسافة وهذا يستدعى الزمان ، فإن قلت : لم لم يقيد استئذان المماليك بالعتق ، كما قيد استئذان الأطفال بالبلوغ؟ فالجواب : أن الأطفال إن بلغوا فلا يزالون أولادا وقرابة ، والمماليك إذا اعتقوا صاروا أجانب.

قوله تعالى : (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، المراد من قبلهم في الزمان ؛ لأن الذين قبلهم في الزمان الأطفال ، ولم يكونوا يستأذنون ، وإنما المراد القبيلة في ذكر بيان الحكم ، أي استأذن الذين تقدم بيان حكمهم قبل هؤلاء ، والكاف للسبب أو للتعليل ، مثل : وأحسن كما أحسن الله إليك.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ).

وقال : بعدها وقبلها (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) ، وأجيب بوجهين :

الأول : قال ابن عرفة : هذه خاصة بالأطفال ، والتي قبلها عامة في العبيد والأطفال ، فأتى منها بالآيات مطلقا غير مقيد بالإضافة وهذه خاصة ، فعبر فيها بلفظ خاص ، ومنهم من أجاب بأن الخطاب للبالغين فأسند الحكم فيه لله تعالى تخويفا لهم وتشديدا عليهم.

٢٢٩

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ).

يحتمل أن يراد في التخلف عن الجهاد ، ويحتمل أن يراد في الأكل من كل جهة ، ويحتمل أن يراد نفي الحرج عمن يأكل مع الأعمى ، وله أن يجعل يده في الإناء ، فيكون إما على حذف مضاف ، أي ليس على مجالس الأعمى حرج ، أو تكون على التعليل كما قال ابن مالك ، أي ليس لأجله حرج.

قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ).

نفى الحرج عن الإنسان في الأكل من البيوت معلوم ، فما فائدته إلا التساوي بينه وبين نفي الحرج عن الأكل من بيت الآباء مع أن طاعة الأم أكد لتكرار الدخول ببيت إلا بإذن الأم ؛ لأن النفقة واجبة على الآباء ، وقدم العمة ؛ لأن الحضانة لها عند الإمام مالك رحمه‌الله دون الخالة ، فإن قلت : أفرد الصديق وجمع غيره ، قلت : إنما أفرده لقلته أو أراد به الجنس.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ).

يحتمل أن يراد مطلق الإيمان ، والكاملون الإيمان ، وهو الظلم ؛ لأن الخبر عندهم أعم من المبتدأ ؛ لأن في المحصور ؛ لأنه أخص بقول : إنما العالم زيد ، والخبر هنا مقيد بتوقيفهم على استئذانه ، إذا كانوا معه على أمر جامع ، فدل على أن المراد الكاملون في الإيمان ، ولا يلزم منه أن يكون أويس القرني منهم ، لأنه لم يرى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يكن معه حتى يستأذنه.

قوله تعالى : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).

لا يؤخذ منه أنه مجتهد ؛ لأن هذا اجتهاد في محل الحكم لا اجتهاد في إثبات حكم شرعي ، كما استأذنه بعضهم في التخلف عن الجهاد ، فإن إبداله عذر يمنعه ويبيح له التخلف فيأذن له.

قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ).

والنهي للتحريم والمصدر مضاف إما للمفعول ، أي دعاؤكم للرسول ، وهو أن الداعي إذا دعا يقول : السّلام عليك يا رسول الله ، ولا يقول : السّلام عليك يا محمد ، فأمروا بالنادب معه أو مضاف للفاعل ، أي لا تجعلوا دعاء الرسول لكم إلى أمر من الأمور كدعاء بعضكم لبعض بحيث تمتثلوا أمره تارة ، وتخالفوه أخرى ، فإن قلت : ما فائدة قوله (بَيْنَكُمْ) ، فالأصل عدم ؛ لأن النهي على المطلق من النهي المقيد ، فالجواب : أنهم إذا نهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم ، أي في حال غيبته عنهم ، فأحرى أن ينهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم وبينه ، أي بحضرته معهم ، فيعلق النهي بالأخص ليدل على ما عداه من باب أحرى.

٢٣٠

سورة الفرقان

قوله تعالى : (تَبارَكَ).

قال ابن عرفة : كلام أبي حيان يقتضي أن (تَبارَكَ) مطاوع بارك ، وكان بعضهم يرده بأن فعل المطاوعة فاعله مغاير لفاعل فعله الأعلى ، مثل : كسرته فانكسر ، فالفاعل منها مختلف وهو هنا متحد ، مثل : علا فتعالا ، وقال : وأجيب : بأنه مختلف باعتبار اعتقاد المعتقد لا باعتبار ما في نفس الأمر.

قوله تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وجه مناسبتها لما قبلها أن تنزيل الفرقان عليه معجزة ، منزل منزلته صدق عبدي ، ومن شرط المرسل أن يكون غنيا عن غيره موصوفا بالملك العام ، والعزة عن الولد والشريك والإنصاف بالقدرة والإرادة.

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً).

إن قلت : كيف هذا وقد قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [سورة يونس : ١٨] ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) [سورة الزمر : ٣] ، فالجواب بوجهين :

الأول : من شرط الإله اختصاصه بالعبادة ، فإذا شارك معه غيره فيها فكأنهم عبدوا شريكه من دونه.

الثاني : أن ذكر الذين شركوه معه فيه عبدوا [...] فيه من دون الله.

قوله تعالى : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً).

فالتغيظ معنويا هو غير مسموع ، كأنهم لما عبدوا الأصنام واتبعوا الشيطان صاروا كأنهم ملكا لهم ، فاحترس عن ذلك بقوله : (لِعِبادِيَ) [سورة إبراهيم : ٣١] ، بخلاف قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، [سورة الحجر : ٤٢] ؛ لأنه إضافة تشريف.

قوله تعالى : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا).

إن قلت : ما يفعل زيد كذا ، نفيت الفعل ، فإن قلت : ما كان لزيد أن يفعل كذا ، نفيت القابلية للفعل ، وإذا قلت : ما ينبغي له أن يفعل كذا ، نفيت الفعل وجعلته محالا ، وإذا قلت : ما كان ينبغي لزيد أن يفعل كذا ، فهو أشد المحال وأبلغه ، لأنك جعلت فعله كالمحال.

٢٣١

قوله تعالى : (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) يوهم أن التمتع ارتفع نسيان الذكر لاقتضاء الآية مخالفة ما بعدها لما قبلها.

قوله تعالى : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً).

يحتمل بالصرف البرهان الصادف لهم عن اعتقاد الباطل ، وبالنص تصحيح أقوالهم.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ، أبلغ من قوله : الذين يعتقدون عدم لقاءنا ، لأن الأول يحتمل التكذيب باللقاء والشك فيه ، وعدم الرجاء أبلغ من الجميع ، لأنه لا مطمع فيه بوجه.

قوله تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) ، لف ونشر ، والاستكبار راجع لإنزال الملائكة عليهم ، والعفو لمطلب الرؤية ، فإن قلت : ما أفاد قوله تعالى : (فِي أَنْفُسِهِمْ)؟ فأجاب الزمخشري : بأنهم أضمروا الاستكبار في أنفسهم ، وهو الكفر والفساد ، كما قال تعالى (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) [سورة غافر : ٥٦].

قال ابن عرفة : أو يجاب بأن المراد لقد استكبروا استكبارا راجعا إلى رؤياهم حيث جعلوا لها مسموعا على غيرها ، وقد قال الله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات : ٩٦] فهم مخلوقون لله فلا يمتنع أن يخص بعض خلقه بالنبوة والرسالة دون بعض.

قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) [٥٧ / ٢٧٨] (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ).

قال ابن عرفة : عادتهم يقولون : لم عطف ، وكذلك هنا بالواو ولم يعطفها في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ، قال : فكانوا يجيبون بأن الواو تقتضي الموافقة على ثبوت ما قبلها حسبما أشار إليه ، في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [سورة الكهف : ٢٢] ، فقالوا ثم إن هذا القول هو الصحيح ، وهو أنهم سبعة ولا شك أن اتخاذهم القرآن مهجورا أمر ثابت صحيح ، وتنزيل القرآن جملة واحدة غير ثابت ، فلذلك عطف الأول دون الثاني ، وأجيب : بأن كذلك الثانية دخلت في الجملة وهي تعليل وسبب لما قبلها ، فلذلك لم يعطف بخلاف الأولى ، قال ابن عطية : وروي عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : " من علق مصحفا ولم يتعاهده يورد القيامة متعلقا به ، يقول : هذا اتخذني مهجورا انظر يا رب بيني وبينه".

٢٣٢

قوله تعالى : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ).

أي بالحقيقة ، والمعنى ، وقوله تعالى : (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ، راجع للفظ ، وكيفية دلالته على المعنى.

قوله تعالى : (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً).

قال : كان بعضهم يفسره : بأن طريقتهم التي يمشون عليها على وجوههم إلى جهنم صعبة المسلك.

وقوله تعالى : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ، إشارة إلى بعدها ، فهي بعيدة واعرة صعبة المسلك.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً)(١) ، ظاهرة أن هارون عليه‌السلام غير رسول ، بل هو تابع لموسى عليه‌السلام ، وظاهر قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا) [سورة طه : ٤٣ ـ ٤٤] ، (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [سورة مريم : ١٩] أنه رسول لكن الرسالة مقولة بالتشكيك ، قال : قصة موسى تكررت في القرآن لتكرر اليهود عليه ومنهم .... (٢) فلذلك كررت بألفاظ مختلفة.

قوله تعالى : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ).

قال ابن عرفة : هذه عندي دليل لمن يقول إن العقل لم يخلوا من سمع ، وأجيب : بأنها أنما دلت على ضرب المثل لمن ذكر المقرون الذين بينهم ، ويعني من قبل نوح ، ومن قبل المذكورين ، والعفو إحسانه إنما يحتج كذلك ، بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤] ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [سورة الفرقان ٤٠] ، قال : ومنهم من قال إن مطر مصدر على حذف الزوائد ، ومنهم من جعله اسم مصدر بخلاف قولك : أمطرت إمطارا فإنه مصدر بلا خلاف ، وكذلك عذبته عذابا بخلاف قولك : تعذيبا.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها).

أي أغفلوا فكأنهم لم يرونها.

__________________

(١) وردت في المخطوطة : وجعلنا معه أخاه وزيرا ووردت في المصحف وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً وقد أثبتنا ما في المصحف.

(٢) بياض وسقط في المخطوطة.

٢٣٣

قوله تعالى : (بَلْ كانُوا).

إضراب انتقال ، ولا بد أن يكون المنتقل إليه أبلغ من المنتقل عنه ، قال : وعادتهم يقررون الأبلغية قلنا : بأن حصول النتيجة بأحد أمرين : إما عن اللازم مقدمة ، بمعنى أن المقدمة استلزمت نتيجة ، أو عن قياس تمثيلي فكونها عن لازم مقدمة أقوى من كونها عن قياس تمثيلي ، قال : فقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) ، راجع للقياس التمثيلي ، وهو أن مشاهدتهم أباد المهلكين وثأرهم مع الله تعالى أوجدتهم من عدم ثم أهلكهم وهو كذلك أنهم وجدوا من عدم وحالهم كحالهم في العصيان ألا ترى أن ابن الخطاب استدل على إثبات القياس ، بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [سورة الحشر : ٢] ، والثاني : أن هلاكهم بعد إيجادهم من عدم يستلزم اتصاف الله تعالى بالقدرة والإرادة فدل على صحة قدرته على إعادتهم للحشر والنشر والحساب.

قوله تعالى : (كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا).

شهادة منهم له بأنه قد أبلغ وسعه في تبليغ ما أمر به حتى قارب إضلالهم عن آلهتهم ولم يضلهم عنها ، ومن قارب فعل الشيء ولم يفعله هو على نوعين : إما لعجزه عن طريق فعله ، وإما لمانع وجده فيه يمنعه من فعله ، والعجز هنا منتف فطريق الوجود ، والمانع منهم يمنعهم من الضلال عن آلهتهم ، فكذلك لو لا أن صبرنا عليها ، لأنها لا تلزم إلا حيث يكون الكلام محتملا ، تكون إن نافية ومخففة من الثقيلة ، فيلزم اللام المخففة فرقا بينهما وبين النافية ، والكلام هنا صريح أنها مخففة.

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ).

قال الزمخشري : فيه تقديم وتأخير ، أي : اتخذ هواه آلهة وقدم لفظ الآلهة اعتناء به.

ابن عرفة : الصواب ألا تقديم فيه بوجه ؛ لأن المقدم في هذا التركيب منفي بثبوت المؤخر ، كقولك : اتخذ زيد نومه مهجده ، أي انسلخ عن نومه وصيره تهجدا ، فهذا مدح ، ولو عكستها تقول : اتخذ زيد تهجده نومه ، أي انسلخ عن تهجده وصيره نوما ، وكذلك قولك : اتخذ زيد تجارته عبادة فهذا مدح ، ولو عكست لصار ذما ، فالمراد هنا أنه انسلخ عن الآلهة وعبادته إلى اتباع هواه ، ولو قال : اتخذ هواه آلهة لصار مدحا من ناحية أنه انسلخ عن هواه إلى عبادة آلهة ، قيل لابن عرفة : إنما حمله الزمخشري على أنه جعل هواه حاكما عليه ، فقال : إنما المعنى ما قلت لكم وهو الصواب ، وكذلك

٢٣٤

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [سورة النساء : ١٢٥] ، نقله من الاختصاص ، بتسميه إبراهيم إلى الاختصاص بالخليل.

قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً).

معطوف على مقدر ، أي أنت تصده عن ذلك فتكون عليه وكيلا.

قوله تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ).

أم بمعنى بل والإضراب بها انتقال وتقدم ، أن الانتقال إنما يكون من الشيء إلى شيء أبلغ منه في بابه إما مدح أو ذم ، وبيان الأبلغية هنا أن ، الأول : ذم لهم بخطابهم في أمر تصديقي ، وهو اتخاذهم آلهتهم هواهم ، والثاني : ذم لهم بخطاياهم في التصور وهو أفج من الخطأ في التصديق ، فإن قلت : كيف عائد بين السمع والعقل وليا بضدين ؛ لأن السمع طريق للعقل ، قلنا : أوجه المعاندة أن السمع أمر حسي ، والعقل أمر وجداني.

قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ).

فرق كون الإنسان لا يتصور حدوث العالم ، وبين كونه يحكم بقدم العالم ، فكونهم لا يسمعون ولا يعقلون راجع لاتصافهم بقدم التصور القابل للزوال ، وكونهم كالأنعام راجع لتصور النقيض الذي لا يقبل الزوال ، وهو الجهل المركب والأول بسيط.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا).

الضمير المفعول عائد على أنها وتصرفه ، إما أنزلناه بالفعل أو بقدر ، فالاتعاظ إنما هو بأنزلناه ، فكان ابن عبد السّلام يقول : هذا مصحح لما يقول المنطقيون من أن النتيجة ما تنشأ إلا عن مقدمتين فصاعدا ؛ لأن تصديقه إنما هو بتنويعه ، فالتذكر إنما حصل بتنوعه وتعدد أقسامه ، فإن قلت : هلا قيل : صرفناه لهم ، قال : عادتهم يجيبون : بأنه إلماع بكمال خيبتهم ؛ لأن تصريفه لهم فيه متعة لهم مع أنهم حصل لهم بتصريفه نقيض ذلك ، فلذلك قال بينهم.

قوله تعالى : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

أو لم يقل : فأبى أكثرهم ، لأن العدول عن الضمير إلى الظاهر تأكيد في نسبة الكفر إليهم.

٢٣٥

قال الزمخشري : وعن ابن عرفة (١) : ما من عام أقل مطر من عام ، بل الأعوام كلها متساوية ، وإنما يختلف مجمل إنزال المطر ، ينزل في بعض البلاد دون بعض ، ويقل في بعض ويكثر في بعض.

قال ابن عرفة : وهذا ما يمكن أن يقوله ابن عباس باجتهاده ، وإنما هو مستند فيه إلى حديث سمعه من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، قيل لابن عرفة : قد قال الزمخشري : إنه تلا هذه الآية ، فكأنه استدل بها على ما قال ، فقال ابن عرفة : لا دليل فيها بوجه.

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا).

أي لو شئنا ، راحتك لبعثنا ، ولكن أردنا تعبك في ذلك ليعظم لك الأجر والثواب.

قوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ).

ليس المراد النهي عن طاعتهم ، فيما يأمرونه ، وإنما المراد النهي عن طاعتهم في لازم ذلك ، كأنهم يأمرونهم باتباع آلهتهم ، ومن لازم ذلك كفه عن جهادهم ، وعن دعائهم إلى الإيمان بالله ورسوله.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ).

البناء على الضمير للاختصاص ، والإتيان بالموصول في الخير تأكيد في الاختصاص [٥٧ / ٢٧٩] ؛ لأن قولك : وهو الذي فعل كذا يفيد الاختصاص.

قال ابن عرفة : فإن ابن عبد السّلام حكى عن بعضهم في هذا ، وفي قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) [سورة الرحمن : ١٩] أنه كان يستشكل الآية ، ويقول أولها مناقض لآخرها ، بأن قوله تعالى : (مَرَجَ) يعني اختلاطهما ، وقوله تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [سورة الرحمن : ٢٠] يقتضي افتراقهما ، قال : واجب : بأن افتراقهما بالذات لكون المالح لا يزال عذبا ، واختلاطهما بالحس والمشاهدة ، وقد ذكروا أن في تضمنه واد يصب فيه البحر المالح أحيانا فلا يغيره ، ويصب هو في البحر أحيانا فلا يغيره ، قال : وعادتهم يقولون : الأصل يقال : لقيت رجلين أحدهما صالح والإتيان باسم الإشارة فرع عن اسم الظاهر ، فلما قال : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ، وكذلك في سورة القصص : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ

__________________

(١) أورد المصنف في الحاشية : لعله ابن عباس.

٢٣٦

وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [سورة القصص : ١٥] ، قال : والجواب : أنه إن أريد التقسيم بالأمور العرضية فيؤتى باسم الإشارة ، وإن أريد التعرض بالأمور الذاتية ، فيقال : أحدهم كذا والآخر كذا ، كما في حديث عبد الله بن عمر : " فما كنت أنا ومناجي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله".

قوله تعالى : (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

أي كان لم يزل ، فإن أريد القدرة الصالحة فالمراد الدوام ، وإن أريد القدرة الإيجادية فلا دوام لئلا يلزم قدم العالم.

٢٣٧

سورة الشعراء

قوله تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً).

قال ابن عرفة : إن قلت : ما وجه الربط بين هذه وبين قوله : (فِينا) ، قلت : أفاد الترتيب ، تارة يكون للتعليم ، وتارة يكون للاستخدام ، فتربيته لنتخذه خديما فهذه نقمة ، وتارة تكون نعمة ، وهو أن يريه محبته وشفقته عليه ، ولم يدخلها على ما بعد ؛ لأنه يحنث عنه بالمخالفة ، فإن قلت : ما أفاد قوله : (مِنْ عُمُرِكَ) ، قلنا : لفظ العمر نعمة ؛ لأنه مأخوذ من العمرى المذكورة في الفقه ، فإنها هبة المنافع ، وذلك نعمة ، فإن قلت : هلا قال : ولبثت فينا من عمرك أعواما ، فهو داخل في باب النعمة والامتنان ، قلت : لفظ العمر تغني عنه.

قوله تعالى : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ).

الظاهر أن الكفر فيه الإيمان ، وحكى الآمدي وابن الحاجب عن المعتزلة امتناع اتصاف النبي بالكفر قبل النبوة وبعدها عقلا ، وجوز عليهم ذلك أهل السنة عقلا ، قالوا : لكنه لم يقع ، وزعم فرعون أنه وقع ، وهذا لا أذكره بمحضر العوام ، وهكذا هنا فإن الله تعالى عاصم من يريد بنبوته من كل بدع ، ومن بعض الصغائر ، وهي صغائر الخمسة فما بال الكفر ، وهذا على أصل مذهبه.

قوله تعالى : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).

قال سيبويه : إذا جواب وجزاء ، قال ابن الصفار : فهم الشلوبين على أنه شرط وجواب ، فأخذ الجزاء بمعنى الشرط ، فقوله : إذا أكرمك ، لمن قال : أنا أزورك ، معناه : إن تزرني أكرمك ، قال في هذه الآية معناه : إن كنت فعلتها فأنا ضال ، فلزمه إثبات الضلال لموسى صلّى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم ، وأجاب : بأن المعنى قوله : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، بالنعم فقال موسى عليه‌السلام : إن كنت كافرا بأنعمك فأنا ضال ، أي جاهل بأن الوكزة تقتل القبطي ، ورده ابن الصفار ، بأن الكفر إذا ذكر مطلقا فهو ضد الإيمان ، وإن أريد به غير قيد له ، وكذلك إنما هو على هذا المعنى ، ولو سلمناه ففيه عكس المعنى ؛ لأنه إذا كان فعله ذلك كافرا بالنعمة عليه فليس من الضالين بل من المبين ، وهذا بنا على شرط وجواب ، وقال : لاحتاج إلى هذا بل مراد سيبويه في نعم إنها عدة وتصديق ، وذلك لا يجتمع فيه بل هي تصديق لما مضى عدة في المستقبل ، فقولك : نعم لمن قال : فعلت كذا تصديق ، ولمن قال : افعله عدة ، وكذلك إذا قال : أنا أزورك ، فيقول : إذا أكرمك فهو جواب وجزاء ، وإذا

٢٣٨

قلت : لم أنا أكرمك ، فهذا جواب خافيه ، والآية لا إشكال فيها على هذا ؛ لأنه يقول : إذا فعلت وأنا جاهل فيكون قبيحا له واعتذارا بالجهل من النهي كلامه.

قال ابن عرفة : عادتهم يفرقون بين نعم وإذا ، وإن الجائية لازمة لإذا لا تفارقها ، وإنما اختلفوا في كونها جزاء بخلاف نعم ، فإنها تارة تكون عدة وتارة تكون تصديقا ، قال : وقول ابن الصفار لو كان كما قال الشلوبين لكان [.....] بإعادتهم يردون عليه بوجهين :

الأول : مقصودة باعتبار حالها لا باعتبار ما لها ، ولذلك قال الفقهاء فيها : إذا ضرب الأب ولده يلكزه حتى مات أنه يقتص منه ، خلاف غير الأب حتى أن بعض الطلبة يغلط ويقول : اللكزة لا يقتص منها ، إذا آلت إلى القتل وليس كذلك ، فقصد موسى الضربة ولم يقصد القتل.

والثاني : أجاب بعض الطلبة : بأنه قصد القتل وظن أنه الحكم ثم تبين له الحكم بخلاف ذلك.

قال ابن عرفة : وعادتهم يقررون كونها جزاء ، فإنها جزاء عن استغاثة من استغاثة من استغاثه ، لقوله تعالى : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [سورة القصص : ١٥] ، فهي جزاء من استغاثة المستغيث له ، قلت : قال صاحبنا ابن القصار : قوله واعتذاره بالجهل جزاء مشكل أن الجزاء غير الفعل ، وهو هنا نفس الفعل ، والمراد بالضالين إما المخاطبين والناسين والذاهلين عن الصواب ، وهذه معان متقاربة.

قوله تعالى : (فَوَهَبَ).

الآن ثبوته ورسالته كان في زمن واحد.

قوله تعالى : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

قال الجوهري في الصحاح : التعبد الاستعباد ، وهو أن يتخذه عبدا ، وكذلك الاعتبار ، وفي الحديث : " ورجل اعتبد محررا" ، قلت : أي اتخذ عبدا وهو حر والاعتبار مثله ، قال الشاعر :

علام تعبدني قومي وقد كثرت

فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان

قال ابن عرفة : وكذلك التعبد ، قال الشاعر :

تعبدني غير ابن سعد قطعته

وغير ابن سعد لي مطيع ومقطع

٢٣٩

أي اتخذني عبدا ، وكان الناس يرونه عبدا مطيعا لأمري.

قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ).

إن قلت : لو أعاد الفاعل ظاهرا أو هو من تمام جملة تقدم ذكره فيها بدليل قوله :

تقدم حرف العطف ، قلنا : لقرابة مقالة القبح ، ولذلك يقول ابن الحاجب : قالوا كذا ، ويقول سيبويه : زعم الخليل في قوله : انفرد به في الحسن والقبح.

قوله تعالى : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ).

وقال تعالى في طه : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [سورة طه : ٤٩].

قال ابن عرفة : السؤال بمن عن الحقيقة باعتبار المعقول منها ، والسؤال بما عن الحقيقة على الإطلاق والإبهام.

قال ابن عرفة : والحكماء قالوا : لا يجوز إدراك بحقيقة الذات الكريمة والعلم ، لأن ذلك إنما ضروري أو نظري ، فلو كان ضروريا لعلمه كل ، والنظري يعلم إما بالحد أو بالرسم ، والحد مركب من الجنس والفصل ، فيلزم عليه تركيب الذات الكريمة وهو محال ، والرسم لا تفيد إدراك الحقيقة بوجه ، ومذهب أكثر المتكلمين بأن إدراكها جائز عقلا غير واقع ، قال ابن الخطيب في المطالب العالية : روي أن بعض الزنادقة قد أنكر الصانع عند جعفر بن محمد الصادق ، فقال له جعفر : ما حرفتك؟ قال : التجارة ، فقال : هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، قال : هل رأيت أهواله؟ قال : نعم ، هاجت مرة رياح هائلة فكسرت السفينة ، وغرق الناس ، فتعلقت ببعض ألواحها وبقيت في ملاطم الأمواج حتى اندفعت إلى الساحل ، قال له : فلما أذهب هذه الأشياء عنك أسلمت نفسك إلى الهلاك ، أم كنت ترجوا النجاة؟ فقال : كنت أرجو النجاة ، فقال : ممن كنت ترجوها؟ فسكت ، فقال جعفر : من إلهك الذي كنت ترجوا ، هو الذي سلمك من الغرق ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة العنكبوت : ٦٥] ، وكان أبو حنيفة شديدا على الدهرية ، وكانوا ينتهزون الفرصة في قتله ، بينما هو قاعد في مسجده يوما إذ هجم عليه جماعة بسيوفهم مسلولة وهموا بقتله ، فقال : أجيبوا عن مسألة ثم [٥٧ / ٢٨٠] افعلوا ما شئتم ، فقالوا : هات ، فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مملوءة بالأحمال والأثقال ، أخذتها أمواج متلاطمة وأرياح مختلفة ، وهي تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ، هل يجوز ذلك بالعقل؟ فقالوا : لا ، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يا سبحان الله ، إذا لم يجز هذا فكيف تجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وسعة أطرافها

٢٤٠