نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

الروحيّة ، واتّسع أكثر فاستُخدم للإشارة إلى إحاطة الله الوجوديّة بجميع الأصوات.

وقد تستعمل هذه الكلمة بمعنى الفهم والإدراك أحياناً ، كما ورد في الآية : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَايَسْمَعُونَ) (١). (الانفال / ٢١)

«بصير» : من «بصر» (على وزن سَفَرْ) وتعني العين كما قال الراغب في مفرداته ، وقد تأتي بمعنى حدّةُ النّظر أحياناً ، لذا قد تستعمل بمعنى قوّة الإدراك والبصيرة الباطنيّة «البصر والبصيرة» أحياناً ، كما ورد في قوله تعالى : (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). (ق / ٢٢)

وقد ذكر «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً نفس هذه المعاني لكلمة «بصر» ، في حين نجد أن «صحاح اللغة» فسّرها بمعنى حاسّة النظر ، وبمعنى العلم أيضاً ، وفسّرها «المصباح» بمعنى النور الذي يُمكن للعين رؤية المبصرات عن طريقه.

لكنه يُستنتَجُ من مجموع كلمات أصحاب اللغة وموارد استعمال هذه الكلمة ، أنّها تعني أولاً عضو النظر ، ثم قوّة النظر ، وبعدها استُعمِلَتْ بمعنى الإدراك الباطني والعلم ، وفي خصوص الباري تعالى تُستعمل بمعنى إحاطته الوجودية بالمبصرات.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

هو السميع البصير :

بعد أن نفت الآية الأولى وجود المثل عن الله تعالى ، وصفته بصفتي السميع والبصير : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصِيرُ).

وواضح أنّ المقصود من «ليس كمثله شيء» يشمل كلاً من ذاته وصفاته وأفعاله ، لأنّ ذاته واجبة الوجود ، وصفاته وأفعاله لامتناهية ، وما اعتقده بعض المفسرين من أن نفي المثل والشبيه الوارد في هذه الآية يشمل الذات المقدّسة فقط ولا يشمل الصفات ، محض اشتباه.

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ مقاييس اللغة ؛ لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٨١

صحيح أنّ هنالك صفات كالعالم والقادر والسميع والبصير ، تطلق على الخالق والمخلوق ، لكنّه لا ريب في أنّ مفاهيمها متفاوتة في هاتين الحالتين. لذا فقد قال بعض المفسرين : إنّ الآية أعلاه تفيد الحصر ، أي أنّ الله تعالى هو السميع والبصير فقط ، لأنّه تعالى سميع بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، وبصير كذلك ، أي يعلم جميع المسموعات والمبصرات ولا أحد غيره مثله في هاتين الصفتين.

فالبشر وسائر الاحياء التي تمتلك عيوناً وآذاناً تدرك فقط أجزاء محدودة من الألوان والأصوات ، وقد ثبت الآن علميّاً أنّ الامواج الصوتية التي تعجز اذن الإنسان والحيوانات عن سماعها تفوق بكثير ما يمكن إدراكه ، وهكذا في مورد الألوان والمرئيات.

* * *

يعلم ما تعملون :

بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى عباده في الآية الثانية بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل ، وصف نفسه بهاتين الصفتين اللتين لهما علاقة وثيقة ولطيفة بالأمرين الواردين في بداية الآية حيث قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْامَانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ انْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ انَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً).

وكما نعلم فإنّ الأمانات الواردة في الآية ذات معنى واسع وعميق ، وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام بأنّها تشمل حتى مسألة إمامة وقيادة الناس ، فهي أمانات إلهيّة ويجب أن تودع عند أهلها (١).

وكذلك فإنّ تعبيره سبحانه بكلمة «الناس» يشمل جميع البشر حتى من هم غير مسلمين ، أي ينبغي رعاية اسس العدالة بين جميع بني البشر ، ومعاملة الصديق والعدو ، والغريب والقريب بالتساوي.

__________________

(١) وردت روايات كثيرة في هذا المجال ، ولزيادة الاطّلاع راجع تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٨٠ ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٦.

٨٢

للبحث حول مسألتي الأمانة والعدالة ، اللتين هما روح المجتمع الإنساني وروح الحكومة الإسلاميّة ، محلٌّ آخر طبعاً ، وسنتاول ذلك فيما بعد. الغرض هنا هو معرفة علاقة هاتين المسألتين بصفتي «السميع» و «البصير» المنسوبتين إلى الله تعالى.

وهذه الجملة بالحقيقة هي تحذير لكل من يتولى منصباً رئاسياً ، أو يأخذ على عاتقه حمل أمانة معينة ، أو قضاءً وحكماً بين الناس ، وهذا التحذير كأنّه يقول لنا : إعلموا بأنّ الله تعالى رقيب عليكم يعلم ما تعملون ، ويسمع ماتقولون ، وهذا يثبت بأنّ لصفات الله جانباً تربوياً بالإضافة إلى مسألة العقيدة.

بالإضافة إلى أنّه من المحتمل أن تكون هاتين الصفتين إشارة إلى نقطة اخرى ، وهي أنّ مسألة أداء الأمانة والحكم بين الناس تحتاج إلى اذُنٍ سميعةٍ وعينٍ بصيرةٍ ، فلا يمكن البتّ في الامور بدون سماع صوت المظلومين ، ومعرفة حقيقة مظالمهم ، والتمعُّن الكامل في هذه الأمور ، ويجدر الإلتفات إلى أن فعل «كان» يدل على ملازمة هذه الصفات للذات الالهيّة المقدّسة ، فهو سبحانه وتعالى سميعٌ بصيرٌ دائما وأبداً.

وما يجدر ذكره هو تقارن هاتين الصفتين (السميع والبصير) في مواضع اخرى أيضاً من القرآن.

والملفت للنظر هو تقدم صفة السميع على البصير في كل مواضع القرآن التي وردت فيها هاتان الصفتان سويّة ، ولعلّ السّر في ذلك يكمن في كون القول يسبق العمل ، وحيث إنّ هذه الآيات تهدف إلى تنمية الحالات التربوية للإنسان ، فهي تريد أن تخاطب الإنسان وتقول : «ياأيّها الإنسان إنّ ربّك يسمع أقوالك ثم يرى أعمالك».

هو السميع والعليم :

دار الحديث في الآية الثالثة عن «السميع» و «العليم» حيث ذكرت المظلومين وسمحت لهم بالاعلان عن مظلوميتهم وفضح الظالمين ، قال تعالى : (لَّايُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).

٨٣

أمّا المقصود من «الجهر بالسوء» ، فقد قال بعض المفسّرين : إنّه بمعنى لعن المظلوم للظالم ، وفسّره البعض الآخر بالسّب والشتم ، والبعض الآخر بمعنى الترافع إلى القاضي ، أو بمعنى تعرية ظلم الظالمين أمام الناس في الغيبة والحضور.

«لكن مناسبة الحكم للموضوع» توجب إباحة هذه الأمور في مجال دفع الظلم ، وكسب الرأي العام ضد الظالم فقط ، لذا فمن الأفضل أن تنحصر مسألة سب وشتم الظالمين بالمجال الذي تكون عاملاً مساعداً للنهي عن المنكر ومحاربة الظلم والفساد.

وجملة (وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) تصلح في أن تكون مستثنى ، كما تصلح أن تكون مستثنى منه أيضاً ، أي أنّها تحذير للمغتابين الذين لم يتعرضوا للظلم ، كما أنّها تحذير للمظلومين لئلا يتعدوا حدود الله ، ويراعوا العدل والانصاف.

والجدير بالذكر هو أنّ السبب في ذكر صفتي السميع والعليم يكمن في تحدث الآية عن الجهر بالسوء ودوافعه الذاتيّة الخفية ، فقالت : بأنّ الله يسمع هذا الكلام ، وهو عليم بنيّات المظلومين الذين يجهرون بمظلوميتهم.

وأمّا ماقاله البعض : من أنّ مفهوم الآية هو جواز رد الشتم بالمثل ، كما لو قال أحد لشخص : (أيّها الزاني) ، يجوز لهذا الشخص أن يرد عليه بذلك ، خطأ كبير. لأنّه يجب مواجهة ظلم الظالم بإحقاق الحق ، لا بارتكاب ظُلمٍ آخر ، ويجب النهي عن المنكر ودفع شر الظالم ، لا ارتكاب منكرٍ آخر وإيجاد ظالمٍ آخر.

على أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تدلّ على رفض الإسلام الركون إلى الظالمين ، بعكس مانسبه البعض إلى السيّد المسيح عليه‌السلام من أنّه قال : «لو ضربك أحد على خدّك الأيمن ، فقدم له خدَّك الايسر»!

جهادكم :

الله يرى ويعلم ، في الآية الرابعة نُلاحظ تعبيراً جديداً أيضاً ، حيث أمرت الناس بالالتفات إلى هاتين الصفتين الإلهيتين (السميع والعليم) ، قال تعالى : (وَقَاتِلُوا فِى سَبْيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا انَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ).

٨٤

والتعبير بعبارة «فِى سَبْيلِ اللهِ» تعبيرٌ لطيفٌ وغنيٌّ جدّاً ، حيث وضَّح للجميع بأنّ الهدف من الجهاد الإسلامي ليس كسب السلطة الدنيوية واحتلال الدول ـ كما اتّهمنا به الكثير من مفكِّري الغرب، بل فتح الطرق إلى الله ـ طرق الطهارة والتقوى والحق والعدالة ـ.

وجملة (وَاعْلَمُوا انَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ) تُحذِّر جميع المجاهدين المسلمين لكي يراقبوا أقوالهم ونيّاتهم ، ويتجنبوا كُل مايُشوِّه المعنى السامي والجميل لكلمة : (فِى سَبْيلِ اللهِ). وكذلك فإنّها تزيد من معنوياتهم عندما يثقون بأنّ الله معهم أينما كانوا ، ويعلم حالهم.

إنّه قريب منكم :

وفي الآية الخامسة يُطالعنا تعبير جديد ، وهو اقتران مفهوم «السميع» مع مفهوم «البصير» ، حيث قال سبحانه مخاطباً رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَانِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوْحِى إِلىَّ رَبِّى انَّهُ سَمِيعٌ قَريْبٌ).

وهذه الآية تشير إلى احتمال ضلال الرسول بدون الوحي الإلهي ، وأنّ الذي يعصمه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخطأ ويهديه إلى الحق والصواب هو الوحي الإلهي ، لا التفكُّر والاستدلال البشري المعرض للخطأ.

وقد ورد في بعض التفاسير بأنّ جماعة من المشركين قالوا للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد ظللت يامحمد ، لأنّك تركت دين أجدادك ، فنزلت هذه الآية وأجابتهم عن لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأنّه لو كنت أعتمد على نفسي في هذا الأمر لكنتم محقين في اتهامكم لي بهذه الاتهامات ، ولكن ارتباطي بالوحي الإلهي لا يبقي معنىً للضلال في هذه الحالة ، وذلك لأنّه تعالى يعلم أسرار الغيب ، (وهي العبارة التي وردت في الآيتين السابقتين) ، وهو السميع البصير (العبارة الواردة في الآيات الثلاث السابقة) وهو السميع القريب (هذه العبارة الواردة في ذيل هذه الآية المعنية في بحثنا هذا).

ويستنتج من هذه الآية أيضاً أنّ الاعتماد على النفس هو الذي يقود الإنسان إلى الضلال ، وأنّ الاعتماد على القوة العقلية أيضاً لا يوصله إلى مكان معين ، وأنّه يحتاج لبلوغ

٨٥

مراده إلى الاستنارة بنور الوحي الإلهي.

والملاحظة الأخيرة هي أن قرب الله منّا ليس كقرب بعضنا من بعض ، بل هو أقرب إلينا من أنفسنا ، كما سنبحث هذا في محلّه إن شاء الله تعالى.

إنّه سميع الدعاء :

طرحت الآية السادسة تعبيراً جديداً أيضاً ، حيث وصفته تعالى بسميع الدعاء ، فنقلت عن زكريا عليه‌السلام عندما رأى مقام ومنزلة مريم عليها‌السلام ، فقال : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لى مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَةً طَيِّبَةً انَّكَ سَمْيعُ الدُّعَاءِ) (١).

وبالرغم من أنّ السميع من السمع ، لكنها في مثل هذه الحالات تعطي معنى السامع ومعنى المجيب. وذلك لأنّ من لم يستجب لنداء معين كأنّه لم يسمعه (٢).

إنّه تعالى بصير :

أكدت الآية السابعة على مفهوم البصير بما يعمل الإنسان ، والذي يُعد المحور الأساس للمسائل التربوية ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

وذكر هذه الجملة بعد إصدار سبعة أوامر حول رضاعة الأولاد ، وحق الأولاد والأمهّات والمرضعات ، ومسؤوليّة الوالد تجاههم ، وبديهي أن فقدان التقوى هنا ، وعدم خوف الإنسان من المراقبة الإلهيّة سوف يكون مانعاً من إيجاد علاقات اجتماعية سليمة داخل الأسرة لحفظ حقوق الجميع ، وقد أثبتت التجارب صعوبة توطيد أسس الحق والعدالة في النظام الأسري باستعمال قوّة القانون والخوف والعقوبات ، وأنّ السبيل الوحيد لذلك هو حلول روح التقوى والإيمان بالله سبحانه وتعالى وبأنّه بكل شيء بصير.

__________________

(١) «الذرية» بمعنى الولد وتطلق على المفرد والجمع بلفظ واحد ، لكنها اطلقت هنا واريد منها المفرد وذلك بقرينة «ولياً» التي جاءت في الآية ٥ من هذه السورة.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ١٣١٤ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٢ ، ص ٣٠ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٣ ، ص ١٢٨ في ذيل الآية مورد البحث.

٨٦

إنّ الله خبير بأحوال العباد :

يُلاحظ في الآية الثامنة تعبيراً جديداً أيضاً ، وهو اقتران مفهومي الخبير والبصير مع بعضهما ، فقد تحدثت الآية في بدايتها عن الوحي الإلهي ، وانزال القرآن الكريم بعد الكتب السماوية السابقة له ، ثم قال تعالى : (انَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصِيرٌ).

إنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ هذا الكتاب السماوي يتناغم مع وضعيّة البشر واحتياجاته في جميع المجالات ، لأنّه نزل من لدن خبير بكل شيء وبصير بكل حوائج الإنسان.

وقد فُسرت هذه الآية أيضاً بأنّها ردٌّ على إشكال من كانوا يعترضون على انزال القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه يتيماً وفقيراً ، فقال تعالى : بأنّه الخبير والبصير بعباده ويعلم أيّهم أكثر استعداداً لتحمل عبء الرسالة الشريفة. (ولا يمكن الاستدلال على هذا المعنى بقرينة الآية التي تلت هذه الآية) (١).

ولا بأس بالجمع بين التفسيرين.

وذهب بعض المفسّرين : إلى أنّ كلمة خبير هنا كناية عن الاحاطة بالأمور المعنوية والروحيّة ، وبصير كناية عن الاحاطة بالامور الجسمانية ، ولهذا السبب تقدمت كلمة الخبير على كلمة البصير.

وبالرغم من أنّ كلمة الخبير المشتقة من الخبر ذات معنىً واسع جدّاً يشمل كُلّ احاطة بظواهر الامور وبواطنها ، إلّاأنّ اقترانها بصفة البصير يوحي إلى كونها كناية عن الاحاطة بباطن الأمور (وقد ذكر الراغب في مفرداته بأنّ أحد معاني هذه الكلمة هو العلم بباطن الأمور).

إنّه بصير بالمشاكل التي تواجه عباده :

ذكرت الآية التاسعة صفة البصير فقط ، وأمّا ما جاء من أنّه بصير بعباده وحاجتهم إلى الامداد الإلهي. فهذا جاء نقلا لخطاب مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه عن آل

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٢٤ ؛ في تفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٣٤٦ ، فيه إشارة إلى هذا المطلب.

٨٧

فرعون وبذل النصح لقوم موسى عليه‌السلام عندما كانوا يخطّطون لقتله ، وهدّدهم بالعذاب الإلهي وصرفهم عن هذا العمل فقال لهم : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا اقُوْلُ لَكُمْ) ، فإن حملتم كلامي هذا على التعاون مع موسى عليه‌السلام وقصدتم ايذائي فاني : (وَأُفَوِّضُ امْرِى الى اللهِ انَّ اللهَ بَصيرٌ بِالْعِبَادِ).

وبالتالي فقد نجّى الله سبحانه هذا العبد المؤمن المجاهد من المؤامرات العديدة التي حِيكت ضدّه (والتي كان من جملتها التعذيب والاعدام).

وبالحقيقة ، أنّ التذكير بكون الله بصيراً بالعباد هنا إنّما هو كناية عن عدم تخلي مثل هذا الرب عن عباده المجاهدين المخلصين ، وأنّ مثل هؤلاء العباد بإيمانهم بمثل هذا الرب سوف لا يهابون الصعاب ، ومن هذه الجهة فقد أشارت الآية التي بعدها إلى نجاته من مخالب الاعداء في ظل اللطف الإلهي.

وهذه المسألة جديرة بالذكر أيضاً ، وهي الآصرة الوثيقة الموجودة بين كون الله سبحانه بصيراً بعباده وبين تفويض الامور له ، لأنّه كيف يمكن أن يدافع عن الإنسان من لا يعلم مشاكل الإنسان وحوائجه الظاهرية والباطنية؟ وبتعبير آخر فالتفويض بمعنى ثمرة الإيمان بكون الله بصيراً بالعباد وأمورهم ، والتفويض هنا طبعاً لا يعني أن يتقاعس الإنسان ويتكاسل أبداً ، لأنّ هذا الكلام صدر من رجل مجاهدٍ جازف بحياته من أجل الدفاع عن موسى عليه‌السلام ورسالته ، بل المقصود هو أداء التكليف ثم تفويض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى.

الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافاتٍ :

وأخيراً نجد أنّ المسألة خرجت من دائرة اعمال العباد في الآية العاشرة والأخيرة من آيات البحث ، حيث أشارت الآية إلى جميع عالم الوجود وكون الله بصيراً بتنظيم قوانينه : (اوَلَمْ يَرَوْا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ).

فمن الذي يُمسك هذه الأجسام الثقيلة في الجو التي تقاوم قانون الجاذبية ، لساعات أو أسابيع أو أشهر؟ وقد تواصل بعض الطيور المهاجرة طيرانها لمدّة أسابيع وأشهر متواصلة

٨٨

وبدون أدنى توقف : (مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ).

لماذا؟ لـ (انَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ).

فهو يعلم جميع القوانين التي تساعدها على الطيران باطمئنان وسكينه تامّة ، لأنّه هو خالق هذه القوانين ومنظمها.

أجل ، إنّه هو الرحمن الذي وسعت رحمته العامة جميع الوجود ، وهو الذي منح هذه الطيور شكلاً مناسباً ووزناً مناسباً وأرجلاً وعيوناً وحواس مناسبة لكي تتمكن من التحليق في كبد السماء العالية.

والملفت هو أنّ اسلوب الطيران وكيفية ابتدائه وانتهائهِ متفاوت جدّاً لدى أنواع الطيور طبقاً لهيكلها واسلوب معيشتها والمحيط الذي تتواجد فيه ، والأعجب من ذلك هو أن أنواعاً من الطائرات قد صُممت وصنعت لحد الآن بالاقتباس من أشكال وأجنحة الطيور المختلفة ، وهذا هو تجلي معنى الآية (انَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ) وإن لم يتجل لنا هذا المعنى بأن كنّا متطبعين على عجائب هذا العالم ، فإنّ مشاهدة الطيور الجميلة العائمة في الفضاء بحركاتها الجذابة الماهرة التي تجذب إليها الانظار ، كافية لإدراك قدرة وعلم هذا الخالق البصير.

* * *

نتيجة البحوث :

نستنتج من مجموع الآيات المذكورة أعلاه بأنّ الله لايخفى عليه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، والإيمان بهذه الحقيقة يحتمل أن يكون له تأثيرٌ بليغ في ايقاظ الإنسان وتربيته ، لذا ، فالآيات أعلاه أيضاً تدور غالباً حول محور المسائل الإنسانية التربوية.

* * *

٨٩

توضيحات

١ ـ معنى كون الله سميعاً بصيراً

إنّ جميع علماء الإسلام يذكرون الله تعالى بصفات «السميع» و «البصير» ، وذلك لتكرر ذكر هذه الصفات ـ كما نعلم ـ في القرآن الكريم.

ولكنهم اختلفوا في تأويلهما.

اعتقد المحققون بأنّ كون الله سميعاً وبصيراً بحيث لا تتعدى قدرة احاطته وعلمه المسموعات والمرئيات ، ولأنّ لهاتين الكلمتين مفهومان يستعملان للتعبير عن قوة سمعنا وبصرنا ، فلذلك يتبادر إلى الذهن عضوا الأذن والعين ، ولكن من البديهي أنّهما عندما تُستعملان لوصف الباري سبحانه وتعالى تتجّردان عن مفاهيم الآلات والأدوات والأعضاء الجسمانية ، لأنّ ذاته المقدّسة أسمى وأجل من الجسم والجسمانيات.

وهذا ليس تعبيراً مجازياً طبعاً ، وإن سمّيناه مجازياً فهو مجازي مافوق الحقيقة ، لأنّه يعلم ويحيط بالمسموعات والمبصرات وهي ماثلة بين يديه تعالى بحيث يسبق ويفوق كل سمع وبصر ، لذا فقد ورد وصفه تعالى في الأدعية باسمع السامعين وأبصر الناظرين.

لكن جماعة من قدماء المتكلمين اعتقدوا بأنّ صفتي السميع والبصير ، تختلفان عن صفة «العلم» ، وهؤلاء لابدّ لهم من الاعتقاد بأنّ صفتي السميع والبصير من الصفات الزائدة على ذات الله ، وهذا يعني الاقرار بتعدد الصفات الأزليّة ، وهو نوع من الشرك ، وإلّا فكون الله سميعاً بصيراً لا يمكن أن يكون سوى علمه بالمسموعات والمرئيات.

* * *

٢ ـ السميع والبصير الواردة في نهج البلاغة والروايات

بحثت الروايات الإسلامية هذه الصفات الإلهيّة بشكل عميق ودقيق ، ونتطرق هنا إلى ذكر نموذجٍ منها لتكملة البحث.

١ ـ في خطبه لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال :

٩٠

«كُلُّ سَميعٍ غَيرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطيفِ الأَصواتِ ، وَيُصِمُّهُ كَبِيرُها ، وَيَذهَبُ عَنْهُ ما بَعُدَ مِنْها ، وَكُلُّ بصَيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الأَلْوانِ وَلَطيفِ الْاجسامِ» (١).

٢ ـ وفي مكان آخر قال عليه‌السلام :

«والسَّمْيعِ لا بأداةٍ ، والْبَصيرِ لا بِتَفْريقِ آلَةٍ» (٢).

٣ ـ وفي خطبة آخرى قال :

«فاعِلٌ لا بَمعَنى الْحَركاتِ والالَة ، بَصيرٌ اذْ لا مَنْظُورَ اليْهِ مِنْ خَلْقهِ» (٣).

٤ ـ وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام عندما سأله زنديق عن الله عزوجل كيف أنّه سميع بصيرٌ قال :

«هوَ سميعٌ بصيرٌ ، سَمِيعٌ بَغَيرِ جارِحَةٍ ، وَبَصيرٌ بغَيْرِ آلةٍ ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسهِ ...» (٤).

٥ ـ في البحار عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أحد أصحابه قال له : إنّ رجلاً ينتحل موالاتَكم أهل البيت يقول : إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع ، وبصيراً ببصر ، وعليماً بعلم ، وقادراً بقدرة.

قال : فغضب عليه‌السلام ثم قال :

«من قال ذلك ودان به فهو مشرك ، وليس من ولايتنا على شيء ، إنّ الله تبارك وتعالى ذاتٌ علّامةٌ سميعةٌ بصيرةٌ قادرةٌ» (٥).

* * *

٣ ـ الأثر التربوي للإيمان بكون الله سميعاً بصيراً

إنّ تأكيد القرآن على وصف الباري تعالى بهاتين الصفتين له آثار تربوية مهمّة ، فهو يرفع

__________________

(١) نهج البلاغه ، الخطبة ٦٥.

(٢) المصدر السابق ، الخطبة ١٥٢.

(٣) المصدر السابق ، الخطبة ١.

(٤) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٨٣ ، ح ١.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ٦٢ عن أمالي الصدوق وكذلك التوحيد.

٩١

الوعي لدى المسلمين للوصول إلى معرفة الله من جهة ، ومن جهة اخرى يدعوهم جميعاً إلى التخلق بهذا الخلق الكريم والتشبه بهاتين الصفتين الإلهيتين ، ومن جهة ثالثة يلقي في قلوب المؤمنين السكينة من حيث كون يد العناية والحماية الإلهيّة معهم في كل حال ، ومن جهة رابعة تحذير للمؤمنين ليراقبوا أقوالهم وأعمالهم لأنّ الله محيط بها علماً.

وقد أكّدت الروايات الإسلامية الشريفة أيضاً على هذه المسألة التربوية المهمة ومن جمله هذه الروايات.

١ ـ ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام حديث يعض به أحد خواصه وهو (اسحاق بن عمار) قال عليه‌السلام : «يا اسحاق خَفِ الله كأنّكَ تَراهُ وَانْ كُنْتَ لا تَراهُ فَانَّهُ يَراكَ ، فان كُنتَ تَرَى أَنَّهُ لا يَراكَ فَقَدْ كَفَرْتَ وإنِ كُنْتَ تَعُلَمُ أَنَهُ يَراكَ ثم برزْت له بالْمَعصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَاظِرينَ عَلَيْكَ» (١).

٢ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ) قال :

«مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ يَراهُ وَيَسْمَعُ ما يَقُوْلُ وَيَعْلَمُ ما يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ، فَيَحْجُزُهُ ذلِكَ عَنِ الْقَبيحِ مِنَ الْأَعمالِ ، فَذلِكَ الَّذي خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى» (٢).

٣ ـ وكذلك ماورد في تفسير (علي بن ابراهيم) عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لما هَمّت به وهَمّ بها قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه ملاءة لها فقال لها يوسف : ما تعملين؟ قالت : ألقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فاني استحي منه. فقال يوسف : فأنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا استحي أنا من ربّي؟» (٣).

٤ ـ ورد في تفسير روح البيان في ذيل الآية (وَافَوِّضُ امْرِى الَى اللهِ انَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). (غافر / ٤٤)

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٧ ، ح ٢.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٧ ، ح ١٠ ذيل الحديث يفيد أنّ الإمام قال هذا الكلام في تفسير الآية (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى).

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٢٢.

٩٢

خرج بعض الأصحاب (رضي الله عنهم) إلى الصحراء فطبخوا الطعام ، فلما تهيأوا للأكل رأوا هنالك راعيا يرعى أغناماً فدعوه إلى الطعام ، فقال الراعي : كلوا أنتم فانّي صائم. فقالوا له على سبيل الاختبار : كيف تصوم في مثل هذا اليوم الشديد الحرارة؟ فقال لهم : إنّ نار جهنم أشد حرّاً منه ، فأعجبهم كلامه فقالوا له : بع لنا غنما من هذه الأغنام نعطك ثمنه مع حصة من لحمه ، فقال لهم : هذه الأغنام ليست لي وإنّما هي لسيدي ومالكي ، فكيف أبيع لكم مال الغير؟ فقالوا له : قل لسيدك إنّه أكله الذئب أو ضاع : فقال : أين الله!؟ فأعجبهم كلامه زيادة الاعجاب ، ثم لما عادوا إلى المدينة اشتراه ابن مسعود من مالكه مع الأغنام فأعتقه ، ووهب الأغنام له ، وكان ابن مسعود يقول له في بعض الأحيان بطريقة الملاطفة : أين الله (١).

وهنالك نماذج كثيرة من هذا القبيل ، منقولة في التأريخ والروايات الإسلامية ، تدلّ على الأثر التربوي البليغ النابع من الإيمان بعلم الله وبتواجده في كل مكان ، وبكونه سميعاً وبصيراً ، في الحجز عن المعاصي والذنوب.

٤ ـ الله المدرك

عدّ علماء العقائد صفة «المدرك» من احدى صفات الله ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال : (لَاتُدْرِكُهُ الْابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْابْصَارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ). (الأنعام / ١٠٣)

قال المتكلمون : إنّ المدرك بمعنى السميع والبصير ، وعليه فهذه الكلمة تجمع كلتا الصفتين (٢).

وقد قال الراغب في المفردات : بأنّ «الإدراك» معناه الوصول إلى نهاية الشيء ، لكن البعض فسروها بالمشاهدة العينية ، والبعض الآخر قالوا : إنّها بمعنى المشاهدة ببصيرة القلب.

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ١٨٨.

(٢) شرح التجريد : «في أنّ الله سميع بصير».

٩٣

وفي الحقيقة فإنّه لا شيء في اللغة يدلّ على أنّ معنى الإدراك هو الإدراك الحسّي ، بل وكما قلنا فإنّ الإدراك معناه الوصول إلى نهاية الشي والاحاطة به ، سواءً كان حسيّاً أم عقلياً ، وما يثير العجب أكثر هو أنّه على الرغم من أنّ الآية المذكورة قالت وبعبارة صريحة : «لا تدركه الأبصار» (سواء في الدنيا أم في الآخرة ، وسواء في ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج أم غيره) فمع ذلك أصرّ بعض المفسرين على حمل الآية على خلاف معناها الظاهري ، وقالوا : إنّه يمكن رؤية الله في الآخرة على الأقل ، وذكروا عدّة توجيهات في هذا المجال ، وقد ذكر الفخر الرازي أربعة نماذج منها في تعليقه على هذه الآية (١) ، جميعها ضعيفة جدّاً وتبعث على التأسف وتدلّ على ميل البعض في فرض آرائهم الباطلة على القرآن بأيّ ثمنٍ كان.

وسنبحث هذا الموضوع بتفصيل أكثر في شرح الصفات الإلهيّة السلبية إن شاء الله تعالى ، وسوف نلاحظ عكس ذلك تماماً في روايات أهل البيت عليهم‌السلام حيث لم تكتفِ فقط بنفي قدرة الإنسان على رؤيته تعالى ، بل حتى نفت قدرة العقل البشري على إدراك كنه ذاته المقدّسة.

* * *

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ١٢٤.

٩٤

ج) إنّ الله حكيم

تمهيد :

الجدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم وصف الذات الإلهيّة المقدّسة بـ «الحكيم» في تسعين موضعاً!

وقد اقترنت في كثير من المواضع مع صفة «العزيز».

وأحياناً مع صفة «الخبير».

واخرى مع صفة «العليم».

واخرى مع صفة «الواسع».

وأحياناً مع صفة «التوّاب».

وأحياناً مع صفة «العلي».

وأحياناً اخرى مع صفة «الحميد».

وكما سنرى فيما بعد فإنّ كل واحدة من هذه الصفات تعطي مفهوماً أكمل وأشمل عندما تأتي مع صفة الحكيم.

وعلى أيّة حال فإنّ حكمة الله ما هي إلّاعلمه واحاطته بتدبير الوجود ونظم الخلق.

بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (انَّ اللهَ عَزيْزٌ حَكيمٌ). (التوبه / ٧١)

٢ ـ (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (التوبه / ١٠٦)

٣ ـ (كِتَابٌ احْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). (هود / ١)

٤ ـ (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَانَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ). (النور / ١٠)

٩٥

٥ ـ (تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (فصلت / ٤٢)

٦ ـ (انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ). (الشورى / ٥١)

٧ ـ (وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً) (١). (النساء / ١٣٠)

شرح المفردات :

لفظ «حكيم» ، كما ورد في كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي مأخوذ من مادة «الحكمة» ، وهي تفيد معنى «العلم» و «الحلم» و «العدالة» ، وحسب ماورد في مفردات الراغب ، فإنّ «الحكيم» بمعنى المنع من شيء لغرض إصلاحه ، أمّا في مقاييس اللغة فقد فسر لفظ الحكيم بمعنى المنع من الظلم ، وعلى هذا الأساس فإنّ عنان أو لجام الحيوان يسمى «حكمة» على وزن «صدمه» ، وأيضاً يقال للعلم والمعرفة «حكمة» ، لأنّها تمنع الشخص من القيام بالأعمال غير اللائقة.

ويقال أحياناً «للحكم» «حكومة» ، وذلك لأنّ الحكومة تمنع الناس من القيام بالأعمال غير القانونية.

ورد في «لسان العرب» ، أنّ «الحكم» تعني العلم والفقه والقضاء بالحق والعدل.

وقال صاحب «صحاح اللغة» : أنّ «الحكيم» هو الشخص الذي ينجز أعماله بصورة صحيحة وطبق اصول وأسس معينة أمّا في «النهاية» لابن الأثير ، وفي «لسان العرب» فقد ورد معنى «الحكمة» بانّه : معرفة أفضل الأشياء وأفضل الأساليب وبأحسن كيفية ويقال للشخص الذي ينجز أعماله بدقة واتقان ، «حكيم» ، «فنقول ، إنّ فلان دلنا على أحسن مزرعة وبأقرب طريق ، فهو حكيم ، وكذلك بالنسبة للشخص الذي ينتج أفضل المنتجات بأفضل الطرق والأساليب ، فهو حكيم أيضاً».

__________________

(١) وكما قلنا فلفظة «حكيم» قد وردت في آيات مختلفة من القرآن الكريم أكثر من تسيعن مرة ، لكن الآيات أعلاه شاملة لمختلف التعابير حول هذا الموضوع.

٩٦

جمع الآيات وتفسيرها

قدرته مقرونة بحكمته :

الجدير بالذكر أنّ الصفات التي وصف الله تعالى ذاته المقدّسة بها في ذيل الآيات القرآنية المذكورة لها علاقة وثيقة وخاصّة مع محتوى هذه الآيات ، بحيث إنّ التدقيق في هذه المسألة يُرشد إلى نقاط مهمّة ، ومع أخذ هذه الإلتفاتة بنظر الاعتبار نحاول تفسير الآيات المذكورة.

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في الآية الأولى قسماً من الواجبات الإسلامية حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة وأداء الزكاة وما شاكل ذلك ، وبعد التذكير بشمول رحمته عباده المطيعين ، قال عزوجل : (انَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيمٌ).

«العزيز» : من «العزّة» أي عدم المغلوبية ، والأصل في استعمالها هو في التعبير عن الأشياء الصلبة التي لا ينفذ فيها شيء ، وعليه فإنّ صفتي «عزيز وحكيم» هنا تدلان على قدرته وعلمه اللامتناهيان.

والجدير بالذكر هو أن هاتين الصفتين قد وردتا معاً في الكثير من الآيات القرآنية ، وأكثر ماورد ذكرهما في الآيات التي تحدّثت حول تشريع الأحكام ، وبعث الأنبياء ، ونزول القرآن (كالآيات ١٢٩ و ٢٠٩ و ٢٢٨ من سورة البقرة ، والآية ٢ من سورتي الجاثية والأحقاف) ، وذلك للتذكير بأنّ الله تعالى قد فصّل جميع ما يحتاجه البشر بتشريع القوانين وإنزال القرآن بدّقة متناهية ، لأنّه علاوةً على كونه حكيماً وعليماً ، فهو قادر على هذا العمل أيضاً.

وبتعبير آخر ، إنّ أفضل القوانين يُشرعها من هو أعلم وأكثر اقتداراً من الجميع ، وهو الله ولا أحد غيره.

وما ذُكر في قسم من الآيات التي ختمت بصفتي «عزيز حكيم» عن خلق السماء والأرض ، وتسبيح الكائنات لله تعالى ، أو تنظيم خلقة الجنين ، وما شاكل ذلك (كالآية ١ من سورة الحديد ، والآية ٢٤ من سورة الحشر ، والآية ٦ من سورة آل عمران) ، بمثابه كناية عن كون عالم التشريع ليس لوحده قائماً في ظلّ علم الله تعالى وحكمته ، بل إنّ عالم التكوين كذلك أيضاً.

٩٧

وفي قسم آخر من الآيات ورد الحديث عن أفعال الله تعالى كالقيام بالقسط ، وخلق المسيح عليه‌السلام ، ونصر المؤمنين في القتال ، وتأليف قلوب المؤمنين ، وختمت بعبارة «عزيز حكيم» وهي (كالآيات ١٨ ، ٦٢ و ١٢٦ من سورة آل عمران ، والآية ٦٣ من سورة الأنفال).

وهذه الآيات تشير إلى أنّ أفعال الله تعالى أيضاً تتفرّع من علمه اللامحدود وقدرته المطلقة.

وأحياناً نجد أنّ بعض الآيات تتحدث عن الثواب والعقاب وتختتم ب (العزيز الحكيم) كما ورد في سورة (المائدة ، ١٨) ، كناية عن كون العطايا الإلهيّة أيضاً قائمة على أساس الحكمة والحساب الدقيق ، وكذلك إشارة إلى قدرة الله تعالى على تنفيذ ما وعد به عباده المؤمنين من العطايا العظيمة ، وإلى عجز المجرمين عن الفرار من عقابه تعالى.

وأخيراً فقد يكون تلازم هاتين الصفتين من أجل إضاءة بصيص الأمل في قلوب المؤمنين وتهدئة خواطرهم ، ليدركوا بأنّهم ليسوا لوحدهم أبداً في الصعاب وعند مواجهة الأعداء ، كما ورد في الآية الشريفة : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِانَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ). (الأنفال / ٤٩)

وخلاصة الكلام فإنّ عزّة الله تعالى وقدرته لاتبقي مجالاً لأي مانعٍ دون تنفيذ إرادته ومشيئته سبحانه ، فهو على كل شيء قدير ، فله تعالى القدرة على إدارة نظام التكوين ونظام التشريع ، وعلى الدفاع عن أوليائه وأحبائه سبحانه.

ولكونه سبحانه حكيماً ، فإنّه خبير بكل أسرار الوجود ، وبمصالح الأمور ومفاسدها ، وبحوائج عباده ، واتصافه سبحانه وتعالى بهاتين الصفتين هو السر في تواجد أفضل الأنظمة في عالم الوجود.

* * *

جميع أفعاله تتسم بالحكمة :

وفي الآية الثانية يمر علينا التعبير القرآني الثاني في هذا المجال ، حيث مزج علم الله

٩٨

تعالى مع حكمته ، ووصفه بصفتي العليم والحكيم في آن واحد ، وبعد أن تحدثت عن جماعة من المسلمين خلطوا عملاً صالحاً وآخر طالحاً ، قال تعالى : (وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

إنّ الله تعالى عليم يعلم هذه الجماعة جيداً ، وحكيم من حيث معاملته كل فرد بما يستحقه ، فتارة يرحم وتارة اخرى يعذّب ، وبذلك يجعلهم بين الخوف والرجاء ، وهذه الحالة تعد من العوامل التربوية للإنسان.

والواقع إنّ التعبير بكلمة «عليم» إشارة إلى إحاطته تعالى بالموضوع ، و «حكيم» إشارة إلى إطلاعه على الحكم (١).

ومن البديهي أنّ كلاً من العذاب أو العفو الإلهي ليس من دون حساب ، بل هو قائمٌ على اسس اللياقات العملية والأخلاقيّة والنيّات الذاتية للأفراد.

والجدير بالذكر هو أنّ بعض الآيات التي سبقت هذه الآية عن جماعة اخرى من الذين خلطوا الطاعات بالمعاصي ، خُتمت بالوعد بالمغفرة : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وذلك من أجل التأكيد على تلك المغفرة ، ويعتقد أنّ تلك الآيات تحدثت عن الذين تابوا من ذنوبهم حالاً وأصلحوا نفوسهم بعد اقتراف المعاصي مباشرةً ، لكن الجماعة المذكورة في آية بحثنا لم تكن كذلك.

ويلاحظ في آيات كثيرة اخرى أيضاً بأنّ صفتي «عليم وحكيم» لهما علاقة وثيقة بمحتوى الآية في جميع تلك الآيات ، لأنّ الكثير منها قد تحدثت عن الأحكام والقوانين الإلهيّة التي لها علاقة واضحة بعلم الله تعالى وحكمته. والبعض الآخر منها تحدثت عن القوانين التكوينية التي لا يمكن تشريعها أيضاً بدون العلم والحكمة.

وبعضها تحدثت عن التوبة والثواب والعقاب ، والعدل في هذه الامور يحتاج إلى العلم والحكمة ، العلم بأعمال ونيّات العباد ، والحكمة في تقدير الثواب والعقاب حتماً.

* * *

__________________

(١) في تفسير الكبير ، ج ١٦ ، ص ١٩٣ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ١١ ، ص ١٦ ، إشارة خفيفة إلى هذا المطلب.

٩٩

هو الحكيم الخبير :

ونلاحظ استعمال الآية الثالثة تعبيراً آخر وهو ذكر صفتي «الحكيم والخبير» في موضع واحد ، قال تعالى : (كِتَابٌ احْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

قال الزمخشري في كشّافه : «تشير هاتان الصفتان إلى فعلين إلهييّن ذكرتهما الآية في البداية ، أي أنّ الآيات القرآنية محكمة ومتوازنة لأنّها صادرة من لدن حكيم ، ومفصّلة لأنّها صادرة من لدن خبير وعليم بكل شيء» (١).

* * *

حكيم لأنّه وضع طريقاً للرجعة :

في الآية الرابعة نلاحظ وجود تعبير قرآني جديد وهو اقتران صفة «الحكيم» بصفة «التوّاب» ، قال تعالى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَانَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).

وردت هذه الآية بعد مجموعة من الآيات المتعلقّة بمسألة اللّعان (وهو إذا اتهم رجل زوجته بالزنا ـ والخروج عن جادة العفاف ولم يكن لديه أربعة شهود على ادعائه : وجب أن يجلد ثمانين جلدة وفق قانون القذف ، لكن القرآن أسقط عن الزوج هذا الحكم شريطة أن يحلف بالله خمساً كما ورد تفصيله في آيات سورة النور ، لكن زوجته ستكون محل تهمة في هذه الحالة ، وتدرء الاتهام عنها في حال أدائها اليمين الخماسي أيضاً ، وفي هذه الحالة فسوف تحرم الزوجة على زوجها إلى الأبد.

بالالتفات إلى هذه المسألة يتضح أنّ علاقة صفتي «التواب» و «الحكيم» مع محتوى الآية وثيقة جدّاً ، حيث وضع سبحانه وتعالى أمام الطرفين طريقاً للتوبة والرجوع ، لكي يتمكن الذي افترى على صاحبه من العودة إلى مواصلة الحياة الزوجية وبتحمل عقوبة القذف ، هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى ونظراً لكون الزوجين أكثر اطلاعاً على بعضهما ، ولِتعسُّر إقامة الدليل على مثل هذه المسائل الخاصة غالباً ، فإنّ الله تعالى قد صان حقوق

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ٢ ، ص ٣٧٧.

١٠٠